تختار آرل الصورة واللغة، قطبين، أحدهما "الفرنكوفونية"، والآخر ريمون دوباردون المصور الفرنسي، الذي دعته إدارة اللقاءات لترؤس المهرجان وانتقاء المشاركين، في مهرجان يكتب حكايته مع مدينة تحتضنه منذ 37 عاماً.
تطرح اللقاءات تساؤلاتها كعادتها قبل كل دورة: ماذا تعني مشاهدة الصور؟ "إنها حكاية الصورة واللغة، وتعايشهما معاً، والنظر سوية. التوافق، أيضاً، موقف".
سيكون اللقاء هذا العام موقعاً من مصور، سينمائي، كاتب، ورحالة هو ريمون دوباردون، الذي وضع بنية للمهرجان قسّمها ثلاثاً: التأثرات، الزملاء، الانطلاق... مستثنياً أعماله الشخصية. لم يختر "مواضيع" وتحقيقات مصورة، إنما أشكالاً متنوعة لمواقف فوتوغرافية سياسية. دُعي تنفيذاً لسياسة المهرجان، تقديم قراءات متنوعة للإبداع الفوتوغرافي المعاصر.
يقدم دوباردون صورة ذاتية من خلال مواقف الآخرين، تغلفها نظرة فرنسية محضة في زمن طغت عليه التيارات الفوتوغرافية الألمانية، الإنكليزية، الهولندية واليابانية. لذلك ارتأى تقديم أعمال ذات جذور فرنكوفونية مشتركة. يقول دوباردون: "فكّرت بالزملاء المصوّرين "زملاء الطريق" لنتذكر شخصيتهم وميراثهم، على الرغم من الاختلافات، فما يجمعنا هو شغف تصوير العالم، خصوصاً وأن في الفوتوغرافيا لمسة فرنسية، وخلف كل صورة إنسان. إن اتهامنا من قبل ناشرين أميركيين بأن برنامجنا فرنسي، مناسبة للرد بأننا نرغب في مراقبة أساطيرنا وحتى تصميم صفحات مطبوعاتنا المصورة بأنفسنا. ونحلم بإصدار كتبنا الخاصة بنا لأن زملاء فُقدوا، أو قتلوا أو أصيبوا برصاص غير طائش. صوّرنا الحروب والبؤس والثورات سوية، أسماؤهم: جيل كارون، ميشال لوران... وآخرون. ستحتفي آرل بالفوتوغرافيا المعاصرة. نعرف جيداً أن المصور الخجول أو المتبجح هو فنان، أحياناً متواضع تنقصه الثقة بالنفس، يجب أن نذكّره بأنه "مبدع" بامتياز، وهذا من أولويات آرل. أردت أولاً رصد أحوال الفوتوغرافيا الفرنسية ودعمها. فوجئت وأحبطت في مرّات من مواضيع مثل افريقيا والطبيعة، التي يمكن أن نستوحي منها مواضيع كالهجرة والسياسة. ابتعدت قدر الإمكان عن البحث عن المواهب، والاستعاضة عنها بالعودة الى مصورين قد طواهم النسيان. لم أنس تأثير الفوتوغرافيا الأميركية عليّ. من الأهمية تكريم هؤلاء الذين صنعوا أحلامنا. إنه اعتراف بتاريخ الفوتوغرافيا الأميركية العالمية".
يتذكر دوباردون، بالمناسبة، واكر إيفانز، معلمه الأول "... الذي جاء باريس مرة وقرأ فيها فلوبير وبودلير وعاد الى نيويورك. بول ستراند، إدوارد وستون، أنسل أدامز، لويس هاين، أرثر روسشتاين، ويجي، مايك ماير ديسفارمر، ديان أربوس، ويليام كلاين، هاري كالاهان، موريس رايت، لي فريدلاندر، غاري وينوغراند، ويليام إيغلستون، هيلين لويت، برت أوزل، ماري ـ إيلين مارك، جون سترنفلد..." تغيب أسماء مثل دوروتيا لانج ونيكولا نيكسون، يستدركها دوباردون "في المرة القادمة!".
