قاسم حداد

سحقاً للقصب الذي صار ناياً

لا تصغ للناي طويلا
سوف يجرحك وينال منك
وكلما كان حزنك عميقا
طاب للناي أن يتوغل بشفرته نحو الشغاف
شيئ من حرير الشرايين يفري غزالة الدم
شيئ من ليل الأعماق, من بهجة الجمر وهي تتصاعد
في ريش الجناح الهائم البعيد
الغائم الوحيد حفيف خفيف
شفيف
يمتد بين الصوت والصدى
يسوق كوكبة الغزلان تطفر من شهقة القلب
وزهرة الغرائز
شيئ يطالك
وأنت في غيبوبة القصب
شيئ من العجب

ليست الموسيقى أثير يلامس أجسامنا عبر حاسة السمع فحسب إنها ضرب من الخلايا الحية تقتحم الانسان في حواسه كلها وبالنسبة للناي فإن الأمر سيبدو أكثر رهافة وسطوة في آن يبدأ الناي من أكثر الأدوات بدائية وأكثرها بساطة على الإطلاق ثمة قصبة يابسة منسية في طرف الحقل ما إن تصادفها ريح شريدة ذات مساء موحش حتى ينساب النحيب فيخال لك أن كبدا تبدأ في الإعلان عن مكبوتها هل الناي مبعوث الكبد المفدوح يجوز لك أن تسأل ويطيب للناي أن يغفل عن سؤالك


قطعة القصب المهملة من أين لها كل هذا الشجن ناعم الملمس
بعقده المتباعدة المتجاورة المندفقة
المتدافعة مثل قلادة في عنق امرأة نائمة
يتلاعب بها الحلم صقيل
الخصر والكتفين وما عليك إلا أن تختبر شفير القصبة المكسورة
لتعرف شفرة النصل وشفافية الحزن معا لا تصدق أن المصادفات وحدها المتحكمة في لقاء الريح بالقصب
فالحقل لم يكن بريئا وهو يترك تلك القصبة في هامش المشهد
والريح الشريدة ليست سوى الزفير المكتوم
يشهق مثل تشبث الغريق بالخشبة القصبة هي خشبة النجاة المنذورة للكبد
المفدوح خشبة هي الصليب في الوقت وفي تدفق الناي تقدر أن ترى الروح وتلمسها
فيما تصير جسدا مبذولا لتفجرات الأعماق ناهضة نحو الأقاصي
روح ذائبة في هواء يخرج من داخل عميق إلى دواخل لا تحصى, وجسد يشف عن النيران كلها
ليس بين الجسد والروح سوى هذه القصبة الوالهة المشحونة بفضاء شاغر
مثل غرف القلب وهو ينتظر عشيقة في الفقد
لك أن تدرك حدود الحنجرة من حدود الصوت فيما تصغي
وفيما تصغي
لك أيضا أن ترى إلى الصوت
تراه جرحا يتكئ على النصل
كيف تسنى للحقل أن ينسل أحفادا على هذه الدرجة من الحزن والشهوة
كيف تسنى له أن يصوغ مخلوقات فاتنة كهذه ليهملها وينساها
مخلوقات, ما إن يصادفها الغريب في الليل, حتى يألف لها ويأنس لنحيبها وهي تتفجع مثل الثاكل. لا يفهم الناي سوى الغريب النائي
وفي الليل لا يعود للقصب فسحة للنوم, لن يعرف الهجعة ولن تطاله سوى أصابع الروح التي طالت بها الحبسة
فأياك
أن تصغي للناي و أنت وحدك
سوف تنال العذاب كله
العذاب إلى آخره لقد صادفه الغريب فأصابته الوحشة
وصادفه العشيق فتفطر قلبه لفرط البكاء ورافقته المفؤودة دون أن ترأف بها كائنات الليل
أياك .. أياك
أن يستفرد بك القصب المحزون
يفتك بك
ويفنيك
أياك .. أياك
لا تأمن للقصب وهو يشحذ كبده على شغافك
كمن يمنح النصل فرصته الوحيدة أمام جرح وحيد
أياك .. أياك .

نصف عائلة، في نصف شاحنة،
في منتصف الليل
الزمان أوائل الستينات (يجب أن يكون الفصل صيفاً، حيث كنت أقضي ردحاً من عطلة الصيف عند إبنة عمي في القطيف)، المكان على مشارف القطيف. ثمة من تبرع بأخذنا في نزهة إلى الأحساء. (أبو فيصل) زوج ابنة عمي الكبرى قائد الرحلة، و(علوي) زوج ابنة عمي الصغرى، قائد العربة. لم يكن مثل هذا الأمر مزحة آنذاك، فرحلة كهذه، في ذلك الزمن، تشكل سفراً كامل المواصفات، بما فيه عامل المغامرة. فقد قلتُ لهم ذات يوم، بعد أن جلتُ معهم (أكثر من صيف) مناطق القطيف وما جاورها : (أليس هناك مكان أبعد من هذه النواحي؟). في ذلك العمر، كنت مولعاً بالاستحمام في الحمامات العامة والعيون الطبيعية، التي كانت تزخرف بها حقول القطيف والعوامية وصفوة والقديح وغيرها. كان يحلو لنا الذهاب إلى ذلك الماء الدافئ في الهزيع الأخير من الليل. ذات ليلة، وأجسادنا الغضة مغمورة في إحدى الينابيع الدامسة، هتف بي شخصٌ من العائلة، لا تتبينه الذاكرة الآن، يجيبني على سؤالي اللجوج : (نعم، هناك العين الحارة).
العين الحارة ! راق لي الاسم. حسبتُ إنها في الجانب الثاني من البساتين كالعادة.
صرختُ به (نذهب إليها في الليلة التالية). ضج الماء الذي نتقمصه بالضحك، لكي يتبرع الجميع بالشرح كيف أن (العين الحارة) تبعد أميالاً عن القطيف، فهي في الأحساء وليست في القطيف. وبما أنني كنت الضيف المدلل لدى الأهل في القطيف، فقد عزّ عليهم أن تنال مني تلك الخيبة الفادحة التي عدت أجرجرها عائدا إلى الدار، قبل انبلاج الفجر بقليل. ويومها عزفت عن الذهاب معهم، كالعادة، إلى خباز الحي لكي نجلب خبز الصباح. ونمت ذلك اليوم حتى وقت الغداء، كمداً على تلك المسافة التي تفصلني عن (العين الحارة). لا أتذكر الآن جيداً ذلك الهوى الغريب الذي يستحوذ على خيالي عندما يتعلق الأمر بعيون الماء الطبيعية المبذولة للاستحمام. ويبدو لي، الآن، إن في الأمر شيئا من المفارقة، خصوصاً وإنني لم أكن أحسن السباحة في ماء أعمق من كعب القدم، (وتلك حكاية طويلة تستحق الفضح). هل كانت المسألة ضرباً من التعويض غير الواعي عن عقدة السباحة. أم أنه ذلك الإنسحار المبكر بالماء ؟

على الغداء، همس لي زوج ابنة عمي، ( مارأيك أن تستحم هذه الليلة في العين الحارة؟). أدركتُ الأمر. ثمة مغامرة تنتظرني هذه المرة. انتفضت لفرط المفاجأة. وانتعشت العائلة، خصوصاً ابنتي عمي، فقد كانتا تلحان على زوجيهما منذ زمن أن يأخذاهما إلى الأحساء. ولم يبق إلا أن أتلقى عدداً من الاحتضانات الحميمة من العائلة، لأنني تسببت في تحقيق هذا المشروع. لأول وهلة، لم أكن أتصور أن تلك النزهة على هذه الدرجة من الندرة، لفرط مداعبتها أحلام الجميع. إنها (العين الحارة) ليس غير. وكان عليّ أن أتخيل أسطورية تلك النزهة مسبقاً، لكي أتهيأ للمغامرة.

لمَ كل هذا الإدعاء الطفولي بشهوة اكتشاف الماء ؟ ماذا ستفعل لو أنك تجيد السباحة؟ ضحكتُ في داخلي على هذه النفس الأمارة بالماء. وفجأة تخيلت الأمر :
ماذا لو اكتشف الجميع إنك لا تحسن العوم، وأنت القادم من بلد يحيط به الماء من كل جانب؟! طردت الفكرة سريعاً لئلا ينكشف السر وتفسد الرحلة، فالأحساء في سواد النخل، حيث (عين نجم) تسهر لك، تستحوذ على لبّك وتستدعيك. وأنت إليها كمن يذهب إلى حلم يمتلك الجمع.

علينا أن نتحرك قبل منتصف الليل بقليل، لكي نصل إلى هناك في الوقت الذي اعتدنا أن نذهب فيه إلى ماء القطيف. ستبدأ الرحلة من (القديح) حيث دار (السيد علوي) زوج ابنة عمي الصغرى. وهذا يعني أن العشاء سيكون في (القديح). أعدت بنات العم لوازم الرحلة من الزاد والماء. مثل قافلة صغيرة من البدو (المبتدئين) يتدربون على صحراء حميمة، أجمل من الحلم وأكبر قليلاً من النوم. ولم يبق إلا أن نتخيل قافلة صغيرة تتزود قبل الربع الخالي بقطرة ماء (كما سيقول مظفر النواب بعد ذلك بسنوات) تقودها طفولة ماثلة نحو الماء الحار في فجر صيفي رطب.

أذكر إنني، عندما كنت أقف على ساحل القطيف، أتخيل ذلك الماء الكبير بركة لا متناهية من الماء الغامض، أقفز إليه وأبدأ العوم حتى الجانب المقابل من ذلك الساحل.
وكثيراً ما رأيت أسماكاً كثيرة متفاوتة الأحجام ترافقني السباحة لكي توصلني للساحل مثل حرس يعرف أنني أفتعل العوم، مستعدة دوماً لإنقاذي في الوقت المناسب. وربما يأخذني الخيال أحياناً لكي أقرر ساعتها الإقامة في الأعماق صديقاً دائماً لكائنات الماء. ولكن سرعان ما ينتشلني من تلك الأحلام اندفاع الأصدقاء نحوي، في مداعبة ثقيلة، يريدون القذف بي في متاهة الأعماق. ساعتها أتيقن من خطورة الأوهام التي تستحوذ عليّ. الطريف في الأمر، أن للأهل تفسيرا غريبا لشهوة السباحة في البرك الطبيعية آنذاك. حيث يقال إن لماء تلك العيون مفعول صحي على أجسادهم، حيث تزيل أثر البعوض الذي يتولى أجسادنا طوال الليل أثناء نومنا. فقد كنا في صيف ذلك الوقت ننام على سطوح الدور (حيث لم يكن قد طالنا اختراع المكيفات بعد). وبسبب من انتشار المستنقعات الآسنة في تلك النواحي من البلاد، وهي مياه تفيض على حاجة الزرع لفرط تفجرها الذي يغمر الأرض)، لتتكون أسراب كثيفة من البعوض، أصبحت آنذاك واحدة من مظاهر الحياة اليومية في القطيف وضواحيها. الأمر الذي يجعل الليل (خصوصاً بالنسبة للزائر الذي لم يعتد جسمه على ذلك) عذاباً مقيماً. وأذكر أنني في كل صباح أبدو مثل شخص خرج تواً من معركة دامية مع خصوم غير مرئيين. بذلك التفسير الفسيولوجي الطريف لفعالية ماء العيون الطبيعية، يخفف الأهل عني بعض الشيء بالحمام الدافئ المبكر. وكنت أستهوي ذلك التفسير، لكي أتفادي الظهور أمام الآخرين بجسد مضرج بالندوب الملتهبة في النهار. والغريب أنني سرعان ما أنسى معاناة الليل بعد أن أعود إلى المنزل من الماء، كما لو أن الطبيعة قادرة على خلق تلك المعادلة الساذجة، بين حشرات تخرج من الماء الفاسد لتعطب بالجسد البشري، وذلك الماء الطازج الذي يصبح دواءاً ناجعاً لخراب تلك الحشرات، كأننا نعيد كلام شاعر قال ذات نشوة (وداوني بالتي كانت هي الداء). ترى هل كنا نرى الأمر وقتها بمثل هذا الوضوح الفانتازي، لو أننا كشفنا أسرارنا الحميمة، التي تستحوذ على خيالنا في ذلك الليل قليل النوم، ونكابر بها أمام شغف الفتيان طوال النهار، مستحوذين على ما تبقى منها لئلا تفتك بنا الأوهام؟! لا أحد الآن يتذكر تماماً كيف كانت الطبيعة تتحكم في حياتنا، كما لو أننا الجانب الخفي منها، بحيث لا نعرف، هل كان الماء هو السر، أم أن السر يكمن في أرواحنا التي تفيض على الأجساد. ولم تزل الأحساء هي مربط خيلنا الليلية التي تستعد للضرب في الظلمة الكثيفة.

قال أبو فيصل، بفصاحة القائد وشكيمة الخبير : (ستجلس مع ابنتي عمك والأولاد في الخلف، وسوف أكون أنا في المقدمة لكي أدل علوي على الطريق). وعندما يقول سلمان هذا فإنه يعني أنه سيكون قائد الرحلة. منذ وعيت كنت أرى في زوج ابنة عمي الكبرى شخصاً يجمع خصالاً متنوعة ومتناقضة في نفس الوقت. فبالإضافة إلى خفة الروح والقدرة غير المتناهية على الهزل والميل إلى المرح، فهو من المكابرة بحيث يمكن أن يحسن عمل كل المهمات التي يعجز عنها الآخرون، وهو أيضاً يتميز بروح المبادرة والقيادة بحيث لا يحتمل وجود كائن على الكرة الأرضية يفرض عليه رأياً. وكرمه الفائض لا حدود له، ولا يقبل أن يبدو أقل من رجل ميسور الحال كأن بين يديه أموال قارون، التي يملك أن يخسرها إذا هو أراد ذلك. يمكنني الآن أن أتميز فيه رجلاً يمتلك طبيعة الفارس، كما لو أنه آخر فرسان القرون الوسطى، لكن دون أن يصل إلى حدود الدون كيشوت، لأنه سوف لن يضع نفسه في موقف المغامرة غير المحسوبة. إلى ذلك كله فإن سلمان سيكون عرضة دائماً لهزائم صغيرة لن يعترف بها على الإطلاق، لأن الآخرين هم الذين يقعون في الخطأ دوماً لعدم تقديرهم لمواهبه الباهرة. بهذه الصفات المتقاطعة سوف يمثل سلمان شخصية متميزة بمحبة جميع أفراد العائلة في المحرق والقطيف. وهو بالمناسبة، كان في السنوات الخوالي، متواجداً في البحرين بنفس حضوره في القطيف، ربما لأنه يجد نفسه على سجيته أكثر في البيت الكبير المتعدد، وكانت الأيام التي يقضيها بيننا في البحرين تعد من أبهج أيامنا على الإطلاق، فالجو المرح الذي يشيعه في العائلة سيجعلنا ننتظر زياراته مثل المناسبات التي تضاهي الأعياد، حتى أننا نكاد نشهق فرحاً حين نسمع أن (أبو فيصل) سيصل غداً، وربما لن ننام ليلتها في انتظار الغد.

لم يكن لأحد أن يناقش (أبو فيصل) في الأمر الذي أصدره، ونحن نقف أمام نصف الشاحنة التي يمتلكها (علوي) زوج ابنة عمي الصغرى. فالجميع يعرف من هو القائد دائماً. ساعدنا على الصعود إلى خلف الشاحنة المغطاة بالقماش السميك، المفتوح المؤخرة، فرش لنا بساطاً خفيفاً، ونهرني بأسلوبه المحبب : (أنت مسؤول عن مؤخرة القافلة. إياك أن تنام. تستطيع أن تطرق زجاج قمرة القيادة إذا رأيت ضرورة لذلك).
والتفت نحو (علوي) : (توكّل على الله يا سيد). وإلى أن تحركت الشاحنة، كان (علوي) يؤكد أن كل شيء تمام، فهو الذي سيقود شاحنته. ولفرط هدوء طبيعة هذا (علوي)، لن تشعر بوجوده في المكان حين يكون موجوداً.، فهو من الدماثة بحيث يستطيع أن يشعرك بأنك على صواب طوال الوقت. قليل الكلام، ويثق كثيراً في مواهب (أبو فيصل) التي لا تحصى. لا يتردد في ثقته بالآخرين واستعداده لخدمتهم، تفادياً لأية ضرورة للمناقشة، حتى أنني لا أكاد أذكر موقفاً استدعاه للاعتراض. إلا أنه بلا شك كان يجيد قيادة شاحنته أكثر من (أبو فيصل).كان معنا في مؤخرة الشاحنة طفلا بنت عمي الكبرى، (فيصل) أكبر سناً من شقيقه (محمد)، إلا أنهما لم يتجاوزا العاشرة عندما انطلقت بنا الشاحنة في ليل كثيف الظلام، نحو الأحساء.

تستطيع أن تشعر (بأكثر من حاسة) بشخصية الطريق المترب الذي لم تطله بعد معطيات النفط السوداء الكثيفة، فسوف يتقطع بك المرصوف، لكي تصعد إلى خياشيمك ريحٌ من الغبار غير المرئي، لفرط الليل وانفعال النزهة. ويمكن أن نطلق على ذلك الطريق،الذي أستحضره الآن بطاقة المخيلة، طريقاً زراعياً بامتياز. ويمكن أن أتذكر أيضاً تلك المسافات المغلفة بالعتمة من الصحراء المزخرفة بما يشبه الأحراش والغابة والتلال، حتى أوشكت أنني على شفير الندم، لأنني وضعت نفسي (مع هذه الكائنات المتشبثة بتلابيب الأحلام) في هذه المغامرة. فعندما اجتازت العربة المكابرة ظاهرَ القطيف وضواحيها، تيقنت أنني ذاهب إلى ماءٍ نادرٍ لفرط الوحشة التي كانت تخفر توغلنا في الرحلة. الآن، يتوجب أن أبذل استحضاراً ذهنياً مضاعفاً للذاكرة (تعضدها مخيلة نشيطة) لكي أرى ابنة عمي (أم فيصل) التي لم تعد بيننا الآن (رحمها الله). فما إن شعرتْ بما ينتابنا من وحشة، حتى بَسَطَتْ لنا عباءتها الرحيمة لنجد أنفسنا متكورين، مثل صغار الطير، تحت أجنحة كأنها سقيفة الرحمة. وربما كانت تلك العباءة السوداء أكثر رأفة وطمأنينة لنا من عتمة الليل خارج الشاحنة.

