تَعاقبات الكتابة والصُورة
(الصورة خارج الاكتمال )

حسين عيسى المحروس

" فلنتعلم كيف نتخيل عندما نقرأ الصورة "
كارل فندرميلن

عندما تخلو الكتابة من الإنساني لا يكون بقاؤها طبيعياً . وعندما تخلو صورة فوتوغرافية من الإنسان أو من رائحته لا مكان لها في غير مقبرة ذاكرة مصوري الإعلانات التجارية . إنّ الصورة التي لا تراقص العينين ، والكتابة التي لا تكون على حافة الجنون ، كلاهما شبهة .
بدأت الصورة الفوتوغرافية الفنية تبتعد عن الاكتمال البصري الذي اعتادت عليه تحت رغبة الباردين . أعني الاكتمال في تقديم الإجابات ، وجعل الأشياء تنتهي بصرياً . لتبدو الصورة هي كل ما هو أمام عينيك فقط . لا شيء فيما بعدها . لا تتجاورز هذه الصورة حدود الأشياء فيها . الشجرة لها حدود ، والانسان له حدود ، الحيوان له حدود ، كل شيء في الصورة المكتملة محدد لا يمتزج بغيره ، وكأنّها صورة من عالم آخر . لكن ماذا عن الصورة التي لا تكتمل حدودها إلا فينا فلا تعرف حينها أهي صورتك أم صورة إنسان آخر ؟ وهذا الوجه وجهك الذي تجاوزته أم وجه غريب ربما شاهدته يوماً ؟
الصورة الفوتوغرافية لا تكون إنسانية حتى تتحوّل إلى حالة غير مستقرة ، لا تتوقف عن طرح الأسئلة على قانصها وقارئها. هي ليست حالة إجابات خاملة كما في الكتابة ذات النهايات المزعومة ، بل مولداً دائماً للأسئلة البصرية التي تتسع باتساع العيون . في الصورة المكتملة تختفي الرؤية . وفي الكتابة المكتملة لا مكان للجذوة .
مادام تاريخ الصورة ممزوجاً بتاريخ الكتابة ، والعكس فلماذا نحاول إحلال الاكتمال فيهما ؟
بدأ تاريخ الصورة قبل تاريخ الكتابة بقرون . كان الإنسان يكتب بالصورة في الكهوف وعلى الجلود وأوراق الأشجار . وسجلت أوّل قضية في الكون بسبب صورة ثمار في شجرة . وقبل أن تكتمل هذه الصورة في الجنة حدثت الغواية ، وبدأت صورة أخرى لآدم وحواء على الأرض . لكنها أيضاً صورة لم تكتمل إذ بدأ تاريخ الأذن في خطواته الأولى قبل ان يتحول إلى الكتابة .

كان الإنسان يسمع أكثر . يحفظ أسرع . لم يكن يدوّن أقوالا على غير ذاكرته . لم تكن الكتابة قد مسته بعد بينما الصورة حاضرة في كلّ مكان . وعلى الرغم من ذلك كانت ثقافة الانسان ثقافة أذن غير مكتملة ، وثقافة عين غير مكتملة . لذا كانت الأذن أهم من العين ( يا ناسُ أذني لبعض الحيّ عاشقةٌ ) . كانت الكلمات تحمل قوة عظيمة . قوة سحرية على الحقيقة لا المجاز . ومع جبروت هذه القوة كان الإنسان لا يعرف إلا ما يتذكره ‍فقط ! لم يكن يملك سوى عتبة واحدة من عتبات الحواس . السمع . كلّما اقترب كلّما سمع أفضل . ليست هناك مسافة دنيا لتوقف هذه الحاسة . لذا بدت الصورة أمامها تتراجع .

