من هيوستن.. إلى عقد الياسمين

صالح العزاز

صالح العزاز -  المستحيل الأزرقلبعض الأعمال الأدبية ملامح بشرية. هذا كتاب نحبه ونحب رفقته. وآخر قد لا نطيق رؤياه أو الحديث معه.
أما هذه الرواية فهي ليست مجرد كتاب. ليست مجرد رواية..!! كنت قد انتهيت من القراءة الأولى لهذه الرواية ونحن نستعد مع الأولاد لمغادرة الرياض في رحلة الإجازة الصيفية، ولم يكن يخطر في بالي قط ان الأولاد سوف يعودون إلى الرياض بدوني وأبقى أنا أسيراً لتعليمات الأطباء في رحلة من نوع آخر..! لكنها بإذن الله تعالى رحلة التطهير من القشور لكي يعود الإنسان أنظف وأجمل.
تراكمت الأدوية التي يزعم الأطباء أنها سوف تساعدني على مقاومة الألم. والى جانبها استقرت رواية "إذا الأيام أغسقت" لحياة شرارة، ووجدت نفسي أعيد قراءة الرواية مرة أخرى، وفي ظروف مختلفة تماما عن القراءة الأولى، والحقيقة أنني بعد ان انتهيت من القراءة الثانية شعرت انني كما لو كنت قد تناولت جرعة من الدواء الذي لم يقره الأطباء.
تقدم لنا هذه الرواية التي تدور أحداثها في العراق، أقصى درجات البؤس الإنساني عندما يصبح التساوي الوحيد المتاح بين الناس هو في درجات الخوف والجوع والمرض، عندما يجرب الإنسان فقدان كرامته الإنسانية وأهمية وجوده في هذه الحياة كل صباح ومساء. انه المصير الفظيع. انه الألم الكبير الذي لا يطاق. ونتساءل: كيف يحدث كل هذا وبهذه الصورة السريعة والفظيعة؟ كيف تنهار كل مقومات الحياة الإنسانية الكريمة التي هي حق وهبه الله للبشر..؟
يحدث هذا في مجتمع لديه كل مقومات الحياة الرائعة وأسباب الرخاء وبلا حدود.
هذا هو الألم الحقيقي الذي لا يفهمه الأطباء.
هذا هو السرطان الذي لم يكتشف له علاج بعد.

***

كما يقول جبران: "الألم يحرركم من قشوركم". وكما تقول أمهاتي: اللهم اجعله
طهورا واجمع له بين الأجر والعافية. فإن مواجهة حقيقة المرض ومكابدة الألم والدخول في مخاطرة الموت والحياة تجعل الإنسان أكثر شفافية في رؤية الأشياء اليومية. حتى تلك التي تعود على رؤيتها على اعتبار أنها من الأشياء المسلم بها. لذلك اكتب عن هذا الجانب الآخر من التجربة ـ فقدان المكان وألم الحنين إلى الوطن ـ لأنني الآن اقرب إلى معاناة أولئك الذين خسروا أوطانهم وبيوتهم واستقرارهم.

***

انه شيء رائع وإنساني وجميل ان يكون وطنك في متناول قلبك. لقد تضاءل ألمي حيث تحتشد تلك الأصوات، اعرفها ولا اعرفها بالدعاء والصلوات... فتذهب إلى القلب.
احتشدت تلك القرى والمدن في قلبي كأنها عزيمة ضد الألم. هاتفني من أقصى الجنوب، من بلاد "رجال ألمع" كأنه يداويني، يناولني جرعة من البهجة والدواء. إذا كان الألم يحررنا من قشورنا كما يقول جبران، الا ان المحبة هي الأخرى تحررنا من قبضة الألم وسطوة اليأس.
هناك أشياء لا يمكن ان نجربها بهذه الدرجة من الشفافية، إلا حينما نكون في الحالة المضادة، كما لو كانت قبضة الألم هي المحرك لحالة من الحب الذي لم يجرب من قبل.
في لحظة من اللحظات، شعرت وكأنه ما من نخلة من نخلات القصيم إلا وقد احتشدت بظلها عند باب غرفتي، تعرفني واعرفها، تحبني وأحبها. لقد طوقني عقد من الياسمين مرة من المدينة المنورة، وأخرى من الإحساء والقطيف والزلفى والدمام وجدة.
وفي مواجهة أخرى مع المرض، وفي مدينة اميركية من طراز هيوستن يزورها في السنة مليونان من البشر ومعظمهم يطلب العلاج، قُدر لي في عام 2001 ان أكون واحداً منهم. وأمام هذا الرقم الكبير، وواقع المدينة الذي يعج بالمرضى وبالمرافقين، يكاد اليأس ينقض عليك، وهو اخطر عدو يهدد من يعانون من هذا النوع من الأمراض.
لم يكن يخطر في البال انه حتى في الأمراض الصعبة قد تفتح نوافذ جديدة للأمل لم تكن في الحسبان.
ولا أحد يمكن ان يعرف هذا المعنى لعبارة مختصرة، إلا من قدر له التعرف إلى شخصية إنسانية نادرة الطراز، وهو الدكتور البروفيسور فيليب سالم، اللبناني الأصل، الذي يشرف على علاجي.
هذا الحكيم العبقري، الذي يشبه جبران مرة، ويشبه فيليب سالم في ما تبقى، هو إنسان من طراز مختلف، وأعتقد انه اختار ان يكون طبيباً لأنه كان، وربما لا يزال، يحلم بتحرير البشرية من آلامها، لقد أخذ مني هذا الطبيب نصف الألم واستبدل به الأمل والتفاؤل، وترك لي ما تبقى لكي أصارعه بالإيمان واليقين... ووطن مثل عقد الياسمين.
والحقيقة ان التجربة مع هذا الطبيب وحدها تحتاج إلى كتاب يحكي فصولا من الفرح بعد أن يزول الألم.
وسط أنقاض حالة الألم. تعرفت إلى نماذج إنسانية رائعة، خاصة في مجال الأعمال التطوعية لعدد من المرضى السعوديين وغيرهم الذين تحولوا إلى متطوعين من بين عشرة آلاف متطوع يخدمون في هذا المركز، يقومون بمهمات إنسانية رائعة للتخفيف من آلام أولئك المرضى، خاصة كبار السن من الرجال والنساء من الدول العربية، الذين يعانون من غربة المكان واللغة إلى جانب مرارة الألم الخطير.
يحدث ذلك كله لعدم وجود مركز عربي مماثل في أية عاصمة عربية. وهذا أمر قد
نفهمه لأنه لا يمكن استنساخ تجربة من هذا النوع قامت في الأساس على التراكم البحثي والتجريبي وهي تجربة لا تشترى بالمال فقط. لكن الذي لا يمكن فهمه هو ألا تكون النية موجودة لتأسيس تجربة عربية من هذا النوع.
لكننا لن نفقد الأمل في ظل ما تحقق من تجربة طبية في مجال الأبحاث في مركز الملك فيصل التخصصي بالرياض. قد يكون ما تحقق هو الشمعة التي نشعلها في الظلام، لكي تنطلق أول تجربة عربية يمكن لها خلال عقود من الزمن ان تبدأ تجربة مماثلة لمركز "إم دي اندرسون"، وهذا أمر يليق بعاصمة مثل الرياض لأنها كانت دائما مركزا لعلاج الجراح وتخفيف الآلام. هذا مشروع عربي إنساني أخلاقي قد حان الوقت للتفكير فيه، خاصة ان كل المؤشرات تؤكد ارتفاع معدلات الإصابة بهذا المرض الخطير في دول الخليج. من أجل أجيالنا القادمة التي تنتظر حياة كريمة خالية من الألم واليورانيوم، علينا ان نفكر في ما هو أكثر جدي من الحروب..!! من أجل عقد الياسمين.

الشرق الأوسط 7 أكتوبر 2001