(غياب فادح للفنانين العرب عن معرض «دوكومنتا 12» الألماني الأضخم عالمياً)

سمير جريس
كاسل (ألمانيا)

تركيب للصيني واي وايوسط الأنقاض التي خلفتها الحرب العالميةالثانية في ألمانيا كان المثقفون يتطلعون الى الأمام ويتحرقون شوقاً للتعرف على الاتجاهات الجديدة في العالم، فنشطت حركة الترجمة عن اللغات الأخرى، وراحت تُقام المعارض الدولية الكبيرة. في العام 1955 أُقيم في مدينة كاسل – التي دمرت الحرب 80 في المئة من أبنيتها – معرض لفن الحدائق كان تعبيراً عن تعطش الناس الى بهجة الحياة. أحد الفنانين رأى في معرض الحدائق فرصة مواتية لازدهار الفن أيضاً، فاقترح إقامة معرض فني موازٍ. هكذا ولد معرض «دوكومنتا» للفن المعاصر الذي أضحى سريعاً من أهم المعارض الفنية الدولية ومركزاً تنطلق منه إشعاعات ونبضات تؤثر في تطور الأساليب الفنية في العالم. التوقعات والآمال المعقودة على «دوكومنتا» تزداد دورة تلو أخرى، كما يزداد الإقبال الجماهيري على المعرض الذي يقام كل خمس سنوات ويستمر مئة يوم. كلفة الدورة الأولى من «دوكومنتا» بلغت نحو ربع مليون مارك ألماني، وهو مبلغ ضخم نظراً الى موازنة ألمانيا الناهضة من خراب الحرب، لكن الأيام بينت أن هذا المبلغ كان أهم استثمار مستقبلي قامت به مدينة ألمانية. أما الدورة الحالية فكلفتها 20 مليون يورو، ويُنتظر أن تجتذب حتى انتهائها في الثالث والعشرين من أيلول (سبتمبر) زهاء 600 ألف زائر.

مَن يزر دورة الـ «دوكومنتا 12» المقامة حالياً في كاسل متوقعاً أن يلقي نظرة شاملة على أحدث الأعمال الفنية المعاصرة، يُصب بخيبة أمل كبيرة. هناك بالطبع لوحات ومنحوتات وتركيبات حديثة لافتة، مثل الشلال المائي المصنوع من الشمع للصيني زينغ غوغو، ولوحات البولندية صوفيا كوليك التي تحول البشر الى عناصر زينة، أو التركيب الذي صنعه «أي واي واي» من أبواب أو نوافذ البيوت القديمة في الصين (أنظر الصورة)، غير أن المعرض يضم أيضاً أعمالاً قديمة من القرن الخامس عشر مثلاً أو من سبعينات القرن المنصرم. وتُعرض «أعمال» لا تمكن نسبتها الى الفن في المفهوم الضيق، مثل زهور الخشخاش المزروعة أمام قاعة العرض الرئيسة، أو حقول الرز خلف قصر المدينة، أو الألف صيني وصيني الذين أتى بهم الفنان «أي واي واي» الى كاسل ليتجولوا في أنحائها كنماذج فنية وثقافية للصين.

