وليد هرمز

(عالمه الروائي المعقد يشبه قوانين السويد المعقدة)

بعد رحلة مضنية من الشقاء والتشرد في المنفى استمرت ثلاثين عاماً، حل المقام بالكاتب سليم بركات بأرض الصقيع في الشمال الإسكندنافي، السويد، حيث وصل عاصمتها ستوكهولم منذ عامين كضيف، بدعوة من نادي القلم السويدي. مُنح منحة تفرغ لمدة عام كامل كمتفرغ لشؤونه الأدبية. جاء بركات قادماً من جزيرة الدفء والجدال، قبرص، التي تلتحف جزءاً من مياه البحر المتوسط، تاركاً وراءه نعمة الروح ودفء الصلصال، إلى أين؟ حيث لا مقر بعد أن ضاق به المقام، وضاقت به سلطات الجزيرة، حيث لا أوراق ثبوتية تؤكد لهم حق الاستمرار في إقامته، ولا مكان لأختام اليقين.
بعد فترة من وصوله إلى ستوكهولم، قام سليم بركات بتقديم طلب إلى مكتب شؤون الهجرة لغرض الحصول على منحة إقامة دائمية، ولكن بعد مدة فوجئ برفض طلبه لأسباب غير منطقية وغير واقعية، ومنذ ذلك التاريخ أعلن معظم الكتّاب والأكاديميين السويديين، تضامنهم المطلق مع حق سليم بركات في الحصول على الإقامة في ستوكهولم، كونها تعتبر عاصمة للكتاب المضطهدين والملاحقين.
في التاسع عشر من كانون الأول (ديسمبر) عام 2000، نشر الكاتب السويدي المعروف "تاماس غيليرت" مقالاً مستفيضاً في جريدة ــ Dagens Neheter ــ يتناول فيه محنة الكاتب سليم بركات.. يقول غيليرت في مقاله: "سليم بركات الكاتب الكردي ـ العربي، اصطدم بقوة مع مكتب شؤون اللاجئين البيروقراطي، في مدينة يُفترض أن تكون حرة للكتاب الملاحقين والمشردين، والذي لازال ينتظر لمدة سنتين في ستوكهولم. إن التضامن العملي من أجل الكلمة الحرة تطور وتحول إلى النضال بين أدباء السويد، ونادي القلم الدولي، ودائرة الثقافة السويدية، من جهة، وبين مكتب شؤون اللاجئين السويدي. هنالك سلطتان: سلطة تفتح أبوابها لضيفها سليم بركات، وسلطة ثانية تريد إبعاده، وبدون أي باعث أو سبب وجد الكاتب سليم بركات نفسه ضحية.
في مكان آخر بالكامل، وفي زمن آخر، في منطقة تمتد بين دجلة والفرات، ولِدَ طفل في مدينة سورية تدعى " القامشلي"، العام هو 1951، في الشوارع الضيقة لهذه المدينة، حيث الناس فيها يتكلمون اللغات: العربية، الكردية، السريانية، الآشورية، والأرمنية، كل هذه اللغات كانت تعاني من اضطهاد اللغة العربية السائدة!.
كان أبي الملاّ، بلقبه الديني الصغير، يرى العرب أقرباء الحقيقة، لأنهم فرع الأصل النبوي، الكامن في جبلة الخلق الأول، وهم خطاب الله إلى الوجود العارض، لكنني، حيث تفوهت عرضاً، ذات يوم، بما يُذكّر بعرقي، أعدّت لي المدرسة محاكمة ذوّبت عظامي هلعاً، كل أساتذة المدرسة الإعدادية والثانوية اجتمعوا لوضع المحاكمة على سكّة أصولها، وتباروا، إلاّ أُستاذ الكيمياء الشيوعي، والجغرافيا الفلسطيني، في إعادة عقلي إلى مسلك الحقيقة: إذا ادّعيت أصلاً كردياً، عُد إلى تركيا. هكذا قال معلم الأدب العربي، ذو الشيب في العارضين. الأكراد هم من تركيا، إذن هم وافدون طارئون. أعرف أنّ والد جدّي قدم من جهات قزوين إلى أرض متداخلة الأعراق، لم ترسمها الخرائط، بعد، مبوبة بخطوط زرقاء، وحمراء وسوداء. جاء إلى أرض كان فيها شركاء لغته، وشركاء ثيابه، وشركاء حكاياته عن البسالة، والخيبة، والغرام المعذّب، في أقاليم صغيرة، كل إقليم قرية لها إسم كردي، قبل أن ألد، بسنين عشر ربما لم تكن ثلاثة أرباع هذه البلاد بلاداً بعد، ومع ذلك طلب مني معلم اللغة العربية أن "أعود" الى تركيا. بالطبع لم أطلب منه، هو، أن يعود الى الجزيرة العربية".
