التصوير الفوتوغرافي المُباغِت : فيه نَرى الإنسان

لـ : حُسين عيسى المحروس

إنّها مغامرة أن تمشي في شارع لا تعرفه ، ولا تعرف ما الذي سوف تلاقيه فيه ، وأي عاطفة تمتلك أو تمتلكك في تلك اللحظة ، وما التراب الذي سوف تدوس عليه بعد قليل ، لِمَ لا تعرف حتى مَنْ مشى عليه قبلك؟ وأي خبرة لديك أنت أيهما المصور الفوتوغرافي المباغت تكفي لصد المعترضين على صورك ؟ ها هم الناس يشككون في دوافعك . يعتنون بصوركَ ولكن ليس بما تنتجه في الضوء الحقيقي . أيّ يوم ذلك الذي جربتَ فيه أن تسرّ بشيء ما .. أي شيء من غير تكلّف عن التصوير المباغت إلى هؤلاء الناس ؟ ما مقدار أملك في الحصول على معناه فيهم ؟ لِمَ تمارس عليهم دور النخبة وتحمّض أفكارهم في حوض الحمقى والمغفلين ؟ لِمَ تحاول أن تمشي في درب لم تعد تسمع فيه حتى الأصوات التي يُقَال إنها لا تموت ، بل تظلّ عالقة تبحث عن حنجرة رخيمة أو عين ترى اللحظة كالذرة .
حين تظهر على هدفك - المراد تصويره بسرعة قبل أن يتلاشى أو يدخل في حدث آخر ربّما لا يشتهيه بصرك المثقف بالقنص واللغة - فأنت وبصرك وكاميرتك واقعون في الـ ( Candid photography) الذي بدأت أرى معناه في الصراحة فهو ( التصوير الفوتوغرافي الصريح ) . لكن سرعان ما عجز هذه المعنى عن حمل كلّ جزئيات هذا المصطلح . فالصريح يعنى التمهل وهو عكس ما تحمله مفردة ( Candid ) معجميا ، وهو " آخر جزء من الثانية " أو " الاحتكاك بأخر جزء من الثانية " لذا كان عليّ أن أبحث عن معنىً آخر يحمل المصطلح كلّه أو معظم أجزائه على الأقل . لماذا لا يكون معناه (التصوير الفوتوغرافي الخاطف ) ففي الخطف سرعة وتجاوز . لكنّه لا يعني العمل في الخفاء ، أو دون علم المراد تصويره . ومع ذلك فهذا المعنى أكثر تطورا من ذاك . وأخيرا لم أجد أفضل من أن يكون معناه (التصوير الفوتوغرافي المباغت ) فالمباغتة تعني السرعة وتعني الخفاء في التحضير ، وتعني المفاجأة . وفي (التصوير الفوتوغرافي المُباغت ) تبقى ملامح الصورة والسلوك فيها ، والحركة ، والسكون ، وطبيعية الإنسان من دون تكلّف أو تصنع فهو باق على هيئته الأولى ، أي هو في حالة ( unposed) غير مهيأ لالتقاط الصورة ، لأنّه غير ملتفت بل في وضعه الطبيعي والصورة الناتجة منه نسميها (Informal photograph ) أي صورة غير رسمية ، أقرب إلى طبيعة الإنسان قبل أن يتحول إلى شيء آخر أمام الكاميرا . هذا الشخص قد لا تعرفه حتى يخرج من رسميته ... " بمجرد أن أحسّ بأنّ عدسة المصورة تنظر إليّ حتى يتغيّر كلّ شيء ، لأصبح في حالة اتخاذ وضع خاص بالتصوير posed ، وأصطنع لنفسي على الفور جسداً آخر ، وأتحوّل مسبقاً إلى صورة . وهو تحوّل فعال " ... رولان بارت ( العلبة النيرة ) ص ( 13 ) فهل يستطيع بارت وغيره ممّن يقفون أمام الكاميرا أن يغيّروا شكلهم الخارجي من الداخل ؟ أم أنّ كل ما يفعلوه هو أن يتركوا ابتسامة خفيفة على وجوههم لا يسمح المصور بظهور الأسنان فيها ؟! وابتسامة أخرى في العيون لتعطي معنىً يمكن قراءته لاحقاً . وبعد التظهير لن تكون الصورتان متقاربتين أبداً . ستكون صورتك ثقيلة ثابتة بينما أنت تمارس انشطاراتك اليومية . لذلك كلّه صار هذا العنوان " التصوير الفوتوغرافي المُباغِت "
لكن هذا العنوان لا ينفك عن مصطلح آخر يحضر معه في رحلته هذه . وهو مصطلح ( Real-live ) الذي يعني ذلك اليومي الذي يمكن أن يحدث لنا ويحدث للآخرين دون تمييز ، سواء كان الـ(Real-live ) مُؤلما ، أو مُفرحا فهو في النهاية حقيقة تحدث أمام الكاميرا المباغتة .

