حوارات


صالح العزاز ... رائحة الإنسان في الصورة

(حوار مع الفوتوغرافي البحريني حسين علي ميرزا)

أجرى الحوار حسين المحروس

حسين المحروس: عندما تخلو الكتابة من الإنساني لا يكون بقاؤها طبيعياً. وعندما تخلو صورة فوتوغرافية من الإنسان أو من رائحته لا مكان لها في غير مقبرة ذاكرة مصوري الإعلانات التجارية. إنّ الصورة التي لا تراقص العينين ، والكتابة التي لا تكون على حافة الجنون ، كلاهما شبهة .
بدأت الصورة الفوتوغرافية الفنية تبتعد عن الاكتمال البصري الذي اعتادت عليه تحت رغبة الباردين. أعني الاكتمال في تقديم الإجابات، وجعل الأشياء تنتهي بصرياً. لتبدو الصورة هي كل ما هو أمام عينيك فقط. لا شيء فيما بعدهما . لا تتجاورز هذه الصورة حدود الأشياء فيها. الشجرة لها حدود، والإنسان له حدود، الحيوان له حدود، كل شيء في الصورة المكتملة محدد لا يمتزج بغيره، وكأنّها صورة من عالم آخر. لكن ماذا عن الصورة التي لا تكتمل حدودها إلا فينا فلا تعرف حينها أهي صورتك أم صورة إنسان آخر؟ وهذا الوجه وجهك الذي تجاوزته أم وجه غريب ربما شاهدته يوماً ؟
الصورة الفوتوغرافية لا تكون إنسانية حتى تتحوّل إلى حالة غير مستقرة، لا تتوقف عن طرح الأسئلة على قانصها وقارئها. هي ليست حالة إجابات خاملة كما في الكتابة ذات النهايات المزعومة، بل مولداً دائماً للأسئلة البصرية التي تتسع باتساع العيون. في الصورة المكتملة تختفي الرؤية. وفي الكتابة المكتملة لا مكان للجذوة. وصالح العزاز - له ألف تحية - احتفت به الصورة والكتابة معاً، فكان لا يلتقط صورة حتى يكتبها أولاً. نريد أن نمضي رحلة هادئة في صور العزاز الفوتوغرافية، لنقترب منها، نقرؤها معاً بعد أن نشعل سلة الرأس.

