في الحمرة الأولى حضرَ جسدي كلّه دفعةً واحدة، ولم أكنْ أعرفُ ما الجسد.. و ها أنتَ تجاوزتَ الثلاثين ولا تعرفُ شفتاكَ حتى عددِ النتوءاتِ حول حلمةِ ثَديِ المرأةِ الأوُلى.. تجهلُ عددَ هزّاتِ طرب نهديها، ولونهما لون شفتيها.. ضعيفٌ أنتَ في رياضيات الجَسد واللون.. كأيّ بحراني يعرفُ الحزنَ أكثرَ من الجنس.. يشربُ ماءَ دموعه أكثر من ريقِ فتاته.. يصقلُ سيفَه ولا يصقل شفتيه.. يعرفُ الأشياء الكبيرة دائماً .. منذ أن عرفتُ جسدي أدركتُ أنّ اللذة في كلّ جزء صغير فيه.. وحده الأعمى يتحسس الأشياء الكبيرة... وحده الأعمى ينتظر... وحده الميتُ لا ينقلب.
كنْتُ كلّما أدنيتُكَ من جسدي رأيتُ آخرتَك في عينيك، كأنّ قيامتَكَ قد جاءت، فلا أنفرُ منك، ولا أدعها. كأنّ طينك أيها البحراني الحزين لم يفترْ منذُ الحَرق الأوّل. تدخلُ في حربٍ، وتدخلُ في أخرى.. وتدخلُ في أخرى، قبل أن تنتهي حروبُك اللاحقة. حياتُكَ حربٌ لا سلام فيها. مَنذُرونَ للحروب والدموع، و الجسد ليس سوى ساحة قصل. كأنّك لا تسمعني.. كأنّ صوتي عورة.
لم يتعبْ أبوكَ في البحثِ عن اسمٍ لكَ. ستكونَ عبداً لسيّد وإن كان قتيلاً. وحدها أمّك ادخرتْ لَكَ اسماً مُنذ الثقلِ الأوّلِ في بَطنها. سمّتكَ (عباس) ونذرتْ عُبُوَسَكَ لحربٍ، قالت إّنها ستأتي يوم الصيحة الكُبرى. سألتَها أنتَ: متى يا أمّي؟ فقالتْ دونَ أن تنظرَ في عينيكَ: كَذب الوقّاتُون يا ولدي. وأنتَ كما أنتَ صمتَّ مُنذ لبستَ اسمكَ لامةَ حرب، ولم تجرؤْ على غيرِ النظر في جهة أبيك. لم تأتِ حربُك الوهم، ولم يتغيّر اسمُك. ويوم صحوتَ رجعتَ. ومنذ ذلك اليوم وأنتَ تزور المقبرة عصر كلّ خميس. تَتَسِعُ المقبرةُ ولا تتسع أنتَ. أيّها البحراني: وحدها المقبرةُ تتّسع.
ليلةَ تشتعلُ رغبتُك لا تجد غيرَ جسدٍ تَسَجَّى في سواده لغُسله الأخير. لا تعرفُ ما تبقى منه لمسّك المُرتجى. لا شيءَ يُسْفِرُ لك، غير ما بالغتَ أنتَ في تسفيره. تنتهي فتغتسل ثلاث مرات: مرّةً لشَككَ في فُتور جسدك، ومرةً، لمسّ الميت، ومرّةً، تتوبُ فيها من إثمك الفاتر.
تدخلُ عليها.. تخرجُ من عندها وجسدك واحد. فقدتْ مرايا عرسِكَ فضَتها.. أنتَ حضارةُ انتظار، ووجهك في المرآة جيشٌ، بالغَ قائدهُ في الانتظار فَانْكسر. ومَرايا عُرسكَ ترشحتْ دمَ جيشك، لا دم غفوة فتاتك ليلة العرس. وقبلَ أن تنام تدعو الله أن تكونَ غَسيل الملائكة.
بالغتْ أمُّك في مَشموم ليلة عرسكَ، جعلتْ فَرشة دخلتك حديقةَ مشموم. وفي الصَباح استأذنتك في الذي فَقدَ بهجةَ الرائحة منه، كي تلقيَه تميمةً على أبعد القبور في مقبرة الحي. غسلتْ رجليك ورجلي عروسك في ماءٍ واحد، لا يحملُ غيرَ ذاكرة الذبح. لعنتِ الذين منعوا الماءَ وهي تُمعنُ في صبّه على رجليكما. كان للماء ذاكرة الغدر، لا ذاكرة الافتراع. لم تحتجْ أنتَ ليلتها للخيال، مادام كلّ شيء عرفتَه من حكايات أبيك. كأنّ حواسّكَ لا تعرفُ بعضها.. حديقةُ حواسّكَ بلا ماء.
سآخُذكَ إلى/على الماء..
جلستُ أنا في الجهة المقابلة منك ريثما ينتهي النادلُ الوسيم من إحضار الطعام. كلما اقتربتُ بوجهي منكَ ارتددتَ أنتَ بظهرك الفاتر نحو جدار الغُرفة الصغيرة كأنّك تبالغُ في الغياب. يأتيكَ عطري فتشمه على استحياء.