في أحد صفوف الفنّ بأمريكا سأل ألي سيجيل (Eli Siegel ) - الناقد والمؤسس الأمريكي للواقعية الجمالية - الكاتب والمصور الفوتوغرافي لين بيرنشتاين ( Len Bernstein ) قائلا : " هل لك أن تخبرني ما الفرق بين الصدق في إبداء الرأي والوحشية ؟ "
لم يستطع ( لين ) الإجابة لكن السؤال استفز فيه الرؤية فقال : " في الحقيقة أنا - غالبا - ما أقول أشياء طائشة بلا فكر ولا معنى ؛ لأنني لم أرَ أحاسيس الناس بشكل حقيقي كما أرى أحاسيسي . وها أنا أتعلم لأصبح رحيماً ، وأكثر انضباطا ، وأنا مدين للسيد ألي سيجيل (Eli Siegel ) الذي جعل هذا التغيّر عندي مُمْكِناً "
يحتفظ الكثير منّا بتاريخ الآخرين لاستخدامه في اللحظة المناسبة على أنّه سجلّ للعيوب . فهل تفعل الكاميرا ذلك ؟ لماذا يُعْتبر ذلك من الإبداع ؟ أليس ذلك ابتعاد عن الناس وعن اكتشاف ما بداخلنا ؟ ألا يحول ذلك دون التسامح ؟
" نحن نعتقد أن البحث عن عيوب الآخرين وإيجادها - وكذلك اختلاق بعضها على طول الطريق - يُميّزنا ، ويشحذ إبداعاتنا . لكن الرغبة في جعل قليل من الناس يبنون أنفسنا تدريجيا صعب للغاية . إنّ ما تعلمته من الجمالية الواقعية : أن الاحتقار الكئيب الاعتيادي الذي له تأثير فظيع على حياتنا ، و أنواع من الصور المباغتة تحرّف وتتفّه قيمة الشخص . إنّ الاحتقار نقيض النية الحسنة التي عرّفها السيد ألي سيجيل (Eli Siegel ) بأنّها : " الرغبة في الحصول على شيء آخر أقوى ، وأكثر جمالا ، وأنّه من تحقيق هذه الرغبة يجعل الإنسان نفسه الأقوى والأكثر جمالا " . إنّ دراسة النية الحسنة طارئ محلي ودولي ؛ لأنّه الشيء الوحيد الذي يجعل الناس رحمين ببعضهم بعضا . وهي أيضا التي تفرّق بين الصور الفوتوغرافية التي تضيف شيئا إلى فهم الإنسانية ، وتلك التي تسخر منها وتهزأ بها .و لأنّي مصور وناقد في السنوات الـ 26 الماضية ، رأيت أنّ هذه الحاجة أعني " الأقوى والأكثر جمالا " ينبغي أن تتكون من خلال فهمنا الخاص ، والنهائي في التعبير الذاتي .. لا شيء أكثر أصلية ولا طليعية من ذلك " … لين بيرنشتاين
لكن ماذا لو أنّ المصور المباغت حاول رؤية الناس خارج الرســــمية ( Unposed ) فما الذي سيحصل عليه ؟
" المصور المباغت ، الذي يحاول أن يرى الناس والأشياء كما هم في الحقيقة ، سوف يجد - حتماً - المعنى الذي يتصرف من خلاله العالم كلّه ويتحرك . لقد شرح وأثبت السيد ألي سيجيل (Eli Siegel ) السبب الذي جعله يصرح قائلا : " يرينا الفنّ الأضداد واحدة في الحقيقة " . في الحقيقة أنا أشعر أنّي محظوظ جدا لأنّي أدرس هذا المبدأ ، وأنّ معرفته سوف تضيء أيّ مصور فوتوغرافي يريد - فعلا - أن ينجز شيئا بعمق .
ومثال ذلك عندما رأيت ثنائيين ( شابين وفتاتين ) في غرب Broadway - شارع يقطع مدينة Manhattan طولا في نيويورك - شعرت فطريا بأنّها فرصة لأرى شيئا من سلوكيات الرجال والنساء عندما يكونان متقاربين ، أو كلّ منهم ضد الآخر . على أية حال لقد سبب ذلك ألماً لي . كان اثنان منهما ( شاب وشابة ) متحاضنين في حالة تراضٍ تام ، والآخران متنافِريَن مُتباعِدَين على وشك شِجارٍ يبدو أنّه سيكون عنيفاً . والحالتان تجلسان على كرسي واحد غرب Broadway بنيويورك . هذه الصورة المباغتة ترينا الأضداد في لحظة واحدة . هذا هو الفنّ الذي عناه ألي سيجيل " ... لين بيرنشتاين
أتمثل هذه اللحظة صورة للفوتوغرافية البحرينية حنان حسن بالأبيض والأسود ( المونوكروم ) ، والتي أسميها " عزلة امرأة " . الصورة من نوع " التصوير المباغت " لامرأة لا نرى سوى ظهرها ، وحركة يديها . إنّها تفعل شيئا لا نعرفه بالتحديد لكننا نعرف أنها مشغولة . " كان ذلك قبل شهر رمضان بيوم أو يومين تقريباً ، كان في المبنى الذي تسكن فيه هذه المرأة غرفة كانت ناديا ثقافياً قديماً في المحرق فطلب مني تصويره قبل هدمه للتوثيق . عندما وصلت مع المرشد المبنى لم نستطع الدخول لكثافة الأشجار والنباتات البرية مثل طريق لم يمشِ فيه أحد من قبل . ولهذا السبب لم نتوقع وجود إنسان في الداخل لذا كانت المرأة هذه مفاجأة لنا !! كيف تعيش هنا ؟ من أين تأكل وتشرب ؟ لم أشأ أن تعرف وجودي أو تحسّ بي . صورتها هذه الصورة وهي تستعد لاستقال شهر رمضان بإعداد الحبوب " .. حنان حسن
للونين الأبيض والأسود ، وتصوير المرأة من خلف ، واختفاء وجهها ، لكلّ ذلك تفعيل لعزلة هذه المرأة التي تبدو في وضع طبيعي للغاية . فهذه الصورة هي هذه المرأة لا غيرها التي تنشأ من الاستعداد لالتقاط الصورة . لا شيء في الصورة يوحي أو يشير إلى وجود إنسان آخر في هذا البيت وخصوصا الرجل . ولا يبدو شيء من الأثاث ولو يسيرا سوى ممرين ضيقين عاريين من أيّ شيء خلا لون الإسمنت الذي يحكي حياة كانت صاخبة هنا ، وتبدو كذلك من آثار اللون الأسود على الجدران وهو لون لا يكون إلا من تكرار كثيف للمسه بالأيدي . ما الذي سوف يحدث لو علمت المرأة بتصويرها ؟ كيف ستستعد ؟ أي وضع سوف تتخذ ؟ وكيف ستبدو الصورة بعد ذلك ؟ …
وبعد فكلّ ما تمنحه هذه الصورة لي وأنا أحملق فيها مراراً هو ما يمكنني أن أراه بصريا . فكأنّ ما تُريني إياه الصور الفوتوغرافية ليس هو ما تحمله . وكأنّها كائنة فيما لا يُرى . الصورة الفوتوغرافية ليست ما يُرى ! فكيف إذا تمّ التقاطها في وضع استعداد وتهيؤ ؟

