(معرض يحكي قصة صورة البطل الثائر تشي غيفارا وتمظهراتها في زمن المقاومة والعولمة التقطها المصور الكوبي البرتو كوردا.. وصارت أشهر صورة في تاريخ التصوير البصري.. من حيث القولبة وإعادة الإنتاج)

إبراهيم درويش

صورة غيفارا لم يكن مصور الأزياء الكوبي البرتو كوردا دياز (1928 ـ 2001) يعلم ان الصورة التي التقطها في الخامس عشر من آذار (مارس) 1960 للثائر العالمي ارنستو تشي غيفارا (1928 -1967) ستصبح أشهر صورة في التاريخ الفوتوغرافي من ناحية القولبة وإعادة الإنتاج والتفسير.
الصورة التقطت أثناء جنازة للشهداء الذين ماتوا أثناء الحرب الثورية الكوبية ضد نظام باتيستا الديكتاتوري، في تلك المناسبة ظهر غيفارا وزير الصناعة الكوبي في حينه علي المنصة، والتقط له كوردا صورتين وعلق عليهما ان تقاطيع وملامح غيفارا كانت تعبر عن غضب وألم في نفس الوقت. كما تقول أدبيات التاريخ الفوتوغرافي، فالصورة التي التقطها كوردا الذي أصبح مصورا لفيديل كاسترو. لم تنشر في أعداد المجلة الرسمية ريفيليوسين (الثورة) وبعد تحميضها وأعدادها علقها كوردا علي جدار ستوديو التصوير الذي كان يملكه، وربما وزع بعضا منها علي زواره ومن بينهم اليساري الايطالي جيانجياكو فليترنيللي، الذي زار كوبا في تلك الفترة، والذي سيكون شخصية محورية في تحول الصورة إلى ظاهرة عالمية. وهناك تكهنات بأن جان بول سارتر الذي زار كوبا وحضر الاحتفال المذكور مع سيمون دي بوفوار والتقي مع غيفارا وزير الصناعة ربما قدم له كرودا نسخة منها لكن ابنة المصور الذي توفي في باريس لا تذكر ان والدها أعطى سارتر نسخة منها لان زيارته لبعض المناطق خارج هافانا تم ترتيبها علي عجل ولذا فإمكانية تقديم نسخة تبدو بعيدة.
الصورة المقصودة هنا هي صورة (Guerrillero Heroico) (البطل الثائر) التي يظهر فيها تشي بالبيريه المزينة بالنجمة ولحيته غير المشذبة وشعره المنسدل، وعيناه اللذان تنظران في البعيد ربما لمستقبل الثورة العالمية التي حاول تطبيقها بعد تخليه عن الجنسية الكوبية وسفره للكونغو ومنها إلى بوليفيا التي اغتيل فيها. لم تظهر الصورة وتوزع بشكل عالمي وتدخل ما يعرف في يومنا هذا أيقونة الا بعد ان وردت الأنباء عن اعتقال ارنستو تشي غيفارا وإعدامه حيث كانت آخر كلمات قالها لقاتليه أطلقوا النار، أيها الجبناء فلن تقتلوا الا رجلا مما يعني ان الفكرة التي دعا اليها ستعيش.
دخلت صورة تشي غيفارا الوعي العالمي عبر عدد من المراحل، فهي وان انتشرت في أوروبا بسبب اليساري الايطالي الا انها ظهرت علي أغلفة المجلات مثل باري ماتش في فترة قبل مقتل الثائر غيفارا. ولكن ثورة الطلاب الفرنسيين، كانت واحدة من التمظهرات التي دخلت فيها الصورة الوعي العالمي، حيث استخدمها الشبان كرمز للثورة ضد المؤسسة. ولكن الصورة ستدخل في فترات لاحقة عالم ثقافة الشباب خاصة الجيل الذي ولد فيما بعد الحرب العالمية الثانية ووجد في الصورة التي ربما لم يعرف الكثير من الشبان شيئا عنها، نتفا من هنا وهناك عن ثائر دولي او مقاتل للحرية، وبالتأكيد لا يعرف الا القليلون صاحب الصورة الأصلية، التي وللحق يقال لم ينل عنها أي فلس، حيث ضاعت حقوقه لان كوبا ليس لديها حقوق ملكية ولان كوردا وان شجب إساءة استخدام الصورة الا انه تسامح او لم يهتم كثيرا مع الذين أرادوا استخدامها من اجل التعبير عن جوهر الأفكار التي قاتل من اجلها الثائر اللاتيني، فهو وان ولد في الأرجنتين، الا انه كان يحلم بأمة لاتينية واحدة تجمع كل شتات الدول والكينونات في هذه القارة الكبيرة.
