1 ـ تعطيل السيرورة

"الآخِر"، في اللغة، لفظ يدلُّ على نقيض "الأول". وهو، في الدورة الإقليدية للشكل المحيط، نهاية البداية ومُبْتَدَأُها، بنازع الكمال الذي في الدائرة، حيث كل اتصالٍ في الخطِّ المتواشج نقطةُ افتراضٍ تتساوى فيها، وتتطابق، الأوليةُ والآخِريةُ، بالمقدار ذاته في حقيقتيهما. لكن "الآخرية"، في الحساب الزمني، تعطيل للدورة، وتثبيت للفراغ العَدَم؛ عودة إلى اللاكون؛ ختامٌ مطلق؛ لا احتمالٌ؛ لا ممكنٌ بَعْدُ. وقد شاءت الرسالات نفي هذه القطيعة بين الأولية والآخرية في سياقهما الزمني، فابتكرت وعدَ الخلود من الجلالة على تثبيت الآخريةِ أوَّليةً مطلقةً، أي: إحداثُ كون ثانٍ بعد القطيعة مع الزمن لا دورةَ فيه، بل سَراحٌ بلا نهاية في أحوالٍ على وجوه بلا نهاية.
وعد الخلود إنقاذٌ للآخِرية من فظاظةِ وحشةِ المعنى، الذي مرَّغ العقلَ في طحين المتاهة، على عتبة نظره في المُمكنات المُسْتَغْلَقة للكيانية بعد الموت. لكنها آخِرية لا ينتظم فيها أيٌّ من قوانين أوَّليتها. فما تكوَّن حياً، وتحصَّلَ عُنصراً، في مُبتدأ النشأة، يأخذ سيرورةً من قوام آخر، علَّته ليست من الجوهر الحيِّ لطبيعته في النماء والاستحالة بكيموسات الأرض غذاءاً، وكيموسات الحركة الفلكية انتقالاً من طور إلى طور في المراقي الضرورية لصعود الجُسوم، العقول، والطبائع صحةً وسقماً، إلى أُفوالها الحتميِّ: إن سيرورة الآخِرية، في وعد الخلود، ابتكارٌ لِنفي الزمنيِّ مع إبقاء خصائص المعاني تجسيماً وتجريداً. ففي التجسيم خلوص إلى البذل الحسيِّ متعةً، أو عذاباً. وفي التجريد إقامةٌ بالمعنى على سعادة من تماسِّ النَّفْس مع غيبها العذب، أو إقامة بالمعنى على شقاء من تماسِّ النفي مع غيبها المُعذِّب.
إن كان هذان هما موقعا "الآخِرية" في الهندستين الزمنية، والغيبية، فما حالُها موقِعاً في كلمات الإنشاء العربي، تلويناً للصفات المكانية بصفات الإطلاق؟. ففي كل حقبة، أو عقد، أو ربع قرن، ينحو القول العربيُّ باللازمنية إلى الزمنية، على دارج رحابته السهلة في قَوْد الكلام إلى مصرعه استخفافاً به. ومن "مصكوكاته" هذه إن "فلاناً" هو آخر "عملاق"؛ آخر العظماء؛ آخر مفكِّر؛ آخر عالِم؛ إلى آخِر آخِر ما يُسمَّى تفخيماً على قياس الخروج بالمعنيِّ من السيرورة الحافظة لنشآت الأنواع إلى قدسيَّة الوثن، من غير مطابقة لهذه اللازمنية مع وعد الغيب الحافظ للكيان الإنساني الحيِّ في ديمومة التحقُّق. والواضح أن المتعاقدين على إطلاق الصفات السخية هذه هم خليط من المتديِّن حتى العدميِّ، ومن المعطِّل إلى المشرك،ومن العلماني إلى شقيقه السَّلفيِّ، ومن الأصولي إلى المُحْدث.
