مرثية لحبيبتي الأولى والأخيرة

صالح العزاز

جسد نحيل مسجى أمام المصلين في غرفة الانتظار
لحظات من النشيج كالطير فوق رؤوس المصلين، بين لحظة وأخرى تختلط بالدعاء,.
جسد منقول على الأكتاف المحتدمة في الطريق الى محطته الأخيرة,.
أجواء الحزن الصارخ في العيون,.
مختلف الأعمار وتنوع في الهيئات والسحنات,.
يودعون امرأة إلى لحدها ينصرفون ولا ينصرفون,.

***

دخلت عليها المحراب، في غرفة انتظار الموتى دنوت منها، وضعت وجهي فوق جبينها,, توحدت معها بكل حواسي,.
بكيت بصمت, أسمع صوتها يأتي من ذاكرة الأيام السحيقة, أسمعها بكريات دمي, بللت عباءتها السوداء بدموع نازفة كأنها الشظايا، محملة بتعب كل القارات البعيدة والمحيطات المضطربة,.
يتسلل طعم حلوى الملبس الأبيض إلى حلقي وحبات الحمص المجففة والفول السوداني,, تستيقظ كل تلك اللحظات المنهارة امام تحولات الزمن العجيب ويهتف الدمع على جبينها مثل مطر صحراوي خارج الموسم,.
قفزت في ذاكرتي صورة أصابعها النحيلة وخواتمها المضيئة وكفيها اللتين لا تمتدان إلا كباقات الورد محملة بالبياض والسكر والزعفران,.
جدتي لأبي,, كانت من أجمل مفاجآت الكون لطوابير من أحفادها، وهم يعودون من المدرسة، يتوقفون عند مسجدها الصغير، يتحسسون أصابعها وكلماتها الدافئة، يتزودون بالمن والسلوى, أهرب إليها من هجير تلك الأيام اليابسة عند غيرها والممطرة معها,.

***

امرأة تخرج من حدود سجادتها لتعود إليها فقط,,, كانت جدائلها مفتولة من التسامح وخواتمها من نور,.
رحلت حاملة معها سبع سنوات وقرنا من الزمان,, سنوات مكتنزة بحضورها الإنساني الخلاق,, كتبت إليها أول رسالة حب إلى امرأة, وهذه آخر رسالة حزن إلى امرأة,.
لم يهدها أحد باقة ورد، لم يتذكرها مخلوق في يوم ميلادها، لم تصلها بطاقة تقدير بالبريد من أحد,.
لكنها كانت قافلة حب وشجرة ورد وارفة الظل,, شجرة للحلوى وحقولا من الكلام الجميل، يتدفق منها ما يشبه ماء الينابيع العذبة.

***

جدتي موضي الشايع أول امرأة وآخر امرأة أعترف أنني أحببتها مع أمي.

***

جئت من لندن لكي أراها وهي لا تزال نائمة فوق السرير، جئت لكي أسمع أغنيتي الأخيرة، بدت شاحبة وصوتها بلا ذاكرة، خرجت دون أن أسمع عبارتها المشهورة:

يالله تطوي سفرهم

وتبعد خطرهم

عرفت أنه اللقاء ما قبل الأخير,, قررت ألا أعود إلى لندن قبل أن أودعها,.

***

كانت الصدقات تجري على يديها مجرى الماء في الأرض الطيبة، فتثمر تلك الأشياء فراشات وغابات رياحين وياسمين وابتسامات,.
ماتت المرأة التي كانت كغيرها من الخيّرات تملك البورصة القادرة على تحويل المعادن والعملات إلى حسنات تمشي على الأرض وتطرق الأبواب وتنشر الدفء في القلوب المضطربة.
ماتت حبيبتي بهدوء وهي قريرة العين، مشى إلى مقامها الأخير زرافات من الناس
الطيبين، شيوخ وشباب واطفال,.
بكتها النساء في قرى متباعدة,.
خسرنا منذ تلك اللحظة دعاءها الجميل,.
كان وجودها بالنسبة لي قناع أكسجين، مظلة تنقذني من تلك الألغام والكمائن التي كنت أقع فيها من حيث لا أدري,, بطهرها وبياضها كنت أخرج بأقل الخسائر,.
سقط السياج,.
ماتت جدتي,, يتلبّسني خوف من حياة بدون دعائها,.
تركتنا ندخل القرن الجديد بدون قنديل عصمتها,.
ندخل القرن الجديد بدون أم سليمان ,.
يا له من قرن مخيف وموحش,.

***

سيكون أكثرنا حظاً أولادها وأحفادها من يلحق بها أولاً,.
كانت بوصلة للخير وصندوقاً أبيض لكل حركاتي وسكناتي,.

***

خرجنا من المقبرة مزهوين بذلك الغبار الذي لحق بأهدابنا وجباهنا، ونحن نواري جسدها النحيل عن الأنظار لا عن القلوب,.
ماتت شجرة النبل وفاكهة الشرف الرفيع، وسلطان البساطة والبراءة,.
كيف تعيش امرأة قرنا من الزمان دون أن تخرج منها كلمة نابية,,؟!
الموت حق,.
لكنه صعب أحياناً,.

***

في تلك اللحظة فقط عرفت معنى ذلك الحزن الذي يجتاح كبرياء الرجال ونجاحاتهم,.
عرفت كيف يتلبّس ذلك الحزن السرمدي رجلاً مثل إبراهيم الطوق ,, لأنه فقد والدته,.

على الرغم من كل نجاحاته المميزة وحضوره الإنساني الرفيع,.

***

ثمة أمهات مثل بوصلة لقائد سفينة في محيط!!

***

كانت النخلة الأخيرة في واحة يحاصرها الجفاف!!
والقلعة الأخيرة في حصن تطمسه الرمال الزاحفة,.
ماتت جدتي,, نقص الكون نخلة باسقة.

جريدة الجزيرة
Thursday 2nd December, 1999 G No. 9926