حسين علي: هذا جميل .. التقيت بصالح العزاز في الصين في الدورة 24 لمؤتمر الاتحاد الدولي للتصوير (فياب)، سنة 1997م، في مدينة(شن زن)، كان معه صديقه المصور عيسى صالح العنقاوي رئيس (بيت الفوتوغرافيين) السعوديين في الحي القديم بجده. والتقيت به في عمان مع صديقه (حمد العبدلي) لمسابقة تصوير هناك وكنا ضمن المحكمين. خرجت معه في نزهة تصوير في شوارع السعودية. والتقيت به في الرياض أيضا. لكني أرجح أن لقائي الأول به كان في عُمان سنة 1995م. ومن هنا تطورت معرفتي به.
كان الفوتوغرافي عبيدلي يقول دائماً إني رضعت العزاز التصوير الفوتوغرافي بعد أن درست في أمريكا، ولم يكن العزاز يعلق على هذه الجملة!
عرفتُ في صالح العزاز دماثة الخلق، والظرافة، وقوة رائعة في اللغة العربية. فكان بين حين وآخر يبهرني بلغته، وبجمله، وبتعليقاته الفصيحة الشعرية. بعد لقائي الأول به تبادلنا الهواتف والفاكسات، وصار يتحدث عن إمكانية عمل معرض فوتوغرافي له في البحرين، فرحبت بذلك، لكن الظروف لم تساعدنا على تنفيذ ذلك.
في الصين التقيت به كثيرا، وصرنا نخرج كل ليلة تقريباً، أذكر أنه كان يفكر في طباعة كتاب تصوير فوتوغرافي، فصار يبحث عن المطابع الصينية عن الأفضل منها. وأذكر أنّه خرج مع المصور البحريني (علي الكوفي) عدة مرات بحثا عن هذه المطابع، وأذكر أن الكوفي كان يقول( لن أرى إنساناً مثله) وقد أثّر في (الكوفي) كثيراً.
العزاز نادراً ما تحدث في تكنولوجيا التصوير( أفلام، وكاميرات، وعدسات، و...) ونادراً ما تحدث عن تاريخ التصوير الفوتوغرافي، بل كان مصراً على الحديث على التعبير في الصورة، وإمكانية أن تكون الصورة وسيلة تعبيرية. وكثيرا ما تحدث عن معاناته السياسية في الجزيرة العربية، وعن أنواع التعذيب الذي لقيه، أو مورس عليه، حتى درجة التخلص منه أو تصفيته، على الرغم من علاقته الطيبة ببعض رموز المجتمع النجدي. ولولا هذه العلاقات لما وجدناه من زمان. ولا أستبعد أن يكون الذي أصابه من مرض له علاقة بحالته النفسية الناجمة عن هذا التعذيب، ومعاناته في السجن.
في مطار البحرين أعطاني العزاز مجموعة صور تصل إلى مائة صورة، مطبوعة طباعة أولية على طابعة عادية، طلب مني النظر فيها واستبعاد غير الجيد من وجهة نظري، على أن أقوم بتسليمها للشاعر قاسم حداد. هذه الصور ستشكل لاحقاً كتاب (المستحيل الأزرق) التي سيجمع بين عدسة العزاز، وشعر قاسم حداد، في تجربة ملفتة للقارىء.
عندما انظر إلى صور العزاز، أراها معنية بالجوانب النفسية، وببيان الإنسان فيها، أو لنقل بيان أثر الإنسان في الصورة، في علاقته مع الكينونة، ومع ذاته، وبيئته، ومجتمعه، والعمران، والنبات، والحيوان، والحياة من حوله. فيها الحركية التي تربط الإنسان بحياته. وهي أيضا تحفل بنصية شاعرية قلّما شاهدها شاعر، أو إنسان ذي بصيرة ثقافية دون أن يقول شيئاً، لأنّ صالح العزاز يمتلك عين شاعر، وبصيرة شاعر، زودت شاعريته بعدسة. وعلى الرغم من أنّ العزاز لم يكن يعيش في سويسرا، أو السويد، أو تلك المناطق التي حباها الله بجمال أخّاذ، وكان عيشه في مناطقة شبه قاحلة، إلاّ أنّه لفت نظرنا إلى أين يكون الجمال في مثل هذه البيئة، وكيف نلتقط الجمال فيما لا نحسب جمالا فيه. صالح العزاز أرانا الصحراء غير الصحراء في مفهومنا، وصرنا نستطيع أن نرى بعدسة العزاز غير العادي في هذه الصحاري.
يضاف إلى ذلك كم من التقاليد والعادات، والموروثات الدينية، التي تحضر نشاط التصوير في شبه الجزيرة العربية، احتال عليها العزاز بذكاء، فأنتج صوراً لا تصطدم مع كل ذلك، ولا مع السلطات المختلفة، لكنّها تحمل آثارا لإنسان، و نشاطه في هذه الحياة في رمزية، تحتاج منا جهدا تأويلي لا يفتر.. ربما تكون صور العزاز واضحة بحيث يقول شخص إنها لا تحتاج إلى تأويل، لكن هذا غير صحيح.
إنّي أجد في صور العزاز نزعة (تاوية) واضحة. وتأتي هذه التاوية من مذهب صيني وجد قبل الميلاد، يقوم على فكرة أن الإله تاو( Tao )، واحد، موجود في كل مكان، ووجوده رمزي لا مادي. لكن هذا المذهب سرعان ما انتشر في المذاهب الفنية أيضا، منها التشكيل، والتصوير الفوتوغرافي، وفيها يتمّ ربط الإنسان بكلّ ما في الطبيعة، بحيث لا يحتاج الفنان التاوي أن يضع إنساناً ما في صورته ليدلل على حضوره، بل صار يكفي أن يكون فيها أثر من الآثار لتدل عليه. في التاوية تكون الطبيعة هي الهرومني بين الإنسان والطبيعة من حوله بخضرتها، ويبسها، وصخورها، وترابها، وحيواناتها. ليس من الضروري أن تضع الجمل لتدلل أنّها الصحراء، بل يكفي أن تصوّر ظله، بدلاً منه. ويقوم المصور التاوي بتصوير آثار أقدام الإنسان على رمل الصحراء، أو الشاطىء ليشير إلى أنّ هذا الإنسان مرّ من هنا، أو أنّه موجود هنا بالفعل. وقد يصور واحة بها حيوان تمّ ترويضه، ليدلل على وجود الإنسان فيها. كما أنّ صور التاوي مليئة برموز، وإشارات تحتاج منا أن نتأولها. كذلك هو العزاز، وإنتاجه فيه دلالة واضحة على المرجعية التاوية. هذا رأيي أنا.

