على غفلة من الأخبار اليومية الآتية من بغداد، تجري حياة أخرى هناك. إنها تحدث يومياً على مقربة وبموازاة أعمال القتل والتفجير. إنها حياة تصنع بمجاراة الخوف والفوضى. حيوات كثيرة رغم الموت، وهي هناك دوماً، وحقيقية، كما تعلمنا وصنعنا نحن في زمن حروب بيروت. وهي، على الأرجح، حياة مضاعفة، كثيفة، مشحونة بالكبرياء، والعبث في آن واحد.
بغتة ندرك أن الفن ما زال موجوداً ويحيا في بغداد، وانه يتجول ويعيش في أمكنته وبين ناسه، ويصنع تاريخه الخاص. بالطبع يحدث هذا بإصرار وعناد، وتحت الخطر باستمرار.
أهل الفن والثقافة في بغداد، كما يروي لنا الشابان السينمائيان حيدر حلو (27 عاماً) ومراد عطشان (26 عاماً)، يذهبون خلسة ـ كتنظيم سري محظور ـ في ساعات الصباح لحضور معرض تشكيلي، أو لمشاهدة مسرحية جديدة أو لعرض سينمائي.
سراً، خشية التعرض لهجوم إرهابي أو لاعتداء الجماعات الدينية المتطرفة (شيعة وسنّة) تُقام الأنشطة والأعمال والعروض. سراً، يعيش الفن في بغداد، كرجل متخف ومطارد. ورغم ذلك ينجز مهامه ويبتكر أعماله.
على هذا النحو، انتقلت الثقافة العراقية من تاريخ القمع الرسمي إلى حاضر من المنع الشامل. انتقلت من الحروب الصدّامية المتسلسلة، إلى الحروب الأهلية المتناسلة. لكن من هذا الأتون تأتي المفاجآت، كما المعجزات.
في رحلتنا الأخيرة إلى كردستان العراق، في نيسان الماضي، التقينا بمجموعة من الشبان الآتين من بغداد، حاملين معهم فيلماً سينمائياً لعرضه في مدينة أربيل. إنهم في العشرينات من أعمارهم، ولدوا في زمن الحرب الإيرانية ـ العراقية، وحصّلوا وعيهم في خضم الذهاب إلى حرب الكويت، وما تلاها من انتفاضات شعبية انتهت في المقابر الجماعية والقمع الوحشي. وصرفوا شبابهم الأول في الخراب والفقر والتوحش العسكري والحصار المديد. قضوا حياتهم الأولى دوماً تحت حكم الطاغية، قبل أن تأتي الحرب الأخيرة وتنفلت الجماعات الأهلية على بعضها البعض إرهاباً واقتتالاً.
جيل شهد ذهاب بلاده إلى الفوضى وتحطم المؤسسات وتبدد المعالم المدنية وخراب الحواضر والمدن وانهيار المجتمع وتمزق الهوية الوطنية وفساد الذاكرة. ومما شهده، يبدو أنه ألف لغة وخطاباً وموضوعاً، بل مما عايشه واختبره صاغ نصه وأراد أن يرويه.
حكاية حيدر حلو ومراد عطشان، هي حكاية الثقافة العراقية، وأولاً هي سيرة جيل جديد من السينمائيين: نزار حسين وضياء خالد وعدي رشيد ومحمد الدراجي وحسن بلاسم وآخرين.
وان يكون هناك سينما في العراق، فهذه هي المعجزة. خصوصاً، وأن هذا الفن بالتحديد، بوصفه "صناعة ثقيلة" يتطلب ليس فقط ازدهار دولة واستواء مجتمع وعافية اقتصاد، بل يتطلب تطوراً حضارياً شاملاً. وبهذا المعنى، أن تحاول شلة من الشبان "اختراع" سينما وتصوير أفلام في قلب العراق، فهذا من باب اجتراح المعجزات.
أما حكاية هؤلاء السينمائيين الجدد في العراق، فتبدو كأنها هي نفسها عبارة عن الفيلم، الذي نفترض أنه سيروي الأمثولة عن عراق الحاضر.
تقول الحكاية انه عام 2002 أنجز هؤلاء الشبان، بقيادة وإخراج عدي رشيد، فيلماً بعنوان "نبض المدينة" بعد إنجازه وقبل تجهيزه للعرض، جاءت الحرب عام 2003، وفي القصف الذي أصاب المدينة بغداد (موضوع الفيلم)، احترق الفيلم نفسه وتبدد مع احتراق بغداد. كأن في تدمير "نبض المدينة" تمت الكناية عن مصير المدينة نفسها.
ربما لهذا السبب، قرر مراد عطشان أن ينجز فيلماً عن الحادثة بعنوان "رماد فيلم". رمزياً، عنى ذلك بالضرورة أن يتم تصوير رماد بغداد وخرابها. أما عدي رشيد فقرر في العام نفسه (2003) أن يصنع جواباً مختلفاً على ضياع فيلمه. قرر أن يتجاوز الحادثة وأن ينجز بداية جديدة تتواءم بعد البداية الجديدة لتاريخ جديد لبغداد جديدة وأن يكون ذلك في فيلم روائي طويل.