ورحلته عندما كان طالبا علي مقاعد الدراسة عبر جمهوريات أمريكا اللاتينية أكدت أهمية الوحدة، فقد كانت تجربة ثرة سجلها في رحلته الشهيرة يوميات دراجة ، مع صديقه البرتو غرانادوس الذي قضي معظم حياته في كوبا وأخرجها البرازيلي وولتر سالاس عام 2004 في فيلم ساهم في تعزيز صورة الثائر. صورة تشي غيفارا إذن تمت قولبتها، كصورة عبر ثقافة المقاومة، وثقافة العولمة، وهي أول أيقونة في التاريخ، تفقد الكثير من مميزاتها الأولى، باعتبارها صورة عن المقاومة ضد الامبريالية والاستعمار، ويتم استثمارها في ثقافة العولمة، اذ ان فترة التسعينات التي انشأت ما أسمته الكاتبة في قضايا ثقافة العولمة نعومي كلاين ثقافة جديدة هي مارسالا هجين بين الجنوب والشمال، فيما حاولت الشركات العملاقة العابرة للقارات، نايلك، ريبوك، ... البحث عن وسائل جديدة لجذب الجيل الذي ولد فيما بعد الحرب العالمية الثانية لمنتجاتها وبحث عن مظاهر جامعة تتجاوز اللون والجنس والثقافة ولهذا لعبت صورة تشي غيفارا هذه ومن بين صوره الكثيرة، دورا مهما في تشكيل هذه الثقافة.
ويعتقد الباحثون في ثقافة الصورة المرئية ان صورة البطل الثائر تؤرخ لتحولات الصورة في الأربعين عاما التي مضت. والصورة تظل بمثابة قصة نجاح كبيرة لان تشي غيفارا او علي الأقل صورته ظل قابلا للتطويع، الحذف والإضافة، التشكيل، من خلال الخطوط او النقاط او عبر الكاميرا والديجتيال، او من خلال الفن المجرد او فن البوب الذي وجد أهم تجلياته في أعمال الفنان الأمريكي المعروف اندي وورهول. كما ان تشي غيفارا وفي مرحلة ما بعد التسعينات صارت تعبيرا عن ثقافة الموضة اذ تسابق العديد من مصممي الأزياء لإدخالها او الارتكاز عليها في مجموعاتهم التي قدموها للشباب ومن هنا فتشي لم يعد الثائر الداعي للانقلاب علي العالم وإعادة تشكيله بقدر ما صارت صورته تعطي الكثيرين صورة عن الشياكة والأناقة وعن التعايش في عالم ثقافة العولمة. وما دامت صورة تشي غيفارا دخلت عالم الأيقونة أكثر من صورة في تاريخ التصوير، فهي أكثر شهرة من صورة السيد المسيح، ومن الموناليزا فان الأيقونة ولدت أيقونة جديدة، احتفظت بالإطار العام للصورة الأصلية وبنت عليها مسخا جديدا، مثل بوش او بلير او أيقونة جديدة، فهناك تشي أسامة بن لادن ، وهناك تشي الفلسطيني، وتشي الفيتنامي، والصيني، تشي الذي تماهى مع صاحب الزحف الكبير والثورة الثقافية وهناك تشي دايانا الأميرة البريطانية. تشي غيفارا في صورته وشكله المتغير هو تعبير عن الثقافة الشعبية، العابرة للحدود، الصورة القابلة للتلاعب والتغيير والعبث، والتفسير بحسب السياق الاجتماعي او الثقافي، الثوري او الشبابي، وصورة كهذه موجودة في الوعي الشعبي العالمي دون وعي أحيانا بالتفاصيل الشخصية عن الثائر او الأهداف التي قاتل من اجلها، فهي موجودة علي جدران أحياء التنك والصفيح الأفريقية، معلقة علي لافتات كبيرة قرب شبكة كبيرة من شبكات الأسلاك الكهربائية في المكسيك وفنزويلا، علي جدران زنزانة في كوبا، علي حائط متوحد في بيت لحم، علي ملابس داخلية لعارضة أزياء، علي قميص في مجموعة مصمم فرنسي، وهي معلقة علي جدران الغرف الداخلية للطلاب في الجامعات، وهي أيضا تتمظهر في تفسيرات دينية، مثل العشاء الأخير للسيد المسيح او عوالم سوريالية وواقعية عبرت عنها رسومات المكسيكية فريدا كاهلو، وقد حاول فنانو أمريكا اللاتينية الجمع بين العناصر الثورية في حياة تشي غيفارا/ صورته وبين المكون الديني الثنائي، المسيحي والوثني لثقافات المايا والازتيك. وفي هذه