سلطان الصورة وطقوس التحول الجسدي

سحر نافع شاكر
(العراق)

(دالي)الجسد هو اشتقاق لكلمة تَجَسّدَ : أي صار ذا جسدٍ ، وهو ما يُعرف بـ (سر التجسد) عند المسيحيين ، هو سر اتخاذ السيد المسيح ، كلمة الله ، طبيعته البشرية في أحشاء مريم العذراء . والجسم هو البدن ، والبدن هو كل ما له طول وعرض وعمق .
والجسد هو صورة الجسم، هو اصطلاح لمفهوم يملكه كل فرد حي عن جسمه، كشيء في المكان، يستقل بطبيعة وجوده عن كل الأشياء الأخرى. الجسم دائما كائن في حيز مكاني يشغله خارج جسمه ، أي خارج حدود بيئة (الأنا) ، والخبرات ليست ممكنة من غير هذا المفهوم عن صورة الجسم ، ما دام كل واحد منا يحيي ككائن إنساني ذي جسد . فالجسد هو الذي يؤكد الوجود ، هو إدراك الفرد وهويته. وصورة الجسم هو مفهوم ديناميكي خاضع للتعديل ، تحت تأثير عناصر وتعاملات مختلفة . ويمكن التخلص من صورة الجسم أو بعض أجزائها، أو تغيير أو تعديل البعض الآخر منها اعتمادا علي رغباتنا، كعمليات التجميل مثلا التي تجري وفق شروطنا نحن، ودون التسبب بالشعور بأي ألم. أو عمليات التعذيب الجسدي التي تحدث رغما عنّا، ووفق شروط الآخر، مصحوبة بالتسبب المتعمد بأكبر طاقة ممكنة من الألم.
وجود أي إنسان في هذا العالم معناه انه يملك جسدا خاصا به ، وليس في وسع أي إنسان أن يكون في هذا العالم الا من خلال وجوده في صورة جسدية . فمن خلال جسده يستطيع أن يتعامل مع أجساد الأشخاص الآخرين والأشياء الأخرى الذي يتألف منهم هذا العالم. ومن خلال جسده يكون قادرا علي التأثير فيهم ، ويكون في استطاعتهم هم أيضا التأثير فيه . وبتلك الطريقة يستطيع أن يمتلك جزءا ضئيلا جدا من العالم هو الذي يشغله جسمه، يستطيع أن يقول عنه انه منطقته الخاصة.
تداخل العلاقات داخل إطار الصورة :
لم تظهر عيونهم ظهرت أجسادهم فقط، كتل لحم (تشعر بها) متألمة لا أول لها ولا آخر، وكأن ألمهم هو الذي تجسد لحما. وامتد حاجز بين المتلقي وبين لمس أجسادهم، سطح ورقة بيضاء ناصعة البراءة، أو شاشة كومبيوتر ملونة. وكانوا جميعهم داخل شيء ندعوه بـ (الصورة).
والصورة ، هي الطريقة التي يتم فيها اعتقال لحظة ما الي الأبد ، والصور التي بين أيدينا هي ليست لعراقيين معتقلين بل هي تُظهر اعتقالاً للحظة عذابهم ، حتى ان بعضهم يمكن ان يكون قد غادر مودعاً عالمنا هذا بعد نشرها . قيل مرة: ان صورة واحدة خير من ألف كلمة ، أما بالنسبة الي هذه الصور فهي تبعث بأحاسيس فرح وسعادة غامرة الي كل من ينظر إليها ، لشعوره ان جسده لم يكن هو المعني بأحداثها ، وليس له علاقة بالموضوع الذي سُجِنَ داخل إطارها .
انه مقال قاسي، لا يعترف بمفاهيم الشرف والأخلاق والعزة والكرامة والإنسانية... الخ ، انها في رأيه قيم ليس لها وجود ملموس الا داخل طيات الورق فقط ، اخترعها إنسان ما يوما ما ، ليوظفها لغرض دنئ في نفسه . فهناك ما يدعوه (إنسانية) ، و(الانسانية) شعور واتجاه حياة ، وهناك حقيقة قائمة علي أرض الواقع هي (المادة) التي لا تُفني ولا تٌستحدث . ومن خلال (المادة) يتم التعامل مع جميع متطلبات الحياة . فلننسي الانسانية ، فمقالي هذا يتعامل مع المادة ، والمادة فقط ، وهي هنا ندعوها بالجسد الإنساني . فحتى جسد الانسان لا يتكون الا من ماء وحديد وأملاح و... ولا شيء آخر غير ذلك ، أما الروح فلتذهب الي الجحيم ، لعدم إمكانية لمسها ، أو رؤيتها ، ولكني أستطيع أن أحول الجسد المادي الملموس الي كائن ، أتصرف به وفق ما أشاء ، لأجعله يعاني آلاما خرافية .