وبعد زمن طويل غيرت الكتابة غير المكتملة وعي الإنسان أكثر من أيّ شيء آخر . كاد يجنّ عندما رأى الكتابة تنفصل عنه حالما يفرغ منها . لم ير ذلك من قبل !! . رأى أنّه بدأ يقلل من شأن الذاكرة . رأى أنه عندما يكتب يعمل جسمه كلّه . لكنّ جسمه كلّه تحت سيطرة " الأنا " . رأى الكلمات المنطوقة تفقد كلّ سماتها عندما تصير مكتوبة . صارت واقفة بذاتها على هذه الورقة . صارت صورة .
زادت الانقسامات في الحواس فصارت الصورة تحضر في كلّ شيء إلى جنب الكتابة . تثغّرت الحدود بين المفاهيم وبدأت تتداخل .. غدت المفاهيم نسبية فلم تتوقف الصورة عند المفهوم الذي وضع لها بل تجاوزته ، كما تجاوزته القراءة . صار رأيي المتماهي مع النص نوعا من القراءة . ورأيي المناهض والمتجاوز لهذا النص قراءة . عندما أقرأ نصّا فأنا أكتبه . أعيد كتابته . أنا أكتب نصّي بكل رغباتي وترحيبي وقمعي وشبقي !! عادت الصورة المقرؤة / المكتوبة . غادرت الجدران والكهوف والجلود إلى الورق وشاشات العرض فصارت الأشكال مضامين . صار القشر لبا . صار قرّاء الصورة سطحيين من شدّة عمقهم . في لحظة واحدة تعبر الصورة عن معناها لكنّه معنى لا يكتمل منفصلاً عن ذاوتنا حتى غدت الصورة الواحدة صوراً بحسب الذات التي تحلّ فيها . تحظر الصورة مع الكتابة فنلحظها قبل الكتابة . غدت الصور تحمل أبعاداً أخرى إلى جنب الجمالية . تحمل أبعاداً أيدلوجية يعمل قليل من الإيحائية على تعميقها . ثمّة صور تجاوزت صور أصحابها . صور مقدّسة . لا علاقة للسيد المسيح بهذه الصور المنتشرة له ، ولا علاقة للإمام الحسين بن علي بهذه الصور التي تزينها هالة قدسية . يرسم الإنسان صوراً للذين لم يرهم حتى يشعر باكتمال صورهم في نفسه .

في الصور الثلاث التي أمامي لا أجد إجابات مكتملة لمسألة أو فكرة لكنّها تُلقي علينا الكثير من الأسئلة عبر الحركة الإنسانية الغائبة / الحاضرة . الغائبة بجسدها النمطي ، الحاضرة بأحد أهم لوازم عيش الإنسان ( الحذاء ) . أين الرجل في الصورة الأولى ؟ وأين المرأة في الصورة الثانية ؟ ولماذا غابا في الصورة الثالثة ؟ ما العلاقة بين الحذاء وحالتي الجزر الشديدتين في ماء البحر ؟ ولماذا يغيب الإنسان في الثالثة على الرغم من حالة المدّ الشديد في الماء ؟ . كأنّك تحمل بحراً .. تحمل ماءً لإنسان تعشقه فيغادر سفينته قبل أن تصل إليه !! سوف نتمنى لو حضر الرجل والمرأة معاً في الصورة الثالثة لطبيعة المشهد المتوافق مع طبيعة اللقاء بينهما . فعندما يتواجدان يحضر الماء بكلّ قوة ، وفي أقصى درجات المدّ . لكن ذلك لا يحدث في هذه الصور ! هكذا تكون الصورة غير المكتملة مثيرة للأسئلة مستفزة للرائي على الدوام ، كما الكتابة على خطّ الجنون . هذه بدايه قراءة هذه الصور الثلاث .

***

قد يَخلُو شيء من كتابة لكنّه لا يخلو من صورة

***

الصورةُ الفوتوغرافية وحدها قادرةً على جَعلكَ في
كلّ مكانٍ في آنٍ واحد . هل تستطيع الكتابةُ ذلك ؟

***

الصورةُ قصةٌ ، وصورةُ الوجه وحده رواية

***

الصورُ المكتملة تعني علاقةً سيئةً مع الكاميرا

***

صورةٌ بدون رؤية لا تعني خللاً في الكاميرا

***

أكتبُ باسمِ صورتِكَ التي عَلقَتْ بِعينيَّ

***

عندما رأى صُورتَها بدأ يكتبُ فَزِعاً .. فَزَعاً

***

إلا صورتك يا ( ... ) كانت مكتملةً .. كنتَ ميّتاً