مدائن صالح وقاسم

محيي الدين اللاذقاني

مرت هنا ريح وما كتبت حتى محت أثراً من غير أسماء أشباح أشخاص هنا وقفوا يستنهضون بلاداً كلما هتفوا يهفو لهم خبر من يستجيب لهم ريح رجال نسوة حجر ماذا سيبقى لهم في حسرة الماء شهادتي بقاسم حداد وصالح العزاز مطعونة سلفا عند من يدعون إمكانية النقد الحيادي، فهي موشومة بالحب ولا يقيمها أي جرح وتعديل فليس سرا أني اعتبر الاثنين من الفرقة التي نجت بروحها في حقبة أنعشت الأجساد، ونخرت الأرواح.

والتعبير هنا ليس من فصيلة مصطلحات الغزالي ولا تفريعات الشهرستاني في الملل والنحل، فالفرقة المعاصرة الناجية روحيا في منطقة الخليج استنادا إلى رصد حقبتين من التعامل القريب والبعيد هي فئة نبيلة الروح عاشت فترة الطفرة، فلم يغرها رنين الذهب ولا انساقت خلف الجوانب المادية والمظهرية والاستهلاكية التي شغلت بقية الفرق إنما ظلت مخلصة للاعمق والابهى والأنبل والابقى.

صالح العزاز وقاسم حداد من قبيلة تعشق الحياة بتفاصيلها الحميمة والصغيرة والمنمنمة، وتجد في بوح الطبيعة والإنسان، وفي جدلية تفاعلهما حزنا وفرحا وحبا وغضبا ويأسا وبهجة منجما خالدا للفن ذلك الاختراع العظيم الذي قاوم به البشر سطوة الغناء ليسجلوا أسطورة الخلود على صفحة الريح والماء والرمل والشجر، وبالصوت والإيقاع والتخييل والتصوير.

ان الكتاب المشترك "المستحيل الأزرق" الصادر حديثا للشاعر البحريني والفنان السعودي من أجمل ما أنتجت تلك الفرقة التي نجت بروحها من طوفان التغريب والاستلاب ففيه تتعانق حساسية المصور مع مخيلة الشاعر فيأتي الشعر رقراقا كالنهر العذب وتتكامل صور القصيدة مع صور الكاميرا وهل الشعر المكثف إلا جنس من التصوير كما نص الجاحظ الأب الروحي للناجين من سطوة زيف المتاع الزائل والقشور.

لقد وضع قاسم حداد مقطوعة شعرية لكل صورة من صور العزاز التي التقطها على مدار أعوام وفي أمكنة مختلفة من جزيرة العرب ثم تمت ترجمة النصوص إلى الفرنسية، والإنجليزية وظلت الصورة ـ وهنا عظمتها ـ لا تحتاج إلى ترجمة ثم تقابلت في "المستحيل الأزرق" نصوص اللغات الثلاث مع صور الخزامى والأقحوان والصبار والصحراء بسفنها وناسها وخطوط رملها التي تستعصي على ضاربات الودع وقارئات الفنجان.
وفي صور العزاز التي كانت الأصل الأول لسيمفونية شارك فيها أكثر من عازف عين تصرخ بالفرح وتنبه الناس إلى ذلك الجمال المنسي في الدهناء، ومدائن صالح، وينبع، وصحراء النفود، والقصيم مسقط رأس ذلك الفنان ـ المصور ـ الذي ترك للآخرين حوريات البحار وتفرغ لمغازلة حورية الصحراء، وطعوس الرمل الأحمر لمن يعرفها كما عرفناها معا ذات يوم على سفوح طويق حوريات ساحرات الفتنة مكتملات التكوين.
"المستحيل الأزرق" ليس كتابا، فحسب لكنه مدائن أسطورية شيدها صالح العزاز بالكاميرا ولون نوافذها وشرشب سقوفها قاسم حداد بالشعر فهل من عجب ان يكون الاثنان من الفرقة التي عصمت نفسها وتحصنت باللب والجوهر وحاولت ان تبني وتشيد في زمن الهدم فيه أعلى صوت من التشييد والبنيان

الشرق الأوسط 23 ابريل 2001

***

حكاية صديق شجاع

محيي الدين اللاذقاني

تعرفت على خزامى نجد والفنان صالح العزاز في يوم واحد، وذات رحلة صحراوية حملتنا إلى وادي مرخ لنتفقد أحوال أولاد عمنا الحطيئة توقفنا عند سفوح طويق، وفيما الرمل الأحمر الناعم يتسرب حنونا ومراوغا بين الأصابع وينقلني عدة قرون إلى الوراء متأملا في مصائر من عبروا، وذابوا في الفضاء بعد ان نصبوا خيامهم وأقاموا أثافيهم فوقه كان صاحبي صالح العزاز يوجه عدسته في الاتجاهات كلها ليقتنص سحر تلك اللحظات، حيث يتعانق الأحمران، الرمل وغروب الشمس.

