حاوره: عبده وازن

عبده وازن* يحضر المكان في رواياتك حضوراً أساسياً، وكأنّ الكتابة الروائية هي فعل استحضار لمكان هو في حالة غياب. في "فقهاء الظلام" مثلاً، تستعيد مكاناً بعيداً، غريباً بشخصياته وأحداثه. وفي "أرواح هندسية" تسترجع صوراً من الذاكرة لمدينة بيروت، وتكتب مشهد الحرب التي حاصرَتها بدءاً من لحظة الخروج. كما أن سيرتك التي كتبتها على مرحلتين، في كتابين سابقين، ليست إلا احتفالاً بالمكان وذاكرته العميقة. إلى أي حد يحضر المكان في داخلك كهاجس وجداني ووجودي؟ وإلى أي حد، أيضاً، يشكل حافزاً على الكتابة؟

ـ للكتابة دوافعها، حيث يغيب المكان، عادة، بالحنين الذي يجعلنا كائنات تتألق في القدرة على الاستحضار السحري. وهو استحضار لا يغدو مقتصراً على تأليف نفسه كفعل منجز، إذا اقتنصت الكتابة من برهاته التي هي مفصل ثابت في العلاقات الإنسانية وفي الوعي. وهذا، تحديداً، ما يؤيد المستقبل في لحظةٍ من لحظات ماضيه.
إن النظرة إلى الوراء، بجسارة، هي نظرة إلى أمام.
لقد كان عليَ، في كتابة سيرتي (الطفولة، والصبا) أن أتحدث عن مكان غير مختلق، كما تستطيع الرواية المتخيّلة أن تفعل، لأن الحدث هو الذي سيصوغ مسيرة مخيلتي الكتابية، ويجنّدها.
لكن المكان في "فقهاء الظلام" وفي "أرواح هندسية" هو "الحيلة" الواقعية لتقديم المصائر الأكثر إشكالا، والأكثر تطرّفاً في إلقاء سؤالها.
والمكان ـ أي مكان ـ يعطي، في الرواية بخاصة، شرارات أولى للحريق الذي سيستشري بحسب نوازع التأليف بعدئذ، حتى يصير المكان نفسه تعاقباً متخيّلاً لا يشبه حضوره الواقعيّ في الجغرافيا. والاشتغال على المكان، في الرواية عندي، هو اشتغال على شخصية حية، عليّ أن أعرفها قليلاً، في الواقع أو في أعماقي، قبل تحديد أهوائها وسلوكها.

* روايتك الجديدة (الريش) هي الأخرى احتفاء بالمكان، وتحديداً بالمكان الذي انحدرتَ منه، بالأرض الأولى وبالجذور. كيف تحدد فعل العودة إلى تلك البقعة الغريبة، الدفينة في أعماق ذاكرتك؟ وماذا عن المناخ الذي تقدمه الرواية؟

ـ روايتي الجديدة خليط من أمكنة كثيرة، على رغم اتكائها على جزء من المكان الذي انحدرتُ منه، وهو مكان ليس للاستعراض الروائي هذه المرة، بقدر كونه محطة للنظر أبعد إلى المصير الكردي، وخيبات الكردي.
لم أنظر في هذه الرواية، أو في غيرها، وكذلك في سيرتي المكتوبة، إلى المكان بكثير من الحنين، لأن خيبات الواقع الكثيرة تلفّ الذاكرة بسياج من الألم.

* الفانتازيا، عنصر بارز في عملك الروائي: هل هي ناجمة عن غرابة المكان الذي تستوحيه، وعن طرافته، أم هي حيلة سردية، وأسلوب يدفعان بالأحداث إلى حالة من الالتباس والغرابة؟

ـ لقد استوحيتُ أمكنة مختلفة في رواياتي الثلاث، وبينها مكان تعرفه أنت، بترابه ورياحه. فهل معرفتك الواضحة بالمكان تلغي الغرابة منه والطرافة؟
لكل مكان طرافته وغرابته. لكنني لم أتجه اتجاهي هذا في هذه الرواية حباً بالغرابة والطرافة، على الرغم مما لهما من جاذبية. على أية حال إنني مفتون بالمصائر الإشكالية، مفتون "بالإشكال القدري" الذي يجعل الحرية سياقاً غامضاً من العلل. أنا مفتون بأن أواجه نفسي بمآزق متخيلة لأبحث فيها عن مخارج قدر تأكيدها كوجه واقعي آخر.