وكأن قصص الأطفال الخيالية و(بطلتها) الخالدة، الساحرة الشريرة، التي كنّا نقرأها ونحن صغارا، أمكن تجسيدها اليوم حقيقة علي أرض الواقع. تلك الساحرة التي تنجح دائما بتحويل أجساد المخلوقات البشرية الي كائنات حجرية تظل جامدة الي الأبد ، أو الي مخلوقات حيوانية تختلف عن ما وجدت عليه أصلا في هذه الحياة ، تعيش منعزلة في ظلمات ليس لها قرار ، بعيدا عن عيون الناس ! أو التعامل معهم ، كل ذلك يجري من أجل السيطرة علي مقدراتها ، واستلاب كل ما تملك منها ، أو انتزاع قدرة خلاّقة تتمتع بها الضحية ، وتفتقد إليها الساحرة . وتلك القصص التي وضعت أصلا للأطفال تُثبت بدورها ان القيم جميعها موضوعة وليست طبيعية ، وممارسة العنف في الحياة هو الطبيعي ، والنزعات غير الطبيعية في نفوس البشر هي الطبيعية ، وهي الخالدة علي مر العصور ، لأن البشر مارسها قبل آلاف السنين ، وما زالت تُمارس الي الوقت الحاضر ، وستظل تُمارس بعد آلاف السنين من يومنا هذا ، فهي لا تملك هوية محددة أو زمان محدد . وهي تسعي الي الحط من كل قيمة تبناها البشر في حياتهم ، حقيقة تلطما بها هذه الصور ، شئنا ذلك أم أبينا
والتي تكشف عن حرية كاملة في التعامل العبثي مع الجسد الإنساني كمادة وليس كمفهوم . وعن مدي القوة التي يمكن أن تُستخدم في تغيير أصغر تفاصيله المرئية .
السجن هو منذ الأزل المحيط الجغرافي الذي يُجَرِدْ الفرد داخله من متعة حريته ، فلماذا لا يُجَرَدْ جسده من متعة حرية تعوده علي تكوينه الشخصي ، ومن خلال ذلك يمكن أن يُحوّله الي جسد بدائي ، أو جسد لحيوان ما ، أو جسد لشيء جامد خاضعا لقوانين عالم الأشياء ، ولا يهم ما هي هذه الأشياء ، وبتلك الطريقة يُنقل الجسد الإنساني من عوالم الكائنات الحية الي عالم الجمادات من خلال التعامل المنظم المدروس مع نبضات الآلام الحسية التي تجري بسرعات فائقة داخل شبكة الخيوط العصبية الممتدة داخل استدارة كل خلية من خلايا تلك الأجساد العارية ، مهمتها حمل رسائل العذاب والجري بها الي الدماغ ، ليمحو بعدها كل ما آمن به ذلك المخلوق أو اعتنقه ، وصولا الي إنكارٍ كاملٍ لوجوده الإنساني نفسه ، وإقراره بواقعية تحوله الي حيوان ، واستسلامه المطلق لنتائج طقوس ذلك التحول . وقد كان الكاشف لجميع هذه الوقائع هي صورة .
الصورة هي اللقطة الفوتوغرافية ، وتعني الصفة ، فيقال صورة الأمر ، أي صفته . ويقال التصوير الضوئي Photography وهو كل ما كُتِبَ أو رُسم بالضوء ، نقلا من أرض الواقع الي فضاء ورقة ، حيث تتشابك انعكاسات خطوط الضوء فوق سطحها لترينا العلاقات الزمانية - المكانية لظاهرة معينة أو لحدث ما ، في لحظة ما مرت ، وأصبحت ماضي ، وليس هناك أدني مجال لتغيير أو محو ما حدث ، فليس هناك صورة التقطت لحدث (سوف) يحدث أبدا .
امتازت صور السجناء بانطباع مرئي قاد الي إحداث إثارة عنيفة لحاسة البصر ، من خلال تجسيدها لمراحل عذاب الجسد الإنساني . حيث عوض التقاط تلك الصور الانسان عن قصور أدواته وحواسه عن التذكر المستمر ، وأبقت علي مجريات الحدث مدونا بطريقة صادقة لا كذب فيها ولا رياء . وقد كانت الفكرة قديما بإمكانية تلاعب الفرد بالكلمات، وعدم إمكانيته التلاعب أو تحوير ما طُبِعَ داخل الحدود الخارجية لصورة ما. ولكن من خلال التقنية الحديثة وبرامج الكومبيوتر، دُمرت العلاقة التي كان يُعتقد بأنها أزلية، بين الصورة والحقيقة، وأمكن التلاعب بمجموعة كاملة من الصور المستلة
من موقعين علي شبكة الانترنيت هما:
(www.otbm.com) و (www.pickagallery.com)
(Photo editor) : وعن طريق برنامج الـ
إدعي موقع إباحي ثالث باللغة العربية هو :
(www.fosta.net)
بأنها تعود الي سجينات عراقيات في لحظة تعذيبهن واغتصابهن ، وقد نشر ذلك الموقع عددا من تلك الصور ، أُثبت بعد مشاهدتها انها صور مركبة وغير حقيقية (100%) ، والذي يراها يشعر بحزن عميق لانحطاط الدرجة التي وصل إليها مبدأ المتاجرة بعذابات البشر ، وإشهار لأجساد نساء ركبت علي وجوه أخريات أدعي الموقع بأنهن عراقيات وفي الحقيقة إنهن لا يمتن بأي صلة إليهن . كل ذلك يحدث طلبا للمتع الحسية لمن هو خارج عوالم العذاب هذه . ألم أقل بعدم وجود أي قيم إنسانية يمكن التعامل معها علي أرض الواقع.
