علي أحمد الديري
Dairy71@batelco.com.bh

  تنوعت الصور الحسية، فتنوعت اللطائف، فتنوعت المآخذ، فتنوعت المعارف، فتنوعت التجليات. فوقع التحول والتبدل في الصور في عيون البشر" ابن عربي

الصورة علامة كثرةتحاول هذه المقالة أن تقارب مفهوم الصورة في خطاب ابن عربي، بوصفها علامة كثرة ومغايرة، وهي بهذا الوصف معرفة كثيرة بالإنسان والوجود والله، والكثرة في خطاب ابن عربي تلوين يتنوع فيه أشكال ظهور الواحد. وقد استخدم ابن عربي مجازات المحل والمنظور والقابل والظل والنور والرؤية والعين والبرزخ، ليعبر عن أشكال ظهور الواحد بالعين، الكثير بالصور.
الصورة غايتها المعرفة، فلا معرفة إلا بصورة (كثيرة) أي صورة لا تُسْتَنْفَدُ تجلياتُها، وتلك هي صورة الكثير الواحد "الكثير بالصور، الواحد بالعين" (1) . غاية الصورة معرفة الذات الإلهية ومعرفة الذات الإنسانية ومعرفة الوجود. معرفة الكثرة فيها ، أي الكثرة في الألوهية والآدمية والعالم. ومعرفة الكثرة لا تكون بغير تلوين الواحد، والتلوين هو ضرب الواحد في الكثرة، والتلوين الذي يجعل من الواحد كثرة تُعرف به، ويُعرف بها، تلوين يجعل من الصورة علامة (كثيرة).فكيف تكون الصورة علامة (كثيرة) في خطاب ابن عربي؟
الصورة في خطاب ابن عربي علامة (كثيرة) ، لأنها محل لغيرها، فهي مكان لتجلي الاختلاف والتنوع والتعدد والكثرة، هي علامة لأنها تحيل إلى غيرها، بانفكاكها من مدلولها الواحد الظاهر إلى كثرة باطنة. وهي علامة لأنها تُظهر الكثرة، فهي صورةٌ لأنها صورةٌ لشيء آخر، شيء مضروب في الكثرة، الصورة علامة كثيرة، لأنها تلوينٌ للشيء، ولأنّها تجعل من الشيء الذي يبدو قائما في ذاته، علاقةً ونسبةً وإضافةً، هكذا حين يكون الشيءُ صورةً، فإنه يكونُ علامةً وجودُها ليس عارياً، بل مضافا ومنسوبا. الصورة علامة لأنها "تظهر في عز الممثالة شيئاً من المخالفة".هي علامةٌ لأنها ذاتُها وشيءٌ آخر، لأنها امتزاج النور والظلمة والكثافة واللطافة.ولأنها تقولُ بغيرها ولغيرها وعلى غيرها.الصورة علامةٌ، لأنها تَقلُّبٌ من غير تقييد.ولأنها قابلةٌ تتولدُ عليها وعنها الوجودات.وهي تحمل الوجودَ في كثرته في باطنها، فتحفظ كثرته من النسيان، لذلك فهي ذاكرة الوجود في أشكال تجليه الكثيرة. هي علامة لأنها ليست تكراراً ولا ترادفاً "لا يصح الترادف في العالم لأن الترادف تكرار وليس في الوجود تكرار جملة واحدة، للاتساع الإلهي" (2).
الصورة علامة الكل، سواء كان جسداً منزهاً أم كلمةً مجسدةً، فالصورة تنزيهٌ وتشبيهٌ، والجسدُ يستحيل كلمةً، والكلمةُ تستحيلُ جسداً "فارتبط الكل بالكل، فلم يتمكن أن يخلو تنزيه عن تشبيه، ولا تشبيه عن تنزيه.. ولذلك قلنا بالتشبيه في التنزيه وبالتنزيه في التشبيه" (3).
بهذا الوصف العلامي الكثير، تكون الصورةُ علاقةً يتحدد معناها بنسبها وإضافاتها، وإذا ما أردنا أن نعرف، ما هي الصورة؟ فعلينا أن نربطها بشيء آخر، هكذا يمكننا أن نقول إن الصورة هي:
رؤية الشيء في أمر آخر، والرؤية الثانية، والمحل المنظور فيه، ومحل ظهور معنى الذات، ومحل الكثرة، ومحل الاختلاف،ومرآة الوجود، والمحل الذي ترى فيه الألوهية نفسها، والبرزخ، والخيال الذي يريك الشيء في صورة أخرى، فإذا تأملته وأولته أدركت أنه هوهو، وظل الشيء، وما يقابلنا من نور الممكنات، وتلوين، وضرب الواحد في الكثرة، وتجلٍ، وكون جامع، ومحل إظهار السر، والقابل الممكن، وعين آدم، وجلاء مرآة العالم، هي كل تلك الكثرة. ولنرى ثراء هذه الكثرة، سنخص بعضاً منها ببيان موجز.