أوائل السبعينات، وعندما اختفى إثنان من أخوته، بعد اعتقالهما، واللذان لا زال مصيرهما مجهولاً لغاية يومنا هذا، قرر الشاب ذو التاسعة عشرة من عمره، سليم بركات، ترك بلاده، حاملاً معه أحلامه الشعرية، باحثاً عن فضاء الحرية الرحب، باحثاً عن أحلام النجاح، فكانت بيروت، المحطة الأولى إلى عالم المنفى الأكثر بهاء. في بيروت وللفترة من 73حتى 1977 يُصدرُ ثلاث مجاميع شعرية، التي ستلاقي استحسان النقاد والأصدقاء، وتوقعوا أنهم أمام بزوغ شاعر جديد، سيكون بمستوى أدونيس، ومحمود درويش. وهنالك حيث سيكون سكرتيراً للمجلة الفصلية "الكرمل" لسنوات طويلة، وهي في عز مجدها المتألق، ولغاية خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت، أثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان. حيث ترك البحر المتوسط بجزئه اللبناني في خروجه مع أبناء المقاومة الفلسطينية، ليقيم هذه المرة في حضرة البحر المتوسط أيضاً، لكن في جزئه القبرصي، إنه يوليسيس آخر يحمل في ذاكرته عذاب الشرق من منفى الى منفى، إذن هو المنفى أينما حللت يا سليم يا ابن الملاّ بركات، يا من حملت الغبار من مطحنة أبيك، غبار الأب هو خبز العافية مغموس بالصدى الآتي من جهة الشمال، من هاتف في المغيب، من أبيك: سليمو، عُد ياسليمو، مطاحن القامشلي تناديك، لا يا أبي، لقد أعلنوا أن القامشلي، (مش لي). هاتِفٌ بي يُصلي مسامعي"كأنّه يراني في عذاب يرفع إلى أنفه نشيش كبدي في توابل النار. إنه أبٌ، سأحاول طوال عمري البرهان على وجوده، وإذا تمكنت من اقتناص البرهان القاطع على وجوده، فسأجتهد كي أُبرهن على أنه جدير بالكراهية. كل أب جدير بالكراهية، على نحو ما، قويٌ أو خفيفٌ، لأنّه أبٌ، لا غير طيب، رؤوفٌ، سمِحٌ، طاهِرٌ، رقيقٌ، غفورٌ.. الأبُ امتحان غامضٌ، الأبُ لعبةٌ، الأبٌ نهاية مُنتظرة، الأبُ فخٌ"(1). وفي نفس مقال الكاتب السويدي غيليرت ـ الآنف الذكر، نقرأ: "إن المنفى، تعدد الثقافات والهويات أثْرَت خلفية سليم بركات الثقافية في إبداع روايات وأشعار جديدة، وجزء من أسلوبه قريب إلى اللعب، بحيث أطلق على نفسه "الفلاح سليم"، لكنه يُخفي في داخله الهيبة والجدّية". لقد غرس سليمو في محيط بيته في نيقوسيا، هنالك عند الخط الأخضر، أكثر من مئتي شجرة. "أشجاره العجولة في نموها" كأنها تُسابق الزمن كي تشب بفعل البهاء، في أنامله النحاسية، كي تودع غارسها من لمسات حفيف أوراقها.