الفيلم عن لحظة الصفر، عن يوم سقوط بغداد. لكن عدي رشيد لم يجد خامات (نيغاتيف) ليبدأ التصوير. هو ورفاقه بدأوا بالبحث عن الخامات في خضم ما يجري وقتها في العراق: السرقة والنهب والتفجير والفوضى وغياب كل ما يدل على وجود دولة واحتلال وجيوش غريبة وانقطاع الكهرباء والمياه... إلخ. كان شغلهم الشاغل أن يستأنفوا استثناءهم، وأن يجدوا بكرات نيغاتيف.
بعد بحث مضنٍ عثروا على خامات محفوظة في أحد المستودعات وقد انتهت صلاحياتها وختمت بعبارة "غير صالح". وكان هذا يعني استحالة عملية، وتأجيل قسري لـ"البداية" واستسلام للحظة تاريخية قاتلة، وتعثر مؤلم لإعادة التأسيس، يماثل تعثر التحول من الديكتاتورية إلى الديموقراطية في بغداد ما بعد صدام.
لكن، وبإصرار وعناد، قرروا أن يستعملوا هذه الخامات، وأن يكون الفيلم نفسه بعنوان "غير صالح"، وأن يجعلوا من خلل الألوان والعيوب التي تسببها الخامات التالفة، جزءاً من الملمح الفني للفيلم وأن يستخدموا هذه العيوب بوصفها تأثيرات بصرية تعبيرية.
مرة أخرى، تكتمل الكناية: البداية الجديدة للعراق تأتي تحت عنوان "غير صالح" وبخامات فاسدة. ولكي تكتمل الحكاية، جاء هؤلاء الشبان بفيلمهم هذا إلى أربيل ليعرضوه علينا، فلم يجدوا في كل كردستان العراق آلة عرض، فتأجل تقديمه لمدة يومين، قبل أن يأتوا بنسخة DVD ثم حدث أنه في منتصف عرض الفيلم تعطل جهاز العرض نفسه.
على هذا النحو لم يتسنَ لنا أبداً مشاهدته كاملاً. مع ذلك كان حرج أولئك الشبان طفيفاً، كما لو أنهم اعتادوا سيادة الأعطال على أعمالهم وحياتهم.
فيما نحن المشاهدين كنا غارقين في ارتباكنا وتلعثمنا ونحن خارجين من الصالة. هذا ربما ما دفع المخرج المصري علي بدرخان الذي كان حاضراً، إلى القول: يمكننا أن نستغني عن نصف أفلامنا العربية مقابل شغف هؤلاء الشبان لنصنع أجمل سينما. أما محمود حميدة فبادر قائلاً: ليس مهماً أن نرى الفيلم كاملاً، لقد عرفنا، على الأقل، أن السينما حية في العراق... يا للشجاعة.
نسأل، من أين أتى هؤلاء الشبان الذين "نجوا" من ثلاثة عقود متتالية من الحرب والديكتاتورية والضحالة والعزلة الثقافية والادقاع الفكري؟ كيف استطاعوا أن يكونوا هكذا، شباباً خارج منظومة الخنوع والخوف والفظاظة العسكريتارية ـ الاستخباراتية، يتابعون ويعرفون تجارب أقرانهم في بيروت، وعلى دراية بما يجري في الغرب والشرق من تحولات في الوسائط والمواد التعبيرية، ولديهم ذاكرة تضم كوروساوا وتارانتينو، بقدر ما لديهم تجارب فيديو ووثائقيات وأفلام روائية قصيرة وطويلة؟
بمعنى آخر، كيف حصنوا أنفسهم إزاء دولة كان شغلها الشاغل تدمير مجتمعها ونخبها، وعلى نزوع للخروج من مستنقع الثقافة البعثية؟
يقول حيدر حلو: كنت تلميذاً في المرحلة المتوسطة، عندما ذهبت مع أصدقاء أخي، وهم تلامذة مسرح، إلى معهد الفنون الجميلة لأشاهد مسرحية لهم. فكانت الصدمة. اكتشفت في أوساطهم جواً كرنفالياً، بوهيمياً؛ عالماً ساحراً ومختلفاً عن كل ما عرفته في حياتي. ولهذا السبب ما إن أنهيت المرحلة الثانوية حتى انتسبت إلى معهد الفنون الجميلة، قسم المسرح. لقد أصبت بلوثة الفن، وقررت دراسة الإخراج المسرحي.
طبعاً، الثقافة السائدة أدبية، وربما لهذا السبب كنت أكتب السيناريوات.
قضيت ثلاث سنوات في المكتبة أطالع وأقرأ وأكتب. وفي هذا المناخ كان لقائي مع عدي رشيد. كان هو "عرابي"، إذا صح التعبير. وهو الذي أخذني إلى عالم السينما وعلمني فن السينما، لأشاركه في ما بعد كتابة سيناريو "غير صالح".