****************

وحدها الأم قادرة على أن تهب جسد مولودها نظرة حيادية ، أن تراه جسداً كما هو ، وفي درجته الصفر . أما الكاميرا فلا تستطيع فعل ذلك . الأم بالحبّ تنزع عن الصورة الفوتوغرافية ثقلها الرسمي وترى ولدها أكثر إنسانية . ربما يقترب التصوير المباغت ( Candid photography ) من ذلك لأنّه ينزع الكثير من الرسمية عن المصوّر . إنّه يحاول - قدر الإمكان - أن لا تتحوّل الصورة إلى آخر لذات المُصوَّر وأن يقتربَ من رؤية الإنسان نفسه دون النظر في المرآة . أنْ يرى الإنسان نفسه دون مرآة هذا ما يحاول التصوير الفوتوغرافي المباغت أن يصل إليه ويحققه .
سألت الأستاذة Ellen Reiss رئيسة أحد الصفوف التي تهتم بالواقعية الجمالية في الولايات الأمريكية المتحدة ، الكاتب و الفوتوغرافي Len Bernstein عن الدليل الافتتاحي لمعرضه الفوتوغرافي الأخير ، الذي تضمن صورة فوتوغرافية عنوانها ( nd Avenue Deli 2 ) . وكان Bernstein قد ركض سريعا حتى يقتنص هذه الصورة في شارع Deli سألته قائلة :


