فتنة النظر

عفيف عثمان
(لبنان)

فتنة النظر ما يميز التجربة الايروسية عن غيرها، إنها تقدم النظر وتضعه في مرتبة أولى، وتستند تماماً إلى التبادل البصري، أي إلى التواصل من عين إلى عين. مشهود للنظر دوره في لعبة الغواية، فهو كما يقول ستندال "السلاح العظيم لذوات الغنج المحصّنات"، فيمكن قول كل شيء بنظرة ويمكن أيضاً "نفي" النظرة، لأن من الصعب تكرارها. وفي الحب الشرقي تبدأ الحكاية دائماً بنظرة تنفذ إلى كيان المحب فتصرعه، وهي تارة نظرة "وعد بوصال" وطوراً "نظرة تهديد". وعلى الإنسان أن يحترس في ضبط النظر، فإن "تحرك بؤبؤ عينك ضرّك"، على ما قال النفري في "المواقف".
يضع رولان بارت النظر في خانة الدلالة signifiance لا الإشارة، إذ تتطلب هذه الأخيرة التكرار ليتم الاعتراف بها. وهو يدرج الفنون عموماً في إطار الدلالة. فلا عجب اذاً أن تكون هناك قربى بين النظر والموسيقى، وان يكون الرسم قد أنتج بشغف قدراً كبيراً من النظرات الكئيبة والمتسلطة والمغتاظة والمتفكرة، في آن واحد. قد يكون النظر حيادياً، بل هو يفيض بالمعنى من دون أن يفقد صفة الانطباع في النفس. فالسر الخفي ولغز النظر والحيرة التي يحدثها تقع في هذه المنقطة من فيض المعنى.
اقتصاد النظر
العلم بحسب بارت يفسر النظر بطرائق ثلاث يمكن توليفها معاً: فقد يعبّر عن معلومة (النظر ينبىء)، وقد يعبر عن علاقة (النظر يتبادل)، وقد يعبّر عن امتلاك (بالنظر أصل، أضبط،... يُقبض عليّ متلبساً). اذاً، ثمة ثلاث وظائف للنظر: رؤية ولسان وتلقف.
يقدم بارت بعض الأمثلة: ففي مواجهة منزلنا قد تكون هناك نافذة، في شقة تبدو غير مأهولة، تفتح وتغلق ولا نرى أحداً. ومن هذه الواقعة الأخيرة، ولأننا نحن الذين ننظر، نستنتج اننا لسنا موضع احتمال ان نكون نحن وباستمرار تحت النظر. والدرس المستخلص اننا من فرط ما ننظر، ننسى اننا يمكن ان نكون موضوع النظر.
أوضحت العلوم العصبية النفسية كيفية ولادة النظر. فبعد ستة أسابيع على المولود الجديد، تصبح الرؤية قوية وقادرة على الانتقاء: لقد تشكل النظر. ألا يمكن القول ان "النفس الإنسانية" تولد في هذه الأسابيع الستة؟
كمحل للدلالة، يستثير النظر عدم قسمة بين الحواس (فيزيولوجية) ما يجعل أثرها مشتركاً، بحيث نستطيع ان ننسب شاعرياً إلى الواحد منها ما يحدث للآخر: الحواس يمكنها جميعاً "النظر"، وبالعكس. يمكن النظر ان يحس ويصغي ويتلمس. قال غوته: "تريد الأيدي ان ترى، وتريد العيون الملامسة".
نقول باحتقار: "نظره يهرب..." (يوارب)، كما لو ان من واجب النظر ان يكون مباشراً ومتسلطاً، في حين ان اقتصاد التحليل النفسي يقول غير ذلك: "في علاقتنا بالأشياء، كما تتشكل من خلال الرؤية وتترتب قي تمثلات، ثمة ما ينزلق ويمر وينتقل من طابق إلى آخر كي يتم حذفه. هذا ما يطلق عليه النظر".