1. رؤية الشيء في أمر آخر.

"فإن رؤية الشيء نفسه ما هي مثل رؤيته نفسه في أمر آخر يكون له كالمرآة، فإنه يظهر له نفسه في صورة يعطيها المحل المنظور فيه ما لم يكن يظهر له من غير وجود هذا المحل ولا تجليه له" (4).

الآخر هو شرط الصورة، فبغير هذا الآخر لا يمكن أن تكون هناك رؤية، لأنه ليس هناك صورة، فالصورة هي ما يرى في محل آخر، تتعذر الرؤية حين يغيب هذا المحل، فتتعذر المعرفة، فيكون الجهل.الشيء علاقة وإضافة ونسبة، وهو علاقة لأنه اتصال بأمر آخر، وهو إضافة لأنه زيادة بأمر آخر، وهو نسبة لأنه معرفة بأمر آخر.الشيء صورة حين يكون علاقة وإضافة ونسبة، أي اتصال وزيادة ومعرفة.لذلك فالصورة التي لا تصلنا ولا تكثرنا ولا تعرفنا لا يعول عليها، لأنها ليست رؤية، فهي لا ترينا ذواتنا متجلية في أمر آخر.من هنا فالصورة لا بد أن تكون أمراً آخر.

2. الرؤية الثانية.

الرؤية الأولى ليست صورة، لكي تكون الرؤية صورة لابدَّ أن تكون رؤية ثانية، والرؤية الثانية/الصورة، لا تكون إلا بامتدادها في محل آخر, والعلاقة بين الأولى والثانية هي علاقة الافتقار والغنى، فالأولى تفتقر إلى الثانية فبغيرها لا تكون صورة، أي أن وجودها مفتقر إلى وجود الثانية، فهي شرط غناها، فبها تكون ظلاً ومعرفة وعلامة وحقيقة غنية.إلا أنها بهذا الافتقار غنية، لأنه افتقار يصلها ويكثرها ويقابلها بحقائق الوجود.الرؤية الثانية ضرب تكثير وتلوين وتمكين للرؤية الأولى.

3. المحل المنظور فيه

الصورة تحتاج محلا تُنْظَرُ فيه، محلا يُظهرها ويُجليها ويُعطيها الوجود، من غير هذا المحل لا تكون الصورة، تختلف الصورة باختلاف هذا المحل، ويختلف ظلها باختلافه، ويختلف منظور الصورة باختلاف المحل المنظور فيه.فيتسع أو يضيق، وينبسط أو ينقبض، ويشرق أو يظلم، وينكشف أو يحتجب بحسب المحل المنظور فيه.المحل هو الممكن الذي يُعطي الصورة شكل وجودها.ويعرفها بذاتها.
الصورة هي رؤية الشيء في محلّ آخر، رؤية الشيء في ذاته ليست صورة، لابدَّ أن يُرى هذا الشيء في محل آخر.فإن الشيء لا يُرى إلا بمنظور، ومنظوره هو المحل الذي يكون فيه. من هنا تختلف الأشياء باختلاف محلاتها، وتختلف أحوالها فتختلف صورها " إنّ الأرواح روح واحدة، وإنما اختلفت بالمحال"(5) كذلك "الأنوار نور واحد" (6) إلا أن " النور الذي يخص هذا المنزل ليس هو النور الذي يخص المنزل الآخر ولا المنازل الأخرى" (7).
الأشياء واحدة بغير محل، وكثيرة بمحلاتها.الأشياء دون لون بغير محل، ومتلونة بمحلاتها.الأشياء عدم بغير محل ووجود بمحلاتها.الأشياء لا ترى إلا حين تكون صورة، والصورة لا تكون من غير محل.

4. محل وجود الذات.