هدف «أي واي واي» هو التقاء الفن مع الحياة اليومية، ودراسة كيفية تغير الواقع الاجتماعي عبر احتكاك الناس مع الوافدين من الصين. ولعل هذه التجربة «الفنية» ترجمة لرؤية المدير الفني روغر بورغل الذي لا يعتبر «دوكومنتا 12» مكاناً لعرض «أفضل الأعمال الفنية في العالم»، بل ساحة لتبادل الخبرات الفنية ولاختبار العلاقة التي تنشأ بين العمل الفني والجمهور، والأعمال الفنية المختلفة عندما تتجاور. دورة «دوكومنتا 12» لا تتمحور حول موضوع أو حقبة أو ظاهرة فنية، ولا تريد توصيل رسالة معينة، ولا تبغي أيضاً تقديم صورة متكاملة عن حال الفن المعاصر. «دوكومنتا 12» معرض مفتوح مكوّن في الحقيقة من معارض عدة لا رابط بينها. هذا يؤدي بالطبع الى بلبلة لدى معظم الزوار الذين يقفون أمام بعض الأعمال الفنية حائرين يبحثون بلا جدوى عن مفتاح ما، لا سيما أن معظم الأعمال معروضة من دون أية معلومات (ما عدا اسم الفنان وعنوان العمل). مَن يُرِد أن يعرف شيئاً عن نشأة العمل أو خلفياته، عليه أن يتصفح كتالوغ المعرض، أو أن يستمع الى المرشد الإلكتروني الذي يقدم رؤية عامة للمعروضات، عبر جهاز «البود» الصغير الذي يستعيره الزائر مقابل مبلغ زهيد. كأن الهمّ الأكبر الذي كان يشغل روغر بورغل أثناء إعداده المعرض ليس اقتناء الأعمال الفنية المتميزة فحسب، بل عرضها في السياق المناسب (من وجهة نظره). تتضح هذه الرؤية منذ القاعة الأولى من متحف «فريدريتسيانوم» حيث يرى الزائر بمجرد دخوله ثلاث صور التقطتها الفلسطينية أحلام شبلي لتعبر عن التهجير القسري الذي يتعرض له بدو فلسطين في صحراء النقب بغية تحويل أراضيهم مستوطنات إسرائيلية. لكن الخلفية السياسية لن يقرأها الزائر الى جانب الصور، ولن يستطيع أن يستشفها من الصور وحدها، إذ إن الرسالة السياسية المباشرة لا تعني منظمي المعرض، كما أنهم تعمدوا أن يبخلوا على الزائر بمعلومات عن خلفية نشأة العمل. ما يعنيهم هو أن يتواصل المتفرج مع العمل الفني وحده بلا عوائق لغوية، المهم هو عرض الصور في سياق أعمال أخرى توافقها سواء كان هذا السياق سياسياً أو شكلانياً أو تصنيفياً. مثلاً: قطعة القماش المنشورة على حبل في مخيم «تتراسل» مع التركيب المجاور للفنانة كوسيما فون بونين والمكوّن من قماش وحبال، كما أن الحميمية المنزلية في صور شبلي تتواصل مع حميمية العواطف في لوحة كيري جيمس مارشال في القاعة نفسها. غير أن معظم الزوار – كما يتضح من تعليقاتهم – يقفون حائرين عاجزين عن فك رموز الأعمال الفنية المعروضة، أو فهم السياق المقصود.

وللشرق الأوسط حضور كبير في دورة هذه السنة. الداخل الى «قاعة دوكومنتا» تلفته على الفور زرافة مُحنطة، ومقابلها أربع لوحات قماش للفنان عبدالله كوناته من مالي الذي يتناول في معظم أعماله المخاوف والآمال التي تعتري الناس في مناطق الصراع، كالبوسنة ورواندا وأنغولا. الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي هو موضوع لوحاته المعروضة هنا، وفيها يرى المرء بالتبادل كوفيات فلسطينية وأعلاماً إسرائيلية، معبرة ربما عن رؤية فنية حالمة بحل الصراع يوماً ما وتحول رموزه (العلم والكوفية) الى محض ألوان وتشكيلات.