تنبه التحليل إلى النظرة المباشرة، المتسلطة، التي لا تهرب بل تصيب. وأطلق عليها "العين السيئة" (الحسودة) التي من آثارها "وقف الحركة وقتل الحياة".
في ثقافتنا الشعبية نردّ على "عين الحسود" ونظره بعبارة "يخزي العين"، في محاولة لردعها عن الإصابة.
بحسب تجربة قديمة، حين يُعرض شريط سينمائي للمرة الأولى على السكان المحليين في الأدغال الأفريقية، فأنهم لا ينظرون مطلقاً إلى المشهد (الساحة الرئيسية لبلدتهم)، بل ينظرون إلى الدجاجة التي تجتاز تلك الساحة في زاوية الشاشة. ويمكن القول حينها: ان الدجاجة هي التي تنظر إليهم.
في شأن فن المصوّر الفوتوغرافي ريتشارد افيدون وشخصياته موضوع الصور، فالأثر الحاصل يقع في باب "الحقيقة": الشخص "حقيقي"، حقيقة غالباً ما تكون قاسية. لماذا هذه الحقيقة؟ الشخص في الواقع لا ينظر إلى أحد، بل ينظر إلى العدسة، أي إلى عين أخرى غامضة، عين الحقيقة (كما يوجد في مدينة البندقية الايطالية من اجل التبليغات المجهولة "أفواه الحقيقة").
النظرة التي يعرضها المصوّر بطريقة مفخّمة (في أزمان منصرمة كان يمكن ان يكون الرسام)، تعمل مثل عضو الحقيقة نفسه (لسان حالها): ففضاء عملها يقع أبعد من المظاهر. يستوجب ان ما هو مدرك (منظور) حقيقي أكثر مما تتفق رؤيته.
في العلاقة الغرامية، أرى الآخر بشدة ولا أرى غيره. أنقب فيه، أريد خرق الجسم الذي أرغبه، ومن جهة أخرى أراه وهو يراني: أقف مرهوب الجانب، مصعوقاً، متشكلاً بسلبية من نظرته الشديدة القوة... وأرى نفسي أعمى أمامه.
كم من النظرات هي أدوات لغائية واحدة: أنظر ما أبحث عنه... ولا أرى إلا ما أنظر اليه (مثل البائع الذي لا يرى في الشخص إلا زبوناً محتملاً).
في السينما، يحظّر على الممثل ان ينظر إلى عدسة الكاميرا، أي إلى المشاهد. وهذه سمة مميزة لها. فهذا الفن يشطر النظر اثنين: واحد منا ينظر إلى الآخر، وهو لا يفعل سوى ذلك: له الحق والواجب أن ينظر. الآخر لا ينظر مطلقاً، ينظر إلى كل شيء سواي. لكن، نظرة واحدة تأتي من الشاشة وتتجه اليّ تجعل الفيلم خاسراً. لكن، يمكن في مستوى آخر، غير منظور، مثل الدجاجة الأفريقية، ألا تكفّ الشاشة عن النظر اليّ (1).
نظر الحبيب
في دراستها عن الحب، خصصت جوليا كريستيفا فصلاً للروائي الفرنسي ستندال، وتبين لها ان حبّه المتخيل لا يبحث عن الاكتفاء، لكنه يتغذى من المعوقات التي تواجه النظر. فبحسب هذا الحرمان يمتص المحب حبيبته بوساطة النظر. ويبدو ان ستندال قرأ عند كانابيس هذه الأهمية الممنوحة للصورة كإشارة أمينة للانفعال. فالرؤية عند هذا الأخير هي الانطباع الحسي الأول الذي يحصل من خلاله التعاطف.
منذ الأزمان الغابرة يمنح المحبون النظر دور الرسول الأول في رعشة الحب. فالنظر في الحبيب عبادة وحلم يقظة لا تنجح في التعبير عنهما إلا لغة الموسيقى (الشعر هو الأقرب إليها).
