الفنان السعودي صاحب "المستحيل الأزرق" غاب بعد صراع طويل مع المرض
***
شقيق الفقيد: كان صالح يطل قبل شمس النهار و"شيهانة" هي بوصلته
***
في المقالات التي كتبها على صفحات "الشرق الأوسط" من سريره الأبيض في المستشفى الأميركي كان صالح العزاز يحكي ويحكي كأنه يريد أن يقول كل شيء دفعة واحدة.. كأنه كان يدرك أن لا وقت لديه للتوقف، لكن مساحة الصفحة ربما كانت لا تسعفه للمزيد فيبقى كلامه مسترسلا بلا نقطة ختام. اليوم توقف قلب صالح العزاز وكأنه أراد أن يضع نقطة ختام لكلام أراد صاحبه أن يلون به البياض المتسع من حوله.
فقد غيب الموت أمس الصحافي السعودي صالح عبد الله العزاز حيث وافته المنية أثناء تلقيه العلاج في مستشفى الرياض التخصصي والذي كان يستكمل فيه علاجه بعد أن عاد من الولايات المتحدة قبل عام تقريبا. وسيوارى جثمان الفقيد اليوم في مقابر النسيم بعد صلاة الظهر وسيصلى عليه في جامع الراجحي في حي الربوة.
وبوفاة العزاز 43 عاما يفقد الوسط الصحافي السعودي والخليجي والعربي أيضا واحدا من الكفاءات والقدرات، فهو واحد من (الجيل الوسط) من الصحافيين السعوديين، تنقل في العديد من الصحف والمجلات في مواقع ميدانية وقيادية كان من أبرزها تجربته في العمل مديرا للتحرير في صحيفة "اليوم" التي تصدر في مدينة الدمام، شرق السعودية. كما مارس العزار فن المقالة اليومية في عدد من الصحف السعودية والخليجية والعربية.
وفي الأعوام الأخيرة، فضل العزاز، أن يتفرغ لعشقه وهي الكاميرا والصورة الفوتوغرافية، ليسجل بها أعمالا جذبت إليها العديد من محبي هذا الفن، حيث أقام المعرض الأول في العام 1996 وبما أهله للمشاركة في مسابقة عالمية لاتحاد المصورين العالمي في الصين العام 1997 حصد خلالها المركز الثاني والميدالية الفضية، وكان معرضه الثاني والأخير في العاصمة السعودية الرياض في العام 2001 تحت عنوان "بلا حدود".
وكان الدكتور تركي الحمد قد اختار إحدى صوره لتكون غلافا لأحد أجزاء روايته.
ولم تتوقف إبداعات العزاز عند المعارض فقط، بل تجاوزتها إلى النشر والتأليف فأصدر مع زميله المصور حمد العبدلي كتاب "الجنادرية الحدث"، كما ساهم في توثيق تجربة البناء بالطين لمشروع مزرعة العذيبات في كتاب مميز ومصور تحت عنوان "العودة إلى الأرض"، وتمت هذه التجربة بمبادرة من الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز الأمين العام للهيئة العليا للسياحة.
أما آخر إصدار فكان "المستحيل الأزرق"، وهو كتاب فريد من نوعه، ففي الجزء الأول من الكتاب مقطوعات شعرية للشاعر البحريني قاسم حداد استوحى فيها أبياته من لقطات سجلها العزاز. أما الجزء الثاني من الكتاب فهو يضم 80 صورة فهرسها وشرحها صالح العزاز بنفسه متضمنة شروحا باللغة النثرية.
والفقيد صالح العزاز من مواليد مدينة الخبراء في منطقة القصيم عام 1959، متزوج وله 4 بنات وولد واحد، هم: شيهانة، وشهد، وشهلاء، وليانا، وعبد الله.
* تحدث عزاز العزاز شقيق الفقيد عن اللحظات الأخيرة من عمر أخيه، حيث انه كان الوحيد الذي يلازمه في أيامه الأخيرة وحتى وفاته فقال: بعد أن اديت صلاة الفجر رجعت أتفقد حال صالح واطمئن على انه ما زال حيا وكان ذلك حوالي الساعة 18:5 من صباح يوم أمس (الاحد) ولاحظت أن أنفاسه تخرج بصعوبة وفجأة انسلت روحه بسهولة.
وقال بأن الفقيد قد عاش الأيام الأربعة الأخيرة وهو في غيبوبة تامة وكنت وقتها ـ والكلام لشقيق صالح ـ اقرأ القرآن الكريم بصوت مرتفع وعندما آتي على آية فيها ذكر لله ألاحظ أن إصبعه الشاهد (السبابة) يرتفع وينخفض.
