نزيه خاطر
(لبنان)

مازن الرفاعيفي كتاب "بعلبك بالأبيض والاسود"، المبني اخراجاً انيقاً برسوم مازن الرفاعي ونصوصه، قطاف لبق لمتنزّه في مخزون ذاكرة - ذاكرته وقد شارف الخمسين - تعج بالعواطف والاماكن وظلال الوجوه وقد خمّرتها الأيام قبل ان يلوّنها الحنين. غير متعجّل في جولته، هو مازن الرفاعي، لكنه يتلذذ بإبطاء الوقت، ويتمهل اختيارا، في الغرف من ذاته بعض ذاته، اي الجزء الذي زيّنته التجارب بعمق تجاعيدها. لكأن الوقت كله له، او في تصرفه، فضلاً عن تلبّسه بنوع من التواطؤ لا تخفى ملامحه. مما يفسر، بين بين، الطابع العابر والوقتي واللحظوي للمحتوى الفني لكتاب يحكي بعفوية خام وتلقائية تشي بالخبرات، قصصا سريعة هنا كضربة فرشاة اذا اختزلت قطفا، ومحتشمة هناك، ومبكلة بالحنين، وبين وشوشة واعتراف.

تكفي صفحات ليشعر زائر الكتاب بالانجذاب البصري الى حلة شكلية تتعدى مؤثرات المحتوى لتستمدها مما في العناصر المكوّنة لبنية "بعلبك بالابيض والاسود" من انصهار وتوحد وتخصب، تاركةً مثل عقصة في العين. كأن المؤلف أراد لمؤلفه ان يتزين بالصفات المعنية بالعمل الفني، ليدلّ قارئه الى رغبته في إلباس الرسوم والنصوص الملامح التفصيلية التي اذا التحمت في غلاف بنياني آسر، وهبت العمل الحضور القوي. للكتاب الشخصية المكتبية الفذة، وتحمل المتصفح الى تجاوز لذة "الفرجة" للتعامل معه كحالة ابتكارية قائمة على توظيف متحرك وعصبي ونابض للعناصر التي أدت الى اصداره منذ ايام لدى "دار النهار للنشر"، وفي مقدمة هذه العناصر الرسوم بالابيض والاسود والنصوص المهداة من ابن بعلبك الى بلدته والوجوه في ذاكرته.
اعترف هنا اني قبل الغوص في الكتاب، اعطيت نفسي كل الوقت للتلذذ بما في اخراجه من اعتناء ذكي ومرهف بالتفاصيل التي من ثراء ايقاعها تصنع لنفسها التحولات الحية. وكم من نكهة مفاجئة للعين في هذا اللون الاسود المتحول والمتغير والمتنكر حتى في زي البياض: وكم من اختراق للفرجة في الاستعانة اللبقة باللون الأحمر، والتي تكاد ترتدي شكل عملية الانقاذ. حضوره المضاف الى الابيض والاسود، يشعل الصفحات ويوقظ فيها الافلات من مؤالفة بصرية ركيزتها الحوار المكرر بين لونين رغم ما بينهما من تضاد وطلاق او عشق وتلاقح. وللأحمر حضور من فعل ورد فعل، وفي الحالين يظل كمحرّض على فرجة اكثر استمتاعا بما يشبه التقاسيم المتخاصبة التي ترنّ جليةً في العين، والصادرة، كما ارادها مازن الرفاعي، من التوازنات المتجددة صفحة بعد صفحة بين الاسود ومحاوره الابيض.
ندين ل"دار النهار" بمثل هذه الاصدارات التي تمتّع متذوقيها وسط فقر مزمن فوق رفوف المكتبة العربية. وكان صعبا عليَّ ان ادون هنا مثل هذه الملاحظة لولا النماذج المتداولة التي تشجع لتبنّي مثل هذا الرأي. ويصبّ كتاب مازن الرفاعي، تصورا وتصميما وتنفيذا، في مبايعة مثل هذا الرأي، لما فيه من إيجابيات ينتج من تراكمها كمّ من الملذات ترافق عادةً الإصدارات المميزة. لكن الطلّة الاخراجية للكتاب التي تشدّ انتباه متصفحه، لا ترفع عنه وقع بقية العناصر التي تهبه المضمون، وهو المبرر الرئيسي لوجوده. للرسوم هنا الدور المركزي، لكأن الصفة الاولى للمؤلف كونه رساما، ثم تأتي النصوص بالاضافات الحميمة التي يصدر معظمها عن مخزون ذاكرة تسترجع ما جمّلته الايام وما صقل جمله مرور الزمن. لكأن مضمون الكتاب من صنع ملوانة تتوشح بالسواد لترافق لساناً يتعرّى من لحظات عيش. انه كتاب الحنين، ولا يتنكر لمشاعر بين الرمادي والفحمي، الا انه يرتمي علنا في ملامح من وجع لذيذ وقناعة هادئة، كأنها تغلي فيه ولا ترتاح سوى بعد البوح.
تبرز هذه العواطف من الصفحة الاولى وما تتضمنه من مكوّنات تشي بالهواجس التي ستؤكد للقارىء لاحقا انها المحرض لوضع كتاب، الابيض فيه ثابت، والاسود مضاف ومحرك. ولا عجب اذا تلوّنت انطلاقته بالاطمئنان الى "هو المسامح هذا الصباح". كمن لديه مئذنته يصرخ من فوقها "علني استفيق من صمتي"، يقول. وضمناً في وسط هذا النص الذي في صدر الكتاب: "ايتها الامكنة/ ايتها العصافير/ احكي لي عن طفولتي/ عن اغراضي واحزاني"، يقول، مغلّفا نصه هذا بمثل اطار معماري بالحبر الاسود الشفاف ذي الطينة الرمادية، والذي يجمع معا تفصيلا من العمارة الرومانية واشارة مختزلة الى المنزل البعلبكي. حتى ان زائر الكتاب يجد نفسه داخله ومحيطا به في آن واحد، فلا يفاجأ بعدئذ بمقدمة من صفحتين للاستاذ طلال سلمان، ناشر "السفير"، تحت عنوان "الحزن البعلبكي في القلعة المحاصرة، والتي تحمل في سطورها هذا الغضب المزمن الذي التقينا مثله مع كل بعلبكي من طينة عبد الحليم كركلا أو طلال حيدر أو رفيق شرف. انه الحزن الذي يتلوّن بالغضب اذا فار، وبالحنين اذا تذكّر.