ان امتصاص الشيء المحبوب هو في معنى من المعاني إفناء له وإخضاع تام لنظر المحب.
في الحب لا يوجد جمال يمكن النظر اليه. هناك الرؤية: نظرة الناظر. "في اللحظة التي تبدأون فيها الاهتمام بامرأة، لا ترونها كما هي حقيقة، ولكن كما يلائمكم ان تكون... في عين هذا الشاب الذي بدأ يحب" (ستندال، في الحب، ص336).
ثمة سيطرة تامة للنظر في علاقة الحب والغيرة: "لا أخاف من شيء أبدا، الا من رؤية المرأة التي أحب، تنظر إلى منافس في حميمية" (المصدر نفسه).
يبدو ستندال في "نظر" كريستيفا محبا تعيسا، أي ذواقا، يتأمل سعيدا الفنون الجميلة كما النساء (2).
النظر في المدينة
وجد دافيد لوبروتون في بحثه عن "التنفس الحسي للحياة اليومية" ان تبادل النظرات هو الأكثر دلالة، وذلك بمقدار ما تعد النظرة الحاسة المميزة للحداثة. فهي تشارك انفعاليا بالتبادل من خلال الاستدلال إلى معاني الإشارات الصريحة فحسب، إلى هذا الحد أو ذاك، والتي يستخلصها الشخص المخاطب. يقول جورج سيمل: "بخفض عينيه انتزع من ذاك الذي ينظر اليّ شيئا قليلا من أماكن اكتشافي".
فالإدراك من خلال النظرة يجعل وجه الآخر العنصر الأساسي في هويته. فاللقاء بين الأشخاص يبدو دائما بتقويم للوجه. إذ ان الفترة الأولى هي الفترة التي تلتقي فيها النظرات، ويجري تقويم متبادل لنوعية الحضور. النظرة هنا هي اتصال، بحسب لوبروتون، لأنها تشبه اللمسة. أنها نوع من اللمس البصري المتبادل.
ينقل لوبروتون عن سيمل، في "بحث في علم اجتماع الحواس"، تأثير الإطار الاجتماعي على التوجهات الحسية. فعلى سبيل المثل، تشجع البنى المدينية على استعمال ثابت للنظر، الذي يلتمس المشهد حوله (واجهات المحال مثلا). إذ، تحث الحياة الاجتماعية في المدينة على نحو زائد للنظر وعلى تعليق الحواس الأخرى أو الاستعمال الوقتي لها.
فمن جوهر المدينة ان تضع المارة في وضع ينظرون فيه بعضهم إلى البعض. بيد ان الحياة الغربية الحديثة اليوم، بحسب لوبروتون، تدفع هذا المنطق بعيدا بسبب ضرورات هندسية تحد من إمكان الرؤية. كما ان انتشار آلات التصوير في المحلات والمصارف، تبيّن وجود انحراف في توجيه النظر نحو وظيفة مراقبة. (3)
غض البصر
نبّه القرآن الكريم إلى خطر النظر حين ربطه بالفرج (أي الجنس) وذلك في آيتين: "قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم وذلك ازكى ان الله خبير بما يصنعون" (30 النور:24)، "وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن..." (31/ النور 24).
لذا أبيح النظر في ما هو حلال ونُهي عما هو حرام. وقد روي عن الرسول قوله: "أول نظرة لك، والثانية عليك لا لك، والثالثة فيها الهلاك". وأطلق على النظرة الأولى "نظرة الفجأة" التي تحصل من دون قصد.
الأدب العربي القديم حافل بالشواهد على قدرة النظر وخطره. يقول العباس بن الأحنف:
أتأذنون لصب في زيارتكم
فعندكم شهوات السمع والبصر
لا يضمر السوء ان طال الجلوس به
عف الضمير ولكن فاسق النظر
ويروي أبو حيان التوحيدي في "الإمتاع والموءانسة" ان عبد الملك بن مروان كان له خصي وضيء، أمر ان يحجب عن نسائه. وقال: هو رجل وإن قطع منه ما قطع، وربما اجتزأت امرأة بمثلها وللعين حظها" (ج2، ص585).