كانت الشاحنة تموج بنا مثل سفينة الأساطير، في سحابة من الغبار الليلي، ونحن نحملق في مؤخرة العربة، لنرى ما يشبه الأشباح ترافقنا بصمت غامض، دون أن ندرك هل كانت ترصدنا أم تخفر خطواتنا. فلم تصادفنا عربات أخرى ولا علامات بشرية تشير إلى الكوكب الذي نتحرك فيه. و(أم فيصل) تفتح كيس المكسرات وتوزع علينا بكفها ما يشغلنا عن الأشباح، ثم تسكب لنا شيئاً من الماء من زمزمية التبريد لكي نبلّ الريق الناشف. وإذا بنا نسمع من مقدمة الشاحنة، حيث قمرة القيادة (حسب تعبير أبو فيصل) صوت المغني السعودي عبدالله محمد، يشدو بأغنيته الجديدة آنذاك (إيه ذنبي ليه بس يا أسمر). فأطلقت إبنة عمي الصغرى ضحكتها المجلجلة في رد فعل لاشعوري على الأغنية، فانتقلت لنا عدوى الضحك مثل كهرباء. تفجرت العربة بصخب وفوضى محببة، كأننا كنا بحاجة لانفعال جامح يصدّ عنا شعور الوحشة الذي يطبق على الموقف. كانت الأغنية تكسر وجومنا وتخلق مفارقة تجعل الموقف يتخبط بالمشاعر. فأطلقتْ (أم فيصل) تعليقها الطريف : (في هذا الظلام لابد أن يكون الحبيب أسوداً وليس أسمر). فتصاعدت درجة الانفعال الجماعي، فقد شَعَرَ الجميع أنه وجد صوتاً رفيقاً يحاول إضفاء بهجة لازمة على مسيرة الرحلة. لكن هذا لم يدم طويلاً، فعندما نهضتُ محاولاً الوقوف ممسكاً القضبان الجانبية لتفادي الوقوع بفعل اهتزاز العربة، تناهى إلينا صوتٌ نقيض لصوت الأغنية. ثمة الأشباح تأخذ طبيعة الحيوان وتطلق أصواتاً مترصدة. وكأنني لمحتُ قطيعاً غامضاً يتبعنا. واقترب الصوتُ، إنه مزيج من النباح والعواء. فسقط جسدي مثل صخرة على سطح العربة، وأطلقتُ بشارتي : (الذئاب.. الذئاب).

هكذا بدأت علاقتي بالذئب بوصفه كائناً ميثولوجياً. لا أتذكر تماماً كيف تطورت هذه العلاقة فيما بعد، لكن من المؤكد أن أسطورة الذئب ستتجلى لاحقاً بأشكال تنقض بعضها في نظرتي لهذا الكائن الغامض المكتنز بالأسرار. ذئب في ليل. ليس الأمر هيناً بالنسبة لصبي مثلي، كثير المزاعم، يحمي مؤخرة قافلة تبحث عن الأحساء، ناشف الريق واجب الفؤاد. فما إن رأيت (أو خُيّل لي) أن قطيعاً من الذئاب تلهث بعوائها الكثيف خلف العربة، حتى سقط الجسد مرتعشاً على سطح العربة الحديدي الساخن. مطلقاً الإنذار كأنه الوصية الأخيرة : (الذئاب خلفنا). ولم يكن ينقص النساء والأطفال إلا شخص يحمي حماهم مذعوراً مثلي. جرتني (أم فيصل) بقوة نحوها في قاع الشاحنة، محاولة تهدئتي. مؤكدة أنها ليست سوى كلاب ضالة لا تخلو منها مثل هذه النواحي. لكن الذعر كان قد انتاب البقية بسرعة جنونية و أخذ منهم مأخذاً. قلت لهم مؤكداً مثل اليقين، إنها أصوات غريبة تقترب من الشاحنة. بدت بعيدة مترددة أول الأمر، وسرعان ما اتضحت وتجلّت منبثقة مثل أقمار في الليل. وأخذ الجميع يتبينها، بل انهم صاحوا مؤكدين إنها ذئاب فعلاً. ولذنا جميعاً بأبعد زاوية في عباءة (أم فيصل) التي رأيت لحظتها أنها القلعة التي يتوجب عليها حمايتنا من التهلكة. والتصقنا جميعاً بقاع الشاحنة، وجوهنا ملتصقة بزجاج قمرة القيادة. وصرختُ بالقيادة، التي كانت لحظتها سادرةً في صوت عبدالله محمد، الذي لا يزال يزجي عتبه على حبيبه الأسمر. وبدأت أطرق بالقبضتين على الزجاج طالباً أن يضاعفوا السرعة خشية مهاجمة الذئاب. وعندما استنكرتْ القيادة ذلك الصخب المشتعل في المؤخرة، أخذت تهدئ السرعة كمن يريد أن يقف على جانب الطريق لاستطلاع الأمر. وإذا بجميع من معي يهجم على اللوح الزجاجي الذي بدا مثل جدار بين قمرة القيادة والمؤخرة المذعورة، طالبين عدم التوقف ومواصلة السير ومضاعفة السرعة، مطلقين صراخهم : (الذئاب خلفنا أسرعوا أسرعوا).
لقد تيقن الجميع الآن أننا في معركة غير متكافئة، ولابد من الفرار بأسرع ما يمكن. فالعدو الماثل على بعد خطوة منا يوشك على الفتك بنا، فيما القيادة تجهل ما تتعرض له القافلة كلها. وأخذ العواء يقترب، وكنا نسمع اللهاث المسعور يكاد يقفز على طرف الشاحنة. أنهم خلفنا، وأصبحنا نرى بوضوح بريق الأعين الملتهبة مثل جمرات في الريح. وفي لحظات تحول الموقف إلى حدود الأسطورة. كمن مسّ الشاحنة سحر العفاريت. وأخيراً أدركت القيادة أن ثمة خطرا داهما يهدد الجميع. وعندما أخرج (أبو فيصل) رأسه من النافذة محاولاً التهدئة زاعماً (بثقته المعهودة) أنها كلاب فحسب، ظاناً أننا يمكن أن نأمن، في تلك اللحظات، لمجرد الأرانب الأليفة. وانطلقت الشاحنة بأقصى سرعتها، محاولاً (علوي) إثبات خبرته في فن القيادة، في حين كان يثبت للجميع شطارته في فن الهروب كالغزال. وأخذت العربة تجتاز ظلاماً مضاعفاً، ظلاما أصبح الآن أكثر خرافة متوغلاً في المجاهيل. لقد انتقل الرعب إلى القيادة، برغم مكابرة (أبو فيصل). وتبرعتْ ابنة عمي الصغرى بفكرة كفيلة بتمزيق كيان الجميع، فقد صرخت بأن الذئاب يمكن أن تقفز علينا في الشاحنة لو أن الشاحنة خففت السرعة قليلاً. وشعرنا أن القيادة قد اتصلت سريعاً بهذه الفكرة الجهنمية، فقد شعرنا فجأة أن السيارة تكاد تخفّ من أرض الطريق طائرةً لفرط السرعة التي دفعها (علوي) لعربته. تخيلنا العربة المغطاة من الجوانب المفتوحة المؤخرة فوهةَ الجحيم، وربما بقفزة جريئة، لا تنقص تلك الكائنات المسعورة، يستطيع حيوان واحد فقط أن يكون بيننا في الداخل. وفيما كانت الشاحنة منطلقة تهرب من قطيع الذئاب (من يستطيع الآن أن يشك أنها ذئابٌ بالفعل) بدرت عن (أم فيصل) حركة خلناها أنها ضربٌ من الحكمة وسحر الخائف في آن واحد. فقد أخذت تبحث في ظلام المؤخرة بيدين مضطربتين عن صندوق الزاد الذي أشرفت بنفسها على إعداده، وأخرجت كيساً (عرفنا فيما بعد أنه يحتوي على قطع دجاج مبهّرة ومحمرة) وراحت تفرغه وتقذف بمحتواه خلف الشاحنة. وفجأة شعرنا بابتعاد لهاث الحيوان وعوائه وخفت الأصوات دفعة واحدة كأنها وقعت في هاوية، تخاذلت تلك الكائنات منشغلة بوليمة غير متوقعة. ووَجَمنا متقلصين على بعضنا البعض نكاد نسمع خفق قلوبنا بوضوح برغم هدير الشاحنة التي لم توقف انطلاقها. ولم يجرؤ أحد منا على كسر الصمت. كل ما استطعنا أن نفعله أننا تشبثنا (بأم فيصل) بحرارة المتضرع، معبرين لها عن امتنان عميق على هذه اللفتة، التي تعد بحق عملية إنقاذ حاسمة، سوف يحسدها عليها طوال الوقت (أبو فيصل)، الذي لا يتخيل أن أحداً يمكن أن يفعل المعجزات سواه.

نصف عائلة، في نصف شاحنة،
في منتصف الليل -2  

انهارت الأجساد المرتعشة وهدأت غارقةً في عرق خفيف. وتماسكت (أم فيصل) لكي تصبّ لنا شيئاً من الماء، تسقينا وهي تهمهم بكلمات مقدسة تسبغ بها سلاماً بارداً على القلوب الصغيرة، التي كانت موشكة على الخطر. لم تتوقف السيارة. ولم نتبادل كلمة. فما إن ارتخت عضلاتنا كلها حتى وجدنا أنفسنا نغرق في شيء يشبه النوم والفرح اللذيذ، لكوننا نجونا من ذلك القطيع المتوحش الذي رأيناه رأي العين. ويمكن الزعم ليلتها أننا كنا ننام بأعين مفتوحة تقريباً، كما لو أننا اكتسبنا من الذئاب أسطورة النوم بعين واحدة. ولن نستطيع بعد تلك التجربة أننا سنحب الكلاب في يوم ما. ولا زلتُ أعتقد بأن في هذه الحيوانات جزا كامنا من الوحش يمكن أن يستيقظ ويستدير نحوي، فلا يتوجب الغفلة عنه أو الثقة به. غير أن علاقتي بالذئب، ككائن ميثولوجي، سوف تتحول بأشكال شتى، في كتابتي، كما لو أنه المخلوق الغامض الذي يمكن أن يتقمّص الكائنات الأخرى دون أن يتجاوزها. وربما كان ولعي بالذئب، بوصفه دلالةً حمالةُ أوْجه، هو ضربٌ من محاولة محو ذاكرة الذعر المبكر الذي تجرعته في لقائي الأول بالذئب. سوف يحضر الذئب كثيراً في كتاباتي بشكل أو بآخر. وبالمصادفة الباهرة، فقد أطلقتُ مؤخراً اثني عشر ذئبا في كتاب يضم مختارات من أشعاري يصدر لاحقا.

صَعَدَتْ الشاحنة بكائناتها المرتخية إلى الطريق المرصوف، فَدبَّتْ فينا حياة جديدة. ولمحنا على مبعدة قناديل صغيرة تشير إلى المدينة. فانتعشت الأرواح، وأخذت الأجساد تتمطى مستعيدة طبيعتها. هاهي الأحساء إذن. ولم تتوقف العربة، وإن كانت قد خفّت سرعتها كثيراً. وكنا في الهزيع الأخير من الليل. ورأينا كأن الأحساء تهتف لنا مباركة لنا هذه النجاة، باذلة لنا ماءها الحنون.

كأن للماء الدافئ نكهة لا تخطئها الحواس. ليست رائحةٌ، لكنها ضربٌ من مزيج الطبيعة، يتصاعد في هيئة الوصيفات وهنَّ يستقبلن هودج العرس. قيل لنا إنها بكاء المعادن، يتفصّد ويتحول إلى سائل رهيف، ما عليك إلا أن تقبل عليه لكي يحتضنك. وقفتْ الشاحنة بقرب حرش متصل بالأشجار والنخيل، وأطلقتْ زفيراً كثيفاً، كمن يتنفس الصعداء بعد رحلة طويلة. هل كان الطريق إلى الماء غامضاً مثل الماء الذي نقف بين يديه الآن ؟أطلق (أبو فيصل) النداء المنتظر : (انزلوا).وتحدّرت القافلة مندفعة نحو العين. لم يمنعنا الظلام الذي يلفّ المكان من رؤية صفحة الماء المسوّرة بفوران غريب. صرنا نتحرك دون أن يتبين بعضنا البعض تماماً. راح (أبو فيصل) يوجهنا نحو حافة العين. فوضعنا أسمالنا على صخور متناثرة. لم يكن سهلاً معرفة حدود الأرض من حدود الماء من حدود الهواء، لولا تلك الصخور المصقولة بأجساد البشر وحرير الماء. كنا نحن والماء فقط في كوكب مفقود. ولم نشعر بالوحشة التي كانت، قبل قليل، تهددنا بالمجاهيل. انشغل الرجلان بإنزال ما نحتاجه. لا أتذكر تماماً من الذي حاول أن يفسد جمال ذلك الظلام بشمعة قديمة، تعثّر بها على إحدى الصخور. وسرعان ما نهره الجميع برد فعل لا شعوري، كأن الجميع قد وجد في الظلام صديقاً أليفاً حنوناً يحمي ويستر، ولا يجوز خدشه بالضوء. الجميع رفض النور في تلك اللحظة. النساء لأنهن كذلك، والرجال لأنهم منحازون لعتمة غامضة. أما أنا فقد كان لي سببي السري. أذكر، الآن، أنني كرهت فكرة الشمعة، فيما أبدأ في ترك جسدي في الماء. الضوء سيفضح جلوسي الصامت متشبثاً بصخرة في طرف العين، بعيداً عن عرض الماء حيث الأعماق. هل كان الماء فضيحتي الدائمة؟ كان الجميع سيعرف أنني لا أحسن السباحة، وأن كل مزاعمي بشهوة الماء ليست سوى تعويضاً لاشعورياً عن قصوري عن ماء جميل بهذا الشكل.

أتخيل الآن كيف كان صوت انغماس أعضائنا في ماء العين الساخن، كما يرمي بسبائك الذهب في بحيرة من الجليد. بهدوء وحذر تقدمنا في الماء، كل على طريقته. (أبو فيصل) انصرف لمساعدة طفليه على التوغل داخل العين. ابنتا عمي كانتا قد انغمرتا بالماء حتى الكتفين. (علوي) كان آخر من طرح ملابسه، و شدّ الإزار الأبيض على وسطه وتمتم بكلمات شبه مسموعة كأنه يذهب إلى الوضوء. هذا هو الطقس الذي انتظره الجميع طويلاً. أذكر إن الهدير المكتوم الذي يصدر من مكان مجهول في العين، كان يضفي على الموقف رهبة غامضة، احترمها الجميع، وبالغ في تبجيلها. من أين يأتي كل هذا الماء، وإلى أين يذهب. شعرنا بأن ذلك الماء كان يفيض على أطراف العين، لكأن الأرض تضيق به وتقصر عن كرمه واتساعه. وفيما راح (أبو فيصل) يروي لنا قصصاً وحكايات (تتراوح بين الحقيقة والخيال) عن عين نجم. كنت أتسائل عن سر هذه الكثرة الملحوظة للعيون الطبيعية الممتدة من الأحساء حتى القطيف. وكيف أنها تكاد تغمر الأرض من حولها (أنها كانت تفعل ذلك حقاً). واستعدت، مما يحضر في ذاكرة الصبي، من درس الجغرافيا المبكر، الذي يقول عن تلك البحيرة الغزيرة من الماء القديم المنسرب تحت الأرض على امتداد المنطقة الشرقية، مغذياً، لفرط غزارته وعمقه، مناطقَ بعيدة في الخليج تصل إلى البحرين. وكأن (أبو فيصل) كان يصغي للتداعي الذي استغرقني، فهتف مؤكداً أن البحرين تشرب من الماء الذي ينبع من الأحساء، بل انه أكد (لأطفالٍ تطيبُ لهم المبالغة أحياناً) بأن الأهل في المحرق ربما يشربون من نفس الماء الذي يغمرنا الآن. راقت لي الفكرة. قلتُ : (ترى لو أنني غرقت في (عين نجم) الآن (بسب حماقة ما)، هل ستنقذني الكائنات المائية (صديقتي في الحلم)، وتأخذني إلى واحدة من عيون البحرين، ويعثر علىَّ الأهل هناك ؟). ولئلا يبالغ الآخرون بالسخرية من هذه الخاطرة، تذكرتُ لهم قرائنَ كثيرة، من تشابه أسماء العيون في المنطقة الشرقية بعيون في البحرين، (مثل قصاري وأم نخيلة والرحاة والبديعة والصالحية وأم رحى والعين العودة)، قرائن كفيلة بتحقيق مثل هذا الحلم، لو أن المصادفات الأسطورية تسعفنا.

ولم تكن الطبيعة غافلة عنا. ففي ذلك الصمت المعتم، ومن بين هسهساتنا المتقطعة، كانت كائنات الطبيعة ترصدنا بدماثة. كنا نسمع كل شيء بوضوح باهر. حفيف أغصان تتحرك في هواء ساكن، أصوات مختلفة من الحشرات الكثيرة،مكونة جوقة ليلية لا توقظ النائم ولا تتركه وحيداً. تثاؤب الخضرة الداكنة في الأوراق، وربما سمعنا أيضاً (مثل السياب)، الجذورَ وهي تشرب الماء تحت الأرض. أما الضفادع فقد كانت هي قائدة الجوقة الرئيسية في ذلك المشهد. لم أكن (حتى ذلك الوقت) قد سمعت ضفادع بهذه الكثرة، حتى أنني كدت أموت فزعاًً، عندما قفز حولي ضفدع بمحض الصدفة وأنا أنتقل من صخرة إلى أخرى على حدود العين، الأمر الذي دفع (أبو فيصل) لأن يقود حملة السخرية المستحبة مني، بوصفي كائناً تقتله الضفادع وهي تداعبه بأطرافها الطرية اللزجة. لقد كان طقس الاستحمام، أحد أكثر المواقف متعةً، بعد ذلك السفر النادر.

هذه هي (عين نجم) إذن. لم يشعر الجميع بالوقت. ولم ننتبه لغياب ابنة عمي (أم فيصل)، إلا بعد أن سمعناها تدعونا للأكل. لحظتها فقط شعر الجميع بالجوع. فنحن لم نتناول شيئا، تقريباً، منذ غادرنا القطيف. خرج الجميع، بملابس تتقاطر برحيق المعدن، واقتعدنا أطراف الصخور نتعرف على الأكل. شاي الحليب، الخبز المتأخر، المربى، لكي يلسع حناجرنا بحلاوته، والجبن، الذي ستجرح علبته المعدنية أصابعي فيما كنت أتلمس الطريق إليه في العتمة، خليط من الفاصوليا الخضراء المطبوخة سلفاً منذ الظهر. ثم ذلك الطبق الذي سيفاجئنا جميعاً، ويدفعني إلى منتهى البهجة كأي طفل. فقد كنتُ في ذلك الزمان أحد المذهولين بالاختراع الخارق الذي يسمى (معكرونه) وكانت المرحومة (أم فيصل) تحسن إعداد ذلك الاختراع، كما لو أنها تعيد ابتكاره في كل مرة. الأمر الذي جعلها تهيئ ذلك الطبق كمفاجأة لي. قالت أنها مكافأة إضافية، لأنني كنت صاحب فكرة الذهاب إلى ماء الأحساء. ولكي تبدو الأسطورة رفيقة لطفولتنا، وعدنا السيد (علوي) أن يأخذنا، في طريق العودة إلى سوق التمر، لنحمل معنا شيئاً مما اشتهرت به الأحساء في جميع العصور. وأظن أن الأسطورة هي ذاتها التي هيأت لي، في السنوات الأخيرة، صديقاً من الأحساء اعتاد أن يتحفني بسبائك التمر الطيب كل عام، في هذه الأيام بالذات. فشكراً لأن الأحساء لا تزال قادرة على دفع الروح في ذاكرتي، لكي أسرد شيئاً يتقاطع مع الخيال متجاوزاً الواقع.

