هندسة المعنى في الصورة، بلاغة العصر الجديد

غازي الذيبة
(الأردن)

محمد الدرة(ان اخطر تغير في وسائل الثقافة هو في تحويل الاستقبال من اللغة المكتوبة إلى الصورة المتلفزة ثم في ظهور الفضائيات، وسرعة انتشار المعلومة المصورة، وهذا يجعل فعل الاستقبال سريعا من جهة وفرديا من جهة ثانية)

عبد الله الغذامي

(1)

لقد صارت الصورة، فوتوغرافية أو متحركة، ومنذ اختراعها في هذا العصر، تشكل موازيا موضوعيا للثقافة التي تنتج ويعبر عنها باللغة كتابة أو حديثا، وصارت بعد ذلك آثار الصورة واضحة للعيان، خاصة بعيد اختراع السينما والتلفزيون، وأصبح بإمكانها أن تحرك شعوبا بكاملها، وتسهم في صناعة القرارات والآراء والتوجهات العامة للبشر.
يقول المفكر عبد الله الغذامي في ندوة بمهرجان القرين الثقافي حول الصورة وثقافتها: "ان الأدب ظل على مدى قرون متعاقبة هو الخطاب الأكثر شعبية عند كل الأمم، وكان هو الممثل الحقيقي لضمير أي أمة، والعلامة على ثقافتها(...) غير ان هذه الصورة الثقافية التقليدية قد أخذت في التغير في زمننا هذا، ولقد جاء التغير مع اختراع الصورة المتحركة كوسيلة للتعبير في السينما أولا ثم في التلفزيون، ثم حصل الانفجار الكبير مع ظهور البث الفضائي التلفزيوني الذي عمم الصورة ووحد الاستقبال )...( فالصورة البشرية عممت وساوت العيون في رؤية المادة المصورة مبثوثة على البشر كل البشر من دون رقيب أو وسيط (..) ان ثقافة الصورة هي علامة على التغير الحديث مثلما هي السبب فيه، وللمرة الأولى في تاريخ البشرية الثقافي والاجتماعي نجد أنفسنا عاجزين عن رؤية أو تسمية قادة حقيقيين يقودون الناس ويؤثرون فيهم فكريا أو سياسيا، أو فنيا، وان الدراسات الثقافية قامت اليوم بالاعتناء بثقافة الصورة أو الثقافة البصرية، وأدرجت كورسات علمية في عدد من الجامعات الأميركية لهذا الغرض".

لقد أصبحت الصورة في الوقت ذاته، جزءا متحركا من الآلة الإعلامية الضخمة في العالم، بل إن هذه الآلة، لا يمكنها المشي على قدميها بطريقة سليمة دون صورة، وفي كل الأحوال، تضعنا الصورة بمعناها الجديد، وبعيدا عن أي مجال تأثير آخر في صلب واقع، أردت ان اسميه "واقع الصورة"، رغم ما تحمله هذه التسمية من مبالغة، تذهب في تحوير الإيهام إلى واقع.

فأثر الصورة لا يمكن رصده إلا من خلال الواقع، وعبر المتلقين للصور، الذين هم نحن، حيث تتكشف حقائق مثيرة لاستغرابنا في هذا الواقع، فنحن نتعامل مع الصورة، وكأنها جزء من واقعنا، وهذا ما دربتنا عليه الصورة ذاتها، متناسين قدرتها على امتلاكنا والتغلغل فينا، والتأثير في مسارات تفكيرنا، ونقلنا من منطقة إلى أخرى، وقلب الحقائق، ومنح المعاني دلالات جديدة، غير تلك التي تقولها أصلا.
بعد الحرب العالمية الثانية، استخدمت الصورة بطريقة مثيرة ومؤثرة جدا، شكلت وجدان الإنسان الأوروبي في تلك الحقبة، وما زالت آثارها عالقة إلى يومنا هذا في ذاكرة أوروبا والغرب كله.