ويضيف غيليرت: "بينما نحن مجتمعون في مطبخ بيته، ذي الحيطان المطلية بالأصفر الذهبي، والمقعد الخفيض، قال بركات: "رواياتي صعبة، لا أستطيع الكتابة بأسلوب بسيط، ذلك يسبب لي الفوضى". إن ترجمة الجُندُبْ الحديدي، إلى اللغة العبرية تطلب ثماني سنوات، من قبل اثنين من المترجمين. إن عالم بركات الروائي المعقّد، يضيف غيليرت يمكن مقارنته بقوانين السويد المعقدة بخصوص اللاجئين، حيث أصبحت قضية الصِدام بين بركات، ومكتب شؤون اللاجئين البيروقراطي قضية حتمية لا مفر منها، وان السلطات السويدية مصرة على إعادته إلى الأراضي القبرصية، وبدون أي باعث أو سبب، وجد الكاتب المشهور سليم بركات نفسه ضحية.. هذا الرجل الذي يتلذذ بالطهي، والذي يحلم أن يؤلف كتاباً عن فن الطهي، وجد نفسه فجأة يطفو في قِدر، حيث سيمضي على وجوده حوالي عامين وهو واقف في المطبخ "مقام كل بيت من مقام مطبخه، إلى الرواح، ملكات المتعة تلك، أن تستنهض بهبوبها الخفي حواس الجالس في الصالة. لا ينبغي، لا ينبغي وصد باب على النعمة حيث لهو التوابل، والمشادات الناعمة لأبخرة الحضورات المطهوة بميثاق النار المضمرة في الأسلاك والمعلنة في العيون الحديد فوق صفيح الأفران. المطبخ هو تدوين الخواص. (2).
إن رؤساء الأحزاب السويدية في ستوكهولم وبرلمان المثقفين العالمي وأعضاء الأكاديمية السويدية والفدراسيون الكردي، والمؤسسات الثقافية الكردية، أعربوا ولازالوا عن تضامنهم بشتى الوسائل من أجل حق سليم بركات في الإقامة والبقاء على الأراضي السويدية.
في تشرين الأول (أكتوبر) من عام 1999 مُنِح الكاتب سليم بركات جائزة "توخولسكي" للشعر، وذلك من قبل نادي القلم السويدي، وهي من الجوائز القيمة. إن الشاعر البولوني الشهير توخولسكي مر وعاش بنفس الظروف التي يمر بها بركات الآن، حيث قدِمَ إلى السويد خلال أعوام الحرب العالمية الثانية هرباً من الاضطهاد النازي، وتقدم بطلب اللجوء السياسي، لكن السلطات السويدية رفضت طلبه وأعادته إلى بولونيا في حينها، فقامت السلطات النازية بإعدامه، وربما كنوع من تأنيب الضمير، ولإعادة الاعتبار للشاعر توخولسكي استحدثت السلطات السويدية هذه الجائزة، ذلك هو سليم بركات، الذي طوّع كبرياء العربية في أوج علوم نحوها وصرفها بلغة العارف بلغة اليقين. لقد قال سليم بركات في لقاء له مع قناة الجزيرة: "لم أكن غريباً على العربية، ويمكنني التعبير بها عن خصوصيتي ككردي أكثر من اللغة الكردية، حولت اللغة العربية معي إلى هوية كردية. وطني الحقيقي هو لغتي، لم يبق أن أرى حدوداً أكثر منها ولا حرية أكثر، معلناً جمهوريتي بقواعد الإعراب العربي".
كم علينا أن نُعلن تضامننا مع المبدع سليم بركات، كم علينا أن نرفع صوتنا، طالما نحن في منفى واحد؟
سليم بركات الذي أبدع لغاية الآن: عشرة دواوين شعر، وثماني روايات، وكتابين في السيرة الذاتية، وكتاب "الأقرباذين/ مقالات في علوم النظر". تصدر له قريباً رواية " الأختام والسديم".

الهوامش:
1ـ 2 كبد ميلاؤس
فبراير 2001
* ملحوظة من المحرر: سليم بركات، مواليد قرية موسيسانه، التابعة لـ مدينة عامودا. وكتب هذا النص، أثناء انتظار الكاتب الإقامة الدائمية في السويد، والتي حصل عليها تالياً.

تيريز. كوم 17/10/2003