سهرة القتلى
شُغفنا بكوكبة القتلى، لئلا تصابَ المشانقُ بتخمة القصل. قلنا، نسهر عند ظهر البيدر بعد نهارٍ مترعٍ بالجَنْي الجديد من الكرم. اقتربَ موسمُ العنب لندفق في مخلوقات المدينة شيطانَ الترنح بلا هوادة. قال الرجال : هذه ليلة مقمرة يحلو فيها نبيذُ السنة الماضية قبل نفاده، كفانا نوماً مبكراً. وعندما اكتملَ الجمعُ حفرنا أربعة آبار متباعدة في الساحة، وتدلّى الفتيةُ بالحبال نحو القاع يملأون الأواني الخزفية، وكلما رفعوا آنيةً مترعةً، تقافزتْ منها ضفادع مذعورةٌ تنطّ على أكتاف الرجال وهي ترشّ النبيذَ على الأجساد المعربدة، لتسري نوبةُ من الضحك الماجن بين الرجال، وما إن يقع ضفدعٌ في حضن امرأةٍ من اللواتي حرصنَ على مشاركة السهر، حتى تصرخ منتفضـة كمن مسّتها كهرباءُ الجنس، فيصعد ازدهار الصخب في الجمع. وبعد قليل وصلت إلينا رائحةُ الشواء الذي تكفّـلتْ به فتياتٌ نشيطات رحنَ يغنيّن وهنّ يحـمّـرن الدجاجات المحشوة بالبصل والثوم وخليط البهارات، ضربٌ من البهارات تخصصتْ (أم يحيى) في صناعتها منذ سنوات، فعمّت شهرتُها القرى النائية. وجاء الكثيرون يبحثون عن (أم يحيى) وتوليفتها البارعة. أحد الرجال تخابثَ ذات سهرةٍ وأشاعَ بأن هذه البهارات كفيلة بإشعال الحُبَّ في الأجساد، الأمر الذي دفع النساء لأن يبالغن دوماً في تبهير الطعام. وقيل إن إحداهن كانت تضع لزوجها قليلاً منه في شاي الصباح لمباركة النيران في الجسد. ربما كان هذا الخاطر هو الذي باغتنا عندما وصلتنا رائحة الشواء، فتبادلنا النظرات ذات المغزى، وانفجرنا معا في ضحك فاجر جعل النسوة من حولنا يقذفننا بكل ما طالته أيديهن، ثم تسللن بعيداً عن مكان صخبنا وشغلن أنفسهن بإعداد المائدة. وفيما كنا نوشك على الدفعة الأخيرة من النبيذ، طلعت علينا صبيّـة تعتلي ظهر مهر أبيض. وقفت على طرف التل لحظة، ثم لوّحت لنا لكي نقترب. لم نكن نعرف صبيّـةً بهذه الملامح في النواحي القريبة. شَعرٌ أشقر ميالٌ إلى الحمرة، ومن جيوب الصديري الصغير، الذي ترتديه على لحم جسدها الفتيّ، تتدلى أزهارٌ سوداء، فيما كان اللجام الذي تقود به مهرها الابيض عبارة عن منديل من الحرير يختلط بإزارها المعقود في خصر ناحل كان يتأوّد لفرط الانفعال المكتوم. قالت "هل من مكانٍ يسعُ تسعةً من الأصدقاء لليلةٍ واحدة ؟" لمسنا في لهجة الصبيّـة ثقةً جليّة في كوننا الجهة التي كانت تطلب، وأننا لن نخذلها. رغم ذلك فإن طبيعة عجائبية جعلتها تتميز بلباقةٍ حسدتها عليها نسوةُ القرية، اللواتي كنَّ يفتحنَ أحداقهن وأفواههن مأخوذاتٍ بالفارسة الصغيرة التي بدأت غزوها باكراً، ويبدو أنها لن تكفَّ عن ذلك. ها هي صبيـّة تحسن إدارة المشهد. أشارت بيدها للناحية الأخرى من التل "هناك تسعة من الأصدقاء تلاحقهم قوة من الجند، أربعة منهم جراحهم تنزف". وما إن إلتفتنا لنلقي نظرة سريعة، ونتـأهب للذهاب الى أولئـك الأصدقاء، حتى اختفتْ الصبيـّةُ برشاقة المهر، مثل فراشة تطير من زهرة إلى أخرى، دون أن تُحدِثَ ضجة. وتيقّـنا أن الأسطورة تتحكمُ في سهرتنا، إنها ليلة النبيذ بجدارة. توزعنا، قسمٌ ذهب لملاقاة الأصدقاء التسعة، وبعضنا تولى ترتيب مبيتهـم في مكان آمن لا يطاله الجند. لم يعرف أحدٌٌ منا لماذا ينبغي أن يكون هؤلاء التسعة أصدقاء لنا مثلما هم أصدقاء لتلك الصبيّـة. ومن أين لصبيّـة مثلها أن ترتبط بصداقةٍ مع تسعة يقودون إعصاراً. واتسعتْ أحضانُنا بالأصدقاء. عندما ردّد أحدنا كلمة (القتلى) أمام النسوة انتابهن شعور غامض، وسرعان مـا نهرنه لئلا يكرر هذا التعبير مرة أخرى "ليسوا كذلك، مثل هؤلاء ليسوا للقتل، ولا يطالهم الموت. أنظروا إلى هذه الجراح الناضحة بالزنبق، أجساٌد تأخذها غفوةُ النزيف، أليسوا ملائكة حقا؟" لم نـرَ وجـه ملاكٍ من قبل، لكن يبدو أن كلام النسوة يحتمل الصواب. على الأقل لاتصاله بالسر الخفيّ الذي يربط هؤلاء الأصدقاء بتلك الصبيّـة الغامضة التي تحاكي الملاك وتغيب في مثل خفتـه. قليلو الكلام، أبدوا لنا مشاعرَ امتنانهم بكلمات مختزلة عميقة ودافئة برغم اضطرابهم المكبوت. يستعملون لغةً غير معهودة، لغة تشابه الاشارات ومكنوزة بالمعنى، ثرية مثل ضوء قمر في ماء، وفي ليلة واحدة تعلَّمنا الأشياء التي ستسعفنا لسنوات طويلة. بغتة اقتحم الجنودُ السهرةَ لكي تكتملَ الأسطورة. عندما وصـل الجند كنا نهندسُ سهرتنا بصخب، ونتبادل أنخاب النبيذ بكؤوس تفرغ أو تكاد، ورحنا نؤجل الالتفات للمائدة حتى اكمل الجند استجواب القرية، الناس والأشياء. وعندما توجهوا إلى الجرن، صرختْ النساءُ : "العشاء" وكانت رائحة الدجاجات ذات البهار قد فعلتْ فعلَها في جوع الجنود. للمرة الأولى سرى بيننا اعترافٌ شاملٌ بالمفعول السحري لبهار (أم يحيى) ودوره الغامض في إنقاذ الأصدقاء التسعة، بعد أن غطيناهم بالمزيد من السنابل خلف بالات العلف الجاف. فمَـنْ يؤوي كوكبة من القتلى لابد لـه أن يتميزَ بكثير من الدعابة. وإلا فإن المظهر الجاد سوف يجعله عرضةً لشكوك الجند. جندٌ يعتبرون كلَّ شخصٍ تظهر عليه علاماتُ الصرامة عدواً لا يجوز تجاوزه. وهذا ما أدى بحوذي القرية ليلتها لأن يلاقي حتفه. فبعد أن شبع الجند بالدجاج المتبّـل، خارتْ قـواهم فطلبوا من الحوذي أن يخرج حصانه ويقطر عربتَهم لكي يوصلهم إلى معسكرهم خارج القرية. وبسبب حكمة الحوذي وصرامته، سألهم أن يدفعوا له أجرة نقلهم مسبقاً. وكانت حكمة لم يحالفها الوقت ولا المكان. حاولنا دون جدوى إقناعه بأن الموقف لا يستدعي مثل هذه الصرامة، فأقنعه أحد الجنود بطلقة في رأسه. طلقة أشعلتْ رؤوسنا جميعاً. وفيما كان يتعفّر بدمـه في طين السهرة مثل النبيذ في الجسد، كان الجندُ يبتعدون ويموجون في صخبهم حتى تكاد العربة تنخلع لفرط فوضاهم. كان أحد الأصدقاء التسعة قد أعد العدة لتصفية العربة بمن فيها، لكن عملا ً مثل هذا كان كفيلاً بأن يجعل المعسكر برمّته يستنفر ويبعث بكل أسلحته لمحاصرة القرية ومعاقبتها على إيواء هذه الكائنات. بعد تلك السهرة لم يعد النبيذ يروق ولا يطيب السهر. وما عادت (أم يحيي) تحسن توليفة البهار الذي يشعل الأجساد. وظلّت الصبيـّة الجميلة بمهرها الأبيض تطلع علينا بين وقت وآخر، تحكي لنا قصصاً عن أصدقاء كثيرين لم يعد أحد يؤويهم. تـارة يكونون جرحى،

وغالباً قتلى، ونحن نحصيهم كل صباحٍ .. ونذهب. *

شك الشمس
عندما تكون على مشارف الخمسين
وتجد نفسك واقفاً بيدين فارغتين أمام مستقبل غامض بالكاد يبدأ مكتظاً بالمحتملات الكئيبة فتبدو كمن قطع الطريق كله من ذلك الأمل ليصل إلى هاوية
فترفع عينيك لخشبة الباب الشاهق
تقول له : افتح
ويفتح
فلا تجد غير السديم
فإذا أنت في حضرة الخلق من أوله

عندما تكون على مشارف الخمسين
بعد خمسة عشر كتاباً وأسرتين وأحفاد وشيكين وجسد معطوب و زنازن كثيرة ونصوص ملطخة بحبر القلب ومخطوطات خمس في خزانة الروح وأصدقاء يهددونك بالفقد وليال محتدمة بالكوابيس ومشاريع قيد الخرافة وأنت لا تكاد تطمئن لما بعد الغد

كيف يتسنى لك أن تكون محسوباً على البشر دون أن تصاب باليأس

عندما تكون على مشارف الخمسين
وترى بين يديك ركاماً من الأحلام المغدورة وشظايا المجابهات تضرج جسدك الواهن والوطن يقف على رصيف الذاكرة نصفه في وهم الجغرافيا ونصفه في حلم التاريخ لا يستدير إليك إلا لكي يفتك بما تبقى في ذبالة روحك من زيت الناس فتكاد تجهش
لفرط الخسارة ولا يكاد يسمعك غير غبار يغبّش مرآتك
ماذا تسمّي كتابك القادم إن كان ثمة وقت له

عندما تكون على مشارف الخمسين
وتدير رأسك في وطن يختلط عليك بملامح الثكنة لا يسمع قصيدتك ولا يصغي لنحيبك ولا تنتابه التفاتة الغريب للغريب وطنٌ وضعته زينة على جسدك المرضوض فوضع لك النصال تسند خاصرتك لتبدو مثل خيال المآتة في حقل خرّبته الرياح السود تدير رأسك فلا ترى غير المسوخ تسد عليك السبل زاعمة أنها الناس تدير رأسك في حسرة من يهم بالضحك فيجهش. كيف يمكن إمساك الخيط الأخير في أشرعة السفينة وهي متروكة في عواصف البحر كأن لا أحد من الأباء ركب بحراً ولا أحد من أحفادك سيحسن العوم

عندما تكون على مشارف الخمسين
وتلتفت خلفك فلا ترى غير الأنقاض كأن العمر الذي أسرفته في الأمس لم يكن يمضي إلا في خراب مستعجل وكأن الطريق الذي منحته القناديل من لحمك وعظمك وبياض عينيك لم يكن غير سرداب مشحون بالأشباح ظننت أنها الناس معك، فإذا بهم اليأس عليك

عندما تكون على مشارف الخمسين
وتحاول أن تحصي أفراحك فلا يسعفك الوقت ولا يسعك المكان تسند ظهرك في جحيم وتحدّق في جمرة وينتابك الدوار لفرط المسافة التي اختلجَ بها جسدك وتشظّت بها روحك وتاه القلب منك

عندما تكون على مشارف الخمسين
وتصاب بالشك في شمس أيامك .
ترى هل سيتاح لك من العمر ما يكفي
لكي تعيد قراءة مسودة كتابك الأخير قبل القبر ؟
عندما تكون على مشارف الخمسين
ستتمنى أنك لم تزل تقع في خطأ الحساب
عندما تكون على مشارف الخمسين. *

صمخ النواخذه

1

في لسان العرب، الصماخ من الإذن، هو الخرق الباطن الذي يفضي إلى الرأس، ويقال إن الصماخ هو الإذن نفسها.

2

غالباً ما يكون المثل الشعبي صادراً عن فطرة الناس، التي ما إن تضع يدها على الجرح حتى يتفاقم الوجع، ثم لا يهدأ الشخص حتى ينال العلاج الناجع .
كان والدي، كلما غفلتُ عن ندائه، أو لم أسمعه لأول وهلة، صرخ بي غاضباً (وصمخ النواخذه). وظل يردد لي هذا القول، حتى فاضَ بي الأمر يوماً، فوقفت أمامه مسمّراً، بين الأمر وبين الواقع، معلناً أنني لن أذهب قبل أن أعرف معنى هذا القول .

3

جَلجَلَ والدي بضحكة نادرة لفرط المفاجأة . ثم استدرك بقليل من التجهم وهمّهمَ " المعنى ؟! ".
كمن اكتشف أنه لم يسبق له أن فكّر في المعنى . فالمثل عندهم يجري مثل ماء الحياة، إنه جزء من الحياة، وليس للحياة تفسير مباشر يمكن الكلام عنه. إنها حياة فحسب.
لكنه رفع رأسه في وجهي بغتة، كمن برقت في ذهنه الفكرة ."لقد كانوا لا يسمعون إلا ما يريدون سماعه، وهذا ضربٌ من التجاهل بحجة الطرش المفتعل فيما كنا نحتاج لمن يسمعنا ".
لقد حاول أن يوجز المسألة، معبراً عن الحالة الشعورية التي كان الغواصون يعانونها أثناء العمل على السفينة، وهم تحت سلطة النوخذه، تلك االسلطة التي لا ترى في رجال الغوص غير أدوات لتوفير أكبر قدر من اللؤلؤ، أي تكديس الثروة للمزيد من الإستغلال.
وحين يقول البعض بأن نواخذة الغوص لم يكونوا على هذه الدرجة من القسوة .سأتأكد بأن تجربتي مع والدي تشي بعكس ذلك، فهو لم يحدثني عن نوخذه طيب أبداً ، ربما لأنه لم يصادف غير القساة منهم. وهو لم يكن يبالغ على كل حال، فقد كان يعيش حياة، حرص على أن تكون هي الإرث الكثيف الذي عليَّ أن أستلم مقاليده من بعده.

4

.. ثم أخذ يسرد الأساطير.
ليس ثمة معنى واحد في أصل هذا المثل. فقد قيل إن المثل جاء إثر حادثة غاية في الطرافة. حيث تقول الأسطورة أن أحد النواخذه على درجة من الجشع بحيث كان يبتكر الوسائل لإخفاء حقيقة حجم حصيلة اللؤلؤ الذي يخرجه البحارة من الأعماق، ويقوم بتسريب ما يستطيع من الآلئ بعيداً عن بصر وعلم البحارة أثناء إنشغالهم بالغوص وفلق المحاّر، وقيل إنه كان يقترح على الرجال أن يقوموا بفلق المحار مساءً بعد تناول العشاء، تحت ضوء القمر، إذا كانت الليلة مقمرة، أو في ضوء السراج الضئيل الذي يحجب أكثر مما يكشف. وكان ينتهز الفرص ليخفي لؤلؤة هنا وأخرى هناك، بعيداً عن الأعين، ليعلن للبحارة، في نهاية المطاف، حصيلة متواضعة، غير التي يحملها إلى صاحب السفينة. الأمر الذي كان يثير استغراب الغواصين وهم يشعرون بخسارة فادحة، دون أن يقدروا على إعلان ذلك، خشية أن يقعوا ضحية إتهام يفتقر للأدلة.
وتواصل الأسطورة لتقول أن ذلك النوخذه بوغت ذات مرة بأحد البحارة وهو يحملق في لؤلوة كبيرة الحجم، اكتشفها بحار آخر، وما أن بدأت اللؤلؤة تنتقل من يد ذلك البحار عبر الأيدي الأخرى، لتصل أخيراً إلى كفّ النوخذه، والبحار الأول يتابعها محملقاً ليعرف مستقرها. حتى ارتبك النوخذه وهو يبحث عن مكان لإخفاء اللؤلؤة، فما كان منه إلا أن وضعها في أذنه، ثم راح يضلل العينين الراصدتين .
تقول الأسطورة، أنه عندما ذهب النوخذه إلى فراشه لينام، مدّ أصابعه ليخرج اللؤلؤة من أذنه فتعذّر عليه ذلك. وحاول مرة أخرى لكن نعومة اللؤلؤة جعلتها تنزلق بفعل دفع الأصابع إلى داخل الأذن، شعر النوخذه بالمأزق، فجلس على فراشه وتناول المفلقة محاولاً أن يخرج بها اللؤلؤة من مكمنها، لكن تلك الحركة كانت كافية لدفع اللؤلؤة أكثر إلى (الخرق الباطن الذي يفضي إلى الرأس)، بحيث انتابه ألم فضيع، يَشي بأن ثمة عطب دام قد حدث لطبلة أذنه. لكنه لفرط دقة الموقف وحرجه الشديد ، وضع رأسه تحت الوسادة وتكبّد الألم حتى الصباح.
وفي ذلك الصباح، تقول الأسطورة، بدأ شعور غريب ينتاب البحارة، وهو أن النوخذه لم يعد يستجيب لندائاتهم ، ليكتشفوا أنه لم يعد يسمع منهم شيئاً. وقيل إن النوخذه قد استعذب ما حدث له، وأخذ يتصرف كما لو أنه لا يسمع شيئاً مما يدور حوله. وفيما كان يحاول تفادي انكشاف أمره، كانت أذنه تتعرض للتلف دون أن يجرؤ على الإفصاح عن السبب خشية الفضيحة. وظل محتفظاً بالأمرين معاً، سرّ اللؤلؤة المسروقة وتجاهله لكل ما يطلبه البحارة من حقوقهم . ومن ذلك قيل إن صمخ النواخذه كان الطريق الذهبية المحفوفة بالجشع وشهوة السلطة.