لقد استخدمت وسائل الإعلام الصحفية والتلفزيونية وسبقتها السينمائية، كل ما من شأنه توثيق وتدوين الحرب، من وجهة نظر المنتصرين طبعا، وإن حاول المهزوم هنا تدوين الحرب بالصورة، من وجهة نظره، فإن مجالات ظهور ما دونه لن تكون سهلة، ولن تكون مؤثرة، لأن إطار الصورة العام، ليس منتجها الشكلي حسب، إنه يحتاج إلى آلية لتعممه وتقدمه للعالم، وتبثه بطريقة تحمل ما يراد منه.
كان على المنتصرين في الحربين العالميتين الأولى والثانية من دول الحلفاء والمحور إبراز حجم الخسائر التي تعرضوا لها، لتبرير قسوتهم في مواجهة بعضهم بعضا، فهم لم يتوانوا عن استخدام السبل، التي تمنحهم الحق في ارتكاب ما يشاؤون من حروب ومجازر واحتلالات، وكانت الصورة أحد الأبطال المهمين لتبرير تلك البشاعات والترويج لها عند الطرفين المتحاربين.

وشهدت الحرب العالمية الثانية، حملات إعلامية، لعبت الصورة دورا بارزا في حيثياتها، استخدمها طرفا الحرب، ونظرا لها، عبر وزراء إعلامهما وقادتهما، كما تم استخدام الصور في الأعمال الحربية، كأدوات للتضليل والهجوم وإيصال رسائل عسكرية، والقيام بعمليات استخباراتية.
لكن الذي يفصح عن قوة الأثر الذي تخلفه الصور في الوجدان، هو ما خلفته الأفلام المصنوعة جيدا في هوليوود على أيدي سينمائيين أميركيين كبار أمثال هتشكوك، والتي تقدم الهولوكوست اليهودي في ألمانيا النازية آنذاك، بما يوحي لمن يشاهده، على أنه صور في الوقت الذي جرت فيه أحداث الهولوكوست، واستخدمت في هذه الأفلام، كل الوسائل الدعائية والأيديولوجية، التي تحض على التضامن مع "شعب الله المختار" أي اليهود ، ومن ثم تم استغلال هذه الصور في أوروبا والدول الغربية من قبل اليهود الذين أنتجوها، لتحقق لهم مردودا هائلا للتضامن مع "قضاياهم"، ومن ثم التسامح معهم في كل ما يقومون به، مهما كان حجمه، لأنهم كانوا ضحايا الهولوكوست النازي، وقد أصبح مغضوبا على النازية بعد خسارتها الحرب العالمية الثانية، وانتحر زعيمها هتلر وجرى استصدار قوانين حرمتها في أوروبا والعالم، مما برر لليهود بعد ذلك، استغلال كل الدول التي شاركت ألمانيا في حربها، والاستفادة منها ماديا ومعنويا، وكل ذلك بسبب حفنة من الأفلام المزيفة، التي صنعت بعد الهولوكوست الحقيقي، باللونين الأبيض والأسود، وبصور مرتجفة ومرممة أحيانا، لتوحي بأنها صورت أثناء الهولوكوست نفسه الذي ما زال يثير الشكوك حول مدى صدقية بعض جوانبه، بينما كانت التقنيات السينمائية قد تطورت آنذاك، على ما تم تصويره للهولوكوست، وقد تحدث بعض المحققين الصحفيين والباحثين في تاريخ هوليوود عن هذه الفضيحة الصورية، لكن الصمت عليها لاحقا، تم شراؤه بطرق، تشبه صور الهولوكوست المزيفة ذاتها.
هذه الإحالة، قد لا تبدو مثار سجال عميق اليوم، عن فحوى الصورة ومديات استغلالها للترويج والدعاية، وتعبئتها، بحيث تكون مؤثرا ساحقا في قوته لصناعة رأي أو موقف عامين، ولكنها توضح مسألة في غاية الخطورة، وهي استغلال الصورة للتلاعب بالعقول.