طبيعة الوجود الإنساني:
القول ان شيئا ما (موجود) تدل علي ان للشيء مكانا وزمانا في العالم الفعلي ، وهو العالم الحقيقي الملموس الذي تعيش داخله جميع النباتات والحيوانات والجمادات ، الموجودة وجودا خارجيا في هذا العالم . لكنها لا توجد كما يوجد الانسان ، فهو الوحيد الذي يتميز وجوده بكونه (وجودا بشريا) . فالوجود في هذا المعني هو (الذات الفردية) ، التي تظل دائما (فردية) ، والتي لا يمكن الاستعاضة عنها أو استبدالها ، إذا فُقدت ، أبدا. و(الفردية) تعني تفرد الانسان عن سائر المخلوقات الأخرى ، وعن وجود أي إنسان آخر ، وهذا معناه ان لكل إنسان كيانه الخاص به هو دون غيره ، الذي لا يشبه الأشياء غير العاقلة ، وهو عندما ينطق بضمير المتكلم ، فهو يشير بذلك الي (خصوصية ذاته) للتعبير عن وعيه الشخصي ، بأنه يمتلك وجودا فريدا ومتميزا ، فهو ليس (عينة) من صنف أو فئة ، كما لو كان نملة أو خروف ، فهو لا يمكن أن يحل محله أي إنسان كان أو أي حيوان أو أي شيء ، وهو لا يمكن استبداله في حالة فقدانه . فلو انك قتلت مائة نملة ، فهناك مائة ألف نملة أُخري يمكن أن تحل محلها مباشرة ، ودون أي اختلاف ، لأنهم جميعا متشابهون بالضبط في كل شئ ، في أشكالهم وتصرفاتهم وروائحهم وجميعهم يسلكون سلوكا واحدا في حياتهم لا يتغير أبدا . وكذلك لو حطمت ألف إناء زجاجي ، فهناك ألف إناء زجاجي آخر يمكن أن يحل مباشرة محل جميع الأواني المحطمة دون أي اختلاف . وما ينطبق علي النمل ينطبق علي الخراف، وعلي جميع الحيوانات قاطبة. ما عدا الموجود البشري فهو الوحيد الذي يمتلك اهتماما لا ينضب بالموجودات البشرية الفردية الأخرى التي تشاركه العيش والتفاعل معه في هذا العالم. فخصائص تفرد الموجود البشري بكونه (لا يحل محله آخر) و(لا يُستبدل) و(لا ينضب الاهتمام به) هي التي تشكل صفة الخصوصية الذاتية للوجود الشخصي ، وهي التي تميزه عن غيره من ضروب الوجود الأخرى قاطبة .
ومن متع الوجود الإنساني هي ارتباطه بذاته . فهو موجود لأن يكون ذاته ، ولا يستطيع أن يكون ذات إنسان آخر ، أو ذات شيء آخر . فالإنسان لا يمكن أن يتحول الي شجرة ، أو أن يفكر كما يفكر العصفور . فهو عندما يولد علي هيئة إنسان ، يجب عليه أن يعيش وينمو ويفكر ويتعامل مع هذا العالم انطلاقا من كونه ذلك الإنسان ، ولا أحد غيره ولا شيء آخر غيره ، لأنه إذا تصرف تصرفا آخر ممكن أن يؤدي به ذلك الي الفناء الجسدي والذاتي .
ورغم ذلك فهناك إحدى مدارس طريق التفكير في التعامل مع مكونات هذا الوجود ، تدعي الطريقة الصورية أو الشكلية ، وآلية هذه الطريقة تسمح بتحويل الأفراد من شكل الي آخر ، ومن جنس شيء الي جنس شيء آخر ، بعد التأثير عليهم بقوي معينة ، وفشلهم في مقاومة هذه القوي ، والحد من تأثيرها علي أجسادهم . فيمكن أن يتحول الانسان الي حيوان ، أو الي جماد ... الخ . ولو حدث ذلك حقيقة لكان أكثر رعبا من أكثر أفلام الخيال العلمي خيفة. ومع ذلك فهذا هو ما حدث فعلا .
علاقة الذات بالآخر :
أن المرء لا يمكن أن يكون (في) العالم ، ويتفاعل مع بيئته الخارجية التي هو داخلها ، وتحيط به من جميع جهاته ، الا من خلال جسده الخاص به هو ، والكائن خارج حدود أجساد الآخرين . التي لا يستطيع إدراكها الا عن طريق الملاحظة الخارجية ، لكون حدود جسده دائما هو خارج حدود جسد الآخر . فالإنسان يعيش في خصوصية حتمية (لا مفر منها)، وانعزالية مشابه لها، لا يستطيع أي موجود بشري أن يخرج عن نهجها.