من الأكيد، في التعاقبات المتنامية أو الارتجاعية للسيرورات، أن كل "آخِر" إنما ينفيه "آخِر" لاحق، يبذُّه في مقام مُكْنَتِهِ عِلماً وأدباً، أو ينسخه ويكرِّره. فالمجدِّد سيعقبه مجدِّد قطعاً، والمُقلِّد سيعقبه مقلِّد، والمحافظ سيعقبه محافظ، والطاغية سيعقبه طاغية، والكريم سيعقبه كريم، والعبقريُّ سيعقبه عبقري، على نحوٍ لا تتفق ألفاظ "الآخرية" في تدبير أيِّ توافق لها مع المعنى. وفي أيامنا هذه كان لوفاة الشاعر التقليدي محمد مهدي الجواهري استدرار عَرِم من مخازن اللازمانية (مع رجاء أن لا أثير حفيظة أحد). ولربما كان في مقدورنا فهم فخامة اللوعة في الرثاء العراقي، من النَّفْس المجرَّحة راهناً، غربةً من جهة، وحنيناً إلى تاريخية شعرية هي صلتها بالعراق المهدور، من جهة أخرى. إنما توصيفات "الآخرية" تستوجب، بالرغم من افتقارها إلى الجواز مَنْطِقاً، خلاءَ الظَّرف الموجب للآخِرية من غريم، أو مُزاحِم. فماذا سنقول في عملاق مجدِّد مثل سعيد عقل، أوصل البيتَ التقليديَّ للعمود إلى رفاهية يحسده عليها المتنبي حقاً، ويتشهَّاها أبو تمام الأقوى؟ آخِرُ ماذا؟ آخِرُ مَن؟.
لقد افتتح أحمد شوقي مطلعاً للعمود الشعري على مُعطى العالم الجديد، وساقه سعيد عقل الكبير ـ الذي توافق هو والعربُ معاً في الجناية على مأثرته المدهشة ـ إلى غنائم المعاني. وبينهما ظلَّ عدد آخر، من بدوي الجبل ، وأبي شبكة، إلى الجواهري (باختلافهم، رقَّةً في الجبل، وطرافة في أبي شبكة، واتباعية صارمة في الجواهري) أوفياء لرهافة التقليد. غير أن أكثر الشعراء وفاءاً للإرث لفظاً ونَسَقاً في الإنشاء، من امرئ القيس حتى أبي فراس، هو الجواهريّ، الذي حدَّث العصر من منبر في الخط المواجه للعالم من خلف ستمائة عام، في الأرجح،ولم يقترب من هذا القرن إلاَّ باسمه الشخصي، وإقامته. فأين حظه من "الآخرية" في ظل العمود الحيِّ ببأس سعيد عقل؟ وأين "آخِرية" أيِّ قادم آخر في حُمَّى السباق إلى اتباعيةٍ تبدو أشرس من أيِّ وقت مضى، في أحوال النثر، والشِّعر، والوعي، والقتل أيضاً؟.

2 ـ رسوم على إسطرلاب الرَّازي

"كتاب التذكرة ومطارح الشعاعات" ليس عنوان كِناشٍ من الشعر الراهن، فيما اختصاصه النجوم الثابتة، و"الجداول الصحيحة والمدقِّقة للظلال والجيوب" في علم الفَلَك. ولم يَصِرْ إلى مُكنتنا تحصيله، لكنه في تآليف الحسين الصوفي الرازي، واضع علوم الإسطرلاب في جملة المعارف الإسلامية. ولعلَّه ـ في مقام "الآخِرية" السمحاء ـ آخِر فلكيٍّ مسلم (وهوإبن الريِّ من فارس) يطرق اسمه الأسماع منذ العام 291 هـ/ 903 م، لا غير. (لربما لم تُتَحْ لأسماء أخرى الغلبةُ لقصور في الدعاوة).
