نسيانهم لا يكفي.. واستعادتهم من المستحيل

صالح العزاز.. وداعاً

خالد الرويعي
(البحرين)

بحلول فجر الأحد الماضي، كان صالح العزاز قد رحل مخلفا ربيعاً من عمره في حب الكتابة وجسد الصورة. فما بين (هيوستن) و(الرياض) كان أصدقاء الفقيد يترقبون أخباره بالأمل وبالدعوات الصادقة في كل وقت، حتى أن جسد الثقافة (موقع مجلة الإقلاع الإلكترونية) أفردت قسماً خاصاً لمحبي ومعارف الفقيد آن تواجده في (هيوستن) يتداولون فيه أملاً مشتركاً وصلوات ودعوات تتمنى خروج الفقيد من ظلام المرض آنذاك.
فها هي ذا من سمت نفسها (وحيدة، كما النبتة الصغيرة تلك) تكتب ابتهالاً ناصعاً تقول فيه

ابتهال لـ جسد.. يخفت قنديله

يرقد في المستشفى.. .العزاز صالح
جسدٌ كالخرقة.. مثقوب الحياة
تفر عصافير شهيقه.. من أجهزة طبية قاسية
و.. الأمل يتنامى في ابتهال نرفعه
في ثلث أخير يغادر الليل
(صالح العزاز)
صمتت كاميرته..في وقت يستشري المرض
في جسده
يلتهمه.. حتى امتص عافية نوره
لطائف إلهية..تنزل عليه
برحمة.. ومغفرة.. وعتق من النار
لنبتهل.. بدعوة في ظاهر الغيب
لـ الصالح (صالح العزاز)
نتوسل بحب
طالبين فيوضات ربانية
تغدق عليه لطفاً وعافية
كونوا معه.. بدعواتكم الطيبة
بقلوبكم

ذاكرة الأشياء في مستحيلنا الذي لابد منه؟

كيف تذهب ولم أنه رسالتي لك بعد؟
لماذا يسير أحلامنا لا يتحقق؟
لماذا كلما رأينا بصيص الموت خفنا على الأحبة ومن والاهم؟
تجد المسافات لنا العذر دائما، لكنها لا تتعذر أمام الحب الذي يأتيك وأنت في الوهن، تصادف صورك وأصدقاءك الطيبين ومن حولهم، كلهم كانوا هنا، ويفتقدونك.
كلهم.. يصطفون لك الضوء وأنت تتحرش في الظلام كأنك لا تبحث عن الحب إلا في ليل صحرائك الحزينة، كلهم مدعون لاقتفاء عينيك وهي تجول بين المساحات لتهندس فراغاً يحنو على كلينا، سيبدو المشهد أكثر جمالاً دائما لأن همس الطفلة ليمامة القلب لم يكن همساً أصلا، كان بوحاً، وكان سراً أفردت الريح جناحيه حتى اصطفى لك المدى
فكنت المبتدأ
وكنا في حليم القول هوى
ولما أن جارت علينا النصال رأينا فيك منتهى وجنة مأوى
فمن ذا سيأخذ الصور الآن عنا؟
ألم تكن (شيهانة) بوصلتك
فلماذا الآن تغادرها
وتغادرنا

(شيهانة) اسم ابنة الفقيد صالح العزاز

****

صالح العزاز في سطور

من مواليد الخبراء بمنطقة القصيم بالمملكة العربية السعودية عام 1959م مارس العمل الصحفي في العديد من الجرائد والمجلات السعودية، كما أسهم بكتابة المقالة اليومية وإجراء التحقيقات الصحفية في العديد من الصحف العربية، نشر كتابه الأول (الجنادرية والحدث) بالتعاون مع مواطنه الأستاذ حمد العبدلي.
وباعتباره مصورا فوتوغرافيا مقتدراً قام بتزويد كل الصور المضمنة في كتاب (العودة إلى الأرض) الصادر عن إحدى دور النشر البريطانية حول تجربة استخدام الطين كمادة وحيدة لبناء المنازل والأبنية المختلفة، وفي رحاب الصحراء الواسعة أقام معرضاً لصوره الفوتوغرافية، كما شارك في مسابقة اتحاد المصورين العالمي الذي أقيم في الصين واحتل المركز الثاني.
نشر كتابه الثاني (المستحيل الأزرق) بالاشتراك مع الشاعر قاسم حداد عام 2000م بترجمة فرنسية للشاعر عبد اللطيف اللعبي وإنجليزية للقاص نعيم عاشور ومراجعة من قبل الدكتور فاطمة الخضر الجيوسي.
وكان آخر احتفاء بالكتاب نظمه مركز الشيخ إبراهيم بن محمد للثقافة والبحوث في أكتوبر الماضي بحضور حداد واللعبي وتعتذر مجيء العزاز لوجوده على سرير المرض.
توفي في الرياض يوم الأحد الماضي 15 ديسمبر 2002 إثر مرض عضال قضاه في العلاج بالولايات المتحدة الأمريكية.

الكتابة الأخيرة

وكان قبل أن يحتويه الموت قد رسم مشهد مرضه بعبارات لمجلة الإقلاع الإلكترونية قائلاً: ( بدأت تجربة المرض بالنسبة لي مثل نهاية عرض فيلم سينمائي، حيث تضاء القاعة وتفتح المخارج وتبدأ الأصوات ترتفع بوجهات النظر المتعددة، هذا لا يحدث عادة دون مشاهدة العرض أو الفيلم، وان حدث فإنه لا قيمة له. بالنسبة لي مع المرض شاهدت نفسي بزوايا مختلفة، وبرؤيا فلسفية أكثر عمقاً. أنا لم أتغير كثيراً. لم تستطع الظروف ولا المتغيرات و لا إغراءات الحياة أن تمس أو تطمس ذلك اليقين المزروع في الأعماق منذ الطفولة البريئة، حيث كانت الحياة كذلك. لكن الذي حدث مع المرض أن هذه الأشياء تجاوزت حدودي الشخصية إلى العام، فأصبحت المسألة مطروحة للنقاش لأنني أريد أن انقل رسالة، وأعتقد أن كل إنسان مسلم هو صاحب رسالة أخلاقية وفلسفية لكن عليه أن يدرك كيف يمكن أن ينقل ويوصل هذه الرسالة.
أريد أن أؤسس لنوع من الأدب الإنساني بإطار أخلاقي رفيع. فإن أصبت فالحمد لله وان أخطأت فأنا وحدي أتحمل المسؤولية.
نعم المرض يحتوي على كل شيء، لأن الحياة ملهاة كبيرة، والمرض أو الأزمات الكبرى من هذا النوع تأخذنا إلى مقاعد المشاهدين لكي نرى أنفسنا عن بعد.
وأنا هنا (عندما كان في هيوستن) لا أعرف ما إذا كنت سوف أعيش أم أنني سأذهب بالاتجاه الآخر. ووجدت نفسي أمام فرصة عظيمة لتدارك ما يمكن تداركه، وهذه نعمة كبرى.
كم من الأصدقاء والأقارب والذين نعرفهم ولا نعرفهم ماتوا هكذا مثل لمح البصر.
أعتقد انه شيء رائع وجميل أن تكون مسلماً بهذا الطراز الذي تخرجه بيئة (نجد) البسيطة جداً، حيث تبدو الحياة مثل أرض منبسطة بدون تعقيدات فلسفية كبرى)