ويمكن للفرد أن يتجاوز جسده، أو أن يجعله (موضوعا) فيستخدمه كأداة، وبالتالي يعامله علي انه جزء من عالم الأدوات. فصاحب الجسد هو الذي يستطيع ذلك ، وليس الآخرين . أما بعد موته ، فيتم التعامل مع جسده بطريقة تشريحية فسيولوجية ، بوصفه كائنا عضويا علي جانب كبير من التعقيد ، يتألف من عضلات وعظام وأعصاب وأعضاء من كل نوع . هذا هو ما نتعلمه عن الجسد من خلال تشريح أجساد غيرنا من الناس ، أي من خلال تشريح أجساد أُعدت لكي نستخدمها (نحن) لا أصحابها أنفسهم . أجساد كانت حية تحولت الي (أشياء) بعد موتها ولذلك أصبحت متاحة للبحث الموضوعي .
فالحالة التي يتحول الانسان فيها الي شيء ما ، تحدث فقط بعد موته ، في الأحوال الطبيعية ، أي بعد موت ذاته ، أي مغادرة الذات للجسد التي كانت كائنة فيه . فتصبح جميع أجزاء جسمه موضوعا يمكن التعامل معه بقرار من الآخر ، لأن تعامل الآخر مع جسد حي بهذه الطريقة يسبب عذابا رهيبا لا يمكن لمخلوق أن يتحمله ، ومن أجل إحداث مثل هذا القدر من العذاب ، قُطِّعَتْ لحوم بعض السجناء بالسكاكين وهم أحياء ، وكأنهم أموات ، أي تمَّ تشريح أجسادهم وهم أحياء ، مما قاد بتلك الأجساد حتما الي انتقالها مباشرة من عالم الأحياء الي عالم الأموات ، اعتمادا علي نوع المعاملة التي تلقتها . فالجسد في بعض الأحيان يمكن أن يكون ضارا بوجود من يملكه ، مشوها له ، حيث يصبح في هذه الحالة عبئا علي صاحبه. ومن الممكن أن يغترب الموجود البشري عن جسده ، وأن يُمْتَلَك الجسد وكأنه يَمْتَلِك شيئا خارجيا يستخدمه غيرنا ، من أجل إيذائنا ، فشدة العذاب التي تحيق بجسد الانسان تجعل صاحبه يسعي لأن يتخلص من عبء وجوده ، لذلك يغادره مقررا موته ، للخلاص من جحيم عذابه .

إعادة ترتيب مكونات الجسد:
إذا كان الشيء يرتبط بكونه موجودا فان ماهيته تعتمد علي مفهوم (ما هو... ؟) فماهية موضوع ما تتألف من السمات الأساسية التي تجعله موضوعا معينا ، وإذا رغب شخص أن يغير موضوع ما ، فعليه أن يغير ماهيته ، تلك الماهية التي تتسم بالتجريد والكلية ، ومن السهل أن يُجري عليها عمليات التفكير العقلي ، والتحليل والمقارنة والتركيب، علي حين ان الوجود بما يتصف به من عرضية محضة ، وآنية ، يستعصي علي مثل هذه العمليات إجرائها. كيف الحال إذا قُلبت هذه المقولة ؟ وأمكن تغيير ماهية الموضوع ، وهو هنا الإنسان ، بتغيير مواصفات جسده ، أحاسيسه ، حدود إدراكه ، شكله ، طريقة تعامله مع ذاته .الخ.خ .
لقد نجح الفريق الأقوى في إدارة دفة سفينة العذاب النابعة من إتباع أغرب الطرق في آلية تحويل الجسد الإنساني ، وفي فرض شروط جديدة لصياغة مكونات تلك الأجساد الانسانية العارية ، وصولا الي أهداف سابقة رسمت لها . وفي قمة ممارسات التعذيب التي أُتبعتْ هي إعادة ترتيب مكونات الجسد الحسّية . فقد تمَّ التعامل مع الجسد الإنساني بكونه مادة قابلة للتشكيل والتغيير من خلال عنف الطقوس غير المألوفة المعتمدة في معاملته. وهي طقوس مختلفة يطلق عليها مصطلح (التعذيب ) .
عرّفت المادة الأولي من اتفاقية مناهضة التعذيب التي دخلت حيز التنفيذ في 26/6/1987م التعذيب بما يلي : (يقصد بالتعذيب أي عمل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد جسدياً كان أو عقلياً يلحق عمداً بشخص ما ، بقصد الحصول من هذا الشخص أو من شخص ثالث علي معلومات أو علي اعتراف ، أو معاقبته علي عمل ارتكبه أو يشتبه في أنه ارتكبه هو أو شخص ثالث ، أو تخويفه أو إرغامه هو أو أي شخص ثالث، أو عندما يلحق مثل هذا الألم أو العذاب لأي سبب من الأسباب يقوم علي التمييز أياً كان نوعه ، أو يحرض أو يوافق عليه أو يسكت عنه موظف رسمي أو شخص آخر يتصرف بصفته الرسمية ولا يتضمن في ذلك الألم أو العذاب الناشئ فقط عن عقوبات قانونية ، أو الملازم لهذه العقوبات أو الذي يكون نتيجة عرضية لها ).)
