البقاء للقراء 

صالح العزاز

هو فعلا (فنان بلا حدود).. كما قال الأمير خالد الفيصل حينما دو ن انطباعاته عن معرض زميلنا الأستاذ صالح العزاز.. والأمير خالد قال هذه كما يقول الأشعار, لذا هي ملك للتاريخ.
لأن لديه موقفا من "الإنسان" مساحات الإبداع لا تضيق به, عندما انحسرت مساحات الكلمة, وجد فرصته للإبداع في الصورة. وفي عالم الصورة,طفق صالح "الإنسان" يبحث عن الأشياء التي تعكس موقفا أو تخلد ذكرى أو تثير المشاعر والأحاسيس, وكل ما دونه ـ عبر الصورة ـ يكشف لنا من جديد مدى غزارة الأشياء الجميلة في بلادنا, في الصحارى, أو في المدن العامرة, أو في بقايا الطين الذي يحتضن بعضه بعضا في مدننا القديمة.
في معرضه المقام في الفيصلية يستخدم صالح أدواته البسيطة لينقب في البلاد, وإحساس الفنان والمثقف يقوده إلى أشياء كنا نظنها عادية تماما , لكن الأدوات البسيطة وإحساس الفنان تفجر منها المعاني والدلالات حتى الدهشة, وفي بعض اللوحات يتحول الانبهار إلى غموض ومن حالة الغموض ينطلق الخيال, وعند هذه المرحلة ينتهي دور الفنان.. انه يحفزك على إعادة اكتشاف الأشياء ودلالاتها بما تحتاج هذه العملية من أسئلة واحتمالات وقلق.
في المعرض صورة جوية لأحد الأحياء الطينية القديمة, ومن فوق أعطانا صالح العزاز الفرصة لنرى البيوت الطينية وقد تراصت كأنها في حالة احتضان وتوحد, وكأنها مشهد لأم رءوم تحاول ما وسعت أن تحتضن أطفالها حولها وتشدهم إليها شد واحدا واحدا .. ما أروع حالات الحنان والخوف.
من الصورة عاد بنا الخيال إلى حياة المدن القديمة, البيوت تقوم واحدا بعد الآخر, وتكاد تنطلق من بؤرة واحدة ثم تلتف على بعضها التفافا نراه الآن خانقا , وربما مضحكا , ولكن البيوت امتداد لأصحابها, وأصحاب تلك البيوت الطينية في مدننا القديمة دفعتهم الحياة إلى هذا الالتفاف.
إنه الخوف من أشياء كثيرة.. يدفع المجموعة إلى هذه الحالة من التقارب والتزاحم.. فماذا حولهم, انه الفراغ الموحش المفتوح لكل الاحتمالات, يهدد المدينة من كل مكان وفي أي لحظة.. وربما اختار صالح العزاز (الصورة الجوية) ليبرز أهمية الفراغ الفسيح حول المدن أو ليجعلنا نتساءل.. لماذا تتراص البيوت وتتعانق لحد الاحتضان, رغم المساحات التي لا يدركها النظر حولها؟
أيضا صالح العزاز أطلق إحساسه المبدع في صورة أخرى..
انه "الجمل".. هكذا تستفزك العبارة عندما تقف عند صورة طولية كبيرة لـ"بعير"شارد في الصحراء.
في الصورة يقف (الجمل) مصوبا نظراته (إليك), وفي حالة المواجهة الصامتة ما هي إلا لحظات حتى تجد نفسك مدانا , ولا تدري لماذا, ففي النظرات الشاردة ثمة رسالة غامضة تتأكد أنها رسالة إدانة عندما ترى الفراغ المطلق حول الجمل, فقد اختار صالح العزاز أن يجرد الجمل من كل شيء, تركه عاريا في الصحراء يعفره الغبار وتتناثر حبات الرمال على ساقيه وركبتيه, وحتى العنصر الإنساني سقط من الصورة رغم الارتباط الحميم بين الإنسان والجمل في الصحراء.. صالح أراد أن نقف لحظات تأمل, ثم نستسلم للمسألة والإدانة, لقد حاكمنا "البعير" وقبلنا الإدانة وعلينا أن نبحث في حيثيات الحكم, وهذه رحلة لن تنتهي, وهذا ما أراده صالح العزاز.