ولاحقا صعدنا إلى سيارته وجلال الصمت يلفنا بعباءته فلم نتحدث بحرف إلا بعد ان تجاوزنا الزلفى والسمينة بلدي عثمان العمير، ومالك بن الريب.

لحظات الصمت تلك تكررت بعد سنوات عدة، ونحن عائدان من العشاء الأخير لعوني بشير، وكنا قد ذهبنا لنسامره في أيامه الأخيرة، ونحن ندرك انه قد بقي له من الحياة أسبوع، فتنفسه صار صعبا وأنبوبة الأوكسجين لم تعد تفارقه، وزوجته الصابرة تكابد، وتتجلد، وتحاول مثله ان تقنعنا بأن كل شيء على ما يرام وإننا يجب ان نبقى للعشاء، وبقينا فمن يرفض لمودع طلبا ويومها نظرنا في كل الاتجاهات، كما نظرنا في وجوه بعضنا البعض وكلنا يدرك انه العشاء الأخير.

وفي "الأندر جراوند" كنا ننتزع الكلمات "انتزاعا" وكلانا يتمنى لو سكت صاحبه فغصة الوداع الأخير ومهما تحايلت عليها ليست اقل استثارة للتأمل من المصائر التي عبرت فوق الرمل الأحمر في طويق، حيث كل من عبر راود وهم الخلود عن نفسه وظن انه مقيم فوقها ما أقام عسيب.

في المرة الثالثة كان عليّ ان أعيش لحظات الصمت وحدي، فقد علمت من خلال مقال مليء بالتفاؤل نشره في "الشرق الأوسط" بعد ان صحا من عقاقيره وبنجه، ان صالح أصيب بالمرض ذاته الذي أودى بحياة صديقنا المشترك عوني، وفي ما كنت اقرأ عن شجاعته في مواجهة الموقف كنت أتحسس حبيبة ظهرت فجأة في العنق، واسأل نفسي هل أنت يا نفس صاحبة الدور بعد العشاء الأخير، وهل هذه الحبيبة أول الغيث المقيت...؟
ولم أشأ ان أهاتفه حتى أتأكد وهي مرحلة طالت، وكنت احرسها بصمت وسرية لأني من الذين يعتقدون ان المرض في بعض وجوهه كالحب شديد الخصوصية، وان على الإنسان ان يواجهه منفردا ليوفر على أصدقائه ومحبيه القلق، وعلى نفسه نظرات الشفقة، فليس على وجه الأرض ما هو أقسى من نظرة شفقة عند من يكره تلك العاطفة التي تنتمي إلى فصيلة العجز عن العطاء، وهي لا ترفع المعنويات بقدر ما تحبطها.
وما بين أواخر آب ـ أغسطس الماضي حين اكتشف صالح مرضه ويناير ـ كانون الثاني الماضي حين نضجت حبة العنق وصارت كالعنب وحان قطافها، مرت أحداث جسام بينها تاريخ الحادي عشر من سبتمبر ـ أيلول ووجدت صالح العزاز يحكي للمرة الثانية عن روعة الحياة، وعن عظمة ان يكون للإنسان وطن يحبه، وكان لي وطن اشتاق إليه ولا يعرف ما بي، ومخاوف داخلية أؤجل مواجهتها، فالأطباء يقولون ان الحبة قد تزول تلقائيا لكنهم يتخوفون من ان تكون ورما خبيثا، فحتى الأورام فيها الطيب والشرير، وبعد العشاء الأخير صار حجم الوهم اكبر دوما من حجم الحقيقة.

وأخيرا حانت ساعة الحسم، وأسلمنا العنق المريب والمرتاب لمبضع الجراح، وحين فتحت عيني بعد رحلة المخدر، واروني عنبة ناصعة البياض تسبح في سائل كدر، واخبروني أنها من الورم الحميد، تذكرت على الفور وقبل ان افرح صالح العزاز وقلت حان وقت مهاتفته لأسأله من أين أتى بكل تلك الشجاعة وهو يواجه ورما خبيثا في اخطر الأمكنة، ونحن قتلنا الخوف من عنبة في العنق، وبعد أيام وفيما كنت اطلب رقم العزاز من الزميل محمد العوام واحكي له مخاوف الأشهر الأخيرة من تداعيات العشاء الأخير خطر لي ان قصة شجاعة العزاز في مواجهة المرض يجب ان تروى علنا وبكل تفاصيلها المشحونة بالألم والصبر والإرادة. وها نحن نتمنى عليه ان يكتبها يوما بيوم لا ليرسم جداريته بقلمه كما فعل محمود درويش إنما لينعش بحكاية صموده في وجه المرض كما فعل سعد الله ونوس آمال بشر كثر يظنون ان كل شيء قد انتهى بمجرد ان يخبرهم الأطباء باسم ذلك المرض اللعين.

