موسى حوامدة
(فلسطين/الأردن)
Hawamdeh87@hotmail.com

موسى حوامدةجرعني هذا العام المنحوس, الذي ما زال يجرجر ذيله تاركا ندوبه غائرة في صدري, كأس الفجيعة تلو الفجيعة, والمصيبة حتى الثمالة, وجاء بعد الم وحرقة لما اصاب الشعب العراقي ومدنه وتراثه وبشره ومتاحفه, فقد انهار تماسكي حينما رأيت جامعة البصرة تدمر والمكتبة الوطنية تحرق وتحف العراق مقطعة الرؤوس بعد تحطيم كل مقتنياتها, شعرت أن لوح زجاج ضخم قد تكسر أمامي علي الأرض وأصابتني شظاياه وجرحني نثاره وكسره, وضاعف همي ما كان يجري من بطش في الخليل ورفح, وزاد غمي مرض أبي الذي لم أكن قادرا على السفر لرؤيته منذ اندلعت انتفاضة الأقصى في شهر أيلول 2000

لكن ما حل بي بعد ذلك كان إكمالا للتراجيديا الإغريقية, وقد حرمني ذلك التواصل مع الدنيا أو حتى التركيز ومعرفة ما يدور في العالم, فقد أعيدت قضية كتابي اللعين شجري أعلى من جديد للمرة الثامنة إلى محكمة جزاء عمان, وأنهت إحدى الصحف الخليجية (المحترمة) عملي لأسباب مبهمة, ومات صديق كبير وعزيز أنقذني من البطالة ثلاث مرات في حياتي, وكان نعم الأب والمعلم والمثل, وفي يوم 1ايار عيد العمال العالمي, الذي يذكر بأحلام تبخرت وعالم مضى وتوازن انفقد, وذكرى عزيزة للطبقة العاملة, مات الحاج محمد حسين جابر الحوامدة في بلدة السموع الواقعة على كتف جبال الخليل والذي سماني بهذا الاسم الديني حبا في الإسلام والأنبياء ومنح أخوتي أيضا أسماء نبيين إلا الأخ الأكبر والذي سماه على اسم أبيه وجده حسين الذي قتل غدرا بعد زواجه بأسبوع وسمي ابنه باسمه أيضا كما يفعل الناس في بلادي التي لم تغير اسمها رغم ما لحقها من غدر, وغزو منذ الأزل.
مات أبي إذن بعد أن عجزت عن السفر إليه وظل يلح في طلبي, ولم تسمح إسرائيل التي أوقفت التصاريح بزيارتي لأنها أوقفت التعامل مع السلطة الوطنية الفلسطينية التي كان الأهل يلجأون إليها لطلب زيارة احد الأقارب,

مات أبو حسين, انه أمر مألوف فيوميا نسمع عن وفاة والد فلان أو علان, لكنها تجربة ذاتية وشخصية لا يعرف طعمها إلا من يتذوقها لأنها عصيبة مريرة وخاصة لمن كان متعلقا بوالده, ووالده متعلق به رغم بعد المسافة واختلاف الأمكنة والأزمنة, وهي تجربة فريدة وثقيلة تكشف سر العلاقة بين الابن الغائب وأبيه المريض ومدى الحاجة لهذا الأب حتى لو كان مجرد كوم لحم أو نفس يتردد فان بقاءه على قيد الحياة يمنع الانهيار والشعور بالمرارة والقطيعة والانكسار.