* * *

صالح... (إنسان..!!)
* لم تأخذني الدهشة عندما قرأت رسالة التعريف التي كتبها صالح العزاز عن نفسه عند مدخل المعرض, رغم أن كثيرين أدركتهم هذه الحالة. فأنا أعرف ان صالح حلق في فضاء الكلمة الصحفية منذ ان عرف معنى الحروف.. لذا هو دائما يكسر القوالب ويأتي بالجديد.
تقديرا لهذه (الزاوية) وافق صالح العزاز ان أنشر هذا التعريف المختصر, لأنني أرى فيه (موقفا ) من الإنسان الفنان سواء كان صالح أو غيره. يقول صالح:
[ لم يكن ذلك الشيء الذي حدث بين صلاة الظهر والعصر حدثا مهما أو غريبا , لأن الولادات كانت تتم بكثرة في تلك القرية النائية من العالم, فإن لم تلد إحدى النساء فقد تلد إحدى الأغنام أو النياق, كانت الولادات تحدث كل يوم تقريبا فيكبر القطيع!
ثمة امرأة تركت الحقل على وجل متجهة إلى الدار, لكن اللحظة أدركتها فسقطت أنا على الأرض عاريا مثل جرم فضائي صغير وغريب. أخذتني بين كفيها نفضت عني بقايا الرمل الناعم الذي كان ثوبي الأول وسيكون ثوبي الأخير.
في عام 1959م كانت والدتي نورة بنت علي الدهيمان منغمسة بعملها اليومي خلال موسم الحصاد, ربطت شعرها دون ان يخطر في بالها أنني سأكون بين يديها خلال لحظات, وعندما حدث, قطعت حبل سرتي بمنجل الحصاد, كان أبي بعيدا في مدينة أخرى يبحث عن قوت عياله.
لذلك لا أحد يتذكر اليوم الذي حدث فيه أمر عادي كهذا يتكرر كل يوم ولا أحد يذكر حتى شهر ميلادي. لكن والدي قال لي ان أجمل خبر تلقاه في حياته عندما قيل له أن مولودك الثاني ولد أبيض وطويل وجميل.

* * *

في عام 1979م ذهبت إلى نيويورك لأول مرة في مغامرة لا تنسى, وفي مطار كندي سألتني موظفة الجوازات, امرأة بدينة مقطبة الحاجبين, ما هو تاريخ ميلادك؟ فقلت لها 1959 فقالت في أي يوم في أي شهر؟
قلت لها لا أعرف.
صرخت معلنة للملأ ان ثمة مخلوقا غريبا وصل إلى نيويورك لا يعرف تاريخ ميلاده.. شعرت ان كل من في المطار في تلك اللحظة يحدق في هذا الكائن الغريب الذي لا يعرف متى ولد.
لم يكن هذا الأمر يشكل أهمية بالنسبة لي, لكن عندما عشت في بريطانيا, في التسعينات, وعلى الرغم من انه تم اختراع التاريخ المطلوب لهذا الحدث ـ لكن الأمر لم يعنيني خاصة انه تاريخ ملفق ـ إلا ان الأسئلة بدأت تتفاقم في المناسبات ما هو عيد ميلادك. بل وتتأزم لتسأل من أي الأبراج أنت!!
كنت اخترع لكل مناسبة حكاية, وكنت أروي حكاية جدتي موضي الشايع التي كانت تلعب دور القابلة وولدت جميع أطفال ذلك المكان البعيد, وكانت تؤذن في آذانهم لحظة يخرجون إلى النور وتدس في حلوقهم أول جرعة من الحياة الجديدة ثمرة مغموسة بالماء. كانت تقوم بكل هذا وهي امرأة كفيفة.
لكنها بالنسبة لي كانت أكثر الأحياء بصيرة في نظري, كانت ترى الأشياء بقلبها الكبير. كنت ولازلت أشعر بالحزن لأنني لم أخرج إلى الحياة على يديها ولم تؤذن بأذني, وعندما توفيت العام الماضي عن عمر يناهز الـ120 سنة شعرت انني في مهب الريح.
كلما باغتتني الأسئلة عن برجي, كنت أختار العذراء مرة أو برج الأسد مرة أخرى, لكن لم يصدقني أحد. كانوا يقولون لي أنت من برج الحوت لأن صفة المغامرة موجودة فيك, والطيبة في ملامحك.
كنت أعجب بالأولى وأكره الثانية لأنها علامة ضعف إنساني في زمن متوحش, ولو كان للإبل الشاردة برج لاخترت ان أكون معها لكي أكون مثل "جمل من الصحراء لم يلجم".
"المفروض ان أكون شجاعا مخاطرا لأنني لن اخسر في شجاعتي ومخاطرتي شيئا , والمفروض أن لا أكون جبانا لأني لن أكسب من جبني شيئا ".
في هذا المعرض ـ بلا حدود ـ حاولت تقديم بعض الصور المهمة, والملتقطة من الجو لمدينة الرياض. وقد جاء التقاط هذه الصور بمحض الصدفة, إذ انه لم يكن ثمة مهمة تصويرية مخطط لها مسبقا .
وأنا على أي حال لا أحب المدن كثيرا , لأنها تصادر حريتي ولا تمنحني ذلك التباين بين الضوء والظل والذي تمنحني إياه الصحراء: خيمتي الأولى والأخيرة, لذلك فقد قررت ان أجعل صور المدينة محاطة بصور الصحراء: أمها الحنونة. واعتقد أنني بعد هذا المعرض سوف اقترب من الصحراء أكثر, بل سألتصق بها, لأنني كلما ذهبت إليها تمنيت لو أنني عشت هناك أرعى الإبل واقرأ أشعار المتنبي وأحفظ قصائد عنترة.
سوف أعود إلى الصحراء ولكن بطريقتي الخاصة. وسوف تدخل الصحراء لتضيء بيوتكم وغرف نومكم وجلوسكم, وتنقذكم من وحشة الأسمنت والمدن المزدحمة. تخيلوا أنفسكم أيها البدو بدون صحراء مفتوحة الأفق!!صالح العزاز ـ الرياض 2001م

جريدة الرياض Monday 12 February 2001