مَسْرَحة الصُورة لـ : حسين عيسى المحروس

" الصورةُ مسرح بدائي "

تمرّ أمامكِ الصور فتقولين : " كأنّي في مسرح " تبتعدين خطوات ولا تقولين شيئا آخر فما عاد هناك متسع لأكثر من هذه الجملة المفتوحة في تلك اللحظة . يفتح قولكِ الحقيقة . فكأنّ الصالة خشبة يقف عليها الممثلون والمتفرجون معا فلا نستطيع التمييز بينهما ، وكأنّ الصور مشاهد متتابعة لمسرحية لا نعرف بدايتها ولا تأتي نهايتها .

- ما الذي يجمع بينهما ؟
- ( .... )
- عرفتُ .. كلاهما مرآة .
- نتَ تقلدي وقديم .
- ذنْ يجمع بينهما الفِعل .
- الماضي ، أم المضارع ، أم الأمر ؟‍
- تسخرينَ منّي ؟‍!
- ( .... )
- يجمعُ بينهما الحياة ؟
- لا .. يجمعُ بينهما المَوتُ .

***

تاريخياً لا يُكتب عن التصوير الفوتوغرافي ومراحله دون ذكر الفنّ الذي تداخل معه وترابط بصِلاة عديدة حتى أنّه لم يرَ فنّان ( مثنى فنّ ) يتقارضان أكثر من التصوير الفوتوغرافي وفنّ الرسم حتى أنّه لا يعدّ نقل اللوحة الفنية عبر الرسم من صورة فوتوغرافية عيباً أو إنقاصاً من فنيّة هذه اللوحة . " في باريس منذ خمس سنوات نظم معرض بعنوان ( نساء بيكاسو ) عبارة عن لوحات لبيكاسو مع الصور الفوتوغرافية الأصلية التي استعان بها في رسم لوحاته ، ثانيا شاهدت في فرنسا أيضا لقاء تلفزيونيا مع أرملة بيكاسو - فرانسواز جيلو - صرّحت فيه بأن زوجها لم يرسم طوال حياته لوحة واحدة من الطبيعة ماعدا مرة واحدة هي اللوحة التي رسمها لها عندما كان يحبها . أما جميع أعماله فقد رسمها من الفوتوغرافيا أو من تخطيط لبورتريهات أخرى ... أنا دهشت جدا ، وعندما قرأت مذكراته اكتشفت أنه كان يختار الزاوية للشخص الذي يرسمه ويضبط الإضاءة ويتصل بصديقه المصور ليلتقط الصورة الفوتوغرافية ... " (جورج بهجوري ، أخبار الأدب ، العدد 405 ، الأحد 15/04/2001م )
لكن التداخل الذي لم يُشرْ إليه من قبل ولم تفتح آفاقه - على حد علمي على الأقل - هو التداخل بين التصوير الفوتوغرافي والمسرح . فأين يَكْمن هذا التداخل ؟ وما نوعه ؟
يبدأ اللغوي الفرنسي رولان بارت في تناوله لهذا التداخل بعرض مقدمة حول العلاقة أو التداخل بين فن الرسم والتصوير الفوتوغرافي في كتاب خصصه بارت للتصوير الفوتوغرافي سماه " العلبة النيرة" . وفي تصوري أن بارت لم يأتِ بهذه المقدّمة إلا إشارة لما هو معروف من قوة الترابط بين التصوير والرسم وشهرة ذلك إنسانياً عبر مواقف عدّة .
يرى بارت " أنّ أوّل إنسان رأى أوّل صورة ( إذا ما استثنينا نيبس Niepce الذي أخرجها ) اعتقد أنها رسم بالريشة . فهناك الإطار نفسه ، والمنظور نفسه . لقد كان التصوير ولا يزال يهوسه ويقض مضجعه شبحُ الرسم بالريشة - الذي يمثل مايليثورب غصن إيريس ( سوسن ) على المنوال ذاته الذي كان سيرسمه رسام شرقي - لقد جعل عبر كلّنسخة واحتجاجاته ، من الرسم مرجعه المطلق ، والأبوي ، كما لو أنّه كان قد وُلِدَ من اللوحة - هذا صحيح تقنيا ، لكن جزيئا فقط ؛ ذلك لأنّ العلبة السوداء لدى الرسامين لم تكن سوى أحد مسببات اختراع التصوير الشمسي ؛ وربّما كان الجوهري هو الاكتشاف الكيماوي - لا شيء يميز بقدر واف ومناسب ، حتى هذه الرحلة من بحثي صورةً شمسيةً مهما كانت واقعية عن لوحةٍ مرسومة . وليست " النزعة التصويرانية " سوى مبالغة فيما تعتقدها لصورة عن نفسها " ص ( 31 )
هنا الرسم هو " المرجع المطلق " للتصوير وهو " الأبوي " . والتصوير " كما لو أنّه ولد من اللوحة " وكذا الرسم في استعانته بالتصوير عبر استخدام العلبة السوداء التي لم تكن سوى " أحد مسببات اختراع التصوير الشمسي " والتي سوف تتحوّل تدريجيا إلى " الكاميرا " . كما أشار بارت إلى شدّة التداخل بين الرسم والتصوير حتى أنّ التمييز بينهما لم يعد كافيا ومقنعا " فهناك الإطار نفسه ، والمنظور نفسه " والهدف نفسه ، والحاسة الرئيسة التي تدركان بها واحدة . ومع ذلك يرى بارت أنّ هناك ملامسةً أكثر تداخلاً مع التصوير من الرسم ، هي الملامسة بين التصوير والمسرح .