الأعمال يتساوق السيد المسيح/ الصورة مع الثائر تشي غيفارا علي الرغم من ان الأخير أكد انه علي نقيض السيد المسيح ورسالته الداعية للسلام حيث كتب مرة قائلا انا نقيض السيد المسيح.. سأقاتل بكل سلاح لدي بدلا من ان أدق بالمسامير علي صليب . كل هذا مقبول في الفهم الثقافي لمعاني الصورة، ويحدث أحيانا في طريقة تعامل الفنان المحلي مع أيقونة او رمز عالمي، ولقد لوحظ ان الطريقة التي تعامل فيها رسامو البوستر مع صورة أسامة بن لادن، زعيم القاعدة مثلا انها أخضعت للسياقات المحلية، فهو يحمل ملامح أسيوية في بوسترات تلك المنطقة، ويقترب من صورة الشهيد القسام في بوسترات فلسطين ويحمل ملامح لاتينية في أعمال هذه المنطقة. ولكن غير المفهوم هو دخول ثقافة السوق والاستهلاك للتعامل مع تشي غيفارا البطل الثائر حيث ظهر علي دعايات ايس كريم، وقامت شركة سيمرنوف للبيرة بإنتاج ماركة جديدة مع صورته وتحت شعار حار وناري في إشارة إلى المعني الباطن لهاتين الكلمتين في الثقافة اللاتينية واللذين تزاوجان فكرة الجنس والثورة، ولهذا قام كوردا برفع قضية ضد الشركة وحصل منها علي مبلغ 50 ألف جنيه تبرع بها لصالح الخدمات الصحية في بلاده. تاريخ الصورة يبدأ في عام 1968 عندما بدأ فنانون بالتعامل معها وإدخالها في بناء أعمالهم الفنية مثل الايرلندي جيم فيتزباتريك الذي قابل تشي غيفارا في طريقه للصين، وكان تشي غيفارا الذي يعود جزء من عائلته لايرلندا حريصا علي تأكيد هذه الصلة وقد أنتج لوحة بناء علي صورة كوردا، ومن هذه الفترة أصبحت صورة تشي غيفارا أشهر صورة تم التعامل معها فنيا، او بصريا من خلال التصميم وإعادة الإنتاج بشكل لم يحدث لأية صورة في تاريخ التصوير الفوتوغرافي، وحافظت علي جاذبيتها الثورية، باعتبارها تعبيرا عن المقاومة، وظهرت في ربيع براغ، في مظاهرات في العالم العربي، في انتفاضات الحركات الراديكالية في أمريكا اللاتينية، وكانت مصدر إلهام لفناني البوب، فاوزي اوزبورن، المغني البريطاني المعروف عندما ظهر مع عائلته في الحمام، كان ابنه يرتدي قميصا عليه صورة غيفارا، كما تمت قولبة صورة المغنية الأمريكية شير بناء عليها وكذلك مادونا، وظهرت الصورة علي علب السجائر، الولاعات، السيجار، لعب أطفال، حقائب نساء، وعلي صدر عار لراهبة، انها صورة سائلة مائعة قابلة للتطويع، والتمظهر في أكثر من مثال. ومن هنا يلاحظ مؤرخو الصور الفوتوغرافية ان جماليات الصورة التي لم يستفد منها صاحبها بشيء جاءت من خلال التوتر بين ثقافتين، الاستهلاك والثورة، ومنذ ان قدم كوردا نسخة من هذه الصورة للناشر الايطالي جيانكامو فيلترينللي عام 1967 وبعد مقتل الثائر ادخل الصورة في الوعي البصري العالمي، وقد بيع من البوستر منذ تلك الفترة ملايين النسخ، ووصل حد الإقبال عليها في عام 1968 كما يقول مؤرخ البوسترات الأمريكي ديفيد كانزل حدا من الهستيريا حيث كان يباع منها في الشهر مليون ملصق. ويبدو ان الإقبال عليها مرتبط بحركة الشباب العالمية، وثورة الطلاب الفرنسيين. ومن هنا فان إدخال الصورة بهذه الطريقة، لم يؤد إلى انها أصبحت خيارا جيدا للشاب الثائر او الغاصب ولكنه اثر علي أصالة الصورة، اذ من خلال التحولات وعمليات المسخ والتحوير، فقدت الصورة الكثير من مفرداتها الأولية التي عبرت عنها صورة كوردا الأصلية ولم يبق الا الإطار الذي صار قابلا للنسخ وإعادة الإنتاج. ومنذ وفاة تشي غيفارا تم التعامل مع الصورة من خلال مفهوم الثورة والتمرد، والاحتجاج كما في أعمال تحالف الفنانين في نيويورك المعارض للحرب. ولهذا