* إحساس غير معتاد شعرت به وأنا على مداخل مجمع فيصلية الرياض للدخول في عالم فوتوغرافية صالح العزاز... كانت هناك رائحة تفوح من ركن الضيافة في المعرض... رائحة الكليجة المعجونة برائحة حبة الهيلة "المُرة المستطابة" نحن ندلع الهيل هكذا ... أدرك جيداًً أن صالح العزاز لا يقدم صوراًً بأحماض المعامل بل يقدم أجواءً احتفالية ويمزج الرياض بالقرى والرمل والعين التي ترصد تفاصيل الأشياء الواقعة في ظل المطر... يرصد جفاف الأرض وشقوق الجدران والمساحات السبخية والوجوه المتعبة... صالح العزاز يحضر للغة تخاطبية لا يعرف كيميائياتها سوى العشاق...
وكما يقوله شعراء قوافل بني أمية وبني العباس ومن عاشوا في الظلام التاريخي: والصب تفضحه عيونه. وآخر جاء في الهزيع الأخير من تاريخ الصحراء أو في البدايات المبكرة لإنشاء ما يعرف بالقرى النجدية ليقول: يا العين لك بالهوى لفته
منتب على دين الاخواني
هو معجبك واحد شفته
عوده من الزين رويانيصاحب المعرض إنسجاماً مع ما نقوله صاحب كتاب المسالك، حيَّد الفلاتر والتقنية (التلميعية) ليعطينا صورة مجردة من الرتوش والمحسنات الصبغية لأنه يسقط الموانع التي تفصل ما بين الأرض والإنسان ، فهو يفتح بانوراما واسعة على أطلال الدرعية بشرفاتها الطينية وجدرانها المتلاصقة، وشوارعها المكحلة بالأتربة وشجيراتها المغروسة في الفياض القريبة، وأسطح المنازل كانت مسرحاًً اجتماعياً تمتد فضائياً إلى نجمات سهيل، والصبح، والثريا ويقول شاعرنا:يا نجمة الصبح ياللي
سروا عليك النشما وآخر يقول:
دخيلك بجاه اللي على رغبته سواك
لما ادعاك مثل سهيل بالماثر العالي(عزاز) الصورة واللوحة... كان يقول من خلال أطلال الدرعية: من هنا تبدأ الخارطة والكلمات. كان يقول لنا إن هذه البيوت المتطامنة، والممدة على الجال الصخري بوادي حنيفة هي حجر الزاوية للقرى والمدن والتاريخ ولحاضرنا ولدوائرنا التي تضاعفت بالآلاف خطوطها الكنتورية.
هذه هي حياة البيئويين توجعهم دائماً تفاصيل الأرض ، وتفاصيل الوجوه وصالح العزاز بيئوي أحب الرمل والمسطحات المعشبة في وادي الرمة... والوادي يلتف على القرى مرة يغمرها بسيول الأمطار ومرة بالطمي ومرات عدة بالجفاف لكن الرمال الهلالية والكثبية تبقى هي الملمح في ذاكرة العزار والرمة.. لا أخفيكم أنني حاولت أن أهرب من التورط اللذيذ الذي عاشه صالح العزاز في ثالوث الرمل والرمة والوجوه ...لكنني فشلت وإن بقيت واقفاً على حدود الفيصلية ورياض 2001.فشلت في التمرد على الرمل وطمي وادي الرمة والقرى التي تحلقت حولها الكثبان الصدفية وما أشعله صاحب المعرض من رائحة (الهيلة) والكليجة والزنجبيل والأطفال الذين ازهروا داخل الصالة والحضور المنسلين من أقبيتهم الدافئة في الأمسيات الشبطية إلى معرض الصور.
تمنيت أن يتجه العزاز بوحدة المكان في إطارها الزمني والجغرافي ويمطر بيئة الرمة بالصور ولحظات تعاشق أشعة الشمس مع رمال (الغميس) وصعافيق ونفود بريدة والطرفية... ويربطنا بخيط سحري بتلك البدائع أم تلعة وخبروات الرمة وهي تتدثر بحمرة الرمل وتربتها المخصبة... تمنيت أن يقتحم تلك اللحظات لأعجاز نخل الرمة في عنيزة وهي تموت واقفة... تمنيت أن يروي حكاياته الصامتة مع أمه وهي في خبوب الأرض تطحن ما تبقى من حبوب الزمن... تمنت أن يروي تفاصيل قوافل الحب المتدفقة لجدته التي بكى عليها كثيراً وأرخى (سدول) المدامع ليختصر سيرة أرض وناس وآخرون مداخلين في ثنايا الأزمنة.. صالح الرمل وزبد الرمة وجرح مفتوح على بيئة عذبتنا وعذبناها.
الرياض Saturday 10 February 2001