ان المبدأ الرئيس للتعذيب هو التسبب أو إيقاع أكبر قدر من الألم ، أو التهديد بتسبيب ذلك الألم ، واستغلال الخوف الذي سيتفجر خشية من حدوثه ، حيث يستطيع الناظر لتلك الصور أن يشتم رائحة الدم الذي يغطي تلك الأجساد المحطمة . هل كان وضوح تلك الصور الي هذه الدرجة غاية مقصودة ... أم ماذا ؟
كان أول تعامل مع أجساد المعتقلين هو تعريتها وتجريدها من ملابسها ، التي تعد أقدم إشارة لبداية التحضر الإنساني ، من أجل تحويلها الي أجساد لأُناس بدائيين ، لأن صورة الجسد الإنساني أياً كان ، ماضيا وحاضرا ، تعكس خلفية منهج صاحبها في الحياة . فلم لا أعيدهم جميعا الي منشأهم الأول ، الي الغابة ، وأخرجهم من عالمهم الحاضر . حتى لو كان وجود تلك الغابة داخل مخيلة البعض القليل. وتحقيقا لهذا التصور التقطت الصورة الأولى داخل حدائق !! سجن أبي غريب أو هكذا تبدو ، ويظهر داخل عالم هذه الصورة فريقين ، الأول هم حراس السجن الأقوياء الذين يحوزون مميزات وراثية جعلتهم يتمتعون بأجساد كبيرة الحجم ، خضعت لكثير من العناية الصحية والتدريب البدني والرياضي ، وهم يظهرون دائما بكامل ثيابهم ، المصممة بتقنية عالية ومهارة علمية لتأدية مهامها المختلفة ، من أجل توفير الحماية لكل عضو من أعضاء أجسادهم والمحافظة عليها . إضافة الي ذلك ، فقد دججوا بأحدث المعدات العسكرية ، وأكثرها تقدما ، من قمم رؤوسهم الي أخمص أقدامهم . تقابلهم أجساد الفريق الثاني، والمتمثلة في ثلاثة معتقلين عراة واقفين متلاصقين تحت أغصان وفروع شجرة وارفة الظلال، مزروعة في جانب الصورة الأيمن. وقد ظهرت أجسادهم وهي تفتقر الي أبسط عوامل القوة ، حيث مُنعت عنها أدني عناية صحية ممكن أن يحتاجها جسد إنساني ، وهي المحرومة أصلا من أي تدريب رياضي مدروس ، لعدم إيمان أصحابها بأهمية مثل هذه التدريبات .
التعامل مع طبيعة هذين الفريقين المتقابلين يتضمن التعامل مع منظومتين ميكانيكيتين أحدهما يتعامل تعاملا غربيا مع مفهوم الجسد الإنساني أهلته لكي يتصرف بقوة جسدية مطلقة ، والآخر يتميز ، من شكل جسده ، وطبيعة وقفته ، بتعامله مع جسده وفق اعتبارات البيئة الشرقية الذي هو جزء منها . الخ.ُهاب الجسد ورهاب العري الذي يعاني منه رجل الشرق منذ يوم ولدته أُمه عاريا ، انه الامتناع عن التعامل مع كل ما له علاقة بمنظومة الجسد الإنساني ، حتى أدي ذلك الي ابتعاد مجتمع بكامله عن جميع الأعمال التي يمكن أن ينشأ من خلالها تماسا وعلاقة حميمة مع الجسد ، كالتمريض مثلا أو عروض الأزياء أو التمثيل ... الخ .
لقد احتفي الغرب بالجسد ، بقوته وجماله ، محققا له جميع رغباته ومتطلبات عنفوانه ، أما رجل الشرق فقد خجل من جسده ، ومن عريه الصارخ ، ولذلك عُذِبَ ذلك الجسد من قبل أصحابه أنفسهم تحت قيود ملابس ثقال ، وسجنه داخل بيوت وغرف ، وحجب أقل بصيص لنور عنه ، خشية من أن يلامسه ، لأن مجرد النظر اليه فقط وهو يلامس الضوء يسبب لأبن الشرق ألما وتقززا نفسيا لا مبرر له . وعندما يتحدث الشرقي عن تحرر الجسد يتناوله كقضية منفصلة عن تحرر إرادة الانسان وروحه . فكان أحد أساليب عذاب تلك النفوس البشرية التي كتب عليها الله أن تولد في بلاد الشرق هي بكشف ذلك الجسد ، الذي لم يتعود الرجل الشرقي النظر اليه أو التعامل معه عاريا أبدا .