فقد تحولت الصورة كما يقول الناقد الانكليزي المعروف جون بيرغر. كانت بمثابة صورة عن التصوير البديل وهو الذي يمكن الفنان او صانع الصور بتطوير استراتيجيات للتعامل مع الصور وتفسيرها بناء علي الثقافة الشعبية، ومن اجل التعليم، بحيث تدخل هذه الصورة في الذاكرة السياسية والاجتماعية.. عن هذه الصورة وتاريخها، تفسيراتها، تمظهراتها، أثرها في الوعي الثقافي والسياسي والشعبي العالمي، قدم متحف فيكتوريا اند البرت في لندن معرضا جمع كل المكونات التي أسهمت في تأكيد هذه الصورة منذ ان التقطها البرتو كوردا في عام 1960، ومن ثم دخولها في عالم فوتو ـ غرافيك ، حيث برزت الصورة من خلال الخطوط والنقاط والظلال الحمراء والسوداء، او المرايا المتشظية، او من خلال حلم فنتازي عن أمريكا لاتينية واحدة كما في عمل باتريشا إسرائيل وألبرتو بيريز، صورة في مركزها صورة تشي بالبيريه، او صورة علي إطارات متدرجة كما في عمل كوبي ادخل في حيثياته حروفا عربية يوم المقاومة الباسل ، علي خلفية خريطة لأمريكا اللاتينية. في بعض الأحيان تختفي ملامح الوجه ويحتفظ الفنان بالإطار، ويحل محلها اسم تشي، و/أو أزهار.
وفي عمل آخر قام باتريك توماس بوضع كل علامات الشركات العملاقة في عمله استثمار أمريكا في كوبا وتظهر علي شكل صورة تشي، ، من كيلوغز، إلى ديل، سي ان ان.. وغيرها من العلامات التجارية والاستهلاكية الأمريكية. كما يحتفل المعرض بالصور الجدارية لتشي غيفارا، صورة مشوهة للغزو الأمريكي لجزيرة غرنادا عام 1983، وصورة جدارية مع عبارة القائد العام علي جدار في جزيرة ترينداد، او علي جدار حجري في بيت لحم، صورة عمال يمسحون صورة لتشي غيفارا في هافانا، او غرفة أصدقاء تظهر امرأة عارية أمام تلفزيون وأمامها ملصق لتشي غيفارا في كلورادو، أمريكا. وصورة لتشي مرسومة علي مرآة في حمام، وفي الصين جدار مليء بصور القادة الشيوعيين الصينيين والفيتناميين تتماهى مع صورة تشي. وهناك محور لاستخدام الصورة في الانتفاضات والثورات في المكسيك وفي ايرلندا الشمالية. وبعدها محور عن علاقة الصورة في ثقافة البوب العالمية، هنا نتعرف علي تمظهرات وأشكال كثيرة، استهلاكية، فنية، شبابية، فالصورة علي القمصان علي ملاءات الفراش، صور تستخدم تكنيك اندي وورهول فنان البوب الأمريكي المعروف، وتمظهرات تشي المتعددة في عالم الشخصيات، تشومسكي، شير، مادونا، ريغان، تشي الثائر الفلسطيني. ان الأشكال والتنويعات التي تظهر صورة تشي غيفارا ويحتفي بها معرض فيكتوريا اند البرت تؤرخ لتاريخ الصورة، صدمتها، أثرها علي الوعي في العالم وصورة الثائر في هذا الوعي، فقد تحدث البرتو غرانادوس في الفيلم الوثائقي صديقي العزيز عن السبب الذي يجعل من تشي غيفارا رمزا حيا علي الرغم من وفاته منذ أربعة عقود، فكانته إجابته انه رجل مبدأ وعاش ومات من اجل مبادئه وهذا هو سر الاحتفاء. صورة الثائر البطل هي رحلة في وعي العالم وثقافته، الهامشية او الرسمية، وتحكي الصورة قصة عالمنا، هذا منذ وفاته عام 1967. وتصبح الصورة والعرض علي علاقة علي الأقل في سياقنا العربي مع تداعيات ورموز الحرب الأخيرة، حيث برز السيد حسن نصر الله زعيم المقاومة اللبنانية كرمز تماهى معه الشارع العربي، وهناك تعليقات تحدثت عنه باعتباره ثائرا عالميا، وتشي غيفارا لبناني بملامح عالمية. في زمن الصور الكثيرة عن القتل علي شواطئ غزة وفي مدن وبلدات لبنان، وصور التعذيب في أبو غريب والحديثة، تبدو صورة الثائر ذات علاقة وتعبر عن هم المقاومة والعذاب.

القدس العربي
2006/08/21