أصل الفتنة
في رأي ابن قيم الجوزية ان الله لم يأمر بغض النظر مطلقا بل أمر بالغض منه بحسب المصلحة والمفسدة. وقد جعل سبحانه العين مرآة القلب. فإذا غض العبد بصره غض القلب شهوته. وينقل عن الصحيح: "ان الله عز وجل كتب على آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فالعين تزني وزناها النظر، واللسان يزني وزناه النطق، والرجل تزني وزناها الخطى، واليد تزنَي وزناها البطش، والقلب يهوى ويتمنى والفرج يصدق ذلك أو يكذبه".وسئل النبي محمد عن نظر الفجأة (النظرة الأولى التي تقع بغير قصد الناظر) وقد علم انه يؤثر في القلب، فأمر بمداواته بصرف البصر لا بتكرار النظر.
وقال ابن عباس: "الشيطان من الرجل في ثلاثة: في نظره وقلبه وذكره (عضوه)، وهو من المرأة في ثلاثة: في بصرها وقلبها وعجزها (مؤخرتها)". ينتهي ابن قيم بعد استعراض مساوئ إدامة النظر إلى ان فتنة النظر هي أصل كل فتنة:
كل الحوادث مبدأها من النظر
ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها
فتك السهام بلا قوس ولا وتر (4)
جلو البصر
يروي ابن الجوزي في "تلبيس إبليس" عن قوم من الصوفية يستبيحون النظر إلى المستحسن، استنادا إلى أقوال ينسبونها إلى الرسول محمد: "اطلبوا الخير عند حسان الوجوه"، و"ثلاثة تجلو البصر: النظر إلى الخضرة، والنظر إلى الماء، والنظر إلى الوجه الحسن". كما يتحدث ابن الجوزي عن طائفة من الصوفية "تلبس إبليس عليهم"، قالوا أنهم يرون الله في الدنيا، وأجازوا ان يكون في صفة الآدمي وصالاً في الصورة الحسنة. ما دفعهم إلى مصاحبة الغلمان المرد وتبرير ذلك بالقول أنهم لا ينظرون إليهم "نظر شهوة" وإنما "نظر اعتبار". ويحكى ان جماعة من الصوفية دخلوا على احمد الغزالي وعنده أمرد وهو خال به وبينهما ورد، وهو ينظر إلى الورد تارة والى الأمرد طورا، فلما جلسوا قال بعضهم لعلنا كدرنا. فقال أي والله! فتصايح الجماعة على سبيل التواجد (5).
نظر الفقيه
وقفت الباحثة الفرنسية صابرينا ميرفن يوما في حضرة العالم الشيعي "الفقيه" بعدما حوطت جسدها وتوجته بالحجاب، فلم تعد هي نفسها ولم تتحول أخرى تماما على زعمها. دخلت إلى قاعة الاستقبال، فسلم الرجل على الناس ولم يرمقها "بنظرة" في حين استغرقت هي في تأمله. وفي الجلسة التي خصصها لأسئلتها، كان يتوجه إليها ويخاطبها من دون ان "ينظر" فأنظاره كما تروي "متجهة نحوي لا إلي" (6).
وكانت الحيرة في تحديد النقطة التي يحط النظر عندها.
في جلسة العلم هذه تحولت هي الباحثة إلى إذن تصغي رغم الغطاء وتحول الفقيه عيناً تنظر. وتذكرت حينها نص ابن الجوزي حول احمد الغزالي وتأمله الورد. فقد تسللت خلال اللقاء الوردة بينهما، وفي الختام تقول "شعرت بالامتنان تجاه هذا الشيخ الذي لم يبخل عليّ بعلمه الذي أيقظ أذني واحيي عينيه... فقد اختفت الوردة".

النهار الثقافي- الأحد 9 تشرين الأول 2005