5

ثمة أسطورة ثانية تقول بأن الطرش كان يحدث قبل أن يدخل النوخذه إلى الغوص. فمن أساليب إعداد النوخذه ليكون جديراً بقيادة السفينة والغواصين في صرامة وحزم، لابد أن يجتاز امتحاناً قاسياً يجعله مؤهلاً لتلك المهمة. ويقال إن أصحاب السفينة كانوا يأخذون النوخذه المرشح إلى غرفة مظلمة محكمة الأبواب، ويضربونه على أذنه ضربة قوية بقطعة من خشب الساج الصلب على شكل قمع، بحيث تتعرض الأذن للتلف، فلا يعود يسمع منها شيئاً، وهذا ما يجعله قادراً على تفادي مطالب البحارة وتظلماتهم أو عدم الإكتراث بما يقولونه، بحجة أنه (أصمخ) لا يسمع شيئاً. وهذا ما عرف فيما بعد (بصمخ النواخذة) بوصفة امتيازاً.

6

لكن هناك من يشكك في هاتين الروايتين، شأنه شأن الذي لا يؤمن بأساطير يصوغها خيال العامة، وهم يذهبون إلى تبرير ما يحدث لهم بالغيب والخرافة. فيقول هؤلاء عن واقع يتصل بطبيعة العلاقات الإجتماعية في سفينة الغوص، زاعمين بأن صمخ النواخذه هو إشارة إلى الدور الذي كان يقوم به (المجدمي) في موقعه، بوصفه شخصاً وسيطاً بين البحارة والنوخذه. ويقول هؤلاء بأن (المجدمي) سوف يقصر دوماً عن القيام بدوره الإيجابي في هذه العلاقة. فأما لأنه يتراخى ويستهين في توصيل مطالب البحارة، أو أنه لا يفعل ذلك على الإطلاق. وبهذا يكون (المجدمي) بمثابة الأذن التي تسمع (أو لا تسمع) كلام البحارة للنوخذه. وهو بالتالي ليس أكثر من وسيلة فاسدة عاجزة عن التوصيل. وربما أراد هؤلاء الإشارة إلى البطانة التي تمنع وصول الحقيقة إلى صاحب الشأن. و(صمخ النواخذه) في هذا السياق، هو ما يصيب الوسائل من عطب وفساد وغياب كامل.

7

..فقلت لوالدي : " وهل ترى أن هذا المثل يصلح أن يقال الآن ؟"
فأجاب : " بالطبع ، إنه المثل الوحيد الذي لا يتوقف الواقع عن تأكيده يوماً بعد يوم، فإن أحداً لا يريد أن يسمع الآخر في هذا الزمان ".
وقبل أن أذهب إلى مكان أخر ، أتذكر صديقاً ، كان يردد أمامي مثلاً آخر لا ينسى، حيث كان يقول : " تستطيع أن توقظ النائم ، لكن من يتظاهر بالنوم لا يمكنك إيقاظه ".*

 

كلما انتحرنا

كلما انتحرنا

بوهم الباب لكي نصدق أنه موصد مثل جدار نعود فنتذكر بأن ثمة أشياء جميلة تغري بمغامرة أخرى كان علينا أن ننجزها قبل ذلك فينتابنا بعض الندم ونحاول أن نتراجع متداركين أمراً يكاد يكون تداركه مستحيلاً وحالما نعود عن انتحارنا ويحدث هذا مرات كثيرة في الحياة لكي ننجز ذلك نكتشف أن أحداً غيرنا قد بادر في تولي ذلك عنا عندها لا يعود لوجودنا مثل انتحارنا معنى

كلما انتحرنا

لكي نؤكد للآخرين أنهم بالغوا في العبث بنا اكتشفَ الآخرون أن ثمة حمقى يتوجب تلقينهم درساً في اللياقة لئلا يبالغوا في الاستهانة بالقناديل وهي ترسم الخرائط ويخالجنا شعور بضغينة غامضة تجاه هؤلاء من لا يرون في انتحارنا غير العبث بالحياة ونود ساعتها أن نعود لكي نشرح لهم بسرد أكثر ضراوة من النص لئلا يكون سوء الفهم هو آخر ذكرياتهم عنا وعندما نتمكن من العودة ويحدث هذا بمعدل تسع مرات في حياة واحدة ونجلس إلى هؤلاء في محاولة لتفسير ذهابنا بهذا الشكل أو ذاك لا نرى أمامنا غير أحداق زجاجية تحملق في فراغ هائل وفيما نتوغل في الشرح يكون هؤلاء شبه غائبين كما لو أننا نتحدث إلى كائنات غير موجودة ونكاد نشعر أنها غير حية أيضاً وقتها ينتابنا الشك ما إذا كنا قد عدنا من هناك أم لا

كلما انتحرنا

وأغلقنا النافذة الأخيرة خلفنا سمعنا باباً لا يزال موصداً هناك يصدر صريراً مثل مغادرة الغائب وندرك أن ثمة أشخاصاً ساهموا في مغادرتنا باكراً بشكل مباغت وحالما ندير أعناقنا نشاهد الأشخاص ذاتهم يضعون خدودهم المجرحة بالدموع على عتبة الباب في محاولة لاستعادتنا ثانية لأجل الاعتذار فنتبادل النظرات عن كثب مثل سجناء يرقبون سرداباً حفروه متجنبين لحظة مناسبة للهرب فنقف كسيري القلوب ويكون قرار العودة قد تم انجازه في أذهاننا فثمة أمل في بعض التفاهم مع أولئك الذين يزعمون ترك الباب موارباً فيما يحكمون إغلاقه بصلافة السجان وما إن نضع أنفسنا تحت أمرتهم مجدداً في محاولة لتفادي الانتحار ويحدث هذا كثيراً في الحياة التي لا يمكن تفاديها غالباً) يكون الأشخاص قد جففوا دموعهم سريعاً واستعادوا هيئة القضاة وطبيعة الضباع النشيطة ليبدو الخطأ ليس في الانتحار لكن في العودة عنه

كلما انتحرنا

في محاولة لإقناع امرأة بأن الحب هو أيضاً سبب للموت نكتشف أن تلك المرأة يمكن أن تجد مجداً في اقتران اسمها بشخصٍ غائب أكثر من اقترانها به موجوداً مما يجعل شعورنا بفداحة الخسارة مضاعفاً خصوصاً إذا كنا نرى إليها من هناك وهي تستدير بكعب الفولاذ يكزّ على عظمة القلب نحو أول شخص لتبدأ في التغرير به وإقناعه بالانتحار لأجل إقناعها بأن الحب هو أيضاً سبب جدير بالموت فنكفّ عن المبالغة في الانتحار ونستدير عائدين ويحدث ذلك على الأرجح في حياة لا تحتمل لكي نحذّر شخصاً من مصير وشيك غير أننا نكون قد تأخرنا عن ذلك حيث يصادفنا شخص في منتصف المصير على شفير النهايات

كلما انتحرنا

لكي نختبر قدرة الكتابة على تأجيلنا نجد أن كتباً كثيرة موجودة لنا موجودة فينا ويتحتم علينا لكي نتأكد من قدرتنا على الغياب أن نعيد كتابتها مرات أخرى من أجل تفادي أخطاء اللغة والمطبعة والقراءة أخطاء عادة ما تكون السبب المباشر لسوء التفاهم الذي يحدث بيننا وبين الآخرين ولا نجد وسيلة لتوضيح ذلك إلا بالعودة عن الانتحار لبعض الوقت لتلقين الناس طريقة جديدة في قراءة الكتب فنؤجل توغلنا في الانتحار ويحدث هذا على الأرجح مرة كل يوم في حياة ضيقة لكي نرقب الكتب وهي تستعيد حياتها في سديم من النسيان فالكتب ليست الوسيلة الناجعة لتأجيل الموت ولا هي قادرة على استحضار الموتى ولا فائدة من الحبر والورق في سياق ينقض النص والشخص في آن.

كلما انتحرنا

لكي نتفرغ وحيدين، للتمتع بحياتنا بمعزل عن الذين ظلوا يفسدونها علينا طوال الوقت نجد أنفسنا محاطين بطقوس تستوجب الإصغاء لأكثر الأحاديث فجاجة من قبل كائنات لا تحسن غير توجيه التأنيب المفرط في بلادته بحجة أن في الحياة ما يوفر لنا المتعة وأن المتعة لا تكتمل بغير الناس لنجد أن الانتحار لم يكن قرار حكيماً فنحن لم ننل غير خيار واحد يتمثل في مواجهة من توهمنا الفرار منهم. فنفرّ ثانية يحدث هذا لنا بوصفنا أكثر المنتحرين سذاجة وأضعفهم فراراً إلى الحياة بهدف تفادي توفير الفرصة لمن يريد أن يستفرد بنا هناك

كلما انتحرنا

وجدنا أن بشراً أكثر بسالة منا قد سبقونا إلى هناك وهذا ما يجعل انتحارنا ضرباً من العبث الفاتن أو هو نوع من الإستعادات المألوفة فهناك بشرٌ أكثر سفاهة ذهبوا قبلنا لكي ينتظروا حضورنا مما يجعل الانتحار نزوة ليست مأمونة العواقب خصوصاً إذا كانت صادرة عن هروب من ثقل الواجب المشحون بتفاصيل تفسد الحياة والأحياء فإذا بها نزهة تفسد الموت على المنتحرين فنتكاتف مثل كتيبة من الفيلة مسرعين إلى العودة عن الانتحار ساعتها يكون الوقت قد فات فالطريق مكتظة ببشر في هيئة الفيلة تتخبط في بحيرة عميقة من الطين فلا تتاح لنا فرصة العودة وهذا يحدث عند التظاهر بالعودة من الحياة والانتحار معاً

كلما انتحرنا

لكي ننسى نذكر أن ثمة تجربة جديرة بالاختبار هي النسيان والجلوس في الشرفة والنظر إلى الحياة وهي تمر عابرة أمامنا مثل شريط من الفيلم الخام لنرى ما يحدث للشخص حين ينتحر. *

من التي تضع النجوم في عينيك

تذرع الزقاق الناعس بين القمر وكوكب الأرض. كائنة تزور كوكبنا الحزين بأخبارها والكتاب في دفئه الحميم. استوقفتها ذات ليل، لكي أتأكد من وجودها معنا في هذه المجرة، فنهرتني الملائكة (ماذا دهاك، تكاد تخلع ذراعي). أوشكت على الاعتذار عن خشونة غير مقصودة. لكنها كانت قد انعطفت باستدارة حادة لتعبر الممر وتختفي متلاشية مثل طيف يعبر غيمة عابرة، ثمة كوكب غير مرئي كان في انتظارها. بحثت عن أقرب مقعد، ورميت بجسدي أتأمل ما يحدث لي مع هذه الكائنة. هل هي بشر مثلنا. لا يكاد الجواب متاحاً. جميع الدلائل تضلل رغبتي في اكتشاف كنه ما تنطوي عليه هذه المخلوقة. كتاب واحد يلتصق بجسدها، حتى ليصبح من المتعذر التمييز بين سائر أعضاء جسدها و هذا الجرم الصغير الملتصق بدفئه. أخلاط جّمةٌ تلتقي في جسد لا هو من أثير وليس للحواس سلطة عليه. لكنني كنت أريد أن أعرف. من يقدر أن يعرف. ليس فضولاً، لكن من المؤكد بأن ثمة رغبة خفية تجتاحني لمعرفة ذلك الكتاب. هل هو كتابها أم كتابي. فتحتْ باب الحلم واقتحمت عتمتي صافقة الباب خلفها. (هذا ليس كتاباً. يتوجب عليك أن تحسن ملامسة الشخص لكي تعرف كيف تقرأ كتابه). انتبهت. هذا ليس حلماً. الأحلام لا تكون صائتة بهذا الشكل. (لماذا لا تقولين شيئاً مفهوماً في اليقظة ؟). سمعت ما يشبه الصوت (في اليقظة لا يكون الكلام قادراً على خلق الجسور بين الأرواح. أنت روح ضائعة، تريد أن تعرف عليك أن تشرع حواسك كلها وأنت في النوم. الأحلام وحدها تسعفك ). أمسكت معصمها رغبة في التيقن بأن هذا ليس حلماً. هرب معصمها من يدي مثل ثلجة تذوب في جحيم. أخذتْ موقعاً على صخرة قريبة، وراحت تفتح في العشب الطري طريقاً بأصابع قدميها العاريتين. انتبهت. ( أين كتابك). افتر ثغرها عن شبه ابتسامة. كمن عثرت على حصاة توقعتها بين العشب. (في الحلم لا حاجة لي بالكتاب، اليقظة وحدها تستدعي التحصّن. هنا أنا قوية لمجابهتك). تحاربني في اليقظة بكتاب غامض وفي الحلم تجلس واضحة لتبادل التماهي مع الحواس. (في المنعطف الأخير من المبني كنت أرقبك وأنت تجتازين الصفوف ذاهبة نحو غرفتك. ماذا كنت تقولين للحارس الخميس الماضي). انحنت تلامس الحصاة الصغيرة، ثم ترفعها وتطبق عليها بكفيها برفق. شعرت ببرودة الحصاة بين راحتيها، فانتابتني رعشة خفيّة. (لم يكن حارساً، كنت أخاطب شخصاً يتنكر في هيئة شخص آخر أتذكره بين حين وآخر. يروق لي أحياناً أن أرى أشخاصاً غير مرئيين لسواك). سأعرف تواً بأنني لست في الحلم. اعترضتْ ظني (أبداً، هذا حلم، أنك فقط لا تدرك ما أنت فيه. قلت لك أنت ضائع. وعليك أن تؤمن بذلك لكي تساعد نفسك على الخروج من يقظة لا رجاة فيها). صادفني صديق ذات ضياع، وضبطني متلبساً بأحلامي. كان ينظر في عيني كمن يخترقني بأحداقه. (هل أنت موجود معنا على هذا الكوكب) أوشكت أن أقول له عن الكوكب الغريب الذي يزور مجرتنا، لكنني خشيت أن لا يفهم. لكنه باغتني مثل نيزك (قل لي، من هي التي تضع النجوم في عينيك؟) فتيقنت أنه كان يرى السماء في واضحة الليل. أحسست بمرور شخص بجانبي. الهواء الخفيف الذي تحرك بجانبي أشعرني بذلك. كنت أرغب في الالتفات لكي أتبين ذلك الشخص، لكنني لم أكن بحاجة لذلك. لقد كانت هي بكتابها الغامض. وضع صاحبي يده على كتفي (عليك أن تراجع طبيباً، حرارتك لم تنخفض منذ أسبوع). انتبهت. لا أتذكر أنني شكوت لأحد من الحمى التي ترهق جسدي في الأيام الأخيرة. توضع الكتب عادة في المكتبة، وتوضع أيضاً بجانب السرير لإغراء النوم. وغالباً يغير المرء كتبه بعد الانتهاء من قراءتها. لكن هذا كتاب يلتصق بجسدها منذ رأيتها. وعندما سألت أحدهم عما إذا كان يعرف شيئاً عن ماهية ذلك الكتاب الذي لا يفارقها، حدّق في وجهي برهة، ثم أطلق ضحكة غريبة (أي كتاب، إنها قطة لطيفة محظوظة بذلك الدفء). عرق جسدي بغتة. لا يمكن أن أكون متوهمً إلى هذا الحد. لحقت بها كمن يتبع شبحاً. وقبل أن تصل باب الغرفة وضعت جسدي في طريقها (يجب أن تصغي لي قليلاً. لماذا أرى كتاباً تحت إبطك لا يراه أحد سواي). صَرّت بذراعها على الكتاب لتحميه من نظراتي، فنزّ عطرٌ غامض غمر حواسي المتحفزة. (يا مجنون، هذا ليس كتاباً. إنه دفتر يوميات في هيئة قنديل، أحب أن أضع النار على جسدي). إذن هذا ليس حلماً، إنها تعترف بأنني ليس ضحية لخداع النظر. اعترضتْ ظني (تنازل عن غرورك قليلاً. غادر هذه اليقظة التي تنال منك. لا نجاة لك بغير الأحلام. أنت لن ترى غير ما أريدك أن تراه). فتحت الباب وذابت. وضعت الدفتر، مفتوحاً مثل جناحي طائر، على وجهي. وهتفت بي مثل طيف يتسرب إلى الحواس (أقرأ إن كنت تحسن قراءة النيران). دفعتْ بالسرير الوثير لينزلق بي نحو بحيرة زرقاء. (كل ما تقرأه قبل الماء فهو لك ). وفيما هي منحنية تدفع بالسرير، لمحتُ إبطها يظللني وينزّ ذلك العطر المسّكر. انتبهت. لقد كان إبطها مفتوحاً، فارغاً، شاسعاً مثل أفق من الذهب، والكتاب يغطي وجهي. وكنت أقرأ : (لماذا يجازف هذا المجنون بالوقوف في طريقي. انتخبته من أحلامي لكي أدخل معه في أحلامه. لم أصادف شخصاً مغروراً مثله. وضعت له الجمر في وسادة الليل، فأشعل الحريق في نهاراتي. كاد أن يخلع لي ذراعي بالأسئلة. أظنه سيفكك جسدي عضواَ عضواً في سهرة واحدة. أذهب إليه فيسألني : ماذا تريدين مني؟ كيف يطرح رجل سؤالاً كهذا على امرأة تعترض طريقه. سمعته ذات حلم يقول : ثمة امرأة تعبث بقلبي. سمعت دمه يتغرغر في أوردة قلبه مثل كلمات تبحث عن المعنى. هذا شخص مولع بالفقد، سيفقد المرأة التي يحب يوماً بعد يوم، لفرط غروره). شعرت ببرودة تتسرب في أوصالي فيما السرير ينغمر في ماء البحيرة. بدأ السرير يغوص في الماء الأزرق ويغمر جسدي كاملاً، والكتاب يرتفع عن وجهي ليظل طافياً على سطح البحيرة. وباب الماء ينصفق فوقي. كان الدفء هناك يشبه إبطاً فقد كتابه تواً.*

منذ بنات آوى

بنات آوى الجميلات، يجلسن في خديعة البهو، يؤوين الهارب والمشرد والغريب. أطوف بوهج الشهوة وقميص الأخلاط، لتطمئن لصفاتي مليكة الليل. انتظارٌ غامضٌ في عزلة الذهب وخاتمة الأحلام، وليس لليأس أن يدرك أدواتي. فبنات آوى ضالة المفؤودين وجنة الوحيد. قيل إني مبعوث النيران لجنـة الجسد. يختلط في كبدي فتوى الهجوم وشريعة الفرار. زعفرانٌ تائهٌ في قصعة الحب. تظاهرت بالذئب، فتكاسرت في جسدي حيوانات الغابة. والوصيفات يأوين إلى مخدعي غداة كل نص. أثيراتٌ في الأحلام تتزخرف بهن الكوابيس. فطنت لغوايتهن، فمن يجرؤ على تفادي شهوة المستذئبات، بطرت بمائهن الخفي وأججت بثلجتهن مكامن النساء الوقورات، وتمرغت في انتظار الأجنة تتخلق في طين الله مثل كمأةٍ باسلة. كنت القدم العارية كنت شظية القلب الضاري كنت مسمار الباب مارقاً زهرة الصدر كنت أسئلة الكهرباء كنت نحيب الأبجدية كنت ميراث الكتب كنت شظف الخبز في العائلة كنت الحديد فاضح الليل كنت عاج العفة تقية التجديف كنت الشهوة الخفيفة كنت التميمة وصمت الناس كنت الدمث كنت في وحشٍ وفي أليفٍ كنت النوم في هزيعه الأثير كنت أستجير من المخلب بالناب كنت أشعل قنديل البيت لئلا تطيش بغتة الصديق كنت أصقل الرسغين بمعدن الحرس كنت أستفز يقظة العدو كنت أدعـك الكعب بفرو الخيل كنت أفرز النحر لشفرة النصل كنت أمشي في لزجٍ ومائعٍ ومتهدلٍ ورجراجٍ كنت أضرم في هشيمٍ وأحرث في ملحٍ كنت أرفع قدمي من شركٍ وأضعهما في فخ وأنتقل وأنداح وأتبادل وأتحول وأحتال وأنجو وأموت وأتعافى وأختلج وأفطس وأفترس وأفنى وأبوح وأنجرف وأخلد وأمرض وأتماثل وأبرأ وأتماهى وأتبـدى وأغمض وأتوضح وأتبذل وأتعفف وأفجر وأفتض وأفترع وأستفحل وأنتفض وأنتمي وأنفصل وأتقاطع وأعترض وأتحاجز وأنهار وأجرؤ وأخاف وأعوي وأستذئب وأألف وأنفر وأستفرد وأستجير وأبوح وأنوح وأنتحب وأصيح وأصرخ وأبكي وأهذي وأهذي وأضرب وأحترب وينال مني فأهتف وأنخطف وينال مني فأهذي وأهذي وينال مني أهذي وينال مني أهذي وينال مني وينال مني وينال ينال ينال

وها أنا أحصي الجراء وأداعبها متوهماً أنها انتصاراتي .