ضمن هذه المجموعة، الأميركي روبرت أدامز (1927)، أعظم المعاصرين الأميركيين على الإطلاق. يعشق دوباردون رومانسيته. نصوصه المكتوبة من أهم ما دوّنه مصوّر في السنوات العشر الأخيرة. مفكر ملتزم، تفتقده آرل لأنه يخشى السفر جواً. موضوعه المعروض "حياتنا وأولادنا" يتناول مسألة الصناعة النووية والتهديد الذي تمثله، والتدمير الذاتي للانسان من خلال تردي الطبيعة الأميركية. يقول أدامز: "القنابل الذرية مجهزة بصواعق من البلوتونيوم مصممة بشكل غير مأمون العواقب ومعرض للانفجار في أي وقت ما قد يسبب دماراً شاملاً. بمواجهة هذه الفرضيات، لا أحد يرغب في الاستمرار بهذه المشاريع المدمرة".
كورنيل كابا، (بودابست 1918، يعيش في أميركا منذ 1937) نذر نفسه لذكرى شقيقه المصور الشهير روبرت كابا. شق طريقه في عالم الصورة بعدما حقق لمجلة "لايف" ريبورتاجاً عن حملة المرشح الأميركي الشاب للرئاسة جون ف. كينيدي في 1960. تحقيق احتل مكانته في تاريخ الصورة الصحافية السياسية، وأميركا الستينات مسجل على الشريحة الملونة "كوداكروم".
غطى كابا الحملة منذ بدايتها، ملتقطاً المشهد السياسي الأميركي بعناصره الكاملة، مسيرات واستقبالات شعبية حاشدة، بأيقونية وأحياناً بنظرة ذاتية مبدعة زادتا من مؤيدي كينيدي بين قراء "لايف"، ما كانت عجزت عنه البورتريات الكلاسيكية من قبل. حتى ان بعض اللقطات لم يُظهر من كينيدي سوى يد تلوح لحشود، أو قصاصة كتب عليها خطاباً سيلقيه، او زوجته جاكي الحامل واقفة وهي تبتسم. لم يكن هم كورنل البحث عن "صدمة الصورة" بقدر مشاركته في طرح سياسة هذا المرشح.
عمل آخر حققه كابا بعد فوز كينيدي، هو اصدار كتاب "الأيام المئة الأولى من ولاية كينيدي"، ساعده في تصويره زملاء من "ماغنوم" هم هنري كارتييه ـ بريسون، اليوت ارويت، برت غلين، وسبعة من الكتاب والمؤرخين. اعتبر هذا العمل أول اصدار صحافي مصور يغطي حدثاً سياسياً. وصفته مجلة "تايم" بـ "التاريخ اللحظي"، نزل الى الأسواق في اليوم العاشر بعد المئة لتولي كينيدي. لقطاته المأخوذة بين جدران البيت الأبيض تنم عن قوة حدس كابا ونظرته الناقدة.
زاوية "زملاء الطريق" اختار لها دوباردون، دانيال انجيلي (1943)، أول زميل له في المهنة. التقيا في السادسة عشرة كمصورين هجرا باكراًمقاعد الدراسة. بدأ انجيلي في الخامسة عشرة مصوراً لسهرات أوناسيس واديث بياف.اسس في 1967 وكالة "انجيلي" المختصة بالتقاط "لحظات خاطفة من الحياة كفيلة وحدها بتخليد حقيقتها". حافظ على اخلاقية مهنية صارمة.
وصف نفسه بشاهد عصره، عندما كانت النجوم نجوماً. صور افتتاح مهرجان "كان" السينمائي طوال 35 عاماً.
غي لوكوريك (باريس 1941)، أحد ورثة "ماغنوم" و"لحظتها الخاطفة". رام ماهر يسدد في الوقت المناسب. خطابه بارع في تلقين علم الصورة وجماليتها وعشقها. "حلمنا مشترك في الالتقاء وسط القارة الأفريقية، فهو الأكثر افريقية بين المصورين الفرنسيين. هو شاعر ومهرج يقول دوباردون عنه. عمله الحالي في آرل "عين الفيل": يضرم ناراً ابدية في نفس كل "انسان" (جيم هاريسون). كاتب مسرحي يتوسل الفوتوغرافيا، لخدمة خطابه.