حسين المحروس: يبدو لي أنّ جزءا كبيراً ممّا قلت في قراءتك لصور العزاز صحيح، وأرحب به، خصوصاً أن صوره في ( المستحيل الأزرق)، تحفل بإشارات قليلة، وآثار لوجود الإنسان ونشاطه. وهذا الاقتصاد في محتوى الصورة سيجعلنا نقول الكثير عندما نتأولها، فكلّما قلّ ما نراه صار علينا أن نقول فيه الكثير. عزيزي حسين، جاءت التاوية عبر الحكيم الصيني (لاو-تسو) الذي عاش بين القرنين السادس، والخامس قبل الميلاد، وهو الذي وضع (كتاب التاو، تي-تشينغ)، ودخل الحياة الثقافية في الغرب سنة 1788م، وبالتحديد في (لندن).. ثمّ استمر برنامج الاهتمام به في الفلسفة الألمانية، وصولاً إلى (مارتن هايدجر) الذي تأثر بالفلسفة التاوية.. أنا أعرف أن المصور التاوي حالم، ينتج صورة في لحظة من التأمل، ويكون ما في قلبه أكثر ممّا في رأسه. وهو قد لا يميل إلى القبض على ما نسميه (حقيقة) وليست من اهتمامته، ما دام يحلم كثيراً، وهو ربما لا يفكر كثيراً في الذي يصوره، مدام يحلم به، يرى إلى الأشياء بعين طفل دون أن تكون عينه طفولية. المصور التاوي لا يحبّ أن تكون صوره فيما مضى ولا فيما سيأتي، بل فيما يراه الآن هذه اللحظة. فيه ترتبط ذاته بالموضوع المراد تصويره، لمواجهة الوجود، وهو يحبّ أن تكون صوره عفوية لا ممّلة.

حسين علي: التاوية منتشرة في صوره، وأنّ أهم أسباب وجودها تلك الظروف السياسية في شبه الجزيرة العربية، وصعوبة التعبير البصري المباشر فيها، ولم يكن للسلفية الدينية هناك لتسمح للفوتوغرافي بجزء من حريته، لذا - يبدو لي - أن العزاز فكر ملياً كيف يتحايل على كلّ ذلك؟ وكيف ينتج صوراً تجعله -كما قلت لك - يحافظ فيها على قدر كبير من الفنية، وعلى نفسه أيضاً، فلم يكن أمامه سوى الأسلوب التاوي في التصوير. وممّا رأيت من صور للعزاز لم أرَ إنسان شبه الجزيرة العربية كاملاً بوجهه، وملامحه في غير (الجنادرية) لأنّها قرية سياحية، بها مهرجان سنوي، ثقافي، غنائي، يسمح فيها للمصور بنصيب لا بأس به من الحرية. وخارج هذه القرية فهو مكبل بمساءلات عديدة، سيخرج منها مغلوباً على كل حال! ولو استطاع تجاوز المسموح به فإنّه لن يستطيع عرض إنتاج ذلك، أو نشر في كتاب!! ماذا يفعل به إذن؟ أنا معجب بإنتاجه في ظل هذه الظروف. هل تعرف يا حسين، أنّي جربتُ التصوير في تلك البيئة!

