1
في واحدة من أجمل صور أنجيلا ستراشيام يمتزج الحلم بالواقع، فيبدو كل شيء علي أهبة التحليق، كما لو أن الأشياء كلها وقد شملها النوم بسلامه قد صنعت من مادة واحدة، مادة لا تخفي الأشكال الصلبة التي انتهت اليها خفتها. امرأة نائمة فيما كائناتها الحلمية تسير علي أرض الغرفة. لو التقطت هذه الفنانة صورة لحجر لنبتت للحجر أجنحة، بشرط أن يؤثث ذلك الحجر غرفة للنوم بنعاسه. صور أنجيلا هي منامات لا تذهب في خيانة الواقع بعيدا عنه، بل أنها تذهب به الي تلك الخيانة في صفته دليلا مشعا. كائناتها وحيدة غير أنها لا تظهر أي نوع من التعاسة والبؤس، رضاها الواقعي ينسف أية إمكانية لكي يكون الشقاء متاحا. هذه الفنانة تتخذ من الحلم ذريعة لاكتشاف الحياة المعيشة. هي تفعل العكس، بدلا من أن تذهب بالواقع الي الحلم، تحضر الحلم ليكون رهينة أشياء في طريقها الي الغياب. صورها لا تبقي أثرا، هي ليست نوعا من الذكري، انها تستلهم وجودها من لحظة تماس وجودي بين ما يذهب الي فنائه خالدا وبين ما يرغب في البقاء مفتونا برخاء جماله المتشنج. صور هي تكثيف للحظة ضالة، لحظة تقول كل شيء من غير أن تستغيث بقوة شيء بعينه. أنها تصور الحياة التي نعيشها، وهي بالصدفة حياة لا نعرفها جيدا الا بعد أن نفارقها. هذه المفارقة ترعاها أنجيلا باناقة متوترة لتصنع منها صورا نشتهي أن نقلدها، أن نقيم فيها، أن نكون كما لو أنها تخيلتنا. ولكن هل تنطوي الحياة المعيشة علي كل هذا القدر من الحلم؟
2
قد لا تنطوي الحياة المعيشة مباشرة علي شيء ما يذكر بالحياة الحقة، بل قد تكون نقيضها، من جهة عدم استجابتها لشروط الكائن الذي يدفع ثمن الإقامة بين ثناياها. غير أن هنالك سحرا في مكان ما منها يجعلنا نقبل علي الممكن منها كما لو أننا نعثر علي لقية، حتى ليخيل إلينا في لحظة الحرمان (السجن أو المرض أو حتى فكرة الموت) أن تفاهات تلك الحياة كانت هبات نادرة لم نتح لأنفسنا التمتع بلذائذها. ربما ينقص الكلمات الشيء الكثير لتكون بديلا عن الصورة، والصورة هي الأخرى ينقصها الشيء الكثير لتحل محل لحظة العيش الحية. غير أن الفن وهو يسعي الي تجريد الغياب من قسوته إنما يحاول تأثيث الفراغ الذي يواجهه الكائن بتفاصيل حياة يومية، لا يمكن استعادة العابر والمهمل والمنسي منها الا عن طريق عاطفة يغلب عليها التأسي لتذكر الكائن بما لم يعشه. يحدث أحيانا أن نتسلى بالتوثيق لينشئ كل واحد متحفه الشخصي، فتتحول الأشياء من حوله الي دمي ميتة يسلبها النظر قدرتها علي أن تمضي الي قدرها، أما الفن فانه يفعل العكس تماما حين يستعين بالوقائع ليبقيها عند حدود التوتر، يستلهم اشتباكها بالأشياء ليبقيها حية، كما كانت، بل وكما ستكون، في الصورة مثلما في النظر الذي يقبل عليها في لحظات مجردة من أي معني. عبأ الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار الأشياء بدلالات شعرية غير أنه أخطا حريتها في الانتساب الي وقائع بعينها، وقائع تقاوم اغتصابها رمزيا لتنساب في عبثية وجودها الواقعي. فالأشياء ليست رهينة ماضيها التخيلي فقط، انها ترتجل حاضرها أيضا، بل أنها تستأنف مستقبلا هو قيد التشكل دائما. فنانو اليوم يكتبون يومياتهم لا من أجل أن يشيدوا أنصابا بل من أجل أن يصونوا أوهامهم من التدنيس، وهي أوهام لا تصف بقدر ما تظهر. ربما يكون حذاء فنسنت فان كوخ هو الخطأ الذي كان بإمكانه أن يقول الحقيقة. وهو كلمة السر التي تنطوي علي غواية الاختلاف: في الأقل يمكننا أن نقول ما يهبنا حرية أن نكون شهودا.