وقال عزاز العزاز أن شقيقه صالح وقت كان في غيبوبة متقطعة كان يتكلم عن بناته وبالذات عن ابنته شيهانة (16 عاما) وكان يقول عنها: هي البوصلة التي تحدد اتجاهاتي.
وكان يكرر حديثه عن بناته ويقول بأنه لم يقصر بحقهن، وأوصى أخوته برفض حضور بناته لأميركا للدراسة أو غيرها بأي حال من الأحوال الا أن يكن مع أزواجهن.
ويشير شقيق الفقيد إلى أن المستشفى اتصل به يوم 20 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وطلبوا حضوره الفوري، وقالوا بأن صالح لن يعيش أكثر من سبعة أيام.
ويضيف: عدنا للرياض والتقى صالح بوالده ووالدته وإخوانه وقتها خاطبنا بقوله: "الحمد لله في آخر وقتي أصبحت أتلذذ بقراءة القرآن الكريم، وهي لذة لم أكن اشعر بها سابقا، لقد انعم الله عليّ بأن أعطاني هذه الفرصة التي لم يعطها لزملاء آخرين يباغتهم الموت فجأة.. الحمد لله أن أعطاني فرصة كي أضع نقطة في آخر السطر وافتح صفحة جديدة وأعيد حساباتي".
ويستذكر عزاز موقفا إنسانيا ونبيلا لشقيقه فيقول: وقت كان صالح يتلقى العلاج في الولايات المتحدة كان يوجد في نفس المستشفى شابة سعودية اسمها نسرين وعمرها 22 سنة، وكانت تعالج هي الأخرى من السرطان، وقد أصبح بين صالح وهذه الشابة وأمها علاقة أشبه بعلاقة العائلة بحكم تبادل الزيارات، وفي احد الأيام جاءت والدة نسرين إلى صالح في غرفته وأخذت تشكي إليه أحوالهم المادية الصعبة، وانه لم يعد بمقدورهم مواصلة علاج ابنتهم، لم يتمالك صالح نفسه فذهب إلى الطبيب المسئول وهو فيليب سالم وطلب تدخله الإنساني فاعتذر فتحمل صالح خطيا كل تكاليف علاج نسرين وكان ينوي سداد المبلغ على دفعات، ولكن الأمير عبد العزيز بن فهد قام بسداد مستحقات نسرين للمستشفى بعد أن علم بالأمر.
ويمضي شقيق الفقيد بقوله: ماتت نسرين ولم نخبر صالح لأننا نعلم بمدى تأثره وبالحال التي سيكون عليها ومات صالح وهو لا يعلم بموت نسرين.
وهنا يشير عزاز إلى واقعة تتعلق بمواقف البعض من الفقيد: وقت كان صالح يتلقى العلاج في أميركا جاءته مكالمة هاتفية وتحدث معه رجل بقوله: أنا لا أعرفك وأنت لا تعرفني، ولكني كنت احقد عليك لدرجة أنني لو قابلتك لقتلتك تقربا إلى الله ولكن عندما قرأت وسمعت ما كتب وقيل عنك بعد مرضك عرفت أن المعلومات التي عندي خاطئة وغير صحيحة، والآن اشعر بندم بالغ وبودي أن أعطيك من عمري حتى تعيش.
انتهت المكالمة الهاتفية وقال لي أخي صالح: اسمع يا أبو العز.. حاول أن لا تسيء لأحد وبادر الناس بالمصافحة والابتسامة وحاول أن توسع دائرة أصدقائك وتضيق دائرة أعدائك.
ويقول عزاز العزاز، 30 عاما، والذي يعمل سكرتيرا لشقيقه صالح في مكتب المدارات حيث انه لم يجد له مقعدا في الجامعة بعد تخرجه من الثانوية العامة، ولم يجد له فرصة عمل ما جعل الفقيد يستدعيه للعمل معه في المستشفى التخصصي في الرياض. أصيب صالح بجلطة في رجله اليسرى، وتم علاج الجلطة ثم عانى من وجود ماء في الرئتين ثم أصبح يعاني من تشنجات لا تطاق تجعله يطلق اصواتا لا احتمل ألمه منها.
وبمنتهى الحزن والتأثر يضيف عزاز: مات صالح وقد نقلته للثلاجة بنفسي وما أن وضعته فيها حتى عدت إلى غرفته ابحث عنه.. لم اصدق حتى هذه اللحظة أن نعيش بدون أبو شيهانة فقد كان شمسا تطل علينا قبل شمس النهار.