وعلى جاري الاختصاص في مذهبٍ عِلْمٍ يتَّصف برموزه الدالَّة، واصطلاحاته، ستبدو الأسماء الواردة في الأقْرَباذين (المؤَلَّف) المرصود لتعيينات البروج، نازعة إلى استعارة الحيوان لتصوير الفراغ المبعثر على حلقات الكواكب والنجوم، وفي قَدْرٍ أقلَّ إلى استعارة جوارح الإنسان، وبخاصة في توصيفها. فإذا كانت "السنبلة" استثناءً، كنباتٍ، في جدول الأبراج، فالمرأة وحدها استثناءٌ أيضاً، على خاصيَّةِ العذرية، وبين السنبلة والعذراء برجان لكل منهما نسبة إلى النبات والإنسان. فالقوس غصن غليظ في الأصل، وبرج التوأمين لفظٌ على غير تخصيص للنوع. يبقى الدلو والميزان على سجية الشيئية وسط خلائق أخرى تتصف بنازع الروح، فيها الحوت، والعقرب، والتيس....إلخ. أما الذراري (النجوم الذَّرُوْرُ المنتثرةُ) والجواري (الكواكب السائرة)، والخُنَّس (السائرة، وغيرها. وقيل ـ في المعجم ـ هي: زحل، والمشتري، والمريخ، وعطارد)، التي تستتر وتحتجب، كالظباء، في مجراها تحت ضوء الشمس، ففيها مجرى الأسماء إلى قضاءٍ ظريف في اجتراحها، طريفٍ في استلهام الأَشكال. وهي إحدى وأربعون بتأنيث الجمع اللفظي، وواحد وأربعون بالتذكير المعنوي لحقائقها المؤنثة. مُشَابِهاتُ الأحياء من هذه الكواكب والنجوم أكثرها للحيوان، مثل: عين الثور، وهو الدَّبَرَان، الذي يتبع الثريا. وقلب الأسد، وهو (بحسب "العمل بالإسطرلاب" للرازي) الجنوبي من الأربع المصطفة، التي تسميها العرب جبهة الأسد. وظهر الأسد، الذي هو المنزل الحادي عشر من منازل القمر. وذنب الأسد، النَّيْر الطالع خلف كوكبَيْ الزبرة، ومن أسمائه: الصرفة. وجناح الغراب، وهو من جملة كوكبة الغراب. وعنق الحية. وقلب العقرب، والنسر الواقع، وهو النَّير الذي تسميه العامة "الأباقي". والنسر الطائر، المشهور من الثلاثة التي تسميها العامة بالميزان. ومنقار الدجاجة، وذنب الدلفين، الواقع خلف النسر الطائر. وحجلة الفرس، وذنب الدجاجة، الذي يقع خلف النسر الواقع. ومنكب الفرس، وهو الشمال من الفرع الأول من الفرع الثاني من فرعي الدلو. ومتن الفرس، وهو الجنوبي من الفرع الأول من فرعي الدلو. وسرَّة الفرس، وهو الشمالي من الفرع الثاني من فرعي الدلو. وجناح الفرس، وهو الجنوبي من الفرع الثاني. وذنب قِيْطُس، وذنب قيطس الشمالي، وذنب قيطس الجنوبي. وفم الحوت، وهو كوكب عظيم من ناحية الجنوب على رأس الفرس. وفي الواحد والأربعين كوكباً ظهوراتٌ بشرية، هي على نحو كامل كالسَّماك الدامح، النَّيِّر الواقف بإزاء السَّماك الأعزل، شُبِّه الكوكبان الحافَّان به بالرمحين. وكذلك الراعي، الذي يميل إلى الشمال من كوكب العقرب. وظهوراتٌ بشرية على صورة الجوارح، مثل عرقوب الرامي، ورجل الجوزاء، ويد الجوزاء. وما بين هذه وتلك كنايات، مثل الشعري اليمانية، والشعري الشامية، التي في حكايةِ اسمِها أنها "تغيب في ناحية الشام، وتسمَّى الغميصاء؛ لأنها عندهم أخت سهيل، وأنَّه لمَّا عبرت اليمانية المجرَّة إلى سهيل، بقيت هذه في ناحية الشمال عن المجرَّة، فبكت على سهيل حتى غَمِصَتْ عيناها، وقالوا ذلك، لأن اليمانية أنور منها".
والرازي يصنِّف مسائله على اسم "المحنة"، بقياس يجده المحدثون "مُقْلِقاً". ففي عهدنا يشار إلى تمرين مفترض في الرياضيات، أو الهندسة، بالمسألة، على نحو: "مسألة في تقدير زاوية بين ضلعين منقوصين" مثلاً، أو "مسألة في استخلاص العشور الذريَّة". فكلمة "محنة"، في اللغة، هي الداهية، والبلية، يُمتحنُ بها الإنسان في يقينه، ونَفْسه، وصحته. وهي الامتحان، أيضاً، أي: الاختبار. فما وجه تخصيص تمارين الاستخلاص، والمسائل، بلفظٍ على ثقلٍ معنوي؟. ربما أوجبها الرازي في مجابهة العقل كي يمتحنه بها ابتلاءاً، واختباراً. وعلى هذا الوجه يتأكد موقعها في مطالِع الفِقار: "في معرفة امتحان العنكبوت"، و "في معرفة محنة المقنطرات" إلخ. والأرجح أنه "آخِر" من أناب تلك اللفظة مناب "المسألة"، والعهدة ليست علينا.