- هل تعتقد أن الشخص ، أي شخص - في بعض الأوقات - لديه خبرة كبيرة جدا في الحياة ، ولكن شيئا ما عنده يؤثر عليه بشكل هائل ، بينما الناس من حوله غافلون عنه ؟
فأجابها Bernstein قائلا :
- نعم . هذا يحدث في الحياة . في هذه الصورة مثلا تفاجئتُ كثيرا بسبب تغافل الناس الشديد عن هذا الرجل . من الواضح أنّه متسغرق في التفكير في شيء ما ، كما نلاحظ فردتي حذائه أمامه على الأرض .
- هل تعتقد أنه يبدو في حالة تواضع كبرى ؟ سألت : Reiss
- أوه . هو كما تقولين . فطريقة انحناء رأسه تشير إلى أنّه ربما يصلي .
- إنّه يظهر مثل شخص يقدّم حذاءيه للآخرين .. وبطريقة ما كأنّه يشعر أنّه لا يستحقهما ، أو ربّما تألمت قدماه منهما لذا جعلهما بعيدين عنه .. أتخيل أنّ شيئا كهذا ممكن الحدوث . لكنّه يبدو أيضا رجلاً مفكرا يقول : " الحذاءان يجب ألا يكونا منّي " كما يبدو حوله أشخاص راضين ،أو بالأحرى غير مبالين بما يحدث له .
يعلق Bernstein Len على تساؤلات وقراءة الأنسة Reiss للصورة قائلا :
" إنّ الآنسة Reiss كانت تعلمني كيف يستحق الناس أن ننظر إليهم ونفهمهم من خلال الصورة الفوتغرافية "

وفي مناقشة أخرى في الصف نفسه ، وحول صورة أخرى عنوانها " "Man and Two Boys," التي هي مختلفة تماماً عن الصورتين السالفتين ؛ ذلك أنّ الناس في هذه الصورة يبدون سعداء جداً ومهتمين ببعضهم البعض . حول هذه الصورة ناقشت الآنسة Reiss الفوتوغرافي Bernstein مرّة أخرى قائلةً :
- " ما العلاقة بين كل تفاصيل الصورة ، والتي جعلت منها شكلاً محبّبا ؟ هل الناس في هذه الصورة يساعدون بعضهم بعضاً ، أم أنّ الولدين الصغيرين يتدخلان فيما لا يعنيهما ؟ "

ثم تعمقت الآنسة Reiss في الصورة أكثر فقالت :