"جيل كارون ـ دون ماكيولين" في عمل مشترك تجمعه لقاءاتهما في حروب القرن العشرين الشرسة. كارون (فرنسا 1939 ـ 1970 كمبوديا)، وماكيولين (بريطانيا 1935). يتذكر دوباردون "عندما سافر كارون الى كمبوديا رافقته الى المطار، وكانت المرة الأخيرة التي جمعتنا. أسره "الخمير الحمر" ثم فقد، مع أن اسمه كان على لائحة الأسرى. كان في الثلاثين. عملنا سوية في التشاد، بيافرا، وباريس. التقى كارون وماكيولين في بيافرا. صورا حرب الأيام الستة في 1967 بين الاسرائيليين والعرب. في السنة التالية، توجها معاً الى فيتنام، وهناك انفصلا، توجه كارون الى كمبوديا، بعد زمن تبعه ماكيولين، الذي لمح صدفة حقيبة كارون مرمية في احد فنادق بنوم بن، فأدرك أن صاحبها قد اختفى لا محالة "لن يرجع ليستعيدها" قال في نفسه.
في المعرض أربعون صورة من مسيرة مصورين اجتمعا، ست مرات بين 1967 و1970، في مناطق الصراع، أحدهما اختفى، ودخل الثاني (ماكيولين) في لائحة مشاهير مصوري الحروب. من هناك الى ايرلندا (1971) حيث أصيب، ثم بيروت (الثمانينات) فحروب الخليج الأخيرة. لدون ماكيولين عمل آخر تعرضه آرل "ركن افريقي"، عن قبائل البدو في جنوب اثيوبيا، هو بمثابة عودة الى مناهل بداياته وتعلقه بهذه القارة. عمله الجديد يضيء على قضية شعب تناساه العالم. نظرة ماكيولين شبيهة بمواقف مستكشفي التاسع عشر ورحالته. عوالم غارقة في القدم لا تعرف الحاضر إلا من خلال السلاح المهرّب. قصص يجيدها دون ماكيولين ببراعة.
في "زملاء الطريق" أيضاً دايفيد بورنيت (1945) الأميركي، الأكثر فرنسية من الفرنسيين في عمله بالأسود والأبيض عن انقلاب التشيلي في 1973، مقتل اليندي وصعود بينوشيه. صوره وثائق ورموز عابرة للأزمنة، تحاصر الأحداث بعواطف جامحة، أبقت الانقلاب حاضراً في ذاكرة العالم الجماعية. بعد فيتنام، صوّر ريمون آرون، وميشال فوكو.
صوفي ريستيلهوبير (فرنسا 1949)، شغوفة بفوضى الأمكنة التي تجتاحها الأحداث الكبرى: بيروت الثمانينات، الخليج (1992)، البلقان (1994 ـ 1997)، وأخيراً في 2005، الضفة الغربية وهواجسها عن الخراب وجدران "الفصل عن الآخر"، لا عبر استخراج السياق السياسي، إنما بهدف إبداعي لا يحده زمن ولا هوية.
سوزان ميزلاس (نيويورك، 1948) من الجيل الجديد الذي التزم بالقضايا الانسانية. عملها المعروض في آرل يتناول فتيات الاستعراض في الملاهي الشعبية في نيو إنغلند ـ الولايات المتحدة. مقاربة وثائقية اجتماعية لحقبة السبعينات من تاريخ أميركا المعاصر وحركاتها النسائية. صوّرت ميزلاس الحرب في نيكاراغوا وإطاحة حكم سوموزا.
جان غومي (فرنسا 1948)، الباحث عن لحظات العزلة التي تشبع الحاجة الى الهرب من المدينة والانسان. يستعيد المعرض عشر سنوات من عشقه التقاط مشاهد لأمكنة صحراوية قاحلة، عرف ماضيها وجوداً انسانياً "إن صورنا هي دائماً معالم رحلات غير معترف بها. لقد تحوّلنا الى صم أمام العلامات التي لا يزال الكون يصدرها في الفراغ. بدأ النوع البشري يتحضر ليدخل عزلته" يقول غومي.