(2)

يكاد مفهوم "ثقافة الصورة" يشكل مفهوما عابرا للهجوم والسخريات في ثقافتنا العربية، فحين يتحدث أحدنا عن ثقافة الصورة، يفترض دائما أننا نمتلك وعيا بتلك الثقافة، فنحن في "عصر الصورة"، وأنه يجب علينا ان نكون حذرين في التعامل مع الصور، لأن العولمة التي لم نفهمها بعد، قد تسرب لنا قيمها عبر الصور ومناطقها المريبة، وانه علينا أن نحمي أنفسنا منها أو نستفيد منها بما يليق بقيمنا ويساعدنا في حياتنا و"تقدمنا"، وبهذه العبارات ذات الطابع الوعظي، يتم إحاطتنا بمفاهيم، تزيح الصورة عن مكانتها، في أن تكون تحت مجهر بحثنا، والاتصال بها، لكي نكون قادرين على فهمها والاتصال بها، وتسخيرها لما يمكننا من أن نكون بالموازاة مع عصر الصورة الذي يجتاح العالم بقوة هائلة، بحيث أصبحت صناعة الصورة فيه، تشكل جزءا هاما من الاقتصادات العالمية، وهي تقدم شهادات حية على صناعة التحولات في المجتمعات وإثارة حاسة التغيير فيها، وصوغ مواقفها الفكرية، ولم يعد محمول الصور مقتصرا على وظيفته الجمالية كصورة في إطارها الفني، كما كان يحدث قبل اختراع الصور الفوتوغرافية والصور المتحركة في السينما والتلفزيون، أي إبان الرسم البدائي مرورا بمراحل تطور الرسم إلى ما صار عليه لاحقا، وشاهدناه في المدارس الفنية الواقعية والكلاسيكية.
ان الصورة اليوم تصوغ وجداننا، وتحرك مشاعرنا، وتدفعنا إلى التعامل مع العالم بحسب ما تقدمه لنا بلغتها، فهي تتغلغل فينا، وتسرب محمولها الرؤيوي، بقوة كبيرة، ليتحول هذا المحمول بسرعة كبيرة إلى معنى، تتشكل في إطاره القيم والأفكار والمواقف التي تحدد مسارات الشخص المستقبل لها.

ففي تعاطينا مع الصورة في المنطقة العربية، نقوم بتقسيمها إلى نوعين، لا ثالث لهما، فنحن ما زلنا نتعامل مع الأفكار بثنائية مانوية، القسم الأول هو الصورة السلبية والثاني الصورة الإيجابية، وبالطبع فإن هذه القسمة، تنحني على منطقة وعظية، تسخر أهدافها كلها إلى تكريس مفهوم الخير والشر بسذاجة متناهية، لأنها تخلو من العمق ومن القدرة على تفكيك الصورة وقراءتها، ومواجهتها إن كانت تحتاج إلى مواجهة.
ففي الصورة السلبية، بحسب التقسيم العربي، يجب أن نحمي أنفسنا وأجيالنا مما تقدمه لنا الصور من مواضيع لا أخلاقية، ولا تتوافق مع قيمنا الثقافية والفكرية، وما إلى ذلك من اتهامات تقع على رأس الصورة في نهاية الأمر، ثم وكالعادة ينحرف الكلام إلى الغرب ومحاولاته في تقديم صور تسبب التشويه لثقافتنا، وأنه أيضا، يحمل صورة عنا، دلالتها سلبية تماما، وهكذا، تمضي مفردة الصورة، متبوعة أو مسبوقة بمفردة أخرى، لتكملة معنى خالٍ من دلالة الصورة الجمالية والفنية والفكرية والثقافية، وإنما خاضعة لملابسات الفهم المنحرف عن معنى الصورة، وتشكله داخل الوعي والوجود.

أما الإيجابي في الصورة، فهو خاضع لما تقتضيه الحاجة لها، ولما تقدمه من خدمات لنا، وفي كل الأحوال تعتبر الصورة إيجابية، إذا كانت خالية من الدسم، أي ان تكون بعيدة عن إثارة كل ما من شأنه تنبيهنا إلى قدرة الصور على أن تكون متحركة في الوجدان، وأن تسهم في منحنا وجودا آخر، موازياً لوجودنا، كما يحدث في الأفلام التلفزيونية والسينمائية.
لم يتطرق الكتاب والباحثون العرب إلى الصورة كمفهوم جمالي، ولم يتعاملوا معها في سياقات ثقافية أخرى، لها علاقة بالمجتمع والسياسة والاقتصاد، وغيبوا بإدراك شديد، علاقة الصورة في تقديم لغة موازية للكلمة، بل تتفوق عليها أحيانا بتأثيراتها، وقدرتها على ترك أثر بليغ في النفس.
ومع أن الصورة في الثقافة العربية، ناقصة الحقوق، وتخلو أدبياتنا من معالجات جادة لمفهومها، ونبدو قاصرين عن إنشاء علاقة معها، إلا أننا غالبا ما نزج في حديثنا عن علاقتنا بالآخر أي الغربي، مفردة الصورة، مستخدمينها بلاغيا، لإنتاج توضيح لغوي عنا أو عنهم (أي الآخر) ، وهذا الفهم العسير في التعامل مع الصور ينتج أنماطا من العلائق غير السوية معها ومعنا، ويبعث على تشويهنا، وتقديمنا للعالم بطريقة، نبدو فيها جهلة أو غير متحضرين.