بنات آوى المتماريات، يتقمصن العفة ويظهرن سكينةً يفزع لها القلب ،لكي يحسن المارة التدلـه بهن. بينهن وبين الحيوان شبهة الدواجن وشهية البذخ.

أصابني ما ينتاب الذئب في حضرة المليكة :

دهشةٌ في الشرايين،
بهجةٌ في غرفة الذاكرة،
واستحواذٌ مثل سحرٍ يذهب بالضحية.

من الماكث في سرير المشبوقة وهي تذرع المسافة بين النوم والمـلاك، من الصارم باسل الجسد بهي السمت يغزو ويغتر، فيختلط على التائه ماء الأفق بزئبق السراب. وضعت أعضائي في اللذة الضارية وتبذلت للبراثن ظناً أنها الحرير. تقدمت كتيبة الفرسان كي أفوز بوردة المليكة، وبنات آوى وصيفاتٌ يطلقن مراياهن ورائي، فيما كنت أقتحم الحصار مدججاً بمشاعر القتلى، تنتخبني سفيرة الذئاب وتمنح المعدن شهوة الطلق والقذيفة. شخصٌ مثلي، استفردت به الكتب وشغف به الهذيان، لاينجو من خديعة البهو الزاخر بالليل. طاردني حرس الخالق منذ الكتاب الأول منذ أروقة المكتبات المعتمة منذ الغرف الموصدة منذ أكثر المخلوقات جمالا وجهامةً ومهاجمةً منذ الكرسي والمائدة منذ الماء في مكانه منذ فبراير الثلجي منذ آب الأخير منذ الاستجواب المؤجل منذ بنات آوى منذ الأصدقاء منذ أقاصي امرأةٍ في انتظارها منذ باب المغامرة منذ شهقة النهد والنمر ونعاس الآلهة من شظايا القدم المذعورة منذ النوم والموت والكوابيس منذ القلب والقيامة منذ شكل الكلام منذ خدم العبيد منذ الجنس في الخلايا منذ الحديد والذهب منذ غيظ الهذيان منذ الوحيد وحده منذ أن هذيت وانتهيت منذ نالني الهوى ونلت ما بغيت.

طاردني الخالق والمخلوق، حتى وصلت منهك العضل فائض الجزع واضعاً جسدي في شرفة الشنق مكتشفاً أنني لم أذهب طول هذا الليل أبعد من حياةٍ مليئةٍ باللبونات. بنات آوى، وصيفات ذئبة الملوك، بنات آوى بهياتٌ جميلات الطلعة، يدخلن علي ويأوين عندي ويفزعنني ويفطرن قلبي مخدوعاً بهن منقباتٍ بفروة الذهب، فأظن أنهن قناديل السهرة وقناني الخمرة الشريفة، يمنحها لجسدي حارس النبيذ وحاجب الغرفة الملكية .
لم يكن إلا أن أصدق ليل السرد ليغمر أخلاطي في توتر القوس، أهجو مغامرة النحل مادحاً زفير العسل .

لماذا الآن فقط تفتحون في وجهي الكتب وتندفعون نحوي، كما لو أنني القتيل الوحيد مرتداً في حضرة الدم. تتصاعد الرائحة الزكية من قرمز الروح كلما تدفق وحل المرافعات، تنصبون قضاتكم ومحاكمكم المبجلة، وأكون قد أكملت سخريتي من النطق السامي .

لستم أقل توغلاً في الدم . أنا من أعطى جسده لبهجة الكشف، وأعلن ذلك جهراً كأنه يضاهي جنة الأوج، كنتم تنسجون الشراك في عتمة البهو، وتدفعون بأحفادي في ليلٍ مؤثثٍ بالوحشة، حيث القبر لا يتسع لأكثر من فريسةٍ واحدةٍ وجنازةٍ راكضةٍ في سريرها الأخير. فــر بي الشك من نحيب آكلي لحوم البشر.
الآن تأتون لتبذلوا مراثيكم .

الآن تدركون آثار دمي وتطلقون على جثماني نشيد المذلـة.
الآن، تسمون لكل صاريةٍ مرفأ، وترشحون أحلامي لحشراتكم النحاسية.
الآن .
كيف تنقذون مـأتماً بمعدن الذبيحة، تتفادون حريق السفن منتظرةً مرصودةً بكلاب البحر ، تقفز، وتحرس السواحل .
قيل لي ذات سفرٍ : نعـلمك الغرق قبل البحر .
وكنت أطفر في زئبق الحلم. أرى إلى البحر،
أغادره، لأعود إليه بوهم النزهة .
مرثاةٌ ماثلةٌ،
فيما تتكدسون في براءة الثعالب وصلافة الضباع.
لست إلا شبحاً تائهاً.
كابرت لئلا أبدو في صورة العراف الأعمى. الآن يحلو لكم أن تطرحوا صوت الجبانات. تباهون بالكوابيس والكوارث التي تغرغر بها جسدي الليل كلـه.
آن لكم أن تصعدوا بأبصاركم أكثر فأكثر.
أطلع من السهوب في قطيعٍ من الوعول
معلناً أنها انتقاماتي.
أعتزلكم، مثل رعيةٍ تفقد مليكها دون ندم .

نشيد الحديقة الذهبية

تهيئي، أيتها الحديقة المختومة بزرقة الرموز وخضرة المعنى. تهيئي أيتها الحديقة ذات الزرقة الذهبية، واكشفي طينتك الطرية لقصف الزائر الوشيك المندفع نحوك مثل نيزك الأساطير، يرفع الماء من الآبار السحيقة ويروي لك العطش القديم.

يزك شحذته السنوات الضوئية المشحونة بالوحشة وغربة السفر، نيزك كتبته لك الآلهة كما يكتب النبي رسائله في شمس الليل ويدور بها على الضالين يدعوهم للركوب معه في عربته المقطورة بالعاصفة.

هذا هو النيزك النبوي قادم لك محملاً بشهوة الطين وبهجة الدم مندفقاً في الشرايين. فافتحي له الأرض لكي تعرف اليقظة الأبدية. تهيئي بسجادتك المجعدة عند المداخل لفرط تدافع زائريك في منعطفات الليل وفي غفلة النهار.

سجادتك الممتدة من عتبة الانتظار حتى شرفة الأفق. سجادتك التي أوشكت على نسيان الخضرة وطزاجة الرحيق الذي يوقف عن الحركة في أروقة النباتات. ابسطي له سجادة لنوم يعلمك صلاة اليقظة.

تهيئي وأنت مسوّرة بممرات مذعورة تكتظ كل صباح بعربات مخبولة تخطف حجاجك من المحطات الموحشة وتذهب بهم نحو الأقاصي زاعمة أنك هناك، حيث المجهول اللانهائي يحصنك ضد النسيان. عربات تعربد مثل إعصار في غرفة النوم، عربات مندفعة في جنون جامح، لا حوذي يقودها ولا ريح تطرد الغبار المتصاعد وراء عبورها العاصف.

 ولا ينال منها التعب. تهيئي، وأنت المحروسة ببرج الصلوات وتضرعات المشمولين بحنانك المبذول في هواء أحلامنا المكبوتة. يتهدج تحت شرفتك الناس وهم يبللون بدموعهم طينتك المبتهجة لكي تزدهر فيك الخضرة وتتصاعد أزهارك بأعناق عباد الشمس معلنة جهات جديدة لا تدركها هندسة الطبيعة.

 تهيئي، وأنت ترقبين غيرة النساء متماهية في حمرة الجهنميات موغلة في غموض يحفّ بشرفاتهن مثل وصيفات متمزقات بين بياض الحنان وصفرة الخجل. وصيفات يتدربن لإعداد مليكتهن لعرسها الوشيك، وصيفات يدارين ارتباكهن فيما يرمقن العرق الخفيف يتفصد في الزغب الشفيف وراء أذن مليكتهن وهي تصف لهن اللحظة الفاتنة، فتنتابهن شهوة المخيلة وهن ذاهبات إلى تجهيز الغرفة الملكية، متعثرات بالأذيال المرتعشة.

 تهيئي، وأنت تصقلين حيوانك الصغير الذي يبعث الصهيل الجريح كلما طال الانتظار. صهيل يتصاعد مثل رسائل فاتنة تشي بالرغبة الوحشية للانطلاق نحو السهوب. حيوانك المكنون في لهف الأخلاط و العناصر، آن له أن ينال حريته ويفتح الريح بغرته الشقراء ويبدأ النشيد. تهيئي، بحيوانك الصغير المتحفز مثل تنور ناضج، يلتهب له قلب الفارس وهو يدرب أعضاءه على المبارزة كمن يذهب إلى القتال الملكي معلناً الحب في حضرة المليكة.

 تهيئي، لتطلقي حيوانك الأبيض بشهيقه وزبده الكثيف المكبوت وبعشقه الجامح. أطلقيه. أطلقيه، يحمل لك الهودج نحو الأفق المجنون في اقتتال باسل، اقتتال اللذة الضارية ينتصر فيه الاثنان فيما ينهزمان.تهيئي، وافتحي حديقتك الذهبية ولا تأخذك غفلة عن الليل.*

حصتان للريح

حصة تفزع البحر وحصة تدفع القلوع. وفي تلك السنة التي انقلب فيها البحر على السفن، أخذ البحر الحصتين معاً. لعب بالسفن مثلما يلهو الطفل بالحبر والمخطوطات في هامش النص. للآلهة لهوٌ يضاهي لهو الأطفال. كانت الشطآن بعيدة والنساء هاجعات في مراقدهنَّ الموحشة يحلمن بالرجال عائدين على خشبة منسابة مثل هودج يؤوب بالمليكة نحو عرس وشيك. فإذا بالبحر يعود وحيداً متظاهراً بالبراءة، يسألنه عن الرجال فيتقمّص دور البريد البارد، يشرع نهنهة مكتومة ثم يصدر بكاء مموه، وسرعان ما يطلق الصرخة الماجنة. يعلن بريده المشؤوم في سرادقات ملفقة ويسرد الحكاية، كمن يتلو التراتيل في جنازة يجهل صاحبه. يتظاهر ببسالة الفارس العائد بالهزيمة، فلا يصدقن رواياته المفتعلة. وعندما يأخذن في إشعال نيران الحسرة والغضب ويبدأن كيّه بالنيران لكي يعيد لهنَّ رجالهنَّ سالمين، يبدأ البحر في إطلاق صريخه الفاجر، لكنهنَّ لا يصدقنَ براءته، فيزدن عليه النيران، فيتأوّد ويتلوى تحت وطأة حسرة أكبادهنَّ متلذذاً بنحيبهنَّ الفادح، وفي ذروة المآتم يبدأ في الاعتراف ويسرد لهنَّ أكثر القصص ضراوة : (زوجك يا مريم كان في مقدمة الذين سمعوا وقع خطوات الإعصار، فقذف بنفسه في فوهة الماء لكي يصدّ الهجوم/ ابنك يا فاطمة صفعته حبال القلوع فأوشك على التشبث بخشبة الصارية المكسورة لكن / أبوك يا ليلى فشخت رأسه مقدمة السفينة وهو يحاول الإمساك بنجاة نادرة / شقيقك يا نعيمة كان نائماً ومات قبل أن يصحو / أبوك أيها الطفل كان في قارب الذخر، وكان بعيداً عن سفينته، لا نعرف ما إذا كان قد أدرك اليابسة، لعله يعود من الأقاليم البعيدة / وزوجك يا أمينة كان في الخنّ ينزف نضح الخشب، فيما كانت السفينة ترسب كاملة في اليم / أكثرهم ذكاءً سلطان الذي قذف بالفنطاس وتشبث به منادياً بمن يسمع لكي يتبعه/ وابنك يا زهرة كان قد قفز لكي يحضر غطاء الفنطاس في سفينة الماء فأخذه الماء الأعظم/ وعندما تصاعدت ألسنة اللهب المذعورة من السفن كان الجميع ينشد بالصوت الجارح مرثيتهم الرهيبة حيث الخشب الخفيف يتثاقل مثل الفولاذ ويغوص بلا حبل نحو قواقع ليست في الحسبان). فتصرخ النساء بالبحر (وأنت. أنت، أين كنت). فيتلعثم البحر مثل طفل يوشك على الغرق. (لم أكن في مكان، لقد كنت وحيداً في الأعالي. باغتتني الصاعقة مثلما باغتت الناس. كنت أحاول إنقاذ تلك الكائنات الصغيرة، لكن الريح كانت كبيرة وغادرة بما يكفي لعصف كل خشبة تعوم. وكان غطاء كثيف من الظلام يركض به مردة قاهرون يكتمون به أنفاس المشهد. لكي يتحول النهار الواضح ليلاً دامساً لم أصادف ليلاً مثله طوال عمري. كنت مأخوذاً بما يحدث، ثمة آلهة كانت تعبث بنا في تلك الساعات. لستُ سوى ضحية مثلكم، ضحية حاولت أن تنقذ الضحايا، فلا تظننَّ بي الظنون. إن فقدي أعظم مما تشعرون أيتها النساء. لقد كان الجميع أطفالي أيضاً. لكم أن تتخيلوا بحراً بلا رجال مثل رجالكم. لقد توهمت أنني الحاكم المتحكم في رعاياه، توهمت ذلك لفرط ما كنتم تقولون عني، توهمت أن بيدي الحياة والموت، فإذا بالموت يعسف بنا جميعاً. لست إلا ماء غزير يمنح الأرض ميزانها. إنظرن الآن كيف أبدو وحيداً. كيف تعاقبون بحراً مفقوداً مثلي. إنكن تضعون النار على جسد مصاب بالفقد. جسد في الثكل أكثر مما تحسبون). ثم أجهش بالبكاء مثل رجل يريد أن يغرق مع أطفاله الذين أخذهم الموت من بين يديه. فكفتْ النساء عن الندب وتوقفنَ عن وضع النار في الماء. وأخذت كل امرأة تكفكف دموعاً حارة طفرت فجأة بشكل مضاعف. وأخذ المشهد في التفاقم. بدت النساء في موقف من يحاول تهدئة بكاء شاسع راح يغمر الأفق. وتضاءل حزنهن أمام حزن البحر. وللمرة الأولى رأت النساء بحرا أليفاً لم يعهدوه من قبل، بحراً حملوا له الضغينة طوال السنين لفرط ما أخذ منهن الرجال معظم أشهر العام، للغوص والسفر. والتفتت كل واحدة تعانق الأخرى، يتبادلن العزاء لفقدٍ ناجز والتهنئة على حبيبٍ وشيك.أيها البحر.. البحر.ماذا فعلت برجالنا لكي تستحوذ علينا بهذا الشكل الفاتن. أيها البحر يارجلنا الكبير الماثل في حضرة هذا الفقد الذي لا يحتمل. حصتان تنالان منا حـدّ الشغاف. حصة تصعد بالإعصار حتى نهايات البحر، وحصة تهبط بالسفر كي نفقد رجالنا دفعة واحدة في غفلة من الأرض. أيها البحر يا رجلنا الجليل يا إرثنا المهيب، أهدأ قليلاً لكي نتثبّتَ مما أصابنا معاً، أنت لاضطراب ميزانك، ونحن لفقدنا الكثيف لرجالنا النبلاء في غوصهم. أيها البحر.. البحر. دعنا نتذكرك مثلما يمسح الشخص مرآة فناره في ليلة ممطرة. مرآتنا القديمة التي يغمرها غبش كثيف لفرط ما تعاقب عليها من سنوات العمر. دعنا نتذكرك، لننساك، ونتذكرك ثانية، أيها البحر، نتبادل معك الفقد والتذكر والنسيان.

درس الأرز

1

يقال إن الأرز ذهب الحقول وفضة المأدبة. وهو أنواع كثيرة، عليك أن تختار منها ذي الحبة الطويلة. وستكون محظوظاً إذا تسنى لك العثور على النوع الغني بقدرته على الاكتناز في القِدر ساعةَ النار. فالأرز نوعان، نوع بخيل، كثيره في الكيل قليلٌ في الأكل، تضع منه مقدار كيلة واحدة فلا يكاد يطعم شخصاً واحداً بعد الطبخ. والنوع الآخر غني، كريم، تزيده النار ازدهاراً. تضع منه الكيلة فيمنحك ما يكفي خمسة أشخاص لما فيه من طاقة العطاء الكامنة التي تتفجر طالما إطمأنَ لك وألفَ حبك وشعر بتقديرك لطيب منبته. وسوف يشعر بك منذ لمستك الأولى وأنت تجسّ حباته، فيما تدعكه بلطف كمن يداعب طفله في المهد يعلمه العوم لكي يبدأ السباحة في الماء الوفير. وإذا أنت لم تحسن عملية الغسل ببطء الحالم، سوف تقرر مسبقاً فشلك في الغليّ، وقد لا تحصل على الأرز الأبيض الشهيّ.