في زاوية "مصوّري السياسة والاجتماع"، مالك نجمه (نيو أورليانز 1973) مهاجر مغربي، أدرك، يوم صوّر مدفن والدته ووجوه شقيقاته في المغرب، أن الصور وحدها تعيده الى الوطن الأول. عمله عن المغرب عبور في اتجاهين، وإفصاح عن تعلق بالوطن. الأهل والأقارب هم أبطال حكاياته الفوتوغرافية، الصورة حجة لاستمرار العلاقة الاجتماعية. يستنطق الذاكرة، والأمكنة، والعواطف، وعيش الروابط العائلية وتعقيدات الانفصال، متجاوزاً القصة الرسمية للهجرة، للايحاء بغربة وطن عن تخيلاته الاجتماعية، وإعادة تظهير الصورة النمطية للعربي الحالم بالهجرة. لا تندرج صوره في المأساة الانسانية المباشرة، انما تستعيد الانهيار والرهان على الهجرة. "المأساة في مكان آخر. إنها افريقيا "البيضاء" المدماة بأسطورة الحماية الأجنبية. قراءة البوم العائلة، ومراجعة المدونات على ظهر الصور سمحا لي باعادة تركيب زمني لمراحل حياتنا. صوري تلي عرض التجربة المعاشة، وتظهر تشكل حكاية روحية ابطالها يطفون على سطح الصور".
موضوع طاولة اللقاءات المستديرة لهذا العام "الحق في الصورة، رهان الديموقراطية". يستعيد المنظمون ما قاله كارتييه ـ بريسون يوماً، في تعريفه لدور المصور: "البقاء في تماس مباشر مع الواقع".
اليوم يجد المصورون انفسهم في مواجهة القوانين التي تعتبر توثيق الواقع فعلاً لا شرعياً. ان سن قوانين مماثلة، يقوم على اعتبارات ذاتية يضاعف عدد الدعاوى التي قدمها اناس ظهروا في الصور، يجعل الحق في الاعلام بمواجهة مع الحريات الشخصية. تحول قانون الصورة، بعد اقل من 40 عاماً على بدء العمل به قيمة اقتصادية. فما هو مصير الحق في الاعلام؟ وماذا بقي من معنى لحرية التعبير؟
أصبحت الصورة، بعد التطور التقني الذي اتاح الاستنساخ اللامحدود، سلعة متداولة، تشكك بالواقع وتغير في المواقف منه. تخصيص الواقع يمكن ان يجعل من الصعب ممارسة مهنة تلتقط الصور ليشاهدها الآخر.
تقول الباحثة ماري جوزيه موندين: "يتجاوز هذا الرهان الصراع بين قانونين. يمكن للفوتوغرافيا ان تستمر في دورها كحامية للديموقراطية والتسامح والانفتاح. لكي تكتمل حرية المواطن، يجب ان ينال الحق في الاعلام الذي يجسده تصوير الواقع. مسألة ملكية الصورة قضية اخلاقية وسياسية. اذا كان من التافه القول ان الصورة اليوم هي سلعة، فاننا ننسى انها لا تحافظ على قيمتها الا اذا دخلت في تداول رمزي، كما الكلمات والاشارات التي تستمد قيمها من معانيها عبر تبادلية دائمة. انه لوهم الاعتقاد بأننا نملك صورتنا. الصورة قصة تنسج من ظهور واختفاء البعض بالنسبة للبعض الآخر. ان انشغالنا في ملكية الصور سببه هذيان تملك وفقدان صورة الذات. ان كنا مهووسين بالصور التي نتماهى معها، أو مجردين من قدرتنا الرمزية على التحرر من الذات ومن الآخر، لا يبقى لنا الا ان نختار الوجهة القانونية والمالية للتعويض عما فقدناه من ملكة التبادل. لقد تحولت صورنا بين ايدينا، شيئاً مادياً لا نلاحظ كم انه يمثل الدرك الذي وصلنا اليه..".
لمناسبة السنة الفرنكوفونية، تمنح آرل جوائز لمصورين من بلدان فرنكوفونية، من بينهم الفرنسية المغربية الاصل ايتو برادة (أنظر "المستقبل" 18/6/2006)، فاطمة مزموز (المغرب، 1974)، واللبنانيان وليد رعد (الشبانية، 1967)، عن مشروعه حول تاريخ لبنان المعاصر، وبالأخص حقبة الحرب الأهلية 1975 ـ 1991، وطرح الأحداث التاريخية المؤثرة. ورندة ميرزا (1978) جائزة timiL oN (حاورتها "المستقبل" في 7/11/2004). تستمر اعمال هؤلاء معروضة في آرل حتى نهاية الصيف.
المستقبل - الاحد 16 تموز 20