ومن جانب آخر، فحين يجري إلقاء اللوم على الصورة في إفساد الأجيال، فإننا نخضعها لمنظور أخلاقي، يمكن معالجته من وجهة نظر اجتماعية مثلا، وفيما تتهم الصورة باستخدام أدوات التضليل وقلب الحقائق، فإنها أيضا تستخدم لإثبات الحقائق، ولتقديم أدلة على المصداقية، ومن هنا يبدو أن التعامل مع ثقافة الصورة عربيا، مهتز ولا يمتلك فهما واعيا لها.

لقد غابت الصورة كفعل ثقافي جمالي مؤثر في حياتنا، وانتفت منها الطاقة الثقافية التي تملكها في التأثير علينا، فيما تكرس لدى ثقافات غير ثقافتنا كلغة حيوية، يستعان بها على كثير من الأمور، ومع أننا نعيش الزمن الذي انوجدت فيه وسائط تقدم لنا كميات هائلة من الصور، لم يكن لنا ان نراها في يوم من الأيام، إلا أن إغفالنا لثقافة الصورة، جعلنا مرتبكين، وغير قادرين على فهم ما قد تجلبه الصور لنا من معان، وما قد تمليه علينا وتتركه فينا من آثار.

هذا الغياب الموحش لفهم الصورة، والاتصال معها، كان مثل هوة سحيقة، ما زلنا نربض في قاعها، فهناك فقر مريع في ثقافتنا حول الصورة كما أشرت، ولعل العقل العلمي الذي يفارق العقل العربي، هو الذي يمكننا من إدراك هذا الفقر، فنحن منطوون على مناطق قولية فقط، ومرد ذلك، هو التعميم الشائع عن ان ثقافتنا محصورة بالكلمة أي باللغة، ومن هنا، نجد أن تعويض القصور في الالتقاء بالصورة والتفاعل معها، كنوع من الفنون والثقافات بل والصناعة، التبس على كثير من بلاغيينا، فقرأوها عبر القول، وأثنوا بذلك على الصورة الشعرية، وجعلوها منجزا يوازي الصورة، التي تشكل مدى للرؤية البصرية، غير منظور، ولا متناه في معناه وعمقه وشموليته.

(3)

حين نتنقل اليوم في فضاء الصور التي تبث لنا، سواء عبر الصحف أو الفضائيات أو السينما أو الانترنت، ستتكشف لنا العديد من الحقائق المؤثرة في واقعنا العربي، وأولها ان إنتاجنا للصورة يتصاغر أمام إنتاج دول أصغر منا حجما في الجغرافيا والديموغرافيا والاقتصاد.
وعدا ذلك، فإن قصورنا في إنتاج الصورة وصناعتها، شكل جزءا مهما من أزماتنا المعاصرة، وهذا دليل كاف على أن آثار الصورة، اكبر من ان نحصرها في إطار بعينه، وفي مواجهتنا السياسية والعسكرية مثلا مع إسرائيل، تتكشف الكثير من الحقائق في مجال الصورة، إذ تمتلك هذه الدولة الاحتلالية، أرشيفا هائلا لحروبها مع العرب، لا تمتلكه أي دولة عربية، وحال قيام مخرج تلفزيوني أو موثق عربي بإنتاج فيلم أو موضوع عن حروب العرب مع إسرائيل، فإنه يستدعي المادة الأرشيفية المصورة التي يحتاجها في هذا الجانب من محطات التلفزة الأجنبية، التي زودتها إسرائيل بمثل هذا المواد، وفي حال عودته لأرشيف بلاده أو أرشيف الدول العربية في هذا الأمر، فإنه سيواجه بغياب الصور الخاصة بحروب العرب مع إسرائيل، وإن وجدت فإنها ستكون صورا ساذجة في مباشرتها، وضعيفة في معناها وشكلها وصناعتها.
كذلك فإن الإمكانيات التي توفرها إسرائيل لإنتاج الصورة، غير موجودة في المنطقة العربية التي تحتل إسرائيل جزءا منها، فهي إلى جانب امتلاكها طاقة على إنتاج صور، يمكن ترويجها في كل مكان في العالم حتى في بلداننا، تمتلك طاقة كبيرة على التعامل مع منتجي الصور في العالم، سواء كانوا أفرادا يعملون في مجال الصورة كالممثلين أو كانوا منتجي صور يملكون محطات إعلامية ضخمة وستوديوهات تلفزيونية وسينمائية في دول العالم المختلفة.