حسين المحروس: لا تقل أنّك تجاوزت تلك العقبات؟!

حسين علي: لا.. بالعكس.. صورت، مبنى بنك، ومحلات تجارية لإنتاج إعلانات تجارية متفق عليها، فتعرضتُ لمساءلات من الشرطة، وطالبوني بتصريحات مكتوبة لأفعل ذلك، وإلا فإنّ عليّ أن أكون في مركز الشرطة بانتظار هاتف رئيس البنك، ليخبرهم أنّي مفوض بفعل ذلك! فماذا سيحدث لي لو أنّي دخلتُ السوق مثلاً لأصور الناس والوجوه؟ إنّي أقدر ظروف العزاز كثيراً، وأقدّر ذكائه في اتجاهات التصوير لديه. كيف لمصور فوتوغرافي يحتاج الاطمئنان ليلتقط صورته العفوية، ليصطاد حالاته الإنسانية، أن يتصرف في ظلّ هذا الوضع؟!

حسين المحروس: أنت تذكرني الآن بالفوتوغرافي البحريني يوسف قاسم(1928م- .....) الذي أمضى جزءاً من سيرته مصوراً في الدمام والخبر أيام نشأة شركة (أرامكو) على الرغم من أنّه كان يصور في ستوديو خاص به، هو أستوديو( الظهران) إلا أنّه لم يسلم من مضيقات عديدة، أحدها تكسير إعلان المحل، الذي رسم فيه صورة رجل مصور أشبه بالمصورين الأوربيين في أفريقيا، يرتدي القميص الخاكي، والسروال المقطوع(Cut Short )، وبيده كاميرا كبيرة. كان الاعتراض على إعلانه مزدوج: الرجل بلباسه فوق الركبة، وصورة الكاميرا!! أقدر أن العزاز - له ألف تحية - عرف كيف يتجاوز ذلك، ويجعله لصالح الصورة. وهي نفسها محنة المصورين الآخرين في شبه الجزيرة العربية، فعندما ننظر إلى صور بعض جماعات التصوير هناك، نلحظ اهتماماً واسعا بتصوير الأطفال، وغالبا ما يكونون من أقرباء المصورين أيضاً، أو تصوير الطبيعة مثل الزهور، والنخيل وغيرها. ويبدو أنّ ثمّة مصورين جريؤن للغاية، منهم عثمان علي عبد الله الليرات(مواليد 1944م- القطيف)، الذي التقط بعض الصور لنساء يغسلن الثياب، والبسط، في إحدى مجاري العيون بين النخيل!! لكنني ألتقط لحظة تخوفه أيضاً عندما أجد الصورة بعيدة نوعا ما، و النساء فيها بعيدات!! يبدو لي أنّ جزءاً ممّا يتعرض له المصورون، تسنده مهمّة تطهيرية، تقوم على رفض الصورة، بحيث تصبح الصورة هي العدو اللدود. ولك أن تتصور حجم المعارك التي دارت في تاريخ الإنسانية بسبب الصورة.

حسين علي: لكن هل يستطيع عرض هذه الصورة؟ سوف تبقى ضمن التاريخ، وتنشر بعد عشرات السنين؟ أو أنّه سيقوم بعرضها بسرية تامة، وضمن مجموعة خاصة من الأصدقاء!! هذا كلّ ما سيحدث.