3
هل تتذكرون غرفته في آرل؟ حذاء فان كوخ وكرسيه وسريره وخزانته. كل شيء لا يزال كما هو حتى اليوم (في تلك اللوحة طبعا). قد يعود فنسنت من نزهته الأخيرة في أية لحظة. ما من فنان صنع من عاداته اليومية مأثرة جمال مثلما فعل ذلك البلجيكي التائه. لقد رسم عشرات اللوحات لموضوعات يمكن حصرها بيسر (هو في الحقيقة أكثر الفنانين فقرا في هذا المجال). لم تكن موضوعاته في حد ذاتها لتنطوي علي أية ضرورة استثنائية تستوجب التعليق أو الشغف الشعري، لكن عبقريته شحنتها بتمرد ونفور المعجزة، حتى صار شبحه يطارد كل محاولة لاقتناص الجمال النابت في لحظة عيش عابرة. ما من فنان سحرته الحياة اليومية قد أخطا العثور علي ضالته في ما فعله فان كوخ من قبل. دائما كان الفن يتحاشى اليومي الذاهب الي زواله، تلك الأحداث العابرة التي يطوقها النسيان بعبثه، كان الفن يسعي الي نقاء التعبير عن لحظة لا تتكرر، لحظة تكون فرصته لإطلالة مريحة علي الأبد. أما فنسنت فانه كان يستفيق دائما علي يوم لا يتكرر، يوم تصنعه التأملات العنيدة حيث الجمال يعترض كل خطوة ويفتك مع كل نظرة. ومثلما كانت غرفة فنسنت فان غرف الفتيات المرحات صارت اليوم مسرحا تتقافز بين جدرانه الساحرات غير المرئيات التي يشير الي وجودهن لمعان الجمال الصاخب. لورين غرين فيلد 1966 و الينور كاروشي (1971) وجيان دوننك 1960 ومارلين بيركهام 1973، يقبضن علي نور الأشياء الخفي، حيث صنعت كل واحدة منهن من غرفتها معبدا. غرف متشابهة (هل هي كذلك فعلا؟)، غير أن حساسية العيش المختلف تهب كل غرفة وقائع جمال صاف يهب عبث العيش فيها نوعا من المعني. النتائج الفنية التي انتهت اليها كل واحدة منهن إنما تجعلنا علي يقين من أن هنالك أحلاما كثيرة تختبئ في كل ثنية من ثنيات مكان مسكون بالحكايات.
4
جيان دوننك تبتكر في واحدة من أكثر صورها روعة مادة للنوم، مادة تسيل بالأحلام، تحت الرأس مباشرة. اختراعها الهادئ هذا يعزز صدقه استسلام الجسد البريء لضراوة الحلم. هناك ما نود الاستفاضة فيه، ليست الأحلام كلها شبيهة بحلم غريغوري سامسا بطل كافكا في المسخ، (صنع الأمريكي بيل دوريان ـولد عام 1970 ـ صورا هي عبارة عن مقاربات مستلهمة من تلك الرواية) هناك أحلام سعيدة أيضا. الينور كراشي تغيضها أحلام بطلاتها المترفة فتنزلق الي الصور، لتكون هي بطلة تلك الصور، وهذا ما تفعله غير مصورة الآن. لا تكتفي الفنانة بصناعة الصورة، فما لم تكن هي موجودة في صورها فان كل شيء يعود الي أصله الوهمي.
الحقيقة كاملة يقولها الجسد مثلما تقولها الصورة فيما بعد، فليست الصورة قناعا ولا يرغب الفنان هنا في أن يقدم لنا وجبة رمزية، الحياة المعيشة بالنسبة لفناني اليوم ليست مجموعة متلاصقة من الأيقونات، بل هي الحياة التي نختبر غيابها في كل لحظة من لحظات تجددها. وكما أري فان جيل الفنانات الجدد قد صنع منفي للجمال، يذكر بـ(يوليسيس) جيمس جويس وزمن مارسيل بروست الضائع.
منفي هو مزيج من متعة العيش والرضا بالضلال الذي يحل بتأن. الفنان من خلال صوره يتقدم الي الحياة بوصفة، هي مجرد مقترح لسعادة محتملة. وهو يعرف أن وصفته تلك هي بالنسبة للآخرين أشبه بالسم، لذلك يقدمها معجونة بخبرته. خبرة الكائن الذي يود في كل لحظة أن يكون صورة.
النهار
2006/05/10