* تتميز كتاباتك الروائية بنفس لغوي جارف، لا يختلف عن ذلك النفس الذي يخالج قصائدك: كأنك تنطلق من الحدث الواقعي وتجعله ذريعة للكتابة تعتمد السرد وتلغيه في وقت واحد. فاللغة السردية لديك ليست لغة سردية أفقية في معنى أنها لا تهدف إلى نقل الحكاية بقدر ما تطمح إلى صياغتها، وكأن الرواية تقترب من نمط الروايات اللغوية. كيف ترى إلى هذه الناحية في كتابتك الروائية؟

ـ بداية أريد توضيح ما غاب عنك، وهو أنني لا أعتمد الكثير من الأحداث الواقعية لأجعلها ذريعة للكتابة، فأنا أبداً، دائماً، من "المتخيل الإشكالي"، وهي لعبة عسيرة لم "تجازف" الرواية العربية بالاقتراب منها. ولا يهمني إذا فشلت.
كما أن مسألة "اللغوي" في معنى البيان الذي لا يتقاطع مع النثري كشرح، بحسب المفهوم الراهن لمعنى "النثري"، مسألة من صلب الرواية كنوع يتوافر على متناقضات المخاطبة الكلامية كإنشاء في العلاقة بين فرد وآخر، إضافة إلى البلاغة المنطقية الصرفة، والوجدانية، والحسية. وفي بعض هذه "المخاطبات" تحديداً تتعذر لغة الإنشاء النثري المتخصصة في الشرح والتوضيح، فتجنح اللغة إلى قول نفسها ككثافة شعرية ليست في حاجة إلى تبسيط من أجل "المتعة الكسولة" في سياقات السرد.

* هكذا أعتقد أن الرواية لديك تفرض نفسها كنصٍّ أولاً وآخراً، ليس كمجموعة وقائع وأحداث وشخصيات مبنية واعية وهندسية فحسب، بل كنص مشرّع على سائر احتمالات الكتابة: على الشعر، الوصف والتخييل..!

ـ تعني كلمة "نص" في القاموس: "منتهى الشيء" وفي الكتابة: "غاية القول"، أي: استنفاد المعنى، واكتماله، ولأن الرواية "نص"، فعلي أن أستنفد فيها ما تحتمله من "مخاطبات"، سرداً وصفياً أو تكثيفاً شعرياً، من دون الحذر من استقدام أي نوع كتابي آخر لدفع المصائر إلى فضائحها العذبة أو الشقية.
إن الحرية الأسلوبية التي أمنحها لروايتي لا تخيفني. وما من قوانين ذات خطوط حمراء تجعلني أركن إلى المعطى الروائي الراهن.

* يعاني النص الشعري أزمة واضحة، لا في العالم العربي فحسب، وإنما في سائر الآداب وهو يغدو في حالة من التململ والقلق منذ أن استنفد ـ أو كاد ـ أدواته، وحيله، وأساليبه الصافية. ومن الواضح أنّ غالب الشعراء أوجدوا بعض المنافذ التي تطل إما على النثر، أو على النثر الفلسفي والتأملي، وإما على الكتابة النقدية. هل عانيتَ أنتَ هذه الأزمة، وكيف تنظر إلى ملامحها؟