أني فخور بك أيها الصديق الشجاع ولا يكفي ان اعرف وحدي والمقربون من أصدقائنا حبك العظيم والعميق للحياة، فهل نطمح بقراءة يومياتك ما بين نيفادا وهيوستن لنعيش معك الولادة الثانية لفنان شجاع بهرتنا قصة صموده الإنساني في وجه الألم ومتى..؟ وأين...؟ في أميركا في عز احتدام اشهر موجة كراهية في التاريخ.

الشرق الأوسط 18 فبراير 2002

***

صالح العزاز.. كاتبا وفنانا

من الزبير محمد نور سليمان ـ الرياض (السعودية):
قرأت ما كتبه الأخ عبد الهادي البكار التميمي في "الشرق الأوسط" يوم الأحد 24 مارس (آذار) عن الكاتب الاستثنائي صالح العزاز.
ولقد عرفت الأخ صالح العزاز في مدينة الدمام، بالمنطقة الشرقية من السعودية، كان يعمل متعاونا في جريدة "اليوم" حيث كنت متعاونا في رسم الكاريكاتير اليومي، وتعرفت أيضا على الأخ المرحوم عبد العزيز المشري هذا الفنان المبدع، بل كان شاعرا وكاتب قصة وروائيا، وكان عازفا بارعا على آلة العود وفوق ذلك كله كان فنانا تشكيليا.. بالصدفة كنت اقرأ في جريدة "الوطن" السعودية للأخ جعفر عباس في عموده اليومي "الزاوية الحادة" وفوجئت انه يكتب عن صالح العزاز ومرضه وانه يعالج في احد المستشفيات الاميركية من ورم سرطاني في الرأس، وأجريت له عملية ناجحة والآن يعالج بالوسائل الكيماوية.
عرفت الأخ صالح قليل الإنتاج، كثير الإطلاع، متعدد المواهب. كان يهتم أكثر بفنون أخرى وبالذات فن التصوير وحسب علمي ليس لديه أي كتاب مطبوع، فإنتاجه مفرق في الصحف والمجلات السعودية.. لقد تألمت جدا لمرض هذا الفنان العبقري وهو شاب يرجى منه الكثير الكثير.
لقد عاش هذا الشاب قلقا مضطربا غير مستقر على حال، متنقلا من موقع إلى آخر.. اسأل الله ان يمن عليه بالشفاء العاجل ويرجعه إلى وطنه وأهله وأصحابه معافى صحيحا.

الشرق الأوسط 22 مارس 2002


***

كلماته غسلتني مثل وضوء قبيل الفجر

صالح العزاز مبدع استثنائي خرجت من مقالته ولم تخرج هي مني

من عبد الهادي البكار النعيمي ـ القاهرة:
فرغت للتو من قراءة مقالة صالح العزاز المنشورة في العدد الصادر يوم الخميس تحت عنوان "صرخة احتجاج من مريض.. الكعبة لا تذهب إلى الناس إنما هم يأتون إليها"، وقد خرجت منها، لكنها لم تخرج مني، ولبثت في داخلي كالهواء في قارورة ذات فم مفتوح.. فهذا كاتب عربي سعودي استثنائي لم اجلس إلى مائدته الزاخرة بأطباقها الدسمة، ولم يتصادف ان قرأته من قبل، ولو كنت ناشرا لما ترددت في نشر مقالته الدسمة الوسيمة الرصينة هذه، في صدر الصفحة الأولى، ولست أبالغ ان اعترفت بأنني قد قرأت اسطرها، والليل يرخي سدوله، مغمورا بخشوع عميق.
انني هنا اعبر بكثير من الشكر للعزاز عن إعجابي الذي يتجاوز الآن حده الأقصى، بعمقه الفكري الاستثنائي الذي نثر رذاذه المؤثر في اسطر مقالته هذه في "الشرق الأوسط" ليبلل وجه اكتئابي وجسدي العليل، بالبرودة المشتهاة، بللا كالوضوء المطهر المفضي إلى الصلاة التي سأقيمها أمام الله عقب الانتهاء من رسالتي هذه، في غرفة نومي التي اعتكف فيها معاقرا الزهد والمطالعة الدؤوب والتأمل والتسامي فوق الصخب، وكل أنواع الصراع، منذ سبع سنين، داعيا الله بأن ينعم عليه بالشفاء، وبأن يطيل عمره، ويصون اشتعال جذوته وجمرته من الترمد المطفئ للحياة والتوهج، ويحصن شمعته المنيرة ضد الذوبان.. فكم تحتاج امتنا الحائرة كسيرة الأضلع والجناح، إلى مثل هذا المبدع العربي السعودي العظيم.
سوف احرص على متابعة ما ستنشره "الشرق الأوسط" من مقالات هذا المبدع العظيم، وسأبحث ههنا في المكتبات، فلعلي اعثر على كتب له قد تكون نشرت.

الشرق الأوسط 24 مارس 20020