صيد الفجر 2
مَنْ يَمْلكُ البحرَ ؟
كاميرا وسرد: حسين المحروس

في التصوير الفوتوغرافي يحفزني الناس لا الأفكار!! وتظل صورهم أمامي تبحث عن لغة أقولها بها!! ليست صورة دينية حتى أجد ما يساندها من تراكمات كثيرة من حولي.. هنا أنا أكون وحيداً.. فرداً.. أمام الصورة!! أبحث عن لغة جملها بصرية كي أقرأ بها الصورة.

***

(البحرُ لا يملكه أحدٌ..)
في الفجر التالي وصلت برفقة أخي- الذي لم يرَ شروق الشمس منذ عشرين عاماً- ساحل قرية كرانة قبل شروق الشمس بكثير.. ثمّة رجل مسنّ ينتظر شروق الشمس وغروب البحر في آن! سلمنا عليه كأننا نعرفه منذ زمن طويل.. هذه طريقتي عندما أريد أن أصور الناس، أشعرهم بالأمان أولاً.. شاركته الجلسة بكوب شاي ساخن. قال لي : أنا الحاج عبد الحسن بن مخلوق أنتظر انحسار ماء البحر كي أدخل حظرة صيدي التي تبعدُ كيلومتراً واحداً عن الساحل.. أدخل مشياً على الأقدام.. أزور الحظرة كلّ يومين أو أكثر. لم تعد حالتي تسمح بزيارتها مرتين في اليوم كما كنت أفعل سابقاً!!
على الرغم من بشاشته والابتسامة التي لا تفارق وجه هذا الرجل الذي تجاوز الخامسة والسبعين عاماً، تمرّ عليه حالات ضيق شديدة تبدو في وجهه هدف كاميرتي في تلك اللحظة. صمتَ فترةً بينما كان أخي ينظر إلى الشمس تشرق في شرود! قال الحاج عبد الحسن: سيدفنون البحر كلّه.. بالله عليك قلْ لي هل البحر يُملك؟ البحر لا يملكه أحد. انظرْ البحر الذي هناك، أقصد الذي كان هناك، دفنه(...)، وهذا الجزء من البحر القريب منا جداً دفنه(...)، وبعد أن مات ورثت الأرض زوجته!! أما البحر فقد راح!! الآن يريدون دفن هذا البحر الذي تراه كلّه!! ماذا نفعل؟ سنخسر حضور صيدنا! قالوا أنهم سيعيدون ما تبقى من الإيجار السنوي لي إذا دفنوا البحر!! لا أعرف ربما يعوضوننا وربما لا! أقول لك: إذا دفنوا البحر فعلاً - يضرب على زنده شبه العاري- إذا دفنوه دفنونا معه!
صمت أخي كثيراً بينما ارتدت كاميرتي لي خجلاً.. كنتُ أخشى أنّها لن تفعل شيئاً سوى جعل هذا المشهد ماثلاً أمامي طويلاً. هل ستستطيع الصورة استبدال الموقف بآخر كما تفعل في استبدال الموتى بأشباحهم الفوتوغرافية حيث نمسك موتنا بالصورة؟ هل هي قادرة على سدّ نقص غياب البحر بعد الدفن؟ إلى أيّ مدى هي قادرة على التخفيف من هذا الحزن؟ أم أنّها ستكون سليلة الحنين بعد دفن البحر؟ لكن مَنْ سيجرؤ على إهداء هذه الصورة للحاج عبد الحسن بعد تغييب حبيبه البحر؟ أقسم أنّي لن أفعل ذلك!!!! لن تكون هذه الصورة نظير بحره الجميل. ستكون ذلك النظير الذي لا يبعث على غير الذعر!! ولن تذكره بغير دافني البحر!!
هكذا كلّما نزلتُ للناس بالكاميرا كلّما اقتربتُ من رؤية تلك الألفة الغريبة بين الصورة والموت! أتخذُ الصورة لإبعاد القلق فإذا بالصورة نفسها تغدو القلق ذاته! كأنّ الصورة المرئية تأتي من اللامرئي، وكأنّ الجمال يستلزم الموت!