ـ لم تكن لأزمات الشعر علاقة بالتوجه إلى النثر السردي، أو الفلسفي، أو التأملي، أو النقدي، لأن هذا النثر، بأنواعه، كان مرافقاً للشعر في كل أزمنته، وكان أساسياً، لا هامشياً ينمو بخفوت "النوع الآخر". ولطالما زاوج الشعراء في "صنعتهم"، فاهتموا بالنقد، وبالفلسفة، والسرد القصصي، أيضاً. وهؤلاء لا يحصون. وأنا، في تجربتي الشخصية، لم يكن توجهي إلى الرواية بدورها خروجاً من أزمة قط. لقد كانت هاجسي منذ وقت طويل.
غير أنني لا أنكر خيبتي من حال الشعر بعد انحساره انحساراً مخيفاً في العالم العربي، بسبب من "برمجةٍ منهجية"، لتمييعه إثر صعود الصحافة الغامر، غير الصحي، وتفتت النقد والتقويم في المجرى الدعائي لتوجهات الصحافة السياسية.
لكن حال الشعر جزء من حال عامة. فانحساره لا يعني ظهور نثر فلسفيّ أقدر، ولا نثر نقدي أو سردي، لأن هامش "الفكر" يضيق يوماً بعد آخر بالبطش الصاعد من سلطة المتحكمين في الإعلام ذاته، الذي يزداد عماءً وغيبية.
ما من "لغة" في خير الآن: صفحات ثقافية في كل منبر ميت. موتى يخلطون الأحكام النقدية بالجهل. أمّيون يشجعون "الإبداع". مجتمعات "إعلامية" تخلق سبلاً جديدة في "غسيل الدماغ" العربي. الطوائف تتزاحم. "إهدار الدم" يجد في كل نص فكري أو شعريّ، ما يبرر حكم القيّمين على "نقاء الخليقة". حدود مغلقة بين البلدان. منع ومنع ومنع. ومؤتمرات من كل حدب لتمجيد السياحة فوق المنبر الثقافي.
الشعر آخر الضحايا، عادة، بسبب الحيلة التي تتقنها مجازاته. وإذ نفيق الآن على أزمته، فإنما نفيق على خراب أخير أتى على النثر من قبل.
إننا نحتسب الآن ألا تخرج ألفاظ على العرف، مثلاً، حتى عن غير قصد. ونجهد أن يكون خطابنا ملائماً للمنبر الذي نتحدث منه.
ما الذي تبقى ليبقى الشعر؟ انتصار عربي في حرب تشرين تفتق عن "كامب ديفيد"، واجتياح لبنان، وخروج الطوائف من القمقم، وتدمير مخيمات فلسطينية، وبروز "آباء وأمهات" جدد، يشرفون على رعاية الثقافة بشروط "النمطية المطلقة".. انتصار مديد سهّل دخول الجوع إلى كل مكان، فما الذي سيلهم الشعر أن يكون الأنقى، المتورد، المعافى؟
تبقى أزمة الشعر، أكيداً، أقلّ في الغرب، لأن "مركزية" النقد، والتخصص الثقافي لم يختلطا بأشياء أخرى. لكن يبقى أن الكم الإبداعي الشعري قليل عادة، الآن، وقبل الآن على الرغم استشراء السهولة.

* هنا أشير إلى اختيارك الرواية كنموذج كتابي: هل جسدت الرواية منفذاً لك كي تتمكن من مواجهة النص الشعري واختراق أزمته؟ وإلا فلمَ كتابة الرواية، هل يحتاج الشاعر أن يكون روائياً؟

ـ يحتاج الشاعر أن يكون بائعاً متجولاً، وبهلوناً، وأحمق، ومرعباً أيضاً. وهذه الصفات، تحديداً، ليست "حاجات"، بل أجزاء من مجموع شخصيته.
أكان ملفيل، وبو، وأستورياس، وسونيكا (أيضاً)، وأراغون، وكازانتزاكيس، مثلاً، يعانون "أزمة" في الشعر يبحثون عن منفذ منها في الرواية؟ ولماذا يعمد بازوليني الشاعر إلى الإخراج السينمائي، عبده وازنومثله آلان روب غرييه الاستعراضي؟
الشعر لا يستنفذ خاصيّات التعبير في الشخص الواحد، تماماً كما تجد أنت في النقد (لا أعني المهني منه) امتداداً لاستظهار ذاتك كخاصية "لغوية" أخرى.

* بين الكتابة الشعرية والكتابة الروائية هل يظلّ الكاتب هو نفسه؟ تُرى أية مواصفات تجمع التجربتين إلى بعضهما، أو تفصلهما الواحد عن الأخرى؟

ـ هنالك خصائص، لا تقاطع بين هذين النوعين الكتابين، بين الصرامة الهندسية، والتسلسل المنطقي الذي للرواية، وبين الانفلات الشعري، لكن الرواية تحتمل امتداد الشاعر في الروائي، بينما لا يحتمل الشعر امتداد الروائي في الشاعر، إلا في حدود ضيقة.

الشعر أنانيّ أكثر، وهو يستدرج الكاتب إلى انفصام شخصي في لعبته، إلى التماهي مع مجازاته المتعلقة بالخفة. بينما الرواية تتصف بأريحية كبيرة داخل بيانها الهندسي. إن بينهما إشارات عمياء تقودها اللغة.

صحيفة الحياة
6 شباط 1990