من هنا، لا تقف مهمة الصورة عند كونها، مؤثرا بليغا في معناه، وفي صناعته للمعنى أيضا، إنها تتجاوز ذلك المعطى والأثر، لتصبح شكلا ثقافيا قارا، يتمكن من الوعي والتأثير فينا، فقد أخذت الصورة تحل مكان بعض المفاهيم التي تشكل قيم البشر في العالم، وهنا مكمن قوة الأثر الذي تحققه الصورة، نتيجة انزياحاتها عن المؤدى البصري الجمالي إلى المؤدى المفاهيمي، ومن الطبيعي أن تنزاح المفاهيم وتتحول، ربما، ولذا لم تخرج الصورة عن هذا ( الطبيعي ) في ذلك، ولأن هذا الانزياح، يحمل في مضمونه تحولا في القيم والثقافات، فإن الإغضاء عن التعامل معه بقوة ووعي،سوف يجعلنا مستلبين لواقع جديد، يتم فرضه علينا دون إرادة منا، ودون مشاركتنا في صناعته.

ان تغير المفاهيم وانزياحها، لا يقتصر بالطبع على الصورة، التي تنبعث كما قلت من الواقع ، وتتشكل في أعماقه، وتصبح جزءا منه، لا يمكن فصمه، انه يتصل أيضا بالمحيط الذي يصنع الصورة، ويقدمها لنا، ويجعلها تؤثر فينا.

في دراسته المنشورة في آب 2002 بمجلة "النبأ"، يكتب الدكتور حسن السوداني عن "العالم ونظرية الاندماج"، متعرضا إلى تفاصيل دقيقة في مهمة الصورة، ويقرأها من الجانب الذي يكشف قوة الأثر الذي تبثه الصورة في ذواتنا، وينطلق من الإعلام ونظرياته ومن مثلث (ماكلوهان) القائم على (الإخبار، الترفيه، التثقيف)، ويضيف السوداني إلى هذا المثلث بعد أحداث الحادي عشر من أيلول (التشويه)، ويقول: تحول المثلث الجميل إلى مربع حاد الزوايا لا يثير فينا أي بعد جمالي أو حسّي.
ان الصورة لا تتمدد في الوعي دون رسوخها في المنطقة التي حددت ب :الإخبار والترفيه والتثقيف، وكذلك حين تصنّع يرجى منها أن تحدث الأثر الذي صنعت لإحداثه، والذي تتم صناعته بحرفية وبراعة عاليتين، وهذه الحرفية والبراعة رافقت فعليا التطور الكبير الذي لحق بتقنيات صناعة التصوير، وأصبح التعامل مع الصور علما بذاته، له قوانينه وفيزياؤه وتقنياته وعوالمه التي لا يمكن اقتحامها دون إدراك فعلي لقيمتها وقوة مؤداها وأثرها.