(البحرُ لا يملكه أحدٌ..)

نزلتً معه البحر، أو ما تبقى من ماء البحر ساعة الجزر. كلما تقدم الحاج عبد الحسن بن مخلوق ارتفع الماء فشعرت بتعب جرّ القدمين فيه.. وهو.. لم يشكُ من بعد المسافة بين نخيل القرية وحظرة صيده. قال لي: لن ينحسر ماء البحر كاملاً حتى ينتهي موسم نوع من الرطب يسمى (الخنيري).. صمت هو بينما سرحتُ أنا في هذا العلاقة الزمنية بين البحر والنخيل. توقف عند قارب صيد بالكاد يتحرك؛ لانحسار الماء.. وضع نعليه في القارب واستأنف السير. (انظرْ تلك هي حظرة صيدي الأولى، وتلك البعيدة الثانية.. سيكون الماء عندهما إلى سر البطن) قال لي ذلك مبتسماً منتظراً صيداً وفيراً مادام لم يزرها منذ يومين أو أكثر..لا يتذكر.. كل ما يتذكره أخبار دفن البحر!!

(البحرُ لا يملكه أحدٌ..)

الصورة الفوتوغرافية ترسل لنا إشارات عن كلّ عصر، مادامتْ قراءتُها هي قراءة رائيها. فصورة البحر هنا قبل مائة سنة ليست صورته الآن، ولن يكون الحديث عنها، أو أسلبتها مثل أسلبت صور البحر اليوم!! ربما هذا ما يحدث في رأس الحاج عبد الحسن بن مخلوق تمرر ذاكرته صور البحر في قرية كرانة ومعه صور النخيل والناس. فما الذي ستحمله صورته اليوم من إشارات لمَنْ لم يروا البحر على أطراف سواحل كرانة؟

وصلنا حظرة صيده.. إنّها قديمة جداً تغطي قشريات(النو) جريد النخل، وشباكها المعدنية فتلونت بالأسود والأخضر المائل للسواد. لن تقترب الأسماك كثيراً من هذه الحظرة.. إنّها موحشة..قال الحاج عبد الحسن:(لديّ رغبة في تجديدها وخبر دفن البحر حيرني).. مجموعة قليلة من أسماك (الصافي) هذا كلّ ما فيها، وهو لا يتوقف عن الابتسامة كلّما نظر إليّ أو إلى أخي! كأنّ الصورة قادرةٌ على إرسال علامات كاذبة عن هذا العصر..لا .. هي ليست قادرة على فعل ذلك؟!وعندما فتح الحاج عبد الحسن الحظرة الثانية لم يجد فيها سمكة واحدة!! يبتسم فأشعر بوحشته. كيف يستوحشُ البحار في البحر؟
(مّنْ أنتَ؟!
وحدكَ في الوَحشةِ
لا تَعرفُ مَنْ أنتَ
يَجْهلكَ الأحفادُ، مثلَ أسلافٍ يَزعمونَ جَهلك.
- قاسم حداد1997م
(البحرُ لا يملكه أحدٌ..)
كان الباحثُ والمستشرق البريطاني روبرت سارجنت يقول في دراسة له عن (حظور الصيد) في البحرين :(قبل أن يكون لشاطئ البحر قيمة تُذكر لأفراد غير أهل القرى المجاورة له، فإنّ العرف قد جرى بأن تكون مناطق البحر المجاورة لأهل القرية هي من أملاكهم، وهي مسألة قابلة للتحقيق والملاحظة،..- البحرين الثقافية- 25).. يعرف الحاج عبد الحسن ذلك قبل روبرت سيرجنت!!!

عجبتُ من مِشيتهِ لحظةَ مغادرةِ البحر.. هذا الرجلُ كأنّهُ يَهبُ البحرَ ماءَه.. أقسمُ بماء البحر وموجاته التي رأت كلّ شيء هنا منذ الموجة الأولى، أنّ الحاج عبد الحسن لن يمشي على تراب البحر المدفون... وملعونة كاميرا تقترب منه للتصوير.