الصورة بغير ذات تحلّ فيها "شبح مُسوَّى لا روح فيه" (8)، تكون للصورة ذات، حين تتجلى الروح فيها، والذات لا تتجلى في الصورة بكلّها الكامل ولا بجوهرها المفارق، بل بظلها وصفاتها ونقصها، "من كمال الوجود وجود النقص فيه" (9) والصورة وجود،عالم، وجود مختصر للعالم، ووجود ناقص من العالم، الصورة عالم غير كامل، " ما ظهر في العالم نقص إلا في هذا الإنسان، ذلك لأنه مجموع حقائق العالم وهو المختصر الوجيز والعالم هو المطول البسيط" (10)
كما أن الإنسان ( صورة الله) يكون كاملاً في صورته المثالية، حين تجتمع فيه أسماء الحق وصفاته وحقائق الكون ورقائقه، حين يكون مظهراً كاملاً للذات الإلهية، حين يكون عين جلاء مرآة الوجود وروحها، حين يكون الكثرة التي تضرب في الواحد، فتلونه وتعدد وجوهه وصوره، كذلك الصورة ( صورة الإنسان التي هي نسخة من وجودنا المعاش) تكون كاملة حين يجتمع فيها كل هذا، حين تكون مظهرة كاملة للذات الإنسانية بتلاوينها وكثرتها وتعدد أسمائها واختلاف حالاتها وأوصافها ومعانيها وتقلباتها، حين تكون عين جلاء مرآة الإنسان وروحه.
الصورة تكون كاملة بقدر ما تكون محلاً لهذا النقص، لهذه الذات الناقصة، لحقيقة من حقائقها.والصورة تكون ناقصة، بقدر ما تكون محلاً لذات كاملة "بالإنسان كمل العالم، وما كمل الإنسان بالعالم"(11) الصورة الكاملة محلّ للإنسان الناقص، يحتاج الإنسان للصورة لأنه يحتاج إلى محل يرى فيه حقيقته الناقصة، حين تكون الصورة كذلك تكون معرفة حقيقية بالذات، تكون روحاً لا شبحاً مُسوَّى، تكون محلاً للرؤية، وتلك هي غاية الصورة.
الذين يخافون من الصورة الكاملة أو يعادونها، يخافون من المعرفة الحقيقة، يخافون نقصهم، يخافون من المرآة، يخافون من المرأة، يخافون من الجسد، يخافون من التجسّد، يخافون من الممكن، يخافون أن يروا ذواتهم في المرآة، يخافون المشاهدة، يخافون أن يخرجوا من ذواتهم، يخافون أن يرتبطوا بالآخر، فيعادون العالم، لأنهم لا يرونه ولا يشاهدونه ولا يخرجون له ولا يتصلون به.

5. عين آدم.

"فاقتضى الأمر جلاء مرآة العالم، فكان آدم عينَ جلاء تلك المرآة وروح تلك الصورة" (12).إنّما الصورة عين، لذلك هي رؤية، وهي رؤية ثانية، وهي رؤية الشيء في محل آخر، وهي منظور، وهي محل منظور فيه، وهي عين آدم.
ولما كانت الصورة عين، صار الإنسان كلّه عين.وصار لكلّ حال فيه عين "ولكلّ حال عين" (13) .وكلما تكثَّرت عيونه كثرت أحواله وصوره، وصار بعيونه كاملاً "الكامل من الرجال يكنى أبا العيون" (14).
عين آدم هي صورته "التي هي صورة العالم المعبر عنها في اصطلاح القوم بالإنسان الكبير" (15) الصورة إذن بقدر ما تحمل من عيون أي من أحوال تكون كثيرة، وتكون متلونة بهذه الأحوال، فتكون كاملة.الصورة حين تكون عين آدم، تكون العالم الصغير، ومختصر العالم، ومجمع أجزائه المتفرقة، وروحه وجلاءه.
آدم بكلِّه عين، ولتكون الصورة عين آدم، لابدَّ أن تكون كلَّه، بجسده وروحه وظلمته ونوره وتنزيهه وتشبيهه ونقصه وكماله. فإنها بهذا الكلّ تجلو العالم ووجوده المُسوَّى، وتظهر سرّه، إذ في عين آدم سر العالم "... أن يرى عينه، في كون جامع يحصر الأمر كلّه، لكونه متصفا بالوجود، ويظهر به سرَّه إليه" (16).
" كما لم تكن صورة جسم آدم ، جسم كل شخص من ذريته" (17)، فإنه لم تكن عين آدم عين كل شخص من ذريته، لذلك "تنوعت الصور الحسية، فتنوعت اللطائف، فتنوعت المآخذ، فتنوعت المعارف، فتنوعت التجليات. فوقع التحول والتبدل في الصور في عيون البشر" (18).