ان تحول مثلث ماكلوهان إلى مربع حاد الزوايا بعد أحداث 11 أيلول، ومع مطلع الألفية الثالثة، يشتمل على قدرة الصورة على النزوع باتجاهات غير محددة فعلا، ففضاؤها المنفتح على أفق مديد وشاسع، هو الذي يمنحها هذه الطاقة على أن تكون لا متناهية في تحولاتها، وكل ذلك يحدث بفضل القدرة التي تحققها الصورة لكي تصبح معنى، وقيمة، ومفهوما وعلما ونظرية وثقافة، وما إلى ذلك من مساحات تتحقق فيها طاقة المعرفة كما تتحقق في مجالات العلوم والمعارف الأخرى.

إن ما خلفته أحداث الحادي عشر من أيلول، بعد تدمير برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك بطائرتين، وجهت التهم فيها إلى أفراد عرب ومسلمين، قدم صورة انهيار البرجين وضحايا 11سبتمبر كله، كما لو أن الأمة العربية والإسلامية هي المسؤولة المباشرة عنهما، ولعبت الصورة في هذه التقديم دورا تاريخيا، لم يحدث أن لعبت مثله في السابق سوى في صورة صناعة الهولوكوست التي تحدثت عنها في هذا التحقيق.
ولكن الصورة هذه المرة، امتلكت قوة مؤثرة، يمكن التوقف عندها في عدد من الاتجاهات، أكثرها بلاغة، هي القوة الاقتصادية والعسكرية لأميركا، وكذلك القوة الفائقة لصناعة الصورة في أميركا، حيث تربض على أرض الولايات المتحدة الأميركية، أهم وأعظم المؤسسات عبر التاريخ لصناعة الصور، والمواقف والرأي العام، هي "هوليوود"، وقد استخدمت الولايات المتحدة حادثة أيلول هذه، بتقصد مبالغ فيه، لإنتاج صورة أخرى عن العرب والمسلمين في المخيال الغربي والأميركي، ومنذ اللحظات الأولى لإعلان الهجوم، عبر صور مبثوثة تلفزيونيا من موقع الحدث في نيويورك والى العالم، بدت الآراء حول مفاهيم الإرهاب ومكافحته تصنع داخل أروقة السياسة الأميركية والعربية وبدأت تنحرف بالرأي العام الغربي، وحتى العربي والإسلامي، في اتجاهات جديدة ، متضاربة مع بعضها، مثيرة انقسامات هائلة بين البشر.

حققت صورة البرجين وهما ينهاران بسبب اقتحام طائرات نقل ركاب لهما، صدمة، شملت العالم كله، ولم تكن هذه الصدمة بسبب الحادث وقوته الهائلة على التفجير، لا، إذ أن انتباهة صغيرة منا لما جرى في زلازل تركيا أو إيران أو فيضانات الهند والصين، خلال السنوات الأخيرة من القرن العشرين، يصل عدد ضحاياها إلى ما هو أكبر من ضحايا حادثة البرجين في أيلول، لكن الصورة التي تم تقديمها للعالم، جعلت من هذه الحادثة،واحدة من أكبر الكوراث في العالم، وفي عام 1982، حين قام رئيس الوزراء الإسرائيلي شارون بمذبحة صبرا وشاتيلا في لبنان، وذهب ضحيتها،العدد ذاته الذي سقط في حادثة البرجين، لم يكن العالم، قد أثير بمثل إثارته في أيلول 2002.

لقد حمل الأميركيون صورة ذلك اليوم، ما مكنهم من صنع سياسات جديدة، يمضون من خلالها إلى فرض هيمنتهم على مناطق جديدة من العالم، ومن هنا دخلت الصورة، مجالا آخر تعدى ما قدمه ماكولهان في ثالوثه، وهذا المجال، مؤسس له منذ بدأ وعي الأثر الذي تحققه الصورة، من وراء استخدامها في الدعاية والإعلام، وفي مجال تحوير الرأي العام واللعب فيه وعليه، وبالفعل استخدم الأميركيون تلك الدقائق المصورة، ببراعة استثنائية في التاريخ الإعلامي البشري، وببراعة لم يكن للصورة أن تحلم بتحققها.