يفهم الزائر مغزى وضع الزرافة أمام اللوحات القماش عندما يعرف أنها كانت تعيش في حديقة الحيوان الفلسطينية الوحيدة في قلقيلية الى أن نفقت في عام 2002. آنذاك شن الجيش الإسرائيلي هجوماً على المدينة، فأُصيبت الزرافة بالهلع، وركضت في الحديقة مصطدمة بسور حديد ثم نفقت. الفنان النمسوي بيتر فريدل الذي جلب هذه الزرافة الى كاسل يؤكد الخبرة الجمالية لا الرسالة السياسية لـ «عمله»، وهو يقول إنه لا يريد للحيوان أن يكون «شاهد إثبات» على ما حدث، بل أن يضيف خبرة جمالية وعاطفية الى «طوفان الصور المنهمر من وسائل الإعلام». خلف الزرافة مباشرة يرى الزائر غرفة صغيرة تسبح في لون برتقالي ساطع وأزيز مزعج، وعلى الأرض مذياع أسود اللون. عندما يغادر الزائر الغرفة الباهرة الضوء يدخل غرفة مظلمة تماماً، وبعد أن تعتاد عيناه الظلمة قليلاً يتعرف على هيكل حديد على عجلات، وعليه أجسام غير واضحة المعالم، بينها شيء يشبه الصاروخ. تزداد حيرة الزائر ولا يفهم سبب عرض المذياع في الغرفة الباهرة الضوء، أو كنه الأشكال في الغرفة المظلمة. غير أن الحيرة تتلاشى عندما نعرف أن الفنان الإسباني إنيخو مانغلانو أوفايه قصد بهذه «الشاحنة الشبح» أن يذكّر المتفرج بصورة شبيهة عرضها وزير الخارجية الأميركي السابق كولن باول أمام مجلس الأمن ليقنع العالم بحتمية شن حرب ضد نظام صدام حسين لامتلاكه أسلحة دمار شامل.

آنذاك كانت الصورة صريحة وقاطعة في دلالتها، ثم اتضح أنها كانت وهماً. اليوم تحول الوهم فناً ورمزاً صريحاً للسلطة الهائلة التي تمارسها الصور علينا. أما الطنين المنبعث من وسائل الإعلام، كالمذياع المعروض في الغرفة السابقة، فساهم بلا شك في أن يصدق كثيرون ادعاء باول. عمل آخر يجذب الزوار كالمغناطيس، هو القارب الذي صنعه الفنان رومولد هازوميه من دولة بنين بعنوان «حلم» . القارب مصنوع بأكمله من الأوعية البلاستيك الصغيرة التي تعتبر من أكثر الأشياء التي يستخدمها الناس في حياتهم اليومية هناك.

القارب غير صالح للملاحة بالطبع، فهو مملوء بالثقوب، ولكنه يجسد حلم الملايين من الأفارقة في الهجرة الى الغرب والفرار من شظف العيش. الحلم لعنة تهلك الحالم، ولكن ماذا يتبقى أمامه غير الحلم؟ أو كما يكتب الفنان أمام قاربه: اللعنة تصيب الناس إذا بقوا، واللعنة تصيبهم إذا رحلوا – الأفضل لهم أن يواجهوا لعنتهم في قارب حلمهم.

هذه الأمثلة لا تعني غلبة السياسي على الفني في «دوكومنتا 12»، فهناك أعمال كثيرة بعيدة من الهمّ السياسي. مثلاً العروض الراقصة في المتحف الرئيس التي تتناسب مع التركيبات الرائعة للبرازيلي أيوله دو فريتاس من الزجاج الاصطناعي، والتي تنساب في نعومة وخفة ورشاقة وكأنها دعوة للرقص.

غير أن الأعمال الكثيرة ذات الطابع السياسي تبين حضوراً قوياً للفنانين والموضوعات غير الغربية. وبهذا يستكمل المدير الفني بورغل ما بدأه سلفه الفنان النيجيري أوكوي إنويزر الذي فتح أبواب «دوكومنتا 11» على مصراعيها أمام مختلف التجارب والاتجاهات الفنية في محاولة لتقديم «عولمة فنية». أما ما يلفت فهو الغياب التام للفنانين العرب (إذا استثنينا صور الفلسطينية أحلام شبلي ذات الرسالة السياسية). هل يرجع ذلك الى «فقر» مستوى الأعمال العربية؟ هل تعاني مشكلة في التسويق عالمياً؟ أم ان السبب ربما يكمن في غياب المناخ الفني عموماً؟ أين يكمن القصور المؤدي الى غياب العرب عن أهم حدث فني في العالم؟

الحياة
08/09/2007