2

أن تغسل الأرز الأبيض بالماء النقي ليزداد بياضاً يعني أن تمنح الفضة فرصتَها لكي تجلو حبة اللؤلؤ بعد استخراجها من صدفتها القديمة. فالماء الوفير الدافق في البداية يجعل نتيجة الطبخ رائعة، حيث الأرز المغسول جيداً يجعلك تحصل على وجبة خفيفة الروح ذكية الرائحة. ولا ينبغي أن تكون عملية الغسل روتينية، فأنت لا تغسل قميصاً، إنه الحصاد الطيب الذي تعبتْ فيه الناس والحقول وصقلته الفصول. غسلُ الأرز طقسٌ مهيب يستدعي منك أن تكون في مزاجٍ رائقٍ ولديك من الوقت ما يكفي لسرد حكاية لطيفة لطفلك لكي ينام.

تسكب كيلة الأرز في الاناء فتسمعه ينهالُ في الصفحة مثل تدفق اللؤلؤ الناعم على قطيفة. تدسُّ أناملك بحنان بين الحبات فتشعر بها مثل بشرة الرضيع الذي ولد تواً. ترفع بالقبضة الرؤوفة حفنةً وتفرج كفّك لتدع الحبات تسيل بين أصابعك مثل حليب رائب. وترى بياضاً يفضح بضع شوائب صغيرة تقوم بإنتشالها في رشاقة الصائغ البارع لكي تخلّص الأرز من ذكرياته الأخيرة عن الحقل. تلقي نظرتك الوالهة على صفحة الأرز في الاناء الفسيح وتدفعه تحت الصنبور وتطلق الماء لكي يندفق فرحاً مثل أطفال يهرعون إلى ساعة المرح. وتبدأ بتقليب الأرز تحت إندفاع الماء المنتشي ليركض بين حبات ترتعش لفرط المباغتة الباهرة. فترى الماء يمور في الاناء، وحبات الأرز تتأوّد في غنجٍ والماء يتصاعد طالعاً إلى ظاهر الاناء، متعكراً مشوباً بما يشبه الرغوة الثقيلة، مفصحاً عن الكلام الأخير الذي لم يزل في ذاكرة الأرز من الحقل. تعيد تقليب الأرز براحة يدك، ثم تسكب حصيلة الغسل الأول برفعك الاناء مائلاً على طرف واحد. ثم تعيده ثانية تاركاً الماء يندفق ليملأ الاناء ويفيض عليه. عندها تدفع بيديك مطبقتين وتبدأ في الامساك بحفنات الأرز وهي في داخل الماء وتدعكها براحتين حنونتين متحسّساً الجني الطيب وهو ينساب كطيور متناهية الصغر تطير وتحلق مابين أناملك، هواؤها الماء. وأنت تواصل الدعك دون أن تغفل عيناك، فأنت منذ الآن ملكٌ وهذه الحبات رعيتك الجديرة بالحنو والحب. الأرز في الاناء الفسيح والماء عليه مثل الرحمة تَنصَبُّ بلا توقف. طقس الغسل هذا ضربٌ من فن مداعبة حبات الأرز براحة اليدين فيما الماء يجري ويفيض. تبدأ بالدعك بضغط خفيف يقسو ثم ينحو إلى اللطف حد المداعبة. يداك تقلب الأرز مغموستان في الاناء تحت الماء، والماء يفيض ويتغير ويصفو وتذهب عكورته، فيما تواصل الدعك بلطف يتيح لك الاحساس بحبات الأرز وهي تتخلص من المادة النشوية. لترى إلى الأرز يخلع أرديته المنشاة مثل فتاة تتخفّف من ملابس عرسها البيضاء لفرح وشيك، مما يمنحك شعوراً بتحول حبة الأرز من الخشونة إلى النعومة شيئاً فشيئاً، حتى ينصرف الماء المتعكر المحمل بشوائب الحقل والصوامع.

3

لا يتوقف الغسل حتى يصبح الماء في الاناء نقياً خالياً من شوائب المادة النشوية تماماً. فإذا بدأتَ ترى الحبات تتلألأ في الماء واضحة جلية، تكون قد أوشكتَ على منح الأرز ذاكرة جديدة تتيح له الحلم بمستقبل النار الرهيفة. فليس أن تغسل الأرز من الماضي، لكن أن تضعه على عتبة المستقبل في جاهزية الجسد النظيف للحفل. وفي هذا يكمن السر الذي سيجعل الأرز بعد النار ناصع البياض وينفح المسك، طويل الحبة، متألقاً بصورة تغني الوجبة. فالطبخ لا يقتصر فحسب على الخطوات التطبيقية اللاحقة، فإن فن الطبخ يبدأ منذ الخطوة الأولى لإختيارك نوع الأرز وبراعتك في غسله بأناة ورفق، فمن الحكمة أن ترفق بالرعية لكي تمنحك المحبة.

وبقدر ما يتسنى لك الشعور بأن عملية الغسل هذه ممتعة ولذيذة، تتوفر لك فرص أكبر للحصول على أرز غاية في اللذة. فالماء ليس ترفاً بالنسبة للأرز، على العكس فأنت قد تستغني عن الماء في بعض طرق إعداد الأرز، لكنك لن تستغني عنه في الغسل. فهنا تتأسس المتعة منذ اللحظة الأولى التي تختار فيها الأرز وتضع يدك عليه وهو في الماء الجاري. فإتصال حبات الأرز بتاريخ الحقل من الأصالة بحيث تظل المادة النشوية عالقة بالحبة قميصاً يحميها ويذكرها ببيتها الذهبي الأول. ويقال إن في كل حبة أرز من المادة النشوية ما يكفي للصق تسعة من طوابع البريد الصغيرة. و أعرف شخصاً ابتكر وضع حبة الأرز ذاتها بين تروس ساعة اليد المضطربة للتحكم في الخلل الذي يؤثر في إنتظام الوقت.

4

ثمة أسطورة تقول إن طول حبة الأرز أو قصرها يتصل بساعة الرَيّ ومصدر المياه التي تروى حقل الأرز. فإذا كان المزارع قد ذهب إلى حقل الأرز ليلاً وكان قد خرج تواً من سرير زوجته وصادف أن الوقت ليلاً والقمر في منتصف الشهر وكان ساطعاً ينعكس ضوءه في صفحة الماء وهو يغمر الحقل الهادر من أعالي الأنهار المنصبة من الثلوج، سيكون هذا جميعه طالعاً حسناً من شأنه أن يمنح المزارع طفلة جميلة وحصاداً وفيراً من الأرز بحبات طويلة وناصعة البياض. وسوف يعتقد المزارع في كل ذلك نذراً ناجزاً يتوجب عليه أن يؤديه في أول أيام الحصاد، حيث يمنح أول شخص يعبر الحقل مقدار تسع كيلات من الأرز تيمناً بحسن الطالع. ويقال إنه إذا صادفَ وكان أول العابرين إمرأة، سيكون على المزارع أن يختار أحد أمرين، إما أن يقتل المرأة أو يتزوجها وإلا فسد حصاده كاملاً في الليلة التالية. وثمة من قال إنه، مع تقادم العهد بهذه الأسطورة، لم يعد هناك فرق بين زواج المزارع من المرأة وبين قتلها، فبعضهم يزعم أن بعض الزواج ضرب من القتل. والمزارع في سبيل حصوله على حصاد من الأرز ذي الحبة الطويلة الناصعة البياض، سوف يفعل كل شيئ. فمادام الماء الوفير يغمر الحقل فكل شيئ في سبيل ذلك سيكون مباحاً، قتل إمرأة أو الزواج منها.

من هنا نرى كيف أن الماء الوفير سيكون ضرورياً وحاسماً في مراحل عديدة من رحلة الأرز، منذ ساعة البذار حتى لحظة النار، ثم على المرء، بعد ذلك، أن يجتهد لأن يتخلّص من نسبة الماء قدر الامكان في اللحظات الأخيرة من إعداد الأرز للأكل، فكلما كان الأرز معتدل الرطوبة، فيه من الماء ما يكفي فقط لأن يجعله ندياً لامعاً ببياضه زاهياً ومُزَهْزَهاً، كلما توفر لنا طعامٌ لذيذ، يشتهي الشخصُ معه أن يتذكر جيداً شعور ملامسة تلك الحبات الناعمة بين راحتيه وهو يغسله في الماء الجاري. ويبقي أن نستعد للحظة النار الرهيفة.*

الجسر
يستعيد عبوره المكترث للجسر القديم الذي يصل بين جزيرتين تطمحان لتكوين بلد هي الأصغر في خريطة العرب. يقف قبالة الزرقة التي ترافق العابر الصغير من حافة المحرق إلى شرفة المنامة. زرقة مزخرفة بالمراكب. كان الطفل الذي لم يتجاوز السابعة معتمداً على ركبتيه في المقعد الخلفي المستطيل بالحافلة الخشبية، واضعاً ذقنه على حافة النافذة، محصوراً بجسده الضئيل بين والده وراكب آخر تدثّر بأكثر الملابس دفئاً فأخذ حيزاً يكفي لاثنين. كان منتصباً متشبثاً بحافة النافذة لتفادي اهتزاز الحافلة الخشبية التي كانت تستجيب لكل تضاريس الشارع بإخلاص فادح مصدرة قرقعة تكفي لإيقاظ الإسفلت حتى أحجار الجسر. وبدا أن الطفل قد أوشك على نسيان نفسه وهو يطلق أحداقه واسعة في هذا الماء اللانهائي الذي يرافق الباص من الجانبين، يرسل بصره كمن يرى العالم بأكمله. حين توقفت الحافلة عند مدخل الجسر في صف العربات الأخرى منتظراً دوره للعبور، يلاحظ عدداً من المراكب يتجمع على الجانبين، يلفت نظر والده للخليط المتنافر من الفلك، خصوصاً تلك التي تنتصب صواريها عالية. (ماذا ننتظر كل هذا الوقت يا أبي). فيخبره الأب بأن وقت فتح الجسر قد أزف الآن لكي تعبر السفن. (كيف يمكن لهذه المراكب أن تطوف تحت الجسر الذي يكاد يلامس سطح البحر). فيعرف من الأب بأن ثمة رجال سيعملون الآن على فتح الجسر ليتاح للسفن أن تعبر إلى الجانب الآخر من الخليج. كانت طاقة الطفل على التخيل تتساءل. (كل هذا الحديد والأسمنت يجري تحريكه بالأيدي؟). شعر الأب أن شك الطفل سوف يمس مصداقية رجل مثله. يجب أن ترى ذلك بنفسك. (هل يمكن ذلك يا أبي). أمسك الأب رسغ طفله الذي يتصنع فضولاً أكبر من سنّه، وترك الباص مستأذناً من السائق بأنه سيقوم مع ولده بإلقاء نظرة على المشهد عن كثب. سوف ننتظر هنا على السور حتى يبدأ العمل. ثمة عبور مزدوج يحدث هنا يومياً علينا أن نرقبه بأنفسنا لكي نصدّق أن الأمر يحدث بالفعل. أجلس طفله في مواجهة البحر، وجلس بجانبه وأرخيا سيقانهما ناحية البحر. وبعد دقائق كانت العربات قد عبرت، وبقيت ثلاث عربات صادف أنها وصلت متأخرة بعض الوقت، وعليها أن تنتظر حوالي ساعة واحدة لكي يتأكد الطفل أن هذا الأمر يحدث بالفعل. برز ثلة من الرجال الأشداء يحملون مفتاحاً كبيراً أخذوا يثبتونه في موقع ما في منتصف الجسر بشكل جانبي. وما إن لمح سائقوا العربات ذلك حتى أخذوا يتركون عرباتهم وينادون الركاب الذي يرغبون عادة في اختصار انتظارهم. وإذا بعدد أكبر من الرجال يتجهون ناحية الرجال الأشداء ومفتاحهم الكبير في منتصف الجسر لمعاونتهم على إدارته. إلتفت الأب ناحية الطفل : (هل رأيت، هذا ما يسمونه (فزعة الجسر) انتظرني هنا، سأذهب لكي أشارك الآخرين بفتح الجسر، راقبنا ولا تترك مكانك). تواجه الرجال في صفين متقاطعين يمسكون بأطراف المفتاح المثبت في أرضية الجسر، و أخذوا يطلقون أهزوجة تنظم حركتهم في إيقاع واحد رتيب ومهيب. ويدورون في ما يشبه حركة الحلزون على شفير جسر أخذ ينفرج ببطء شديد ولكن بثقة، كأنهم يعرفون ما يفعلون، فيما يأخذ الجسر بالتحرك في شكل انحراف كامل مفسحاً ما يكفي لمرور السفن. وفي الوقت نفسه انفرجت أسارير الطفل وهو يراقب الجسر الضخم يستجيب لقبضات الرجال الذين كانوا يفعلون ذلك بحركة لا تخلو من المرح. إنهم يزيحون كتلة الحديد والأسمنت الذي كانت تعبر عليه كل تلك العربات يومياً، وهو ينشق ويتسع شيئاً فشيئاً، ليتأكد له أن وقوف تلك السفن بصواريها العالية ليس انتظاراً عبثياً، ففي الأمر شيء من الجدية، وإن والده كان يعرف ما يقول حقاً، وها هو بالفعل يشارك في تحقيق تلك الفسحة الرحبة التي بدأت تسع أكبر الفلك لكي تواصل سفرها في الجانب الآخر من البحر. وبالفعل بدأت السفن بالتململ وهي تعدّل من موقعها متجهة، في صف طويل لتعبر معبرة عن شكرها لإؤلئك الرجال، بعض البحارة بالصوت والإشارات اليدوية. إما السفن البخارية فقد بدأت تطلق صفيراً جهورياً تحية للسواعد المفتولة التي وقف أصحابها مستندين على سور الجسر الجانبي يأخذون قسطاً من الراحة و يستعدون لجولة ثانية ستكون أكثر حيوية وانفعالاً، حيث سيهزجون بأسرع من الأهزوجة السابقة، فقد أنجزوا عملاً مذهلاً بالنسبة لطفل يرى الأمر يحدث أمامه للمرة الأولى. لقد كان يعتقد أن الجسر وضع ثابتاً لعبور العربات، وهاهو الآن يرى بأنه جسر لا يمنع السفن عندما ترغب في العبور هي الأخرى. الجسور الطيبة هي التي تنقل الناس دون أن تمنع البحر ولا تقطع السفن. عندما عاد الأب كان الصهد الخفيف يرطّـب جبينه وفوديه. (هل صدقت، إن الآمر يحدث هكذا كل يوم). أمسك الأب بيد ولده المهتاج لفرط التجربة، وعاد به إلى الحافلة، التي بدأت تدير محركها استعداداً لمواصلة الطريق إلى المنامة. تأمل الطفل الزرقة بأحداق تتسع من الدهشة، وأخذ ينهال على والده بسيل من الأسئلة المتعلقة بأولئك الرجال الأشداء الذين حملوا المفتاح الكبير. هل هذا عملهم الوحيد، وكيف يحدث أن يشارك أصحاب العربات والركاب في تلك العملية دون أن يكون ذلك عملهم. ثم ما هي الأغنية التي كنتم ترددونها أثناء العمل. وهل من بين كل هؤلاء الرجال الشخص الذي بني الجسر؟ إلتفت الأب نحو طفله البالغ في الفضول، وافتر ثغره عن ابتسامة تعني إن اختزال كل هذه الأسئلة، يستدعي اختصار تجربة إنسانية كاملة في ثلاث أو أربع كلمات.وكان الأب يرقب في البدء منذ أيام الغوص الأولى، تلك الحكاية التي لا يمل من تكرارها، فشعر الطفل بأن الأمر سوف يأخذ منه ثلاث ساعات إضافية للإصغاء لقصة سبق أن سمعها مئات المرات لكي يدخل بها الأب (بعد كل ذلك) إلى حكاية الجسر. فأدار الطفل رأسه، متنازلاً عن فضوله، ففهم الأب مغزى ذلك. (ماذا أفعل لك، إن كل قصص حياتنا تبدأ من هناك. عليك أن تؤجل الأمر بضع سنوات لكي تعرف كل شيء بنفسك). كانت الحافلة الخشبية قد وصلت إلى نهاية الجسر من ناحية المنامة، حيث سمع مساعد السائق ينادي (راس الجسر). ورنّت في أذنيه أهزوجة الرجال وهم يديرون المفتاح الأعظم في منتصف الجسر : (اشلون جيّم الجسر / آيّـه على وظيفته / وظيفته إميه وعشر /..) سمع الأب ما يستعيده الطفل في ذاكرته، فابتسم لأن طفلاً بهذا السن يريد أن يذهب إلى التجربة باكراً إلى هذا الحد. (لا بأس، ما عليك إلا أن تنتظر، و إذا لم تذهب إلى المستقبل، فإنه يأتي إليك، لأنك تعبر الجسر إليه أينما وجهت وجهك).
حزن طويل القامة

1

يقاسمني الخبز والماء والوسادة وينال الكوابس عني، يذرع الطريق معي، ويغمر أمامي الأفق. تضرعتُ به الأصدقاء، فلم يعجبهم أن حزناً بهذا الطول الفارع يتبادل أنخاب الليل معي. بعضهم نصحني بتناول أقراص النوم صباحاً لئلا يتفاقم الحزن ويغويني إلى التهلكة، بعضهم اجتهد في تشغيل أدوات الحب لديه لمعرفة حدود صوتي من حنجرتي في هذا الحزن. حزن طويل القامة مثل هذا، لا يمكن التخفّف منه عندما تخلع القميص والمعطف، وهو لا يذهب مع الماء. فارعٌ، فارعٌ كمن يطلع النخل وهو جالس في قرفصاء الحديقة. جاءني مع الوقت، مثل الارث في بقية ما يقضي من العائلة. شاحب، شحيح الكلام، يقصف الرقبة لفرط الشهق. الحزن الفارع هذا، قرين الروح منذ بهجة الطفولة، له قدرة على مدحي بمحبة السفّود الواري، يضعك في الجحيم لكي تبرأ، فيما يلهو بك مثل ذئبة تسأم طريدتها بعد أن أضحت في اليدين. حزن لا أكاد أعرف أينا ظل الآخر و أينا ضوؤه. هل هو هنا لأنني في غياب، أم أنني في حضور نيابة عن الوهم. وغالباً ما يسبب لي الحرجَ حين أقف لإختيار ملابسي، جميع الملابس لا تطال كتفيه وبالكاد تلامس ربلة ساقيه الهزيلتين. حزن مثل هذا ليس سهلاً التفاهم معه. ثمة من يعبرون الطريق الذي أقف على ناصيته، يلمحون عن كثب غيمة تقف هناك، يتراءى لهم أن الواقف ليس شخصاً أعرفه، أو هو ليس شخصاً بالتحديد، ربما ريشة كثيفة سقطت سهواً من سرب غربان يعبر الأفق، وطابَ لها أن تتماهي في أسمال خيال المآتة لكي تحرس الحقل لسربٍ آخر. أحد الأصدقاء لم يكن يصدق أن هذا الحزن هو الاسم الخفيّ الذي يتوارى كلما هممتُ بالكلام، ومن يسمع صوتي يتيقن أن عطباً أصابَ أوتار الصوت في حنجرة النشيد، فيتبرع أحدهم بقطعة من سكر النبات لكي تكون ديباجة الكلام. أحدهم صرخ بي ذات أمسية : مادمت مسكوناً إلى هذا الحد، لماذا تزعم الغناء في الساحة ؟.