" هل اشتهتْ نيتُك غيرَ غفوة فتاتك مؤجلةِ الحواس؟" سألتُك وأنتَ لا تنظرُ في وجهي.. كأنَّكَ تَضيع.
فلمّا انتهى النادلُ من وضع الماء والطعام، وتأكدتُ من أنّه الطعام كلّه شكرتُه ثمّ بالغتُ في غلقِ الستارة، وأنتَ مُنْغلقُ الماء. لم أمدّ يدي نحو الطعام ولم تمدّها.. قمتُ من مكاني ولصقتُ جنبي في جنبك.. استشعرتُ حرارةَ الخروج فيك، وأنّ الحياة لم تَعدْ ما عشتَه مسحوراً بما تنتظره منذ الاختفاء الثاني، بل مَا ترويه.
" هذا الماءُ وديعتي في زَهرة فَمكَ"
رأيتَني بدهشة البحراني المنتظر، لكنّك فعلتَ، وبالغتَ في الماء. فلّما امتلأت الزهرةُ كلّها ماءً، ورأيتُ بعضه يَلمعُ، يسيلُ من زاوية فمك اليسرى، اقتربتُ منك أكثر.. أطبقتُ شفتيَّ على شفتيك الحارستين.. أطبقتُ الزهرةَ على الزهرة.. مددتُ مَيسمي، واسترددتُ وديعتي.. بدأتْ فضةُ الماء تسيلُ من زوايا فَمينا، على الرغم من كلّ هذا الإطباق الهَضيم، لكن الماءَ لا يسجنه أحد.. له سيرة الخروج.. له سيرةُ غير الانتظار.. عندما يسكنُ الماءُ لا يكون ماءً. الماءُ يُهلك.. يَصعقُ.. يَشحذُ أشدّ الحواس تأجيلاً.. يستنفرُ الأعضاء تأويلا.. يؤججُ مَرايا العرس.. يُشعل المَشموم غابةً.. يُغيّرُ الأسماء.. يثقبُ أعصى الفِلزاتِ قسوةً.. يَستعجلُ المنتظرين.. يَهبُ الرمانَ أسطورةَ استدارةِ النهد.. ينتهكُ.. يعصفُ بالشكل.. يَمنحُ الضَوءَ بهجتَه، وعينَ العاشق لمعانَ الشهوة. وعندما يسكن نأتي.
رأيتُكَ ماءً يفورُ من تنور الجَسد.. بيتاً تفتحُ مراهقةٌ فارسيةٌ نوافذه كلّها، بينَما عيونُ المارّة تذهلُ بعينيها البدويتين.. كشفتُ شعري الأسود الفارسي وأرخيت أزرة صدري.. قلتَ لي وأنتَ تهمّ في استباقِ جنَةِ الليل :
" مَاءُكِ ليسَ كأيِّ ماء.. ماءُكِ لا يُشبهُهُ أيُّ ماء"
.. إلا ماؤك أيّها البحراني الحزين له طعم الغَرق، ورائحةُ البهجة المؤجلة. يرثُ طيرُ الحمام بهجته، وبَهجةُ أطفالك لا تُورّث.
لم يكنْ صعباً على أخي الصغير التوليف بين حمامتين غريبتين.. لهما لونان مختلفان.. شكلان مختلفان.. حجمان غيرُ متساويين.. عمران بينهما مسافة من الريش.. جنسيتان متباينتان متباعدتان.. لا يحضر ذلك في ألفة الحمام، ولا يحمل أخي همّه. يُدخل حمامتين في صندوق خشبي، شبه مغلق إلا للهواء وقليل من الضوء، يسميه " مُحْكَر " يَحْكُرْهُما فيه مدة لا تزيد على يومين، ولا تقل عن يوم.. يقول لي " خلاص.. صارا مُتَوالفين"!! فلا يلقى منّي إلا ابتسامة رضا.. يفتح المُحْكَر.. يُطلقهما أمام عَيني الفَرحتين طائرين مطوقين ببهجة الطرد، يتبادلانه فلا يفتران، كأنّ ريشهما مجاز لم يكتملْ. تتأنى الوليفةُ، تنشرُ ريش جناحيها، وذنبها ثمّ تسحبهما بلين على الأرض.. تتشكّل له.. تمكّنه وتمنعه، تجيبه وتصدف بوجهها، فيدخلهما الكبرياء.. يرتفع صدره فأسمع احتكاك ريش ذنبه بالأرض، ولا يملّ الضرب بجناحيه.. يتعاشقان.. يتداخلُ فماهما.. يتطاعمان.. يا الله وليست التقبيل -أيها البحراني- إلا للإنسان والحمام.
-" تعالَ ندخل محكراً نتوادّ فيه.. يتداخل ريشك في ريشي ..نتطاعم.. لن أصدف عنك، ولن أفتر كما فترت عروسك البحرانية ليلة عرسك.. تعالَ نبتهج بالطرد"
-"لسنا حمامتين" تغضُ نظرك .