(4)

في حوار أجراه الصحفي شمس الدين العوني مع الباحثة التونسية المختصة في مجالات الصورة سنيا الشامخي تقول الشامخي : "الصورة هي لغة التواصل خصوصا في زمن العولمة، وتبقى المشكلة أنها تخفي تحت ستار جمالياتها خطابا أيديولوجيا، ثقافيا وسياسيا، وهكذا تبدو الصورة بريئة، ولكنها خطيرة، وخطورتها تكمن في كونها تقول للمتلقي إنها واقعية، لأنها تأخذ من الواقع دلالات شتى، ولكن في طريقة إنتاجها تختار الصورة ما تراه من هذا الواقع، وما تخفيه وما تحجبه أهم مما تكشفه".

هذا القول لباحثة عملت في مجال الصورة وإنتاجها ودراستها، سواء عبر الأبحاث أو الأفلام، تكمن فيه خبرة عملية قبل الخبرة التنظيرية، وما تبديه هنا يفصح عن إدراك لأهمية الصورة وخطورة التعامل معها في آن.
وفي مقالته المنشورة في صحيفة الأهرام بتاريخ 22 / 2 / 2001 تحت عنوان "الثقافة العربية في عصر العولمة" يقول الدكتور عبد الفتاح أحمد الفاوي عن الصورة في عصرنا ومدى ارتباطها بالراهن العربي الذي نعيشه، وتحولات الثقافة الإنسانية برمتها باتجاه مفاهيم جديدة، تحقق فيها الصورة، شكلا جديدا من أشكال الثقافة في عصر العولمة : ثقافة العولمة ليست هي الثقافة المكتوبة وإنما ثقافة الصورة، إذ تلعب الصورة الدور نفسه الذي لعبته الكلمة في سائر التواريخ الثقافية التي سبقت، وهجوم ثقافة الصورة علي الوعي يجري في امتداد التراجع المروع لمعدلات القراءة في العالم ، هذه الصورة ستغدق فيها ثقافة العولمة على الجسد ما سيفيض عن حاجته من الإشباع، تماما مثل العولمة الاقتصادية، ويرى أن هذا الاختراق الثقافي عن طريق الصورة يتسبب عنه استعمار العقول عن طريق الإعلام ووسائل الاتصال الحديثة والتعامل مع العالم ومع الإنسان في كل مكان تعاملا لا إنسانيا وتعاملا بحكمة مبدأ البقاء للأصلح، والأصلح هنا هو الناجح في كسب الثروة والنفوذ أو تحقيق الهيمنة.

هذه نظرة متشائمة في التعاطي مع ثقافة الصورة ، لكنها تمتلك جانبا من الحقيقة، وهذا لا يعني أن ندفن رؤوسنا في الرمل بانتظار آثار الصورة علينا، وتسربها فينا كما يحدث راهنا، بل يجب علينا أن نكون على دراية بأعماقها، وقادرين على سبر فحواها، ومدركين تماما لما تنطوي عليه من مفارقات ومواضعات، وهذا لا يحدث بإغماض العين عن التعاطي مع الصورة، أو تجنب فهمها، أو ازدرائها، بل التمكن من تناولها في واقعنا ودراستها، والتعامل معها ماديا ومعنويا.

تشير إحدى الدراسات إلى نسبة ما تستورده بعض الدول العربية من الصور، على شكل أفلام أو مسلسلات، وتقول أن الدول العربية تستورد ما بين ثلث إجمالي البث التلفزيوني الوطني من دول عربية منها مصر وسوريا ونصف ما تستورده تونس والجزائر من مواد صورية يقتسم من هذه النسبة، أما في لبنان، فإن البرامج الأجنبية تزيد على نصف إجمالي المواد المبثوثة، إذ تبلغ 5ر58%، وتبلغ البرامج الأجنبية في لبنان 69% من مجموع البرامج الثقافية، ولا تكتفي بذلك، بل وغالب هذه البرامج يبث من غير ترجمة، وثلثا برامج الأطفال تبث بلغة أجنبية من غير ترجمة في معظمها.