2

أحياناً، أصدق أن للحزن سطوة على الصوت. فأداري شغفي المكبوت، وأنشغل بكلماتي عن السهرة، لئلا يراني (أو يسمعني) الناس وأنا في حالٍ من وجد المشغوفين بالتماهي مع الأشباح. أصدّق أن حزناً فادحاً مثل هذا كفيل بأن يفضح جسداً هشاً وروحاً شاردة مثلي. لذلك أذهب متوارياً عن الكائنات الفسفورية التي تحدق بي، أظن أنني وحدي، فإذا به هناك.. لي.

وحين أكون مدعواً لعرسٍ ما، سيكون أمامي فصل من مقاومة وحش أسطوري يضطرب تحت الجلد، سيكون هذا الحزن الفارع أطول قامة بين الحضور، سيغمرني بالكآبة في جمعٍ جاء لكي يعبر عن سعادته. كيف يمكن كبح رغبة الدمع في التفجّر في حضرة الصديق الذي يحتفل بعرسه. وعندما أبرّر تلك الدموع بفرح خاطف، سأكون كمن يبالغ بمشاعره في موقع لا يحتمل ذلك. كمن يحضر حفل توقيع اتفاقية صلح مدججاً بالأسلحة. إنه حزن يعوزه التهذيب ولا يمتثل لطقس الحفل. حزن يدفعني لإرتباكٍ يرعش يدي وهي ممسكة بكأس الأنخاب لكي تنسكب على ملابس المحتفلين. حاولتُ مرة أن أقف بعيداً عن الجموع لكي أدع قريني معزولاً عما يكدّر حزنه. وما إن تورطتُ في واجبات تقديم العزاء حتى انتعش القرين وبدا متوهجاً مهتاج المشاعر متورد الخدين مكتنز الأوداج كأنه ينال مني أمام الجموع. يقول : هذا هو محفل يتوجب عدم التخلف عنه. كان يستمهلني للبقاء أطول وقت ممكن في المأتم، حتى أوشكت ذات مرة أن أبدو من أقرباء المتوفي لفرط ضلوعي في العزاء، عندها راح أحدهم يقدم لي الشكر على مشاركتي مصابهم، كنت أكزّ على أسناني كمن يريد أن يقطع لحم القرين الفارع لما يفعله بي. لكن، من يقدر على اجتياز مفازات الروح وتخوم الكائن في مثل هذا الموقف.

3

و إذا كنت أحاول تفادي فضيحة هذا الحزن المتفاقم، إنما لكي أبدو أمام نفسي متوازناً قادراً على الاحتفاظ بأسرار الروح لنفسي.. لها وحدها. لا أحد يرغب في أن يكون حزنه مشاعاً إلى هذا الحد، لكنني لم أعد قادراً على تفادي الهزيمة. إنه حزن مهيمن، ولابد لي من أن أتعامل معه كشخص آخر، شخص قوي الشكيمة، غزير التجربة، جديرٌ باحترامٍ يخلعه المبتدأ على الخبر في جملة الناس.

قلت له ذات فرح نادر : كيف يحلو لك أن تنام في سريري وترتدي قميصي وتضع كلامك في كتابي، دون أن تتيح لي فسحة من حرية النوم في بهجة الحياة، ودون أن أبدو مزدوجاً؟ ثمة الحب الذي تحبه وثمة الحب الذي يحبك، أيهما يضع يده على قلبك، أيهما لك وأيهما عليك، قل لي؟! فلم يكترث بي. وضع يده في قلبي وأخرج فلذة وبسطها أمامي قائلاً، بسخرية من يَفْري لحمه النصلُ فيغتصب ابتسامة مبهمة لئلا يجهش بالبكاء : كيف تزعم برغبة الفرح وفي قلبك كل هذه الجراح، من أين لك أن تتقمّص ما ليس لك وما لم تعرف مذاقه وما هو مقسومٌ لغيرك ؟" كان فادحاً وهو يستدرجني في شارع الناس، حيث الأحزان فضيحة دائمة التألق، فكل من تشاغله شهوةُ النوم لن يخلو ليله من الكوابيس. حزنٌ حزينٌ مضرّجٌ بنفسه، يطوف الشوارع يجهرُ بالنشيد في الناس، ويبالغ حتى يغمر صوته الأزقة وتلوح قمصانه في الأعالي، بشارةً لكل من لم يفقد عزيزاً بعد، عليه أن يتهيأ لذلك، فهذا الحزن الكثيف منذ المهد لابد أنه يدخر المفاجآت فاتحاً الطريق نحو اللحد. ما من فسحة لفرح وحزن صارم مثل هذا يحدق بي في شارع الناس. حزن يستفرد بالروح ويهزم الجسد، مستبسلاً كأنه لا يجد في اللغة كلمة أقل رأفة من الحب، فيغمدها في الجرح القديم، ويفّرك بها الدم حتى ينزف زرقته كاملةً، دون أن يتاح لي برهة التشبث بهواءٍ ينفد نأمة نأمة. فهذا حزن لا يعرف النوم ولا تنقذه غفلة الليل.

4

حزن طويل القامة مثل هذا، لن يكفَّ عن تلقيني درسه كلما توغلتُ في أسراره الغامضة وهي تمنح المجدَ لصمتي. هذا الحزن الشاهق لم يعد قادراً على تفادي الشفير الذي نذهب إليه معاً صباحَ كل أحد، عندما نقرأ في الجريدة تهاني الأصدقاء لنا على كون أحدنا لم يمت بعد.*

الليل حتى منتهاه
قميصٌ من حرير الحديد قميصاً لـه،
هو الذي لم يلبس قميصاً .

عندما دفعوه إلى الجلوس، هو الذي لم يعرف مقعداً، قالوا له إرخ جسدك. لأعضائه طبيعة السفر. لا يشبه المكان مكاناً رآه. قالوا دع كتفك الوجيعة تأخذ من هذه الفسحة راحةً، ففي كل منعطفٍ سوف تجد رمحاً ونادباتٍ. عندما التفت كان كل شيءٍ يتناسخ أو يتحول. بينه وبين غرفة الليل غابةٌ تهدر أنهاراً ليست من ماءٍ ولا تسيل. بين كتفيه حربةٌ معقوفةٌ غرسها آخر المهاجمين. التفت فخرج كل شيء عن طبيعته. دفعوه إلى جلوسٍ، هو الذي لم يضع جسده على سريرٍ ولم يرتخ ولم يعرف الهجعة. قالوا، فتحسس جرحه، والغابة تهدر أشجاراً، والعصافير تتفصد بأجنحةٍ مثقلةٍ أوشكت أن تنسى عادة الريح. من يمنح الريش لذة الهواء ويحمي موضع الجرح. لم تزل أعضاؤه تتساءل عن مساءٍ مترفٍ بالدم. دفعوه، فمرت أصابعه الناحلة في قميصٍ يرفل به ذات موت.لم تكن حرباً وليس بين أيامه ولياليه سفرٌ. قالوا، فتدافعت أعضاؤه وهو ينقل قدمه في وجعٍ ولا يرى غير الهباء. دفعوه فتكاسرت المخلوقات هاربةً من أسر الغرفة مندفعةً في قميصٍ حائلٍ. حرابٌ تطارده. يمنح جسده لأقرب أحفاده في بقايا السفر. إن ارتاحت الأعضاء يفسد الجسد. لك أن تفضح الإرث بقميصٍ مخذول. أيامه ولياليه والهواء الذي كلما خفقت ريشةٌ تعثرت النوافذ بأقداحٍ مخدوعةٍ بشهوة الينابيع، أيامه ولياليه. يسمونه بهجة الله تتصاعد من أعضائه المناديل ملطخةً ويهفو لمكبوتاتـه تتكشف أمام جسده بقايا الروح وأصغر أحفاده يأخذه الوهج : من أين جئت بكل هذا. ليس في الجسد ليس في الروح. يتأرجح مثل غيبوبةٍ مثل ليلٍ ينسى. لا يعرف، لـه، عليه، عنده. منذ الأصدقاء منذ ردة الباب منذ الغرفة. لم تعد أعضاؤه وليس بين أيامه ولياليه غير هيكلٍ مهدورٍ تغدر به الليالي والأيام. قالوا له، قالوا عليه. لكلامه طبيعة الأسلحة تـهزم تـهزم. يختض دمه الباقي، يصبغ به جدران الليل. وكلما غسلوه بالحديد كلما منحوه لشكيمة الغابة كلما احتفت به النصال كلما انثنى ليرأف بأعدائه كلما بين عينيه كلما أسس لهدمٍ كلما انتحبت كلماته كلما كلم الماء كلما كان يصغي كلما الليل ينسى كلما الجرح والهوى كلما الميل والتعديل. بينه مسافة المساء المهيمن، لا يعبأ بتضرعات عناصره المتوجعة المستوحشة، يحـم جسده بـتأود الأرض وطقس الوهم، انزاحت شرايينه تفتح الطريق لنصلٍ ضارٍ. شبه له، فلا تتركوه وحيد الكتف موغل الليل كمن ينتظر لصاً يتذرع بالقميص، ينتظر عدواً يشفق، ينتظر ذئبةً تفوز به وتعصف بطحينها جسداً تهدل جلده وتـخـبخب في غابةٍ من الشظايا، تقرأ له مرثيةً ما إن يلتفت ما إن يـنـتر عنقه المعروقة ما إن يحدق ما إن يظن أنه يرى ماءاً . ماءٌ بين أيامه ولياليه، يسأل، يتأجج في غرفة النادبات، يدفعونه إلى جلوسٍ، هو الذي لم يطمئن لقاعدٍ ولا قاعدة. عيونه تكسر الأفق، بينه وبين أيامه ولياليه سؤالٌ يؤنس وحشة الطريق. يتدافع في حرير القميص. وهــمٌ في وهــمٍ. لئلا تخدع الراحة آخر الأًصدقاء. يدس في الدم. ينتحب. قالوا له، وهو ليس للراحة ولا الحرير. مثقلٌ بالكتف المكسور والريح تخفق في نهضة الجناح، يصغي لهاتفٍ في مكانٍ لا يعبأ بجدارٍ يدفعه لجدارٍ: ترفــق بكتفك تطلع منها طيورٌ وملائك حولها حرابٌ وجيشٌ. هاجت شمسٌ صديقةٌ لأيامـه. يتقاطر الكلام مثل سربٍ من المرايا. يرى أنه يرى. يدفعونه إلى جلوسٍ فينـهر الوجع أن قــف. أن لا تـصغ ولا تـدع. أن أسكت عن البوح واهــذ خاتمة الناس بين موتٍ وموت. تذكر نسيان الحجر والكيمياء. تذكر أشجار الغابة غصناً غصناً لئلا يصدق.

يرفل بأصفادٍ صديقة،ٍ مثل ثوب العروس مثل قنديلٍ يراهق ويتلاعب بأشباح الناس وتحولات القاطن والمسافر، يقذف بأعضائه نحو تيهٍ. يشك فيما يستوجب الثقة، يتدافع كما يفضح المساء الوقور مساءً مثله. يكابر في رماد الغرفة ماءٌ ثقيلٌ لا يسمع ولا يرى. لك هذا الجلوس، لك، وهو في غيمة السفر، وحشٌ يضاهي غواية القميص، يهذي بنهضة الروح وهدأة الجسد. لك الكتف فارفق بها وانظر وانتظر. يمضي، يظن أنه يمضي. سلاحه ريشة الريح وهواءٌ ينعش الدم. يهتاج، يدفعونه بكلامٍ يغفل بين أيامه ولياليه. لا قميصٌ يؤرخ ثلجاً في كتفٍ تتمرغ في تراثٍ في ليلٍ. يدان مأخوذتان بصليلٍ راعفٍ يصغي لتدافع العناصر معصوفةً يراها، فيمضي به الظن، يمضي مثل وشمٍ ينحني على قنديلٍ يشحب برأسٍ مشدوخةٍ. ولا هو يهفو إلى جلوسٍ، لم يعرف مقعداً ولا يطمئن لغير ما تدخره ذئبة النوم. ليست أيامه ولياليه غير جسدٍ يهوي فتنهره الروح. تركت الغابة عليه العبء. كتفٌ تنسل مخلوقاتٍ لا يسعها كتابٌ. منتهى شهوة الليل ذاكرةٌ مزدهاةٌ وجسارةٌ تزخرف الشرفة. هاتفٌ من مكانٍ. كلما حـرك الأًصدقاء خبيئـتـه صار له يأسٌ، وتـيقـن أن أيامه ولياليه، ليست أياماً ولا ليال.

العبء

1

أسنَـدتُـه على جذع النخلة. أعددتُ له قليلاً من التمر واللبن. قلتُُ له. وجلستُ أتأمّله وهو يتصل بالطعام. جسدٌ واهنٌ ونحيف، مَـدَّ أصابع معروقة ترتعش كأن البرد / تناول حبة التمر وغمسها في قصعة اللبن. وبدا عليه تعبٌ كأن السنين / لم يتمكن من تناول أكثرَ من ثلاث حبات. وحين حاول رفع القصعة ليشربَ، اهتزتْ يداهُ فاندلقَ، وصارَ الثوبُ لبناً.

حملتُـه على كاهلي ومشيت نحو المدينة. إنه عبئي. خفيف مثل يقظة النسر، لكنه منهك كمن يختزل تعبَ الناس، متعبٌ مثل صخرة تحمل الجبل. وعندما تفاجئه نوبات سعاله ينثر كبده في مزيجٍ يجعل الطريق قانياً. يكاد يتلاشى بين يديّ لكنه يتمالك. يقف بي في منعطفٍ ويحاول رسمَ كلماته في وجهي : هذا وحل الطريق / هذه رائحة البحر / كل ذلك نقيض / أو…. / و يدفع للمجابهات.

أركضُ به في طرقات المدينة. تفتح المخافرُ منافذَها في انتظاره. أجلسه على حافة الطريق ليشرب. فيمد يده في حركة الشحاذين، يتراكض المارةُ ليضعوا قطعاً صغيرة في الكف المعروقة. الكف المثقوبة، فتسقط القطعُ على الأرض. ينظر إلى ذلك ويضحك. يستوقف شحاذين كثيرين، يقول لهم، وهو يشير إلى الأرض :

إنها لكم
يلتفت ناحيتي، فأفهم. أحمله. إنه عبئي. كيف لهذا الجسد أن يحتمل. يطاردونه في أزقة المدينة. ألهثُ به لكي لا يقع، لكنه يقع. دائماً يقع. فيستلمه المدربون. يتناوبون عليه. وأنا جالس أنظر إليه، وأرثي لهم. يمعنون في تعذيب الجسد النحيل النافر. في نهاية النهار يتعبون. وهو متهالك هناك. يؤلمني عذابه. لكنه يرمقني بغضب (لا تعبأ بهم)، فلا أعبأ.
لا يوحي بأنه يقدر على شيء. فأرفعه بحذر لئلا تتناثر أشلاؤه بين يدي. أحياناً أنسى شلواً منه على الأرض، فيلفتني لكي أتدارك بقاياه.
أحمله. هذا العبء. أسرع به إلى ضفة النهر خارج المدينة. أضعه. أرخيه على الرمل الرطب، فينتفض في هيئة عصفور. أغسل جراحه وأرمم ما أصابه من العطب. وأمسح بمرهم الملح خدوشاً أدمتْ أطرافه. وبقليل من التمر واللبن، تحت النخلة ذاتها، ينتعش الجسدُ ويقدر. تضيق بنا الوسيعة. جسد استوطنه الوجع وتناوشته الأحلام. لا تتوقف جراحه عن النحيب ويبدو كأنه يغني وعزفه النزيف الراعف. أطوفُ به المشافي والمصحّات. يعبر غرفَ البنج التي لا تنتهي. تصل إليه مباضع الأطباء. تميته تحييه. تميته تحييه، ثلاثاً.. تسعاً. يتوزع دمه في القناني الكثيرة. وأنا أسحبه من سريرٍ لأدخله في سرير. وحين يصحو من غيمة الألم يضيق بي وبانتظاري عند فراشه. يُطلُ من سريره المتهالك. يصرخ في الحارس : (إذهبْ من هنا لئلا يقتدي بك الممرضون ويمعنون في سلخ الجلد. إذهبْ). يصدّ جرعة الدواء ويتماثل مثل طفل يتفلّت من القماط ويخرج. يستعد للمجابهات وعتمة المخافر وتناوب المدربين. ليصل إلى النهر والنخلة وحبات التمر وقصعة اللبن. لينتعش. لأحمله. لأثق إنه عبئي. فأثق.