وقد حاولت بعد مرور أسبوعين التكيف مع موته, بعد أن عرفت في تلك التجربة الناس وميزت بين الأصدقاء وتراءت لي صور أبي متلاشية في قبره, وتردد دعاؤه وصوته في مسامعي, واعدت شريط الطفولة والذكريات مرارا وتكرارا, وأدركت مجددا طعم الوطن ومعنى الاحتلال وحاولت إقناع نفسي انه مازال حيا, وحاولت عقد اتفاقية معه للسماح لي بممارسة بعض الأعمال الروتينية مثل الأكل وإيصال الأولاد للمدارس وحلق لحيتي صباحا والعودة للقراءة والكتابة, فكتبت عن رحيله يوم السبت - 17من هذا الشهر مقالة بعنوان حين يكون الفقد غاليا دون أن أشير مباشرة إلى رحيله, لكنني نسيت في بداية المقال الذي أشرت فيه إلى رحيل الأب البعيد أو العزيز أو الأخ إن من الممكن أن يكون الراحل أختا أو إما أو بنتا فكان الموت عندي مذكرا والراحل رجلا, وقد فاتني انه قد يقع على امرأة أيضا؛ وهذا ما حدث في اليوم التالي لنشر المقال حيث ماتت والدتي أيضا صبيحة 18الشهر المحترم, وكانت صدمة جديدة ومفاجئة فلم تكن مريضة أو بحالة صحية سيئة بل سقطت وماتت وهي تغسل يديها من آثار العجين, أي ماتت واقفة مثل الأشجار العالية.

كانت تلك كارثة جديدة, تحط علي في مدة زمنية قصيرة فلم احتمل ما حدث, خصوصا وقد جاءت الوفاة بعد أن أبرمت معها صفقة على الهاتف أن تأتي إلى عمان للإقامة عندي فترة قصيرة لأحاول التكيف مع رحيل الوالد وأطمئنها أن حكم الحبس الذي أصدرته محكمة بداية جزاء عمان بحقي في 8-5 قد يتم فسخه وقد أنجو من هذه المأساة التي تخيم علي وعلى أسرتي منذ أربع سنوات, لكن إرادة الله كانت الغالبة وانتقلت أيضا تلك الأم الطيبة إلى المقبرة, وفية لزوجها في الدنيا والآخرة فلم تطق الصبر بعد رحيله رغم أنها كانت تبث فينا التماسك والصمود, وترد على هاتفي المتكرر لتشد من عزيمتي وتنهاني عن البكاء أو الضعف والحزن, ولم تكن تعلم أنها سترحل مسرعة إلى جواره.


لقد اختلط علي الأمر فلم أكن اعرف هل استذكر طيبتها وشريط حياتي وعلاقتي معها, أم استذكر صورة الأب الغائب أم الأهل المفجوعين, أم اقلب وجوه الأصدقاء الذين واسوني بفقدهما, ووجدت فيهم مواقف يحتاجها الإنسان في مثل هذه المناسبات حاجة ضرورية, أم أعاتب واستذكر الذين لم يكلفوا خاطرهم مجرد رد الجميل والواجب أو المواساة, أو اكره أولئك الذين أشعروني بالخذلان وحثوني على إعادة النظر في علاقتي ونظرتي للبشر وللأصدقاء, أم أتناسى الأمر واذهب للصبر بخطى واهنة وهزيمة محترمة تضاف إلى سلسلة الخسارات السنوية لهذا العمر وهذا القرن الأصفر الجديد والقديم.

لم اخرج بنتيجة ولم أتبين الطريق ولم اعرف كيف يمكن أن يعود المرء للوقوف كما كان سابقا حين يخسر يديه وقدميه أو حين بفقد عنفوانه واندفاعه وشجاعته ويشعر فجأة انه صار مكشوف الظهر اعزل, خاسرا كبيرا ومعتبرا. , لم يستمتع بحياته كما يليق بطير طائش, ولم يحلق في أرضه ووطنه ولم يمارس حريته وجنونه ورعونته أو حتى وقاره, ولم (يستمتع) حتى بموت والديه كما يفعل كل الأولاد المرضيين وكل العاطلين عن العمل والغربة.
اعتذر عن هذه النغمة الجنائزية وأسف مجددا, فما يليق بيتيم مثلي في الأربعين أن يسود الأبيض بلون حبره الكثيف, وان يمارس بعد اليوم حسده لكل الأبناء الذين يحتفظون بآبائهم وأمهاتهم على قيد المحبة,