" ومع ذلك فإنّ التصوير الشمسي ( حسبما يبدو لي ) لا يلامس الفنّ عن طريق الرسم الفنّي ، وإنّما عن طريق المسرح . يوضع دائما في أصل اختراع الصورة كلّ من نييبس Niepce وداكير Daguerre - حتى لو كان الثاني قد اغتصب إلى حدّ ما مكانة الأول - غير أنّ داكير ، عندما استحوذ على مخترع نييبس كان يستغل في ساحة قصر ( الجمهورية ) مسرحا للمناظر الكبرى التي تبعث فيها الحياةَ الحركاتُ وخدعُ الضوء . ومُجمل القول لقد أنتجت العلبة السوداء ، في الوقت ذاته ، اللوحة المنظورية ، والصورة الشمسية ، والديوراما , وكلّها فنون مشهدية تتعلق بالخشبة المسرحية . لكن إذا كانت الصورة تبدو لي أكثر قربا من المسرح فلأنّ ذلك يتمّ من خلال مبدال أو وسيط متفرد - ربما كنت الوحيد الذي يراه - ألا وهو الموت . " ص ( 32 )
رولان بارت لا ينفي علاقة التداخل بين التصوير الفوتوغرافي وفنّ الرسم لكنه يحاول في أكثر من موضع في كتابه " العلبة النيرة " أن يقلل تفخيم اقتراض التصوير من فنّ الرسم : " غالبا ما يقال إنّ الرسامين هم الذين اخترعوا التصوير الشمسي - بإيراثهم إياه التأطير ، والمنظور الألبرتيني ، وبصريات العلبة السوداء - أقول : لا ، إنّهم الكيماويون . لأنّ نويم " لقد - كان " ( أي المُفَكَّر فيه في الصورة ) لم يصبح ممكناً إلا حين سمح ظرف علمي - اكتشاف حساسية المركبات الملحية - الفضية للضوء - بالتقاط الأشعة الضوئية المنبعثة من شيء مضاء بشكل ما ، وطبعها طبعاً مباشراً . إنّ الصورة - حرفياً - فيضٌ للمرجع ." ص ( 73 )
كما أنّ بارت يرى أنّ دخول التصوير إلى باقي الفنون يتمّ بشكل أقوى عبر وسيط فنّي آخر هو المسرح . وإن كان هذا الوسيط ليس جديدا فقد قام داكير Daguerreالفوتوغرافي القديم جدا الذي جاء بعد نييبس Niepce واستفاد منه ، بتحويل ساحة عرض في ساحة قصر الجمهورية إلى مسرح فوتوغرافي - إن صح هذا التعبير - .
عند بارت تشترك كل من اللوحة الفنية والصورة الفوتوغرافية والدراما في مصدر إنتاجهما وهو " العلبة السوداء " . كما تشترك في كونها " فنون مشهدية تتعلق بالخشبة المسرحية " . لكن الصورة الفوتوغرافية وعبر وسيط متفرد هو فلسفي بالدرجة الأولى - كما أرى - تبدو أكثر قربا من المسرح عند بارت . هذا الوسيط هو الموت .
إنّ حياة الصورة الفوتوغرافية منذ ولادتها ثمّ انتهائها على شكل نفاية ورقية حتى لو علقت في إطار يحفظها هو أحد الأسباب الفلسفية التي جعلت بارت يرها أكثر قربا له من المسرح وإن كان أحد الروابط بين التصوير والمسرح عند بارت هو الموت ، كما مرّ قبل قليل .
لكن لماذا لا يكون هذا الوسيط إلا الموت بين المسرح والصورة ؟ لماذا لا يكون شيئا آخر ؟
يرى بارت " أن العلاقة الأصلية بين المسرح وعبادة الموتى معروف . كان الممثلون الأوائل ينفصلون عن الجماعة بتمثيل أدوار الموتى . إذ بتلوين شحناتهم إلى سجنان العجائز - الموتى - كانوا يتميزون كجسد ميّت وحيّ في الوقت ذاته . كما في الجدع - أي النصف الأعلى من الجسد - المبيض في المسرح الطوطمي ، والشخص المصبوغ الوجه في المسرح الصيني ، والاصطباغ بالمساحيق المصنوعة من عجين الأرز في الكطكاكي الهندي ، وقناع مسرح النوNo الياباني . غير أن هذه العلاقة هي التي أجدها، بذاتها ، في الصورة حيّةً إلى الحدّ الذي نسعى بكلّ الجهود لتصورها - لا يمكن لهذا السعار الساعي إلى بعث " الحياة " في شيء ما لا يمكن إلا أن يكون إنكاراً خرافيا لقلق الميت - الصورة مثل مسرح بدائي ، وكلوحة حيّة ، تشخيص الوجه الجامد والمقنع الذي نرى من خلاله الموتى ." ص ( 32 )
من هذه الرؤية التي يشترك التاريخ في تكوينها سوف ينظر بارت إلى صورة أمّه في حيرة كبيرة وقلق لا يهدأ . فهو لا يستطيع الجزم بأنها صورة أمّه حتى يرى أنّها جثة . وبذلك يرى أنها صورة حية لجثة هامدة . صورة مسرحة الموت أمام عينيه .