تنفرد اللقطة الفوتوغرافية بقدرتها التعبيرية على تكوين وعي فائق وحاد- عند المصور والمتلقي- بالجسد الإنساني في نشوئه كظاهرة فريدة مجهزة في الفراغ /العالم أو الكون. إنها تبدع ذاكرة جديدة للمفهوم الحيوي لحركة الأعضاء و صيرورتها التي تتداخل مع مسار اللون في صخبه أو سكونه في التجريد، بل تتفوق عليه لأنها لا تقتصر علي ديناميكية التكوين ودلالاته المولدة من حياته داخل إطار اللوحة، ولكن اللقطة تفتت الراصد و المتلقي لأن المنظور هنا يقع بداخل الدال المرصود أو أنه أحد بدائله القابلة للانشطار والتحول خارج الإطار و لا يحقق هذا التأثير السحري الذي يجمع الرؤية والموضوع، الداخل و الخارج، الجسد والفراغ كبديل عنه إلا فن الفوتوغرافيا .
ومن أبرز من تتجسد لديهم السمات السابقة من فناني الفوتوغرافيا (رالف جيبسون) - ralph gibson- وقد حرصت أخبار الأدب على تقديم عدد من أعماله على صفحاتها خلافا لما قدمه المصور على موقعه على الإنترنت .
إن لقطات جيبسون تحمل ذكرى لقاء الجسد بعناصر الجمال في اللوحة الفنية، أو الصوت الموسيقي المجرد إلى الحد الذي ينحرف فيه الجسد عن مدلوله فيصير جزءا من اللوحة الكونية . تلك التي تتداخل مع الكتابة في لقطة تشكل اليد فيها الصحراء ككتاب بديل عن ذاكرة الفراغ في اللوحة القديمة . و في لقطة شبيهة نجد المنظور قد التحم باللوحة الكونية على هيئة نظارة دون بروز الرائي (أخبار الأدب - عدد 610). هل عزف الجسد/ الغائب لحنا هوائيا ؟ أم تم اختزاله في مسافة أسطورية وواقعية معا فصار المنظور كدال دون ذات منتجة ؟
لقد ظهر الواقع مبدعا في ذاته بينما المنظور يلعب دون راء محدد.
وفي لقطة أخرى تنبثق يد من فراغ هوائي خلف باب نصف مغلق، و كأن الفتحة تؤدي إلى حواجز هوائية مخبأة، أو ذات تتراوح بين الوجود و الغياب، كلما دنا الرائي منها لا يصل إليها أبدا . إننا هنا نطارد مدلولا مؤجلا للظهور فنستعيد ديريدا وأطيافه البديلة عن الأصل أو نعاين بعثرة المنظور والجسد في ذلك الفضاء الغامض لمعايشة الطاقة السحرية المتحررة.
إن اليد تخالط الفراغ المضاء، لتوحي باكتساب الجسد قدرة الضوء على الانفتاح في المجال المكاني و خارجه أيضا، فصعوبة القبض عليه من قبل اليد تؤكد دلالة الخروج من التكوين الذي هو مجرد ظلال و كتل من العتمة لا يمكنها احتواء هذه الطاقة.
و قد يجسد اختباء الذات البشرية خلف المسطحات التشكيلية إعلاء ضمنيا لحياة الجزء المرئي أو الأثر فكثيرا ما نرى في لقطات جيبسون جزءا من رداء امرأة تهبط الدرج أو يد رجل يدخن أمام منضدة عليها زجاجات أو شبحا لرجل خلف شمسية، مثل هذه الصور تجسد تقاطع الأثر مع الذات، فليس في اللقطة جزء هامشي يتبع أصلا، إذ ما أن تقوم الأنا بالفعل أو الممارسة حتى تتولد تكوينات حية جديدة ومتداخلة. وما يفعله الفنان هو تركيز بؤرة النظر على جزء بعينه في علاقاته العديدة بما حوله من حياة.
إن الفوتوغرافيا تفتت التكوين لتبدع مسارا آخر دائما. هذا المسار يعيد قراءة كل من الراصد و المتلقي على نحو وجودي ، وذلك عن طريق المماثلة بين الذات و تلك الحياة الفريدة للأشياء، ففي لقطة شهيرة ل (جيبسون) يظهر (كف) لرجل عجوز يمسك بعصا ملتوية أمام خلفية سوداء من الطوب. لقد بدت العصا مثل لون له مسار في لوحة تجريدية، حيث اللامضمون ضمن الواقع الوجودي نفسه كبديل عن الحضور المباشر للون و رموزه الحدسية.
وتمتد حركة (الاختباء مع الحضور) إلى الأشياء بحد ذاتها، فإذا نظرنا إلى مقدمة المركب في لقطة بعنوان (boat) نواجه تحدب الجزء و امتداده في الفراغ ككائن على وشك أن يولد من مجال أكبر .و في أخرى بعنوان (tree) يبدو الجزء الظاهر من جذع الشجرة كيد هبطت من أعلى لتعانق الأرض بعد انفصالها عن الكل.
وفي لقطة أخرى لجيبسون بعنوان (flower) ترصد الكاميرا لوحة مرسومة لزهرة حمراء، ضمن مجال مائي يحركها. لقد دخلت اللوحة الواقع لتحاورنا و توحي بأننا نعايش الفن خارج أطره الخاصة.