- " أنّ التعبير عن هذه الصورة يمكن أن يكون بوجوه مختلفة . كم هي المتفرقات التي يمكن أن تمتلك شكلاً واحداً في كلّ الفنون ؟
- نعم ، إنّها كثيرة . أنا - دائما - أتأثر كثيراً باللحظة . لحظة تقابل الناس هنا ، ولحظة السؤال حول التعبير عن هذه الصورة .
- إنّ المحتوى المباشر و البناء في هذه الصورة أساسيان في أيّ تصوير الفوتوغرافي .هل تعتقد أنّ هذا الرجل كان يتمنى هذه المهنة في كبره عندما كان صبياً ؟
- طبعا " لا " .
أدركتُ بأنّي يمكن أن أكون أكثر وضوحاً عن الشيء الذي أثرّ فيّ في هذا المشهد ، وأن أمتلك إحساسا أكبر عن حياة هذا الرجل ... أنا ممتن بشكل كبير للآنسة إلين ريس (Ellen Reiss) ؛ لأنّها مكنتي من هذه الرؤية . لقد تعلمتُ بأنهّ إذا لم نضع حدّا لكمية شعورنا نحو الناس ، فإنّنا سوف نحقق اختيارات أفضل ، وأنّ قرارتنا يمكن أن تكون في اتجاهين يتضمنان : اختياراتنا حول تقنية التصوير الفوتوغرافي ، والتركيب .
الفوتوغرافي البحريني النشط جدا علي خميس يدخل إلى التصوير المباغت رصيد كبير من الصور في هذا المجال سأختار منها الصورة الفائزة في المعرض الثالث ( كامير كلاسيك ) الذي عقد في فندق الميرديان - المنامة في الفترة من 23 يوليو 2001م إلى 27 من الشهر ذاته .
الصورة أخذت لفلاحين مُسنين في وقت الاستراحة في البستان . سنعرف أولاً أنّ الصورة أُخذت في فصل الشتاء . يدل على ذلك الأزياء واستغلال أحد الفلاحين النار شبه المنطفئة - التي أضرمت للتدخين - لتدفئة يديه .
يبدو أن الوضع هادئ في الصورة جدا ، وأن الكلام بين الفلاحين شبه منقطع حتى أن كل واحد منها في اتجاه وفعل مغايرين ، حى أنهما يبدوان كأنهما على خلاف !! ويبدو الرجل الذي يعدّ الغليون أكثر حدة وعصبية وتعباً من الآخر .
الملامح الأولى التي تسيطر على خريطة حركة العينين عند النظر إلى هذه الصورة الرائعة حقا ، والسلوك فيها ، والحركة ، والسكون ، هي طبيعية الإنسان من دون تكلّف أو تصنع فالفلاحان باقيان على هيئتهما الأولى ، أي هما في حالــــــة ( unposed) غير مهيأن لالتقاط الصورة ، لأنّهما غير ملتفتين إلى الكاميرا بل في وضعهما الإنساني الطبيعي .
وفي صورة"Man Greeting Bird at War Memorial," نرى رجلاً تمتدّ يده إلى طير صغير . الوضع رزينٌ ، لكنّه يحتاج إلى تواصل أيضا . الرجل بلباسه الأسود يتكئ مستندا إلى جدار النصب التذكاري الطويل للحرب ، ويلاحظ ثلاثة عصافير : اثنان على الأرض ، وواحد ذلك الذي يحيّ الرجل بيد ممتدة ، ويصفق الهواء ويحوم . يقول مصور هذه الصورة Bernstein :
" إنّه يمثّل طراوة الحياة نفسها . وكما ينحني الرجل بتواضع للعصفور فإنّه يرتبط بصرياً بحافة النصب المضيئة التي ترتفع كعمود من نور . وجزء شجرة يلمح من خلف النصب وفروعه العارية تمدّدت مثل أصابع يدّ في إشارة إلى السّماء التي تظهر كالصّدى مؤيدةً لما يفعله الرّجل .
عندما نكون بالخارج ومن حولنا كاميرتنا ، فإنّنا ربما نرى شيئا يحركنا ، لكننا حتى الآن نتردد في الاقتراب منه وتصويره . وإذا شعرنا مؤكداً أن تصوير الناس يمكن أن يكون له ردّ فعل سلبي عليهم فإنّ النية الحسنة تبدو في إيقاف عملية التصوير . لكن علينا التردد في ذلك لأننا خائفين من أن يكون لدينا شعور واحترام أكثر من اللازم . ليس من السّهل دائما أن نكون متأكّدين من دوافعنا، لكن الأكثر نفعا هو أن نستجوب أنفسنا ونسألها : في أيهما سنكون أكثر ثقة : في التصوير أم الحياة .
إنّ التصوير الفوتوغرافي لا يبدأ بالكاميرا ، بل بكيف تشاهد عيوننا الأشياء في كلّ الأوقات . لذا قبل أن تخرج للتصوير اسأل نفسك هذه الأسئلة عن شخص تعرفه : هل هو /هي تعجبه الكيفية التي أراه بها في تفكيري ؟ هل أنا أريد له / لها أن " يصبح الأقوى والأكثر جمالا " ؟ . إنّ كلّ شخص يمكنه أن يستفيد من السؤال الحاسم للآنسة إلين ريس (Ellen Reiss) الذي سألتني إياه : " هل لك أن تخبرني ما الفرق بين الصدق في إبداء الرأي والوحشية ؟ " فكّر في هذه الأسئلة قبل أن تخرج لمقابلة الناس وتصويرهم . لا تركن إلى إجاباتك الأولى . استمر في الحفر . صورك وحدها هي التي سوف تحدد عما إذا كانت " الأقوى والأكثر جمالا " ... ومَنْ لا يريد ذلك ؟