6. ظل الشيء

" فما يعلم من العالم إلا قدر ما يعلم من الظلال" (19) أي أنّنا ندرك من الصورة قدر ما ندرك من ظلها، ويمتد ظلّ الصورة بحسب ما يمتد فيها من حقائق العالم، أي بقدر ما تكون علامة على كثرة العالم، أو بقدر ما تجمع العالم فيها، فتكون الصورة الجامعة التي هي ظل للإنسان الكامل بالتلوين والتمكين والتكثير. "فمحلّ ظهور هذا الظل الإلهي المسمى بالعالم إنما هو أعيان الممكنات: عليها امتد هذا الظل، فتدرك من هذا الظل بحسب ما امتد عليه من وجود هذه الذات" (20) ليس كالصورة محل لظلال العالم، ومحل للعلم بالعالم ومعرفته، لذلك من يعادي صورة يعادي ظلها ويعادي عالمها ويعادي ما يتجلى فيها من حقائق العالم ولطائف الإنسان التي تقابل هذه الحقائق.
إدراك الصورة هو تمثّلُ غايتها، وغايتها هي المعرفة، معرفة الذات عبر أمر آخر، كما أنّه لا معرفة بغير صورة، فإنّه لا معرفة بغير ظل، فبقدر ما يمتد الظل، تكون الصورة، فتصير علامة على غيرها، هكذا تتعرف الذات على نفسها عبر الغير. كما يتعرّف النّور على نفسه عبر الظل "النور يُدرك ويُدرك به، والظلمة تُدرك ولا يُدرك بها " (21)
النور يُدرك بظله، وتُدرك به الأشياء فتصير معرفة.الصورة إدراك بما تحمله من نور ممتزج امتزاج الروح والجسد والتنزيه والتجسيد والظل والنور.النور الخالص لا يدرك، لذلك يحتاج إلى ما يمتزج به، ويختلف معه، يحتاج إلى محلّ آخر، محلّ يكون منظوراً فيه. يحتاج إلى قابل ممكن أن يكون صورة. والقابل ليس غير ممكن من ممكنات الوجود تخترقه لطافة نور، فيكون الظل وتكون الصورة، ويكون الإدراك وتكون المعرفة." ..هذا الفن من الإدراك لا يكون إلا عن كشف إلهي منه يعرف ما أصل صور العالم القابلة لأرواحه" (22).
ويشير أبو العلا عفيفي إلى أن"القابل هو الصورة، وقوابل الموجودات صورها المعقولة التي ليست لها وجود عيني وإن كان لها وجود غيبي، فهي بهذا المعنى وجودات ممكنة أو وجودات بالقوة.." (23)
بالظل تعمر الصورة بالمعنى، كما تعمر الأماكن حسبما يقول ابن عربي" بالظلالات عمرت الأماكن " (24) بالظلالات تعمر الصور، فتكون سكناً لرؤيتنا الثانية ومحلاً لذواتنا، فلا سكن يعمر بغير ظلالات تريحه، فـ"الظل راحة الوجود" (25) .
الظل شخص الصورة، إذ هو قوامها الذي به تكون، ومستورها الذي يحمل وحي معانيها، ولونها الذي تُعرف به. وهذا ما يوجزه تعريف الظل في المعجم العربي " الظل من كل شيءشخصه وكِنُّه. ومن النهار لونه إذا غلبته الشمس ". لذلك فالصورة بما هي ظل أو نور ممتزج، هي ما يقابلنا من نور الشخص(الممكنات).
الظلّ نسخة من النور، لذلك تختلف الصور باختلاف نورها، واختلاف ظلها،"إنْ تعددت الأنوار تعددت صور الظلال، فكثرت الأغيار فلكلّ نور ظل من الجسم الواحد" (26) كما تختلف باختلاف محلها وقابلها ومنظورها ورؤيتها الثانية، وعين آدمها، فالصورة تختلف باختلاف مقوماتها التي بها تكون الصورة صورة.