- " ولسنا صقرين بريين أيضاً"
-" ليس الحمام الأبيض إلا لخيل الظليمة الظليمة"
-" ليس التقبيل إلا للإنسان والحمام"
كنتُ أرى ألفة الحمام وبهجته، وأنتَ تكربل كلّ حمامة بيضاء.. أنا لست حمامة كربلائية.. بيضاء نعم لكني لستُ هي.. أنا الفارسية.. أنا تلك التي طاردتها صغيراً على سطوح بيوت حيّ النعيم .. طرنا معاً على سير بيوت الحيّ سيرة سيرة. بكينا على سطح بيت العاشقة الصغيرة كلّما همّت بالعشق همّ أبوها بنتف ريشها.. وفي ليلة نمى ريشها المنتوف دفعة واحدة فلم يرها أحد.. كنتُ الحمامة.. كنتُ التي لا تأكل الشعير، وكنت أنت بهجة لا تضاها.. لم تعد - يا عبّاس -قادراً على أن تحبّ أكثر من مكان واحد، وكنت تُبدع أمكنتكَ دونَ تعب. ما بال الطفل البحراني كلما كَبُرَ صَغرَتْ بهجتُه، وتأجّل فرحُه إلى يوم الرايات السود؟ ما باله تغادره ألفة الحمام؟ يألف الحمام الأمكنة، وفي كلّ ريشة فيه بوصلة لجهة يعشقها؟ وأنت لا تهمّ إلا بسطحك الحرج؟ لم تعد تقفز للسطوح الأخرى.. البيوت ألوان وذاتك لون واحد.. الحمامة التي تبهجك ملطخة بدم القامة.. حمامتك للحرب لا للسلام.
-" كان لي حمامتان بيضاوان.. نذرتهما ليوم الوحشة. وفي فجر هذا اليوم ضاعفت لهما الماء والحبوب.. أكلتا أكثر من عادتهما.. اصطدتهما بعنف، ولم أبالِ بكثرة اصطدامهما بشباك القفص المعدني. صبغتهما بلون أحمر.. بالغت في رشّهما به.. لم تعودا بيضاوين.. جريت بهما إلى حيث تُعد الخيول للنزال.. ثبّتهما إلى ظهر إحداها، ولم أتعب في اختيار الخيل.. كلها خيول الظليمة الظليمة. لم أعرف ماذا حلّ بهما لكني لمحت أيدي النساء -في ذلك الصباح المهيب- تمرّ عليهن بلطف وحنان، وأيدي الرجال تصبغهما بدم القامة "
-" أيها البحراني ماذا بقي فيك من الحمام" ؟
-" ...."
لم تُجبْ، ولم تَنْوِ رفع رأسك.. وكان رأسُك لا يجيد إلا النظر إلى الأعلى .. إلى السطوح.. إلى فضاء الحمام.. إلى ألفة الصدر.. إلى النحر.. إلى الشفة العليا.. هدوؤك بوذي فقد تأمّلَه.. لم يبقَ فيكَ من الحمام غيرُ ريشةٍ بيضاء على نحرك، لا تُشعر بها، ولا برهافة أطرافها. كانت عيناك على صدري وعيناي على الريشة. كلّما داعبتِ الريحُ الريشةَ اشتدَّ صدري إلى الأعلى حتى كادت الأزرّة تنفتق. ثمّة رغبة في صدري.. كأنّ نهداي مليئان ببركة الضوء.. نَهداي جناحا حمامة لا تذكر كم أَلِفتْ من قبل من حمام. أيها البحراني.. أيها النحر.. ايّها المنحور.. أيّها البوذي الوحش، لم تعدْ غيرُ طفل يحبسُ بهجته ليلة عيد، يُسرُّ أوّلها للوسادة، وتاليها لغفوته.. مَنْ غيرك يزور المقابر صبيحة يوم العيد؟ أيّها البحراني: عيدُك مقبرة.
أيّها الوحشُ غيرُ المنتظر ألفة الحَمام.. أيّها المسحور بانتظار الوهم.. ادخلْ يدك في صدري تخرج بيضاء من كلِّ انتظار.. اُمْرُرْ بها على نهرهِ الفارسي تترآى لك ألفة كل الحَمام.. مرّتْ شفتاك من قبل على ضفتيه واستودعتُ زهرتيه فيه.
إيهٍ يا عبّاس، كلّما جئتَ في ذاكرتي سبقَكَ الماء.
أمسكتُ يديك المُعشبتين بزهرة الصدر.. وضعتهما على جناحيه، وعينيك تلمعان، كلّما تحسستَ جنّة الصدر، تناسخَ الريشُ الأبيضُ الناعمُ فضةً في الفضاء:
-" تعالَ نأتلفُ بأُلفة الحمام.."
كنتَ تنكسرُ في شعري، وتنفتحُ لهفتك على غير الإنتظار.. تنكسر.. تنكسر.. تهذي:
_"أحبّكِ يا فارسية"