حسين المحروس: لذا تمّ نشر الصورة التي التقطها(عثمان الليرات) في مُعرض عنوانه ( العراقة بروح العصر) بالقطيف، في 23 فبراير 2001م، وهو كما جاء في التعريف به (المعرض الفوتوغرافي الوثائقي- توثيق التراث والاهتمام بالماضي... هذا المعرض ليس مُعرضاً لصور قديمة عزيزة علينا فحسب، بل هو مُعرض للحوار بين الأجيال) إذنْ كما قلت، تمّ نشرها بعد أن اختفت ملامحها، وتغيّرت ملامح مكانها، وغادرت زمانها، في معرض لصور تمّ التقاطها منذ زمن بعيد!!

حسين علي: المصور يحتاج أن يلتقط الصورة، وهي تتفطر في الحياة، تمارس فطرتها، وعفويتها، وأن يراها هو، ويقرر التقاطها هو، لا أن ينتظر شخصاً آخر يسمح له بالتقاطها!! أمسكوني عدة مرات هناك ومنعت من التصوير حتى على الشواطئ، وفوق السفن تعرضت للمحاسبة. وحتى عندما صوّرت تماثيل، ونخيل، وزراعات!! فهل يعني ذلك أنّ عليك أن تمارس العمل السري إذا كنت تملك كاميرا هناك؟ فالعزاز تعرض لمثل هذا وأكثر وأشدّ منه بكثير. وإذا كان يفكر في طباعة العمل الفوتوغرافي فإنّ عليه أن يبحث عن صورة يسمح له بطباعتها بعد ذلك!!

حسين المحروس: إذن كان عليه أن يفكر في الطباعة أولاً، وكأنّه مؤلف يفكر في ما يريده المجوزون والمانعون قبل أن يكتب شيئا؟ أليس ذلك مؤلماً حقاً؟!

حسين علي: نعم هو قاس ومؤلم؛ لذا لم يشأ العزاز أن يوقع نفسه في مثل هذا، فراح يبحث عن تعبير بصري لا يوقع في كلّ ما قلناه، فلجأ إلى التصوير الرمزي. ويستعين على ذلك باستخدام عدسات مقربة، (Zoom) ذات مدى بعيد، تجنبه الاقتراب من موضوعه. ونادراً ما رأيت له صورة استخدم فيها العدسة ذات الزاوية المنفرجة ( Wide lens)؛ لأنّها ترغمه على أن يكون قريباً من موضوع التصوير، لتأخذ الحجم البصري المؤثر، ممّا يعني إثارة المزيد من القضايا والمتاعب له. كما أن اتجاه العزاز هذا له ما يبرره بقوة أيضا، وهو أن تيسير الصورة، وتسطيحها، ومباشرتها، وخلوها من الترميز، خواص توجد بالتصوير التجاري، والتصوير من أجل الإعلانات التجارية، والاجتماعية، والدينية، لكنّ التصوير الفنّي لا بدّ أن يحوي هذا النوع من الترميز.

حسين المحروس: كما أنّه لا يتناسب مع محاولات كشف ذات الإنسان المعقدة جداً.. بمعنى لا يمكنني طرح الإنسان بهذا التبسيط!!

حسين علي: نعم، باستثناء التصوير التوثيقي، والتسجيلي. لكن سيبقى التصوير الرمزي، والتصوير التاوي، والتجريدي، والسريالي ما بقي الإنسان بهذه الطبيعة المعقدة، التي تحتاج كل يوم منا إلى كشفها. الترميز، والاستعارات في صور العزاز يعطيها مناحي جمالية أيضا يجب أن نلتفت إليها.