للرسوم منطق يهبها ما تحتاج اليه من ضغط عصبي وفوران شعوري، ليأتي تأهلها التعبيري صارماً متراكماً وراوياً، من دون زيادة أو نقصان. واذا تناولت بعض اجزاء من آثار الهياكل الرومانية، كما في القسم الاول من الكتاب، أو اذا تعاملت بهذه الحرية المطلقة في تدوينها للعناصر الاكثر إيحاء بالمعالم المكوّنة للمنزل البعلبكي القائم الى اليوم، فإن حبرها يتزيّا في الحالتين برعشات يد تنبض على ايقاع قلب يطفو، بتواطؤ منه، على بئر من الذكريات قد ينوص عددها ولا تخبو اضواؤها. انها رسوم تحكي كالنصوص المقرونة بها. والغريب أن الصلة بيّنة بين رسوم كالحكي ونصوص كالرسم، وكلها متواطئة ضمن الصفحتين المتقابلتين المتضامنتين في المعنى، وانما اولاً، اذا جاز القول، في الايقاع التشكيلي الذي يذيب احداهما في الاخرى. والى الحبر، يضيف الطبشور الفحمي عنصر "التحبيب المنقّط" المدين بوجوده الى الورق الذي اختاره مازن الرفاعي لإنجاز رسومه على بياضه.

ولا تشبع العين من التنزّه الحر في كتاب حميم وقريب وعلى خطوات من ارتباط اللبناني القروي والريفي بالمقلع الذي يدين له بمخزون ذكرياته.
ويأتي النص الذي لا يدّعي شعراً، كأنه يريد شيئاً منه ولا يعلنه، تاركاً للقارئ ان يقرّر اذا كان لكاتبه بعض محاسن الشعر. ولديّ من قراءة النصوص بقايا ملونة من انطباعات شفافة تبدو من قلم مجروح يعرف خفراً في القول وجرأة أقوى في الفعل، وله أثره في قارئ يعترف له بالصدق والعمق وحضور الكلمة، أكان ما يقرأه من الشعر أو نثراً نثرياً. ويبقى انه كتاب للمطالعة البصرية وإن هي تزيّت بالفرجة، وللمطالعة الذهنية لنصوص تستمد نكهتها من ذاكرة تغرق في صورها ولا تبدي أي جهد للتخلص مما تتلذّذ في الارتماء فيه. وللعين دور مكمّل للاذن هنا، ولا امحاء للرسوم امام الحضور العاطفي للنصوص، ولا اخضاع للنصوص امام الجذب الانفعالي لرسوم تنمو صفحة بعد صفحة، كمن ينجز عملية قطاف أليمة من مخزون حياة، بين طفولة لا تزال في حاضر الرجل، ورجولة تتطرف في اعلان اخلاصها لزمن مضى وترفض نسيانه.

الى كونه عملاً فنياً كاملاً بإمضاء فنان اخذ على عاتقه انجاز الكتاب من خلال بناء الرسوم التي تصرّف بخطوطها وبتلاوينها قبل أن يزينها بنصوص منه كالصدى لطفولة تحت الحنين.

nazih.khater@annahar.com.lb

النهار
12 اببيل 2007