في غرفة الإنعاش.. رحلة العودة إلى الحياة

صالح العزاز*

إنني عاجز عن تفسير ما حدث حتى هذه اللحظة. غير أن القدر يوزع نصيب الناس في الحياة بشكل منظم، بغض النظر عن الجغرافيا أو التاريخ أو الزمان أو المكان.. أسطورة الحياة التي لا نلمسها لأننا لا نستطيع أن نراها عن بعد.. لأننا نعيش في ضجيجها وداخلها.
لم تكن صحراء ولاية نيفادا أو مدينة لاس فيجاس في الحسبان، عبر رحلة عائلية غير أكثر من محطة مرور لمكان آخر مع أطفال أقصى ما يتشوقون إليه زرقة البحر عن بعد، لكن عندما يلتقي البرزخان.. رمق الموت في مواجهة طعم الحياة.. يصبح الأمر مختلفاً، لأنه في حسابات مدبر الأشياء الهواء والماء والشمس والظلام..
إنها لحظة الضعف الإنساني التي تكمن فيها كل معاني الرغبة في استئناف حياة جديدة، إنها لحظة القوة الحقيقية.
لقد ولدت الثلاثاء عند الساعة السادسة مساء، في مستشفى الشمس المشرقة Sunrise بالتعاون مع فريق مختلط من الناس يقودهم الدكتور فنقر وكل هؤلاء الناس التقيت بهم قبل نصف ساعة من موعد ميلادي الثاني المقدر والمحسوب سلفا في كتاب محفوظ، جئت لكي أولد هنا. حتى قبل أن يلتقي أبي بأمي قبل 40 عاما في مدينة الخبراء بالقصيم، كان مقررا بدون شك أن تحدث الولادة الثانية في لاس فيجاس وعلى يد طبيب أمريكي اسمه فنقر، ومعه الممرضة الألمانية هيجرا التي تحب هرمان هسه وآخرون.
أكاد أجهش بالبكاء من كل هذه العناية الإلهية والإنسانية، من الأصدقاء، من بلدي من أمي وأبي وزوجتي التي تحرس أطراف أصابعي ليل نهار، وفيض المشاعر التي غمرني بها اخوتي.
عندما يقول لك الطبيب في مثل هذا الموقف انك اقرب إلى الحياة، تعرف عزيزي الإنسان المعنى العظيم لعدم التدخين.
ما اعظم أن لا تدخن. ما اعظم أن تكون كرات دمك الحمراء والبيضاء ورئتاك متحالفة معك تغريك بالحياة وتستعيدك من منزلقات الموت.. تفسح لك أملاً جديداً لم يجرب من قبل!
تفجر الألم عند منتصف الليل. كنت أشعر إنها نهاية الماراثون الطويل. لكن زوجتي تداركت الأمر وفقا لما هو مرسوم مسبقا، وطلبت المساعدة. كل شيء يتم بسرعة. كان همي ألا يستيقظ الصغار على مشهد من هذا النوع.
انه قدري. وإلا ماذا يفعل إنسان مثلي في مدينة من هذا الطراز بنيت أساسا للمغامرين والمقامرين، وأنا لم أجلس في حياتي حتى على لعبة البلوت التي كانت أكثر شعبية في بلاد المملكة..
لكنه الموعد الثاني مع الدكتور فنقر.
نقلت إلى اقرب مستشفى Sunrise الشمس المشرقة وزوجتي تتبعنا بسيارة أجرة تاركة فلذات كبدها في فندق كأنه مدينة. نصف سكانه على الأقل من المقامرين.
نحن خارج الزمن وفي داخل الألم..
تناولني حراس الطوارئ... بدأت الأشياء غير الأشياء.
اصبح للمستطيل شكل الدائرة..
زحام لا اعرفه.. امرأة وحيدة وسط الإعصار تطلب النجدة في اللحظة الأخيرة من بريق أمل.. بعد أن قدمت كل ما لديها من بطاقات ائتمان.. بعيدون في مدينة لا تصلح إلا لمقامرين غرباء يستنجدون بمن يفتح لهم بابا للرجاء والأمل.
وفجأة جاءت الحقيقة كأنها الصاعقة، نتيجة الفحوصات كلها تؤكد أن حالة الموت أقرب من حافة الحياة..
لكنه اليقين الذي كان يجلس إلى جانبي وفي داخلي. كان يناولني جرعات أمل كبيرة.. إنها زوجتي.. خلال اقل من دقائق كان عبد الرحمن الراشد على الهاتف مع زوجتي..
خلال دقائق كانت الرياض على الخط. فُتحت أبواب الأمل.
ما اعظم أن يكون لك وطن و أهل وأصدقاء تلجأ إليهم في الملمات الصعبة.
بدلا من أن تفر منهم.
المجد للمملكة العربية السعودية
بلدي وحبيبتي

***

قالت لي زوجتي وهي تسير إلى جانب العربة إن الدكتور فنقر يعتبر العملية ناجحة جدا.. ويقول إن أمامك فرصة عظيمة لحياة مشرقة.
قلت لها: متى تقرر موعد العملية. قالت انتهينا. ونحن الآن في الطريق إلى غرفة العناية المركزة.
قالت لي: الآن عرفت معنى عظمة حرصك على عدم التدخين. قال لي الطبيب إن هذه أسباب مهمة سوف تجعله يعيش من جديد. نحن نريدك أن تبقى معنا يا حبيبي..
كنت قبل لحظات مجرد كتلة بشرية موصلة بأسلاك شائكة. كنت مثل مختبر صغير لمدة يومين. وقبل ذلك كنت اسبح في البحر مثل طائر النورس.
وأنا بعد أن حرروني من قبضة هذه الأجهزة والأنابيب.. لست أنا لكنها الرغبة في الحياة. لقد بدأت اليوم أول خطوة في حياتي الجديدة. وقفت على قدمين مثل الكائنات البشرية الأخرى.
أريد أن أعود إلى أهلي وأصدقائي، إلى أمي وخبز أمي، إلى زغب الحواصل لا ماء ولا شجر. أريد أن أضع نقطة في آخر السطر وأبدأ حياة جديدة ورائعة بمذاق عظيم ومختلف.
ربي سيكون معي.. وهو معي في هذه اللحظات يمدني باليقين..
في المساء.. جاء الدكتور فنقر وقال لي: حالتك رائعة. أنت لا تزال شابا صغيرا لا أمراض ولا تدخين.
بدأت ملامح استئناف الحياة مرة أخرى تدب في المكان والعيون.
كنت ممتنا لأن تنضم إلينا السيدة نوال القبلان، الأستاذة الرائعة في جامعة الملك وشقيقة زوجتي وأم بناتي الثانية، لأشعر أن أولادي في حالة سلام وأمان وبأحضان قلب كبير.
كنت وما زلت محظوظا وسوف أبقى بأصدقاء رائعين. في هذه الأزمة أكاد أجهش بالبكاء أمام قائمة طويلة..
أعتقد أن هذه السكينة والوقار اللذين يحيطاني في هذه اللحظات الصعبة والى جواري زوجتي.. مكرمة كبيرة من السماء..
اعتقد أن الله سوف يعيدني إليكم. وان كنت لا أكره أن ألقاه.
همست في أذني زوجتي وقالت أن الدكتور محمد السويكت اتصل اليوم ثلاث مرات من سفارتنا في واشنطن ومن مكتب الأمير عبد العزيز بن فهد ويريد أن يتأكد أن إجراءات العلاج ومتطلباته يتم تنفيذها بالشكل المطلوب.
كانت لا تنقل لي خبراً. كانت تعطيني جرعة أمل وتقول لي أن بلدي بألف خير بمثل وجود هؤلاء البشر.
في اليوم التالي.. أعطتني جرعة ثانية عندما قالت لي أن مندوب الأمير عبد العزيز بن عبد الله بن عبد العزيز يريد مقابلتها عند بوابة المستشفى لكي يطمئن ويتأكد أن كل شيء على ما يرام.
كدت أبكي.. وقلت في نفسي إن عالماً فيه هذا النموذج من البشر من هذا الطراز يكون تركه صعباً.. ولكن الخيرة في ما يختاره الله..

مستشفى الشمس المشرقة
غرفة الإنعاش 2205