ان من أولى ممارسات التسبب بإحداث ألم ، هي تلك التي صبت في إعادة ترتيب مكونات تلك الأجساد هي حرمان الكائن البشري من استعمال وجهه الخاص به ، وحرمانه من التمتع باستخدام حواسه ، ومنعه من إمكانية التواصل الحسي مع الآخر ، كل ذلك جري من خلال وضع كيس أسود مخروطي الشكل فوق رأسه مهمته محو تعابير الوجه ، وإخفاء تقاطيع الوجوه المعذبة والعيون الباكية . فالوجه هو العضو الذي ينقل لغة الجسد غير المنطوقة أكثر من غيره الي الآخرين ، ولذلك انحصر الشعور بالعذاب كله تحت هذا الكيس الأسود . هنا اختفي الانسان ، واختفي معه مبدأ فرديته ، وحلت محله كتلة من الأعصاب المعذبة ، لا غير . حتى الأفواه كُممت (أو هكذا تراءي لي) قبل إخفائها . يعقب ذلك الشعور بإلغاء الـ (أنا) ، وشيئا فشيئا يتعاظم الشعور بالخوف ، ويفقد الجسد الإنساني هويته ، وبعد مراحل متقدمة من العذاب ينطفئ العقل ، ويتحول بذلك الجسد كليا الي (جسد لحيوان ما) مطيع طاعة عمياء ، أو الي (شئ) لا يملك له أي كيان شرعي . لقد تمَّ إخفاء الوجوه لكي يتحقق هدف العملية بتحويل الجسد الإنساني الي (جماد حي)
فالجسد هنا هو الهدف الأول للهجوم والمطاردة، هو الحَمّال الوحيد للبهجة والمتعة وللآسي والقهر الإنساني. وهو دائما المادة الأثيرة في التعامل العنيف ، لأنه يمثل الطريق الموصل الي دخول مملكة العذاب . وحيث انه ليس بمقدور أحد القبض علي الذهن ، فيتم القبض علي الجسد لسهولة الوصول اليه ، وبعد ذلك يتم استغلال عذابه لإجبار الفرد علي محو كل ما خُزِنَ داخل ذهنه الي الأبد . فهنا يُشَوَّه الذهن من خلال إحداث أقسي ألم مضني لجسد صاحبه
خصوصية المكان الجغرافي للجسد :
ان الفهم الأساسي للمكان ينطلق من مفهوم البيئة التي تحيط بالإنسان ، والتي تضم (بيئته الشخصية) المؤلفة من الأشخاص الآخرين ، لكون الموجود البشري يعيش في تفاعل مستمر مع غيره من الموجودات البشرية الا خري ، المشاركين له في نفس المكان . حيث يشكل الانسان بنفسه وجودا مكانيا ، نتيجة لشغل جسمه حيزا من مكان ما ، واحتلاله موقعا خاصا به . فالمكان منظم منذ البداية من خلال منظور مشاركة الأفراد الجسمية فيه . فإذا صغر هذا المكان وقصرت المسافة بين الذات والآخر حتى بلغت قيمة الصفر ، وتداخل جسد الأول في جسد الثاني ، وجسد الثاني في جسد الثالث وهكذا الي أن اكتمل بناء هرم من لحوم سبعة من الأجساد البشرية العارية ، وقد تداخلت الواحد بالآخر، وتراكبت الواحد فوق الآخر ، بطريقة اختفي بين طيات لحمها مفهوم المكان ، وتشوهت بذلك استقلالية الفرد وميزة انعزاليته ، وبتلك الآلية تم القضاء علي مفهوم الذات ، وتحول الجسد الي شيء ووسيلة . شيء يتعامل به الآخر وما يزال صاحبه حيا يتنفس ليسخره كوسيلة لإيقاع العذاب به ، وتلقيه مزيداً من الألم والمعاناة ، بينما لا يستطيع من يملكه أن يتدخل في تغيير نمط هذا التعامل ، والحد من آلية انسيابيته . وبتلك الطريقة يتحول الجسد شيئا فشيئا ، من جسد (أنساني) الي جسد (لشيء ما) . وتحول الجسد الي موضوع بالنسبة لصاحبه وبالنسبة الي الآخر ، الملتصق به ، دون أدني رغبة من الطرفين في ديمومة هذا الالتصاق ، وتحول المكان الذي تشغله جميع تلك الأجساد الي جحيم . فمن يملك جسده هنا (الأنا) أو الـ (هو) ، ومن هو (الأنا) ومن هو الـ (هو) . لقد تحول الجميع هنا الي (هو) . لقد نجحت القوة المفرطة في تشويه علاقة الانسان بجسده ، وإلغاء مبدأ التعامل مع الذات ، وأصبح المكان عبئا علي الجسد ، يروم التخلص منه ، ولا سبيل الي ذلك .
بدائية الجسد :
تهدف مراحل التعذيب الي العودة بأجساد القرن الحادي والعشرين الي أجساد بدائية ، فالأجساد هي المادة الأولية الوحيدة الحية التي اجتازت آلاف السنين وصولا الي الحاضر عبر جيناتها ، بكل ما تحمله من صفات جسدية ونفسية وذهنية ، راقدة داخل سلاسل الكروموسومات في كل خلية من خلاياها .