حسين المحروس: هذه مسألة مهمة للغاية، هل وظيفة الاستعارات، والرموز تجميلية بحتة؟ هل الاستعارات في صور العزاز من أجل البلاغة والتجميل، والتزويق فقط؟ أليس لها وظيفة أخرى؛ غير وظيفة التجميل، وغير إحلال شيء محلّ آخر؟ ألا يمكن أن تكون لها وظيفة ذهنية؟ في سنة 1980م أصدر كل من جورج لاكوف، ومارك جونسن كتاباً في غاية الأهمية، أسمياه (الاستعارات التي نحيا بها)، وفيه يريان أن الاستعارة ظاهرة ذهنية يتم فيها إسقاط مجال حياتي معيّن، على مجال حياتي آخر، وهي لازم من لوازم الإنسان ومعيشته، وفيه تركيز على أن الاستعارة ظاهرة ذهنية قبل أن تكون لغوية، وأنّ الاستعارة ليست حكراً على الأدب وحده، بل هي من الأمور التي نرى، ونحيا بها، ووجودها في صور العزاز ما يسند ذلك ويؤيده. وأتمنى أن يقترب ناقد بصري من صور العزاز، وقراءة استعاراتها البصرية انطلاقاً من هذا المفهوم للاستعارة، يضاف إلى ذلك الباعث على اختيار العزاز لاستعاراته، الذي لن ينحصر في علاقة المشابهة فقط، كما هو الحال في الاستعارة بمفهومها التقليدي.

حسين علي: التصوير الفوتوغرافي الآن في العالم، وبالذات في كندا وأمريكا، وروسيا، يُستفاد منه للعلاج النفسي، أو لتطوير الذات، حيث يستغل التصوير، وكذا الفنون مدخلا للتطوير والعلاج النفسي. وقد يُعْطَى الإنسان المُعَالج كاميرا يتجوّل بها، ثمّ يُكشفُ عن حالته، وعن نفسيته عن طريق دراسة صوره الفوتوغرافية، ولا شكّ أنّهم يلتفتون إلى استعاراته البصرية من هذا الجانب الذي أشرت أنت إليه. بالتصوير نكتشف ما حولنا، ونقترب منه أكثر، وتقل المسافة بيننا وبينه. بعض المدارس الروسية كانت تُعطي أطفالها التلاميذ كاميرات، ثمّ تطلقهم في المجتمع، على أن يعود لها بالأفلام، لتدرس الصور على يد متخصصين في سيكولوجيا الأطفال. أنا أرى أحياناً أن العزاز ربما كان يرى في الكاميرا بعض الحلول البصرية للأزمة التي يعيشها الناس في مجتمعه، وهي أزمة حرية بالدرجة الأولى. هي المحافظة على كيانه المهدد يومياً قبل أن يتهاوى، أو ينال منه. لذا لا أرى في صوره نقداً للمجتمع الذي عاش به العزاز، بل ركزت على علاقة الإنسان بمَنْ حوله، وما حوله. صالح كان صوت معارضة كتابة، لكنه لم يكن صورت معارضة فوتوغرافياً!! وإذا استمرت هذه الظروف السياسية والمجتمعية فإننا سنجد مصورين آخرين يتبعون خطى العزاز، وفلسفته في التصوير.

حسين المحروس: كلمة ليست أخيرة عزيزي حسين حول العزاز.

حسين علي: نعم.. خرجت مع العزاز أكثر من مرّة، نصور فيها في المنطقة الشرقية. كنت أرقبه كيف يمسك الكاميرا، وكيف يقربها من عينه، ويبعدها. آمل من أسرته أن تحتفظ بهذه الكاميرا، وبكلّ أدوات التصوير لديه، وتصبح جزءا من تراث العزاز، وتحكي فترة تصوير في المنطقة بأسرها، ولتعرض في يوم ما ليراها الجميع من كلّ مكان، كما هي الحال مع كاميرات المصورين العالميين، أمثال: أنسل آدم، و جوزيف نيسابور، التي صوّر بها أوّل صورة في التاريخ سنة 1839م، وكاميرات جاك دي كير الموجودة حالياً في المتاحف الفرنسية الوطنية. وأتمنى أن يحفظ جميع إنتاجه البصري بطريقة علمية، لا تؤدي إلى إتلافه.