2

بَـرانِـي وشَحَـذَ عظمةَ قلبي بنحيبه الليلي. يأخذني إلى المهالك وهو يشدّ من عزيمتي لئلا أنكسر وأخذل أحلامَـه. أحلامُه أبعدَ من الليل والنهار. ينالني التعبُُ قبله، فأضعه على قارعة الطريق، أباهي به الناس، فتأخذه الغفوةُ لفرط التجربة. يطلع من جسده دخانٌ و رائحةٌ كأن النار تشتعل في عظامه، فيأتي الناسُ يسألون عن المسك الذي يتصاعد من أعضائه، فيضحك ويبتسم ويتهلل وجهه كأنه أوشكَ على إحكام خديعته. وسرعان ما يتفجّر وجعه. يضع كفيه في الصدغين كمن يمنع رأسه عن الانفجار. ويقول لي أن شيئاً يشبه الجحيم يمورُ في رأسه، وكلما وضعتُ له الثلجةَ فوق جبهته زاحَها واستدارَ يدفنُ وجهه في أسمالٍ زاهيةٍ يصدُّ بها هواء الطريق عن جراحه. وعندما يصدر نحيبه في شهيقٍ شفيفٍ ترتجف روحي معه دون أن يكون لي حول ولا قوة. يأخذه نومٌ طارئ فينتابه الحلم، عندها لا تعود تبدو لي حدود حياته من موته. شيء يتصاعد في بخارٍ يملأ المكان، شيء يتلاشى في رمادٍ تكتسي به المنعطفات، شيء يتوزع في ملابس المارة يعتبره بعضهم وعثاء السفر، وبعضهم يناله كأوسمةٍ للزّهو والتباهي، بعضهم يتمسَّحُ بالدّكة التي ابتكرها لشدة مكوثه الطويل في الطريق، يتمرّغُ في صخرةٍ ناتئة كمن يأخذ بركته من ضريح. وهو مثل العبء المقيم لا يَـتَخَـفَّـفُ من تراثه ولا يمتثل لخطوته التالية. وأكاد أجهش بالبكاء فيما أنظرُ إليه ينتفض ويرتعش ويرتجف ويصيبه التحول، فلا يعرفُ أحدٌ أين حدود الشخص من حدود المكان من حقيقة الوقت. عبءٌ يمتدُ بي ويتصل و لا يكترث ولا يعبأ بوطأته علىّ. عبءٌ مثل هذا ليس لي طاقة على احتماله، فقد تعبتُ.. تعبتُ، وآنَ له أن يعتقَ روحي ويأخذ من الجسد ما تبقى. فيأخذ. @

تفاحة زرقاء جهة القلب

وضع الرجل عينيه على بياض الكتاب. لا ليقرأ، ليلثم الأفق الناصع بليل العينين ويمنح دفئاً لبعض الكلمات التي تغرغر بها حلمه في الليلة الماضية. سمع النحيب، سمع قهقهة أطفال يتصاعدون من نوم كثيف، سمع الحروف تقرأ ذاتها وتهطل دمعاً. سمح للغيمة الشفيفة أن تمر بين صدغه وزغب الورق الذي يجهش ومال بعنقه المتعبة لينال قسطاً من راحة القلب على أريكة تتهدم تحت رأسه. عيناه مشرعتان مثل ذئب يتدرب على النوم في مشارف الغابة. أيقظه ضوء قنديل شاحب يتأرجح كمن يضلل فتية يفرّون من جهة يبحثون عن جهة أخرى. رفع رأسه المتعبة ليلمح تلك المرأة ذات الوشاح الأصفر تحمل قنديلها وتهدي الظلام ليهجع باكراً. سمعها تهمس لكائن غير مرئي : لم يتركوك لكي تنسى، لا ينسونك مادام أثر حديدهم على جسدك، اختبر قدرتك على النسيان لكي يقفوا في ذاكرتك، خفف عن كاهلك، لن ينسوك، وعليك أن تدرب ذاكرتك على المغفرة. وقبل أن يستدير الرجل لكي يستطلع الطرف الآخر، طوى كتابه المطروح على أرض الحلم، وطفق يحنو بأصابعه على حرير الصفحات ورقة بعد ورقة، لا على عجلةٍ، ماء ثقيل يتسرب في تلافيف أصابعه. استشعر بأن ثمة أخبار تريد المرأة أن تقولها للمارة في ظلام المكان، غير أنها لا تريد أن يكون ذلك عن طريق الكلام. للمرأة صمت فادح اعتادت أن تخاطب به ناس المكان. (هل أنت سادن الليل) باغته سؤال المرأة. هذا ليس صمتاً. إنها مبارزة غير متكافئة بين كائنين يشتركان في مهمة واحدة، وتتقاطع بينهما طرق كثيرة. وها هي تنتظر جوابا على سؤال مكتنز بالمعنى. (قال لي : لا تكلمهم إلا رمزاً، ففي ذلك نعمة لهم ورحمة لك) أدخلت المرأة يدها بين ملابسها المنسابة مثل موج وصل الشاطئ تواً، ومن بين ثنايا الثوب أخرج يدها تحمل تفاحة زرقاء ما إن بسطت أصابعها حتى شع المكان بزرقة صدرت من اللازورد. وفي حركة تشبه طفل يسحب الغطاء لكي يواصل النوم، وضع الرجل يده على الحقيبة المتدلية من كتفه، وسرعان ما استدرك محدثاً نفسه بصوت سمعته الكائنات كلها (لكن هذه التفاحة زرقاء). (هل أنت سادن الليل) . (أنا خادم الحلم يا سيدتي). هذا جواب يليق بيقظة المخيلة. كيف تسنى له أن يضع خاتمة لحكايته الأخيرة، فيما كانت المرأة ذات الشمسية تؤرجح ساقيها غبطة بالريح وهي تصعد بها. تلك العجوز، ما كان لها أن تقفز مثل بطة من رصيف إلى آخر. كانت الريح ترصد حركتها. انثنت المرأة بجذعها على الرجل لكي تسمع غرغرة الكلمات في كتابه المكتنز بالحكايات مخبوءاً في الحقيبة. وكمن يصقل الحجر الكريم راحت تدعك التفاحة الزرقاء على قميصها ناحية القلب. سمع الرجل صرير التفاحة على قميص المرأة فظنه النداء لكي يبدأ في الغناء. لا أحد يعرف في هذه المدينة من أين جاء الرجل ذو الحقيبة ذات الكتاب والتفاح، ولا أحد يعرف في هذه المدينة من أين جاءت هذه المرأة ذات التفاحة الزرقاء. لم يجد أحدٌ رغبة في الاستفسار عن الأمر. ثمة ألفة شاعت بين أهالي المدينة، حتى أن بعضهم يوشك على يقين بأن ثمة بيتا في أحد الأحياء ربما كان بيتاً للرجل، واحتارت النساء قليلاً في مبيت المرأة، ولولا طبيعة النساء لكنَّ تسابقن لدعوتها للإقامة في دورهن، غير أن مشكلتهن أن الرجال لا يؤتمنون على امرأة أخرى في الكون، فما بالك إذا كانت في الدار. ولم تكد نساء المدينة تهجعن في أسرة الهدأة متوسلة للنوم حتى سمعن وقع أقدام متوترة تطرق أحجار الطرقات. نفضن ألحفتهن وقذفن برؤوسهن من النوافذ يستطلعن الأمر. كانت الطرقات مكتظة بأربعة فتية يشي مظهرهم أنهم يفرون من درس العذاب. يرشح من أجسادهم الأنين وبقايا ملابسهم الممزقة ممهورة ببقع دم لم يجف بعد، وطيف بكاء مكابر يصده صوت يشبه الترتيل. لقد جاء الفتية الأربعة ليعلموا أن حصاراً مزخرفاً بالعنف يطوق القرى المنسية المحجوبة بالجبل، والكائنات المحصورة هناك تبعث بما يستنهض عاطفة المدينة لكي ترأف.

جبل يصغي للريح

ثمة أسطورة تقول إن جبلاً كان يمضي أيام السنة متكئاً على حافة الوادي، رأسه في الغيوم وأطرافه بلا تخوم. تضاريسه الصخورُ المسننة، تنكسّر عليه الزوابع ولا يسمع الكلام. يرقب كائنات الطير والوحش والناس. لا يكترث لمن يحاول إبلاغه أنه يجلس في المكان الخطأ من الطبيعة ويفسد الحياة. ينقصّف صوتُ الناس كأنه لا يغادر الحناجر، وكأن الجبل بلا آذان، أو هو لا يحسن الاصغاء. وكل ما يفعله، بين وقت وآخر، هو أن يعتدل في جلسته قليلاً، دون أن يتزحزح عن موقعه شبراً. تتفاقمُ وطأته على الكواهل، ولا أحد يقدر على مخاطبة الجبل لهول إرتفاع قمته، مما يجعل آذانه بعيدة عن نحيب السفوح. حتى تجرّحت الحناجر وتعبت الألسن وسأمَ المتكلمون، وأوشكَ اليأسُ أن ينالَ منهم.

وتقول الأسطورة، إن أحد أطفال الوادي سألَ أمه ذات يوم عن الجبل. فقالت له : إنه هناك. يقبع وحده وحيداً في الأعالي، يمنع عنا الهواء في الصيف والشمس في الشتاء، يقف في طريق السفر ولا يسمح لأحدٍ أن يأتي لزيارتنا، يدمّر حقولنا بالسيول ويعاقبنا بحمم البراكين، منذ ولدنا ونحن نراه هناك، لا يكترث بنا ولا يعبأ، لا يصغي للتضرعات ولا يهتم بالحُجة. فقال الطفل لأمه : لماذا لا تحاولون الصعود لتصلوا إلى آذانه، فربما يكون ضعيف السمع بسبب الشيخوخة. فقالت له الأم : لا فائدة، فإن الجبل شاهق والطريق إليه خطرة، ولا أحد يعرف الطريق إلى أذنيه، بل أننا لا نعرف تماماً ما إذا كانت له أذنان أصلاً. فقال الطفل لأمه : لابد أن تكون له أذنان، فكل كائن له أذنان، علينا أن نحاول الوصول إلى هناك ونبحث عن أذنيه لنقول له الكلام. فردتْ الأم : لقد حاول الكثيرون ذلك، لكنهم كانوا يتعرضون للمخاطر، وبينهم من تعثرتْ قدماه وسقط في الوادي ميتاً. فكّر الطفلُ بعض الوقت، ثم سأل أمه : هل تعتقدين أن الجبل سوف يستجيب لما نريد إذا سمع كلامنا؟ فقالت الأم : الحقيقة أنني لا أعرف، فلم يحدث أن رأيت الجبل عن قرب، وليست لدي فكرة عن مزاجه. فقال الطفل : هل تكرهين الجبل يا أماه ؟ فوجئت الأم بسؤال طفلها، وهزّت كتفيها بحيرة وقلق : أكرهه؟! لقد تسبب في موت والدك. كان والدك من بين الذين حاولوا الصعود لإسماعه الكلام، فكان نصيبه السقوط الشنيع والتهشم بين الصخور الحادة، حتى أن أحداً لم يعثر على جثته لفرط ما أصابها من التلف، وتسألني عن الكراهية ياولدي؟، يبدو لي أن هذا الجبل ليس فقط لا يسمع كلامنا، بل أنه لا يكاد يشعر بنا على الاطلاق. انصرفَ الطفلُ مهموماً في غيمة الحزن. وبعد قليل عاد وقال لأمه :.. ولكن لابد لنا من التفكير في طريقة لتوصيل الكلام إلىه، علينا أن نجرّّب ثانيةً، فربما يصغي، أو إنه يتعلم الاصغاء لمرة واحدة على الأقل. فقالت الأم : هل تريد أنت أيضاً أن يحدث لك ما حدث لأبيك؟ فقال : ليس تماماً، ولكنني سأطلب من صديقتي الريح أن تحمل الكلام إلى الأعالي، فالريحُ هي الوحيدة التي يمكنها أن تصعد إلى هناك في خفة ورشاقة، ودون أن تتعرض للمخاطر، أليست الريح هي التي تحمل الطيور، إذن فإن حمل الكلام لابد أن يكون أسهل بكثير. ضحكت الأم من خيال طفلها، وأوصته أن يفعل ما يريد مع صديقته الريح، لكن بعيداً عن الحماقات، فإنها لا تقوى على فقدانه مثلما فقدت والده من قبل. خرج الطفل من الدار متوجهاً إلى ظاهر القرية، وصعد على إحدى الهضاب الصغيرة، ثم أخذ في محادثة صديقته الريح وهي تهبّ شمالاً. فطلب منها المساعدة في مشكلتهم مع الجبل، وأن تصعد عالياً حتى تصل إلى قمته، باحثةً عن أذنيه لتخبره بما يعانيه الأهالي. أبدت الريح استعداداً طيباً، ووعدتْ صديقها الطفل أنها ستفعل ذلك في القريب العاجل. فهرع الطفل إلى ساحة قريته يخبر الأهالي أن الريح قبلت الصعود إلى قمة الجبل ونقل كلامهم إليه. هزأ بعضهم من مزاعم الطفل، واعتبرالبعضُ الآخر كلام الطفل ضرباً من أحلام الأطفال وخيالهم الجامح. كيف يقدر الهواء على ما عجز عنه الرجال. لكن الطفل لم يهتم لذلك، وعاد إلى داره في المساء لكي ينام. وفي صباح اليوم التالي، صعدت الريحُ إلى قمة الجبل، ودارت حول قمته، فعثرت على مغارة صغيرة مهجورة لا يبدو أن بشراً وصلَ إليها من قبل. وما إن اقتربتْ منها حتى رأت العنكبوت قد نسجت في مدخل المغارة خيوطها الكثيفة، ولمحت جيشاً من النمل وأنواعاً شتى من الحشرات والسحالي تنسابُ في مدخل المغارة، بل إن سرباً من الغربان كان قد ابتنى له أعشاشاً قديمة هناك. زمجرتْ الريح واستدارت ضاربة فوهة المغارة بعاصفة جعلت خيوط العنكبوت تنحلُّ والحشراتُ والسحالي تشرد مذعورةً، و فرّتْ الغربان بعدما رأت أعشاشها تتخرّبُ وتتساقط من أطراف المغارة. فاقتربت الريح من بوابة المغارة مستكشفة المكان، فلم تجد سوى الصمت الموحش. فأعولت بصوتها القوي منادية الجبل أن يستمع إليها. تململ الجبل منزعجاً للصوت الغريب الذي يخترق أذنيه للمرة الأولى، ثم التفتَ بقمته الشامخة نحو الصوت ليرى ما الذي يحدث في المكان الذي لم يصل إليه أحدٌ من قبل. فلم ير شيئاً أمامه. وعندما أراد أن يعتدل عائدآً إلى غفوته، نهرته الريح قائلة : أنظر إلىّ، أنا الريح التي في الأعالي أكثر منك، لديّ من القول ما يهمك وما يتوجب عليك أن تسمعه، فمن الحكمة أن يتعلم المرء الاصغاء. تعجبَ الجبلُ من كلام الريح، ولكن سرعان ما ابتسم وقال : هل عند الريح سوى الهواء ؟! فقالت الريح : عليك أذن أن تصغي لهذا الهواء. لقد مضى من الوقت ما يكفي وأنت معلقٌ هنا في وحدتك الموحشة، دون أن تسمع صرخات الناس في الوادي، جاهلاً أو متغافلاً عن الذي يدور حولك وتحت أحجارك، لماذا لا تصغي لكلامهم وهم يحاولون مخاطبتك طوال هذه السنوات؟ فقال الجبل : الناس !! ومن أين لي أن أسمعهم وهم هناك، كان عليهم أن يأتوا إليّ هنا. فقالت الريح : كيف يأتون وأنت شاهق إلى هذا الحد، لا تنحني ولا تحنو عليهم، ولا تتزحزح عن كواهلهم، صخورك السيوف وأذناك في الغرور؟ قال الجبل : هـه، وماذا بوسعي أن أفعل، إنهم لا يستطيعون الصعود إليّ، وأنا لا يمكنني النزول، هل رأيتِ جبلاً ينحني أو ينزل إلى الوادي، إنها طبيعة الأشياء أيتها الريح. قالت الريح : ومن طبيعة الأشياء أيضاً أن نصغي لما يريد الآخرون قوله لنا. قال الجبل :

مادمتِ قد نظفّت أذني مما يعوقها عن السمع، فها أنا مصغ إليك. فبدأت الريح حديثها إلى الجبل هادئة مرسلة نسيمها السلس، مهدهدةً أطرافه، تداعب خصلاته الخضراء الناعمة المتدلية من خاصرته منسدلة على جوانبه. وأخبرته إن عليه أن يتحرك من موقعه لكي يفسح لغيره من كائنات الطبيعة مكاناً تحتاجه. وقالت له إنه من الثقل والارتفاع بحيث يحرم الحقول من شمس الصباح، ويصدُّّ الهواء عن القرى الصغيرة التي يكاد الوادي أن يبتلعها لشدة القيظ في فصل الصيف، كما أنه يسدّ الطريق أمام القوافل، حتى كسدت التجارة، ويبست الزروع وجفّت الضروع وبَطُلَ العمل، وبات الجوعُ يهدد الناس. وقالت له أن السيول التي تتحدّر من جروفه بعد ذوبان الثلوج، تغرق القرى وتخرّبُ حقولاً يتعب عليها المزارعون طوال فصول الحرث والبذار. وكانت الريح تتوقف عن الكلام لحظة وتسأل الجبل ما إذا كان يسمعها، معتقدة أنه ربما استغرق في النوم. فيهزّ الجبل رأسه الشائب مؤكداً أنه لا يزال يصغي إلى الكلام. فأكدت له إن الماء العذب الذي يرسله النهر إلى الأرض لا يصل إلى حقول المزارعين ليرويها، مما يحرمهم من الخير الوفير، حيث تنحرف الجداول، عندما تصطدم بصخوره العاتية، فتهدر في البحر البعيد دون أن يستفيد منها أحد. وقالت له إن هذا يسبب لناس الوادي عذاباً عظيماً، لأنهم يضطرون لحفر آبار صغيرة سرعان ما تنضب. عند ذلك اعتدل الجبل في جلسته، كمن يسمع كلاماً غريباً للمرة الأولى. فقالت له الريح : لا تقل لي أنك لم تكن تعرف كل هذا من قبل. فارتبك الجبل قليلاً، ودمدم مثل شيخ يتقدم في السن فجأة، ثم قال : ليس تماماً.. ليس تماماً. لكنهم كانوا يعبثون بي ولا يحترمون هيبتي وسلطتي فيهم. فقالت الريح : لم يكن ذلك عبثاً، لقد كانوا يبعثون برسائلهم إليك فلا يلقون غير بطشك، ماذا تنتظر من بشرٍ يفقدون الأمل. على أية حال ها أنا أخبرتك بالأمر، ولك الآن أن تقرر ماذا ستفعل، فلا أحد يعرف كيف ستجري الأمور بعد ذلك، إن لهؤلاء الناس أطفال يمتلكون من الأحلام والخيال ما يجعل المستقبل مأزقاً بالنسبة لك. انتفض الجبل غاضباً : هل أعتبر هذا تهديداً ؟ فردتْ الريحُ : ليس هذا ما عنيت، ولكن الحق أقول إني أنقلُ لك هذا الكلام لأني أحبه، وأحب الطفل الذي كلفني بذلك، وهو واحدٌ من أطفال لا يحصون هناك، مما يجعلني أشير إلى المستقبل، إن كان ثمة مستقبل يعنيك، فمن يدري، ربما تكون قد أصبحتَ ضرباً من ذكريات الماضي، إلا إذا تعلمت إن فَـنَّ الاصغاء هو أحد أعمدة الحكمة في الحياة.

تتوقف الأسطورة هنا، لنجهل بقية الحكاية. فالمخطوط القديم الذي نقلت عنه هذه الأسطورة كان مهترأ الأوراق، سقطت منه الحواشي في كثير من المواقع. لكنها أسطورة، والأسطورة لا تنتهي في الكتب، لكنها تكتمل في حياة البشر.