هذا المعطى مؤشر خطر على قدرتنا على إنتاج الصورة، وتعاملنا معها، تقول الشامخي: الصورة تغزو العالم، والعالم العربي لا يمكنه اليوم ان يتلقى أكثر، بل عليه ان يصنع صورة ذاته، ومن مهام المبدع والمثقف ان لا يغالط مجتمعه في نسج هذه الصورة "بل من واجبه ان يعكس أولا ما يقارب حقيقة مجتمعه عند نسج هذه الصورة في بعث مجتمع جديد، لان الصورة على الرغم مما تبدو عليه من براءة، تصنع مخيلة الشعوب، وكذلك يكون المبدع هو صانع هذا الخيال الذي يفتح المجال للمجتمع العربي على التغير وكسر الانغلاق والموات، وتضيف: أهم شيء في العلاقة مع الصورة ليس التمكن من أدواتها التقنية بل التمكن من الخطاب المضمر تحت براءة العلامات التي تطلقها.

في واقع الحال، فإن رأي الشامخي هذا، يتعلق بالفهم الذي يمكننا من إنتاج الصورة، وهي لا تغيب الفكر عن ذلك، بل تدعو المثقفين والمبدعين إلى الانتباه إلى أن الصورة، ذات إشعاع كبير في الذات الإنسانية، وأنها محملة بمؤثرات، لا يمكن التغاضي عنها، وأنها رديف اللغة فاقتناعنا بان عدونا الأول ليس عدواً خارجياً أو تحديداً ليس الغرب أو إسرائيل، وان تحسين علاقتنا بالصورة يبدأ بتحسين علاقتنا مع صورتنا نحن التي ننتجها عن ذاتنا، هو الشاق في القصة كلها، فإن الشامخي تنقلنا إلى منطقة شاقة في الكد من أجل إنتاج صورة لنا، وإنتاج صورة عنا، وفي كلتا الحالتين تفترض انه علينا ان ننتبه إلى تحسين ما ننتجه وهذا إدراك عملي وعقلاني في اللحظة الراهنة لقيمة الصورة وأثرها.

وفي هذا المعطى كان علينا أن نسأل : ما الذي تفعله الصورة بنا ؟

لِمَ نحن متأخرون عن صناعة صورة، تحقق لنا موقفا جديدا من العالم، وتسهم في مشاركتنا للبشرية في فضاء الصورة ؟

من يلاحظ إنتاج الوطن العربي من الصور إلى اليوم، ستفاجئه الحصيلة، فنحن مجتمعون لا نتجاوز دولة صغيرة من دول أوروبا في إنتاج الصور، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، يقول حسن السوداني: لعلّ الأمر الحقيقي الذي حدث في السنوات الأخيرة من القرن الماضي، في المجالات الإعلامية، هو الانتقال من منطقة العرض إلى منطقة الفرض؛ ففي السابق كانت وسائل الإعلام تعرض منتجها ويمكنك الاختيار، ولكن الذي حدث بعد التطورات التقنية الهائلة التي حصلت في شتى المجالات قد منح الإعلام القدرة على فرض ما يريد؛ مما أثر تماما في الاتجاهات الثقافية بشكل خاص، من خلال اللجوء إلى ثقافة الصورة بدلا من ثقافة الكلمة. فخطاب الصورة كما يرى (جون لوك غودار) يحتوي على جانبين متعارضين ومتكاملين، هما الجانب الدلالي، أي (ما يقال) والجانب الجمالي، أي ما يتضمنه الخطاب دون قوله بشكل مباشر، بل هو منغرس في ثنايا الخطاب، ورموزه الموحية، ومن خلال القنوات وشبكات الاتصال، أصبحت الصورة المفتاح السحري للنظام الثقافي الجديد، و لا تحتاج الصورة - دائماً- إلى المصاحبة اللغوية كي تنفذ إلى إدراك المتلقي فهي - بحد ذاتها - خطاب ناجز مكتمل، يمتلك سائر مقومات التأثير الفعّال في مستقبليه".

ان وقع الصورة على العين يمتلك وقع الكلمة على الأذن، ويرتفع هذا الوقع، ليتفوق على الكلمة، فالصورة تؤسس للرؤية، وتصنع الفكرة من خلال إشاراتها التي تتفوق ببلاغة تعبيرها ومعناها، واستغلال هذه الزاوية في الصورة، يفضي إلى نجاح الصورة، وإعلاء شأن المعنى فيها، وتحقيق الأثر.

الرأي
الجمعة 29 نيسان 2005م