7. البرزخ

الصورة برزخ، فهي عالم وسيط من الخيال الذي يريك الشيء في صورة أخرى، فإذا تأملته وأولته أدركت أنه هوهو. "وللخيال الإيجاد على الإطلاق ما عدا نفسه" (27) الصورة لا يمكنها أن توجد إلا في هذا العالم البرزخي الذي يصل الأشياء ببعضها، فيحيلها علاقات وإضافات ونسب، فيُكوِّن منها صوراً كثيرة، يصل بها السماء بالأرض، والله بالإنسان، والغيب بالشهادة، والظاهر بالباطن، والجسد بالروح، والآخرة بالدنيا، والواحد بالكثير، والتنزيه بالتجسيد، والذكورة بالأنوثة.
الصورة برزخ حين تصل هذه العوالم، فتجعلها ترى بعضها في بعضٍ، أي تجعل بعضها مرايا مَجلوَّةً لبعض.الصورة من غير برزخ عمى وبالبرزخ عماء (28).
في هذا البرزخ يمكننا التعبير" ومعنى التعبير الجواز من صورة ما تراه إلى أمر آخر... إن كل ما في الكون يجب أن يعبر" (29) الصورة حين تكون برزخاً تعبر بك الكون، وأنت حين لا تعبر تكون قد فقدتَ صورتك.

. سوق الجنة

"وصور سوق الجنة، وهي هذه الصور التي تعمر الأرض" (30).صور سوق الجنة، صور مدغومة بعلامة الكثرة، فلا يعمر الأرض غير الكثرة، ولكل سوق علامة كثرة مختلفة، وصور سوق جنة حسين المحروس علامة كثرتها يكمن في حركة المللمتر الواحد، فبقدر ما يلونُ هذا المللمترُ بضرب واحده في الكثرة، يعمرُ سوقه وبقدر ما يتحرّك هذا المللمتر الواحد، تتحرك السوق، فتعمرُ الأرض بظلالات الصورة.
في هذا المللمتر الواحد يكمن سرّ الغيرية، وفي لحظة اكتشاف هذا السرّ يعي الإنسان ذاته المختلفة، ويعي اختلاف الأشياء وكثرتها، من يعرف يلعب بحركة المللمتر في المرآة وهي بين يديه، يعرف يلعب بالقلم والريشة والعدسة، فيرينا العالم كثيراً.
إن العالم وممكناته وأناسه وكثرته، عند ابن عربي، صورة لتجلي النفس الإلهي، والوجود بمراتبه صادر عن هذا التجلي، والحروف صورة من تجلي هذا النفس الكثير، والإنسان يتقوّم بقدرته على تنفس هذه الصورة، أي إنّ إنسانيته تتميز بنطقه لصورة الحروف التي هي علامة كثرة، فمتى كان الإنسانُ متصرفاً بعلامة الكثرة، صار قادراً على التصرّف بصور العالم بتنفسه، وبهذا التصرف يعمر العالم.

التنفس عند ابن عربي، هو أن تتجلى مرآتك بحرف يقلب صورة العالم. والمللمتر الذي تعشقه عدسة حسين المحروس، يماثل تنفس حرف ابن عربي، كلاهما يلعبان على هذا الحرف، وكلاهما يتجليان بهذا الحرف الكثير. التصرف في المللمتر كتابة للعالم بالصور.
النَّفَسُ(جمعه أنفاس): السعة والفسحة في الأمر والجرعة والري والطويل من الكلام والفرج. صور سوق الجنة تنفُّسُ العالم بكل هذه المعاني التي تجعل الحياة كثيرة، كثيرة في سعتها وفسحتها وأمرها وجرعتها وريها وكلامها وفرجها. تعمر أسواق الأرض بهذه الحياة الكثيرة. وتصير صورها عين آدم.
بهذا تصير سوق الجنة، سوق البرزخ، والعالم الوسيط، ورؤية الشيء في أمر آخر، والرؤية الثانية، والمحل المنظور فيه، ومحل ظهور معنى الذات، ومحل الكثرة، ومحل الاختلاف، ومرآة الوجود، والمحل الذي ترى فيه الألوهية نفسها، والخيال الذي يريك الشي في صورة أخرى، فإذا تأملته وأولته أدركت أنه هوهو، وظلّ الشيء، وما يقابلنا من نور الممكنات، وتلوين، وضرب الواحد في الكثرة، وتجلٍ، وكون جامع، ومحل إظهار السر، والقابل الممكن، وعين آدم، وجلاء مرآة العالم، هي كل تلك الكثرة.