في أعوام 1997 و1998 و1999، لم يتسن لي العمل كثيراً، مجرد تجارب سينمائية شديدة البساطة، فتلك كانت السنوات الأقسى على العراقيين حصاراً وعوزاً وخوفاً.
بالتأكيد، لم يكن باستطاعتنا اختراق مؤسسة السينما الرسمية، فقررنا أن نعمل لنؤسس سينما خاصة بنا. البداية كانت بقرارنا أن "نكتشف المدينة" وناسها، وأن نشاهد الأفلام. نذهب إلى البيت ونجلس لنشاهد أفلام شادي عبد السلام المصري، وكوروساوا الياباني وكل ما نستطيع الحصول عليه من أفلام فيديو آتية من الخارج.
وبكثير من المجازفة، قررت أن أتفرغ كلياً للسينما، أن نصوّر ونصوّر ابتداء من مبدأ "اكتشاف المدينة". كان هذا ردنا على ثقافة سائدة ليست بصرية مطلقاً. كانت "ثقافة حكي وأدب". ولذا حاولنا إعادة قراءة المدينة على نحو آخر، بصري في المقام الأول. وكان هذا سيوصلنا لمواجهة واعية مع تاريخ شفاهي كامل ومع ديكتاتورية تخاف الصورة.
قبل الحرب الأخيرة بثلاثة أشهر فقط، رأيت لأول مرة كاميرا سينمائية حقيقية، وشاهدت للمرة الأولى خامات الأفلام. كان ذلك عبر العمل كمساعد مخرج وممثل في الفيلم الوثائقي "نبض المدينة" لعدي رشيد.
بعد الحرب، اشتغلت مساعد مخرج ومشاركاً في كتابة "غير صالح" وحالياً أتفرغ لإنجاز فيلمي الروائي الأول بعنوان "فراشة أمي" وسيكون المنتج عدي رشيد الذي يحاول أن يأتي بالدعم من مؤسسات محلية وأجنبية.
يمكن القول أن الحياة أثناء الحرب ستكون ثيمة دائمة لأفلام عدة أنوي إنجازها. أود التعبير عن هذه الذاكرة. والمشكلة أن ليس من جيل سينمائي سابق في العراق، لا إرث متصلاً. هناك صانعون لأفلام وسينمائيون مهاجرون. لقد جرت قطيعة زمنية وثقافية مع مجريات العالم. لكن بعد عام 2003 بدأنا ندخل العالم، بل بتنا نحن "مركز العالم".
أود الإشارة إلى أنني سأواجه مشكلة صعبة مع عملي لإنجاز "فراشة أمي". فأي مسلح يستطيع أن يقتلنا، وأي خروج للتصوير هو عمل خطر جداً. والمشكلة الأخرى أن لا ممثلات عراقيات يقبلن العمل في السينما، فربما، إن فعلن، يواجهن الموت والقتل.
أما مراد عطشان، فيقول عن علاقته بالسينما: في سنوات المراهقة بدأت رحلة البحث عن آلية تعبير وأوكسجين للذات والوجود (هذا ما قاله حرفياً).
ويكمل: البحث بدأ مع اللغة والكتابة، لكن سحر الصورة طغى عليّ. الشاشة وعالم الفيلم الغريب، وحياة أخرى تمر في شريط الصور... كل هذا استولى على تفكيري.
مع الحياة الأكاديمية اكتشفت أن الجامعة ليست المكان المناسب لتعلم السينما فدرست الأدب وعلم النفس. ثم تعرفت على حيدر حلو وعدي رشيد وتطوعت للعمل معهما في "نبض المدينة". وبعد احتراقه، بادرت لإنجاز فيلم وثائقي عن مصير "نبض المدينة"، ثم ساهمت في صناعة فيلم "غير صالح". كنت مع عدي في تفاصيل الإخراج والبحث الوثائقي الذي يتعلق بالفيلم وأصبحت مساعد المخرج الأول.
بهذا المعنى، كان "غير صالح" المدرسة العملية لي، فمع مدير التصوير زياد تركي تعلمت شروط الإضاءة والصورة والكادر. وبعدها اشتغلت مصوراً في عشرة أفلام وثائقية.
قبل ثمانية أشهر، أنجزت فيلماً عن الفرقة السيمفونية العراقية، وركزت على عراب الفرقة منذر جميلي حافظ، فهو من المؤسسين الأوائل للفرقة 1949 ـ 1951. والدافع هو التحدي، أي صنع عمل تصويري فني عن الموسيقى بينما القتل ينتشر ويحتل يومياتنا. انه البحث عن الحياة، وعن الألوان.
لا، ليس الدافع هو النوستالجيا، لكن البحث عن استمرارية وتأكيد ما يجب أن يتصل بالحاضر ويظل فيه.
الآن أكملت سيناريو فيلمي الروائي الأول، وهو فيلم قصير بعنوان طويل "حينما كانت أمي تنتظر رجوع أخي قبل