انها محاولة لإعادة الجسد الي حالته البدائية الأولى ، العري الأول ، الغابة ، والتي داخل أغصانها وإحراجها يتفجر الخوف ، مما تخفيه أوراق تلك الأشجار ، ومن الظلام المتزامن بعدم الرؤية . كأن الزمان قد أخذ بالتراجع يوما قبل اليوم الذي نعيشه الآن ، وسنة قبل السنة التي نحن فيها الآن ، وقرنا قبل القرن الذي اقتطعنا منه أربع سنوات فقط ، ومائة ألف سنة قبل المائة ألف سنة التي عاشتها البشرية ، وصولا الي مليون سنة قبل اللحظة .
فصورة الرجل المكبلة يديه خلف رقبته ، والملتصق جسده العاري الي قضبان زنزانته ، ضاما كل ساق الي شبيهتها ، واقفا منحنيا ، حاناً علي باقي أجزاء جسده ، أمام كلبين يقفان أمامه متحفزين لنهشه ، جعله ينسي كل شيء .
انظر الي الصورة جيدا ، انها تقسم المكان الواحد الي جانبين ، يمتدان متوازيان خلال زمنين يبعد كل واحد منهما عن الآخر آلاف السنين ، بينهما يمتد فاصل زمني وتاريخي لعصور غير مرئية . الجانب الأول هو البدائي ، هو الماضي الذي عاش قبل آلاف السنين ، عاريا خاليا من أية وسيلة للدفاع عن نفسه ، حتى لو كانت تلك الوسيلة هي عصا ، انه إنسان الغابة الأول الخائف الوحيد الضعيف المفتقد جسده الي أي نوع من أنواع الأسلحة الطبيعية المهيأة للدفاع عن نفسه ، تلك الأسلحة التي يتمتع بها أضعف حيوان يشاركه غابته ، كالأنياب الحادة ، والأظافر البارزة ، والفكوك المُهَشِمَة . وهو معتقل مميز حيث أُزيل الغطاء عن رأسه ، وكُشف عن وجهه ، لأن إخراج مشهده كان يتطلب الحاجة لعنصر الرؤية لديه ، لطبع أكبر طاقة خوف ممكنة فوق شبكة عينيه ، اعتمادا علي ما سيراه في اللحظات القادمة من مشاهد ، لتحملها أعصابه بدورها شحنات ألم مسرعة بها الي دماغه ، ليصدر أمره الي جميع خلايا جسمه لكي تخاف خوفا مروعا جامحا ، رافضةً محاولة إفناءها . لتتفجر بعدها أطنان من مخاوفِ الماضي والحاضر والمستقبل . خوف الماضي الذي اختزنته مشاعر إنسان الغابة داخل عقله الباطني ، وخوف المستقبل تحسبا من عذاب قادم مما هو سيحصل بعد تقطيع جسده ، وما سيحسه من ألم ، بعد أن رأي بأُم عينيه مثيرات عذاب حاضرة بين يديه ، وكل هذا الخوف أمام كلب ، حيوان يمكن أن يهرب بإلقاء حصاة صغيرة عليه ، أو إن عجز عن ذلك يمكن له إطلاق ساقيه للريح ، في الأحوال الاعتيادية ، ولكنه عاجز عن العثور علي تلك الحصى ، أو حتى إطلاق ساقيه المكبلتين للريح ، فحالة ذلك السجين غير اعتيادية . هو هنا يتصور كيف ان لحم جسده سيقطع وينهش بأسنان هذا الكلب . أما الذين أمامه فهم جميعهم ضمن الفريق الأول الأقوى المتحضر ، غايتهم أن يخرج المشهد الذي يقومون بانجازه ، بإخراج تقني عالي ، يُظهر الفرق بين الحضارة والبدائية ، بين هؤلاء الذي يطلق عليهم خطأ اسم (مخلوقات) ، وبينهم .
انها الفروق بين رجل ، ورجال ، وبينهم تقف كلاب ، وقد ربطت رقابها بسلاسل يتحكم بها الرجال المتحضرون . أرادوها هكذا تبدو للمشاهد، لأنهم كانوا يعلمون بأن آخرين يصورونهم. أنهم هنا يتعاملون مع مواد فقط، وهذه المواد نسميها نحن خطأ أجسادا ))
المرحلة اللاحقة من طقوس العذاب هذه هدفها انتهاك جسد الآخر بتحويل وجوده الإنساني الي وجود حيواني يهيمن علي قيادته بني الانسان . سُحبَ الجسد في هذه الصورة بعيدا عن عالمه ، مغادرا بيئته الانسانية ، التي تَعَوّدَ التعامل مع متطلباتها ، داخلا الي عالم الحيوان الذي يعرف حق المعرفة قوانينه ، عندما كان في زمان ما مضي إنسانا . واستسلم ذلك الانسان طائعا بدافع عذاب جسده ، الذي أدي به الي أن يتبرأ منه ، الي متطلبات عالمه الحيواني الجديد، ووافق علي أن يكون كلبا ، وكلبا مطيعا ، حتى انه سمح لمروضته علي إحاطة رقبته بطوق مخصص للكلاب ، تتصل به سلسلة قابضة علي نهايتها بكل استرخاء ، لا شدَّ فيها ولا توتر ، ولا خوف ولا انفعال . والكلب لا يحتاج عادة الي ملابس إنسانية يستر بها جسده ، فبقي عاريا ، والكلب لا يحتاج الي سرير خاص به ، فهو ينام أينما تمدد جسده ، فتمدد ذلك الجسد المعذب علي أرض صلبة خالية الا من عذاب أليم ، ويمكن أن يتضاعف ذلك العذاب وصولا الي درجة لا طاقة له بها علي تحملها ، إذا هو فكر في محاولة الدفاع من أجل استعادة وجوده الإنساني السابق ، الذي أصبح غير ذي بال بالنسبة اليه ، فيكفيه ما تحمله بسببه . قد تحققت غاية الطقوس الموجعة ، وتحول من إنسان ذو إرادة يقود نفسه ، الي حيوان مسلوب الإرادة ، يُقاد بسلسلة تطبق علي رقبته خوفا من قيامه بافتراس الآخرين !!
انها ليست سلسلة شُدَّ بنهايتها إنسان ، انها سلسلة جهنمية ذات حلقات متصلة ، لا يعلم أحد أولها من آخرها ، مهمتها تحويل كل ما كنّا ندعوه بإنسان الي شيء ثان لا يمت بصلة الي ما سبقه ، ويمكن أن يكون هذا الشيء مجرد كلاب أو قمل أو صراصير ، فما الضير لو داسها أحدهم بقدمه ، أليس جميع البشر تدوس علي الصراصير وقتما تشاء ، ولذلك لطم أحدهم رقبة ووجه معتقلا (ما) بحذائه ، وما الضير لو قام أحدهم بربط سلسلة حول رقبة كلبا ما ، أليس جميع البشر تسحب الكلاب من رقابها ، دون أن تُحاسب . ويمكن أن يتحول ذلك الانسان من خلال طقوس عذاب أعنف ، الي أشياء ليست ذات قيمة ، بل ان بعضهم يمكن أن يتحول الي سقط المتاع ، حتى لو كان هذا المتاع هو (مبولة) ، فلماذا لا أُفرغ وجودهم الإنساني من محتواه البشري وأُحل محله الجماد لأستريح منهم ومن أفكارهم ومن كل ما يحمل ذهنهم من صور !! ولذلك تَبّول أحدهم علي مَنْ نعدّه نحن بشرا ، وعدّهُ هو (مبولة )
وبعد اجتياز طقوس العذاب هذه التي رسمت بانوراما الألم ، وإذا لم يستجب جسد ما عنيد متمسك بـ (ذاته) الي طقوس تحوله ، سُحِقَ كاملا بجلوس أحدهم فوقه ، فالحضارة ممكن أن تسحق المتخلفين ، التي هي ليست بحاجة لهم ، حيث يُمدد فوق جسد الضحية وتحته تُمدد قضبان توضع بطريقة يمكن بأدنى ثقل فوقها أن تهشم عظامه المرتبة بكل عناية تحتها ، وتسحق خلاياه ، وتفتت لحمه ، وتؤدي به شيئا فشيئا الي الفناء الكامل لمفهوم جسد الانسان المادي لديه ، وتقوده بعد ذلك الي موت محقق ، حيث يُطلق عليه بعد كل ذلك تسمية (جثة) . واحتفالا بالنجاح المُحرَز في الوصول الي هذه النتيجة تُلتقط الصور التذكارية مع تلك (الجثة) ، بابتسامة عريضة من قبل القائمين بها نساء ورجالا ، فقد أكملوا مهمتهم بنجاح دون أي خطأ يُذكر . بعد أن أثبتوا حقيقة إمكانية تحويل الجسد الإنساني علي أرض الواقع ، الي أي شيء كان ، فمثل هذه المشاهد ليست حصرا علي الفن السابع .
وكلما وقع بصري علي هذه الصور الغريبة ، أُصغي السمع الي حفيف الرياح ، وهي تردد صدي نشيد ، ما زالت كلماته تصافح أوتار الحناجر ، قادمة من غياهب الماضي السحيق ، عابرة زمان أربعين عاما ، مجتازة جميع ساحات رياض الأطفال والمدارس الابتدائية والمتوسطة : أنا جندي عربي ... بندقيتي في يدي ... أفدي فيها وطني ... من شرور المعتدي ، وبعد أن كبر هؤلاء الأطفال وأصبحوا رجالا ، وعندما داست أحذية من أسموهم بعد ذلك مدّعين بـ (المعتدي) وطنهم ، تراكضوا الي كل شبر وزاوية من زواياه ليسرقوه ، خوفا من أن يسبقهم أحد الي ذلك . وتناسوا كلمات النشيد الذي حفظوه وهم أطفالا .

جريدة (الزمان) - التاريخ 2004 - 9 - 1