هذه قد تكون مداخلة صحافية، أو هي صرخة مريض يعاني الموت في سبيل الحياة. صرخة ضد هذا الصخب الدائر. لهذا السبب، أرجو ان يعذرني القارئ عندما اكتب بطريقة مختلفة، فيختلط العام بالخاص، الألم بالأمل.
هنا في هذه المدينة الرائعة هيوستن، وهي أشبه بغابة من المستشفيات المتخصصة بعلاج السرطان، هنا كل شيء يدور حول المعركة مع هذا الإخطبوط. حتى الإعلانات واغلفة المجلات وعناوين الكتب ورواد الفنادق، مرضى ومرافقين. وهنا يتم تطوير أحدث الأدوية والبرامج والأجهزة والأطباء في سبيل إزالة الألم الإنساني، وفي هذه المدينة يوجد أكثر من خمسين مسجدا تقام فيها الصلوات الخمس بهدوء ووقار. هذه صورة أمريكا التي تحب. وهي بالتأكيد ليست الصورة الوحيدة.
أنا هنا مجرد ضحية عابرة من ضحايا هذا المرض الخطير. لكنني في هذه المدينة بدأت أتلمس الأمل في العودة إلى الحياة، إلى الوطن، إلى الأصدقاء. لكن هذا الصخب الدائر في كل مكان يؤذيني، أريد ان اصرخ، ان احتج. هذا ليس صدام حضارات. هذه فوضى عارمة. هذا الجنون الذي لا حدود له يحرضني على الكتابة. هذا السرطان الذي يصيب عقول الأمم والحضارات لم يكتشف له علاج بعد. هذا الألم الدولي ماذا نفعل به، أليس من حقنا ان نحلم بالسلام والهدوء، بالمدارس والفراشات والأشياء الجميلة؟
من محراب الألم المتواصل، من تجربة الموت الصغير، حيث الصورة الأخرى للحياة، الألم يضيء العتمة في النفس والأفكار، يحرر البصيرة الداخلية من قبضة المزاج الذاتي المعتم، ذلك الذي يسود حياتنا وأفكارنا في الظروف العادية. هنا حيث المسجد إلى جوار الكنيسة. هنا حيث تصبح أمريكا وطنا ثانيا بيده الدواء.
* * *
حتى الآن مررت بخمس عمليات جراحية، في معركة طويلة لوقف زحف هذا العنكبوت النائم في مركز الدماغ. في كل مرة أجرب فيها الموت الصغير يكبر الأمل وأتصالح فيها مع قسوة المرض. أحاول ان افهم سر ذلك الخط الرفيع الفاصل بين ان تكون في عداد الأحياء أو الموتى. كأن الحياة قسمت دائما إلى معسكرين ولا بد لها من ان تكون كذلك. تجربة يراد لها أبو العلاء المعري، لا صحافي ومصور فوتوغرافي لا يعرف حتى عيد ميلاده.
رغم ذلك، فإن عندي من اليقين وقوة الإيمان، ما يجعلني قاطعا ان هذه ليست مجرد تجربة عابرة، ويجب ان لا تكون كذلك، أنها أنشودة جديدة لمطر جديد. ولذا، أريد ان اصرخ واحتج... ليس بسبب ألمي أو ضده،فأنا سعيد بذلك تماما. لكنني اصرخ ضد ما لا يطاق، ضد هذه الفوضى العارمة، ضد هذا الانهيار الذي يصيب الأفكار، هذا العالم الذي يفقد عقله، ضد الخلط المبالغ فيه بين الضحية والجلاد، وبصورة ماهرة حتى لا نكاد نميز بينهما.. فتأخذ الوردة شكل السكين والقنبلة طعم التفاحة.
ثمة مرضى متعبون يحلمون بغفوة عابرة قبل الغفوة الأخيرة. ثمة أطفال يحلمون بالشمس والحديقة والألوان.
لكنه عالم احتكره السياسيون، فإذا به يكاد يفلت من صورته الجميلة إلى مجرد حظيرة واسعة النطاق، وما الموت والظلم والتعذيب غير مجرد تفاصيل صغيرة لنشرات إخبار المساء.
من هنا استأذن القارئ، أن نذهب في اتجاه خارج المشهد الحالي لكي نعود إليه اقل توترا وأكثر بياضا أو شفافية.
منذ أكثر من ثلاث سنوات، رسمنا خطة جميلة لرحلة عائلية صيفية مميزة تأخذنا إلى "ألاسكا"، حيث الثلج هو الصحراء بلا حدود، حيث المستحيل الأبيض. مجرد هدية من الأب للأبناء على إنجازاتهم وصبرهم الطويل على أب مغرم بالصحراء، وكأنه من فصيلة الإبل الشاردة.
لكن حدثا لم يكن في حساباتنا غير اتجاهات الرحلة تماما. تغيرت المشاهد بصورة تراجيدية غريبة الأطوار. لكنها الحياة!! كنت قد وفرت لنفسي حلما صغيرا أتوقف من اجله لدقائق معدودات في مدينة سان فرانسيسكو، حيث متحف الفن الحديث. المدينة التي أنجبت واحدا من عباقرة أمريكا في فن التصوير الفوتوغرافي "انسل آدم" ملك الأسود والأبيض. هناك يتم الاحتفاء بمناسبة مرور مائة عام على ميلاده. هذا العبقري الذي لا مثيل له. وكنت أنا، جريا بأحلامي أخفيت نسخة من كتابي الجديد "المستحيل الأزرق" كي اهديها لهذا المتحف. أريد ان اترك شيئا من ملامح بلدي، شيئا من صورة نخيل القصيم، شيئا مني في قلعة الحداثة وقلبها في أكثر متاحف العالم جنونا وأهمية وإبداعا، وفي مناسبة عظيمة من هذا النوع. لكن الحلم الصغير الذي خبأته في جوانحي مات مثل فراشة ملونة. انه القدر الذي يرسم لنا أحداثا لا نراها، لكننا نعيشها.
ذات ليلة عادية وفي مدينة صاخبة كانت محطتنا الأخيرة، بدأت الرحلة تأخذ اتجاهها الآخر. ومن مدينة لاس فيغاس، في الثالث من أغسطس 2001، أكمل ابن ظلال النخيل رحلته على نقالة متخصصة للمرضى والميتين أو المعاقين، بينما عاد الصغار ومعهم "المستحيل الأزرق" ومعدات التصوير إلى حيث شوارد الإبل إلى الصحراء.
نوع مختلف من الألم، من الخوف والرهبة. التفت الساق بالساق يا ابن ظلال النخيل.
ما أصعب ان تُقبَضْ في مكان وتدفن في مكان آخر..!! مخيفة فكرة العودة إلى الصحراء داخل صندوق بارد إلى جوار حقائب المسافرين وأمتعتهم، وفي حضرة فريق من الغرباء، لا تعرف ما إذا هم قد جاءوا لكي يودعوك أم لينقذوك، لكي تستأنف رحلتك باتجاه مختلف، وألم لم يجرب من قبل، كأنهم من كوكب آخر هبطوا في هذه اللحظة، وعليك ان تحبهم أو على الأقل ان تتآلف معهم. إنهم ملائكة العذاب والرحمة في اللحظة نفسها. إنهم الذين سوف يفتحون جمجمتك ويقرأون أسرار ذاكرتك.
في مدينة الصخب والقمار، بدأت أول تجربة في رحلة الموت الصغير. كنت اعتقد ان هذه حدود الشعور بالألم القصوى، هذه أقصى وأقسى درجات العزلة التي يمكن لنا ان نجربها. لكنك تجرب أقسى من ذلك عندما تجد نفسك في مواجهة وجوه جديدة في مكان آخر من هذا العالم، ويقال لك: لا بد من إجراء عملية جراحية ثانية في المكان نفسه. إنها تجربة الموت الثاني ولمدة ثماني ساعات متواصلة. لكن التجربة تواصلت بوتيرة اقل ألما ورعبا. وها أنا اخرج من العملية الجراحية الخامسة بتاريخ ميلاد جديد وأمل جديد وحب جديد.
ومن حدود الألم الخاص إلى الألم العام لا يختلف الألم وحجم المعاناة، وإن اختلفت الصورة.
في مدينة هيوستن، وبعد إجراء العملية الجراحية الرئيسية الثانية، بقيت لفترة تتجاوز الثلاثة أسابيع إنسانا بلا ذاكرة. تبدو الأشياء مثل أفلام الكرتون.. مضحكة وغريبة وغامضة، وقال لي الأطباء ان هذا أمر طبيعي.
* * *
عندما كنت صغيرا ومولعا بالحياة بطريقة مختلفة، مولعا بهنري ميلر ولاحقا بمجلة "نيويوركر"، كان جنوني وطموحي وحلمي ان أكون نيويوركيا مثل جبران.. مثل هنري ميلر. لذلك، كنت بحاجة إلى وقت طويل لكي استوعب ما كانت زوجتي تحاول ان تشرح لي تعليقا على مشاهد مصورة على شاشة التلفزيون وصفحات الجرائد. مشاهد الطائرات المدنية تنقل الموت والدمار إلى قلب المدينة ـ الحلم القديم، إلى نيويورك، التي أيضا كان مقررا لها ان تكون محطة رحلتنا الأخيرة، حيث يريد ابن ظلال النخيل ان يقول لهم: هذه مدينتي التي حرمني وجودكم في حياتي من العيش فيها. هذا هو المتروبولتان، المتحف الذي من خلاله تعلمت كيف تجعل الحياة رائعة وجميلة. كل هذا لم يحدث، لكن ما يحدث الآن هو فصل آخر وحريق آخر..
البؤس الذي لم يجرب من قبل. هذه أحلامي مبعثرة ومهانة. هذه صافرة الإنذار لغطرسة من نوع آخر. هذا هو سرطان الأمم والحضارات الذي لا دواء له..!!
* * *
هذه مقدمة كان لا بد منها. وأزيد فيها الفصل الأخير، وهو إننا في إحدى محطات رحلتنا العائلية توقفنا في مدينة اورلاندو، ولاية فلوريدا، لممارسة شيء من الطفولة، حيث مملكة الخيال. الخيال لعبتي وهوايتي المفضلة؟
وهناك وضعت العنوان الأول، لمشروع مقالة كنت انوي إنجازها لـ "الشرق الأوسط"، تحت عنوان "الخيال الأمريكي والنفط العربي"، وبدأت في التقاط بعض الصور الخاصة بهذه المقالة، وواصلت تسجيل الملاحظات والهوامش. كنت أريد ان أقول ان الخيال لا يقل أهمية عن النفط إن لم يتفوق عليه. فإذا كان النفط يضيء الطرقات ويحرك القطارات والطائرات، فإن الخيال والإبداع إنما يحرك الطاقات البشرية ويضيء الطريق إلى الإبداع ويقرب الكواكب والأحلام ويجعل الأشياء المستحيلة في متناول النفط والإنسان. وهذا ما يحدث في التجربة الأمريكية. وهذه مملكة الخيال "دزني لاند" إحدى الشواهد المهمة.. طاقة نفط وطاقة خيال.
وبدأت فكرة لمقالة ثانية اعتقد لو ساعدتني الظروف على إنجازها قبل هذه الأحداث الغريبة فإنها ستكون بالنسبة لي قفزة مهمة. وضعت إطارا آخر لمقالة مهمة، جاءت نتيجة لمقارنة صورة المرح في دزني لاند وحالة البؤس والحرمان في أفغانستان وباسم الإسلام!! وكانت المقالة مقررة تحت عنوان "أفغانستان.. مَنْ الضحية مَنْ الجلاد!!".
وقد تحدثت مع الصديق الصحافي الكبير أمير طاهري في لندن، حدثته عن المقالتين.
لكنني أشرت إلى أهمية رأيه وملاحظاته بالنسبة لي على موضوع أفغانستان، ثم أجريت اتصالا بالآنسة دينا الخالدي، مديرة وكالة "يونايتد برس" في لندن لتساعدني في توفير بعض المعلومات الموثقة، وخصوصا عن مواقف الحلفاء، خاصة فرنسا وألمانيا، من المشروع الأمريكي الذي كان يقوم بترتيب مجيء حكومة الطالبان. وأجريت اتصالا بزميل فرنسي آخر في "لوموند".
وتوفرت لدي معلومات وشواهد كانت تغريني بأن أعطي الأولوية لهذا الموضوع، قبل مقالة الخيال الأمريكي والنفط العربي. وان كانت كل فكرة تذهب في اتجاه الأخرى!! كلها خيال أمريكي. لكن أفغانستان كانت الخيال المريض الذي أُعطي للعرب والمسلمين. أما "دزني لاند"، فما هي إلا الخيال الرائع والجميل الذي تحتفظ به أمريكا لنفسها، وهذا حقها المشروع.
* * *
كنت في بداية الأزمة التي حدثت في أفغانستان، خاصة بعد ان فتح الباب لتدخلات خارجية، صاحب وجهة نظر مخالفة عبرت عنها في مناسبات كثيرة وكتبتها، لكنها كانت لعبة نارية خطيرة، لأن الدول والجماعات والمافيا وأجهزة الاستخبارات العالمية، وسماسرة الأسلحة وتجار المخدرات، وجدوا في هذه البقعة من العالم الشروط التي تناسب مصالحهم وكل لديه غايته. لكن ليس من ضمن هذه الغايات في تقديري استقرار أفغانستان أو تحقيق مفهوم الجهاد المقدس. قد تكون نوايا الضحايا صادقة وحقيقية، لكن ليس هذا مكانها أبدا. الشيء الوحيد الحقيقي هو ان الصراع القديم بين المعسكرين يعيش مراحله الأخيرة. ووجدت الرأسمالية الغربية فرصتها المثالية لتوجيه ضربتها القاضية والأخيرة، وعلى حساب دول وشعوب أخرى من اجل تحقيق حلم أمريكي يكاد ان يكون من إبداعات وروائع الخيال.. طريق الحرير الأمريكي الجديد.
كان أسوأ من وجود تحالف بين الحزب الحاكم في بلاد أحفاد هولاكو والاتحاد السوفيتي، هو مشروع طالبان!! هذه المدينة الرائعة، التي اكتب منها واتشافى فيها، يكاد يكون الحضور الإسلامي فيها أقوى وأكثر أهمية من الحضور الإسلامي في أفغانستان. تكساس، الولاية، اكبر مساحة من أفغانستان، وتزرع هنا كل أنواع الفواكه والخضار وتحارب التدخين والمخدرات.
في مدينة هيوستن يوجد أكثر من خمسين مسجدا عامرا بالصلاة والمصلين. وقيل لي انه ليس لأية دولة إسلامية أية علاقة بأي من هذه المساجد. وهذا شيء رائع وعظيم.
كانت أفغانستان ولا تزال مجرد جنة عدن ثانية للتطلعات الأمريكية. وتكون أكثر من ذلك إذا ما توفر من الأصدقاء من يدفع الثمن من حسابه الخاص وقوت شعبه من اجل تحقيق أمنية أمريكية بهذا الحجم.
وهكذا فإن القضية الأفغانية وأفغانستان كانت مهمة جدا بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية. لكنها بالنسبة للإسلام، ولنا في المملكة العربية السعودية ودول عربية أخرى، كانت مصدر بؤس وشقاء. كانت أسوأ الأحداث الأفكار التي سيطرت على المنطقة من بداية منتصف الثمانينات حتى هذه اللحظة التي لا يزال البحث عن المتهمين جاريا في جحور الضبان والأرانب.
خلال عقدين من الزمن، أجريت اكبر عملية غسيل أدمغة على مستوى الضحايا الأفراد والضحايا الدول. وقد ساهمت في هذه الحفلة أجهزة خاصة، ومؤسسات إعلامية واستخبارية، شخصيات بارزة، علماء دين وعلماء سياسة، مثقفون ومفكرون، كتاب ومغنون، ليس في المملكة العربية السعودية فحسب، بل في معظم العواصم العربية والإسلامية المهمة. انه الخيال الأمريكي الطموح المغري جدا، منتج أمريكي مغطى بالدولارات والوعود بالجنة.
ثم بدأت القضية تستمد شرعية جديدة تخرج من حدود السياسة إلى جوهر الدين.
وهو أمر احيك بقوة غريبة لأن صدى الدين في نفوس شعوب المنطقة قوي جدا ومهم جدا وصادق جدا. لكن البوصلة هذه المرة كانت تشير باتجاه مختلف، وكان المطلوب ان لا يدركه احد، لأن موعد نهاية التاريخ المخترع وبداية صراع الحضارات لم يحن بعد..!! بدأت الأحداث تسرق شبابا من المدارس والجامعات ومن أحضان بيوتهم في سبيل تحقيق أمنية شريفة ومشروعة ألا وهي الجهاد في سبيل الله.
أصبحت حياة الأفغان ومستقبل أفغانستان في مقدمة اولوياتنا. وبدأ عدد الأرامل في تصاعد مستمر. ودخلت القضية الأفغانية إلى البيوت وصعدت المنابر. وبدأنا نعيش حالات جديدة ومبكرة من التصنيفات السياسية والفكرية، هذا ملتزم وذاك علماني. وانتشرت ثقافة جديدة لم نعرفها من قبل. بل تجاوز الأثر هذه الحدود إلى الجامعات والمدارس ومناهج التعليم، كل ذلك في سبيل تحقيق أو مساعدة الأصدقاء الأمريكان على تحقيق أحلامهم الاستراتيجية (جنة عدن) في قلب آسيا الوسطى. وهذا ما ينادي به الصحافي الأمريكي توماس فريدمان، بأن نتنبه إليه ونتخلص منه، وهو ما تبقى من آثار هذه العاصفة الأمريكية.
إنها خسارة كبرى بالنسبة لنا. بسبب هذه القضية الشائكة والمعقدة تأجلت أحلام كثيرة، وتغيرت الخطوط والأحلام في بناء مجتمع مثالي بصيغة إسلامية نادرة، لأن هذا هو خيارنا الوحيد الذي يجب ان نعض عليه بالنواجذ.
هنا أريد ان احتج، أريد ان اصرخ ضد هذا العنف، ضد هذا الإرهاب، ضد هؤلاء القتلة المجرمين، لكنني في الوقت نفسه أريد ان اصرخ وابكي من اجل كل الضحايا، ليس فقط في نيويورك، بل حتى في المملكة العربية السعودية ومصر والكويت وفلسطين، لقد أسيء إلى صورة الإسلام هذه المرة بصورة لم تحدث من قبل، ونحن ليس لنا هوية حضارية أو فكرية غيره، ولا نقبل سواه.
لكن هكذا دائما عندما ترتكب الدول أخطاءها المدمرة تبحث لها عن ضحايا تخترعهم من بين الأفراد لكي تغطي سوأتها..!! هناك العشرات من نموذج أسامة بن لادن لم نعرفهم بعد، وقد يظهرون في مراحل متأخرة متأخرة، أو قد لا يظهرون أبدا. والسؤال المنطقي الآن في عالم يفتقد المنطق، هو إذا كان أسامة بن لادن، الشاب المتعلم القادم من بيئة متفتحة وعائلة تجارية أرستقراطية محترمة، قد وصل إلى هذه المحطة الأخيرة، فما هو واقع أولئك الذين جاءوا من فم الريح والبؤس والشقاء باحثين عن المجد والبطولة تحت راية الإسلام؟
إنها الخلطة السحرية التي ركبّها المهندسون الحقيقيون لهذا البؤس من دون أي وازع أخلاقي أو إنساني، أولئك الذين أخفقت طموحاتهم في بناء مستقبل مضيء لشعوبهم وأوطانهم في معظم بلداننا العربية للأسف الشديد.
ما الذي يذهب بنا إلى أفغانستان؟ بقعة جغرافية خارج كل المدارات التي يمكن ان يكون للعرب والمسلمين علاقة مباشرة أو مهمة أو مؤثرة بها.
إنها صدمة كبرى بالنسبة لنا نحن السعوديين بالذات. لقد سرقوا منا أجمل ما كنا نفخر به، شهادة البراءة تلك التي كنا نزهو بها، ذلك الأخضر المميز الذي كنا نرفعه مثل راية بيضاء، مثل حمامة سلام، لكي نعبر نقاط العبور على عجل كأننا مجرد عابرين.
لكنهم سرقوا براءتنا ونحن نائمون نحلم بجائزة نوبل مثلا. شيء محزن ان يحدث هذا وبهذه الدقة والسرعة.
المملكة العربية السعودية، مهد الحضارات والرسالات، بوصلة القلوب والصلوات والمحبة، لكنهم يخترعون لها اولويات غريبة بين الحين والآخر، يسرقون منها بوصلتها الحقيقية ويعطونها بوصلات مزيفة لا تشير إلى حيث تشرق شمسها!! لا يراد لهذه البوصلة ان تلتفت بقوة أعصاب كاملة إلى اولوياتها الحقيقية، لأنه ليس في تقديري هناك أكثر من الخبز والدواء يمكن ان يقدما لسد حاجات المشردين والجائعين سواء في بلاد الأفغان أو الشيشان أو حتى كشمير. أما الإسلام فإنه كفيل بنفسه مع قلوب الناس. هذا هو المغني البريطاني اللامع الرائع "كات ستيفن" داخل الإسلام وهو مستلق على سريره، ربما كان لحظتها يفكر في كتابة أغنية جديدة، لكنه تناول القرآن وقرأ سورة يوسف ووضع بعدها فاصلة مهمة في حياته حولته إلى احد انشط الدعاة المسلمين في أوروبا، لم يغره احد بالمال ولا بالمجد، وكذلك الأمر بالنسبة لمحمد علي كلاي، وكذلك مالكوم اكس ... وغيرهم من النماذج الإسلامية الفاعلة البارزة من دبلوماسيين ومثقفين وغيرهم. يمكن ان نقول ان أتعس النماذج أو اقلها أهمية هم أولئك الذين اعتنقوا الإسلام من خلال تأثير قنوات أخرى، وسطاء وغيرهم. في الإسلام طاقة جذابة عظيمة تحتاج فقط إلى النموذج المضيء.. أحسن الجامعات والمدارس، أحسن المساجد، أفضل الطرق والمسارح والمستشفيات ومراكز البحوث..!! لقد قدمت المملكة العربية السعودية في عهد خادم الحرمين الشريفين، الملك فهد بن عبد العزيز، واحدة من أفضل وأهم صور الإسلام المشرقة، وقد لا يخطر في بال أو خيال الكثير من القراء هنا ـ انه في جيلنا الحاضر الآن ـ يوجد من طاف خلال الحج والعمرة حول الكعبة المشرفة وهم على ظهور الجمال. واليوم بفضل الرؤية الواضحة للاولويات يطوف الملايين من الحجاج والزوار على قطع الرخام المبردة، يؤدون الحج والعمرة بسلام، تلك مسؤولية عظيمة وإنجازات رائعة. إن الحقيقة التي لا مناص منها ان الكعبة لا تذهب إلى الناس وإنما هم يأتون إليها، ثم ان هذا الشعب ليست حدوده الأخلاقية والفكرية انه شعب المملكة العربية السعودية فقط، بل هو شعب النبي الأمي الأمين..! انه شيء محزن ان يحدث كل هذا وبهذه السرعة المتناهية. كنا لا نزال نغرق في وحل تهمة الثراء الذي لم نعرفه قط، وإذا بنا اليوم على قائمة المطلوبين والمشبوهين.
أليس من حق أي عربي الآن ان يحلم، للأسف الشديد، ولو بنصف ديمقراطية دولة اسرائيل؟ أليست هذه أقسى وأقسى درجات البؤس؟
انه غياب الخيال وسيادة النفط.
الشرق الأوسط 21 مارس 2002