صالح العزاز

مثلما يزيح أحدكم ستارة النافذة عند الصباح، فتدخل الشمس مثل ملكة، وإذا بالسماء الزرقاء مزينة بالمرسلات مثل سرب حمام أبيض، مثل فساتين عرس محملة بالماء والثلج والبَرَدْ.
هذه قصة قصيرة وبريئة.. وبيضاء من غير سوء.
هذه كاثي، ممرضتي الرائعة، باتت تعرف مواعيد صلاتي وعدد سجداتي وركعاتي. تستقبلني كل صباح، وتودعني في المساء، بوجه طفولي. بل هي تعتني بوجودي بطريقة إنسانية رائعة. تسألني، هل ارغب في جرعة الدواء أولا، أم انتظر حتى بعد الصلاة؟
تسألني، هل تريد أن تقرأ وتكتب، هل تفضل باخ؟ ثم تأتيني بالورق الأبيض الذي أفضله للكتابة وتعود الى بعد صلاة الظهر مدججة بأسلحة المقاومة.
لها ابتسامة طفولية رائعة. تسميني المريض ذا الرائحة المميزة، وتشتكي من ان بعض المرضى يأتون وكأنهم يخبئون في صدورهم "طفاية" السجائر من ليلة البارحة. تكاد تبكي.
لقد أصبحت تعرف مواقيت صلاتي ومزاجي. ومواعيد أحزاني وأفراحي.
ثم تناولني جرعة في الوريد، وتتركني تتفرد بي أحلامي. قلت لها أكثر من مرة. كم أنت مؤدبة ورائعة يا كاثي. أنا بدوي من الصحراء. أنا ابن ظلال النخيل. نحن نتأثر كثيراً بالمعاملة الرائعة. نحن نؤمن بأن الدين المعاملة. لذلك فأنا مدين وضعيف أمام معاملتك الرائعة. اشعر أنني مع أختي الصغرى أو ابنتي. هل تعرفين كاثي ماذا يعني كل هذا؟
بدأت الأحلام تدركني، وها هي كاثي تقول لي: أنت تقول كلاماً رائعاً أنسى معه انك مريض بالسرطان، ونحن هنا نفرح عندما يشفى احد مرضانا بشكل نهائي، بل نحتفل ونبكي من الفرح.
استسلمت للنوم، حتى عادت كاثي وهي تقول لي: نتائج المختبر رائعة جداً، سوف أعطيك حقنة "نيوبجن" بعد ان تصلي مباشرة. لقد غربت الشمس!! قلت لها: سوف أؤجل الصلاة حتى أعود إلى البيت، أريد أن اخلص من جرعة هذا اليوم بأسرع وقت ممكن.
هل تستطيع أن تؤجل الصلاة، هكذا؟ سألتني، فقلت لها، بل وأكثر لو زاد الألم، يمكن ان أصلي وأنا على سريري. لذلك.. أرجوك أريد جرعة الدواء، انني أتحول إلى قطعة ثلج!!

***

صباح اليوم التالي عدت بمزاج مشرق، وإذا بها أكثر اشراقة بطريقتها. وبعد حديث الصباح المختصر عن الدواء، قالت كاثي: أريد ان تتكرم عليّ بنسخة من كتابك المقدس إذا ما توفرت مترجمة!! قلت لها: تقصدين القرآن طبعاً. سوف آتيك بترجمة إنجليزية ومعها الأسبانية إذا أردت.
صباح الغد الثاني وفرت لي القنصلية السعودية هنا في هيوستن أكثر من نسخة وجدتها بانتظاري عند الصباح في العيادة وبطباعة أنيقة ورائعة. كم سررت بهذا العمل المتقن.
مددت يدي إلى كاثي مزهواً بسرعة المبادرة، وإذا بها أكثر سعادة بالمفاجأة.
شرحت لها ضرورة ان تكون نظيفة، وطاهرة، وذات مزاج رائع وهي تقرأ القرآن.

اقترحت عليها ـ باجتهاد شخصي ـ بعض السور الكريمة لكي تبدأ بها، وكان من ضمنها سورة مريم.
كم تعجبت كاثي ان يكون القرآن قد افرد سورة كاملة لمريم عليها السلام. خرجت من عندي فرحة ووجلة ومبتسمة، حملت نسختها وغابت مثل طفلة.

****

عدت إلى البيت، ومعي قصة كاثي. قالت لي ابنتي شهد أنها قبل أسبوع حصلت على نسخة مترجمة إلى الإنجليزية وأهدتها إلى جارتنا "سيسليا" التي تزورنا دائما وتريد ان تعرف ما هو الإسلام، ما هو القرآن.
شهد تذهب كل يوم إلى بيت الجيران لكي تتأكد ان هديتها توضع بالمكان الذي يليق بها.
كنت لحظتها أتمنى لو أدرت رقم الهاتف لكي أقول لخادم الحرمين الشريفين: شكراً فهد بن عبد العزيز. لقد قدمت خدمة عظيمة للإسلام، بل أنها اشرف خدمة، فقد أنجزت بمشروع مجمع خادم الحرمين الشريفين لطباعة المصحف الشريف، وترجمة معانيه لعدة لغات، رسالة حضارية رائعة. بهذا الإنجاز شعرت أننا أصحاب رسالة حضارية رائعة، بل أكثر من ذلك.
شكراً خادم الحرمين الشريفين، كاثي استلمت نسختها. إنه شعور رائع يقاوم المرض، يثير الرضي في النفس، ويزيل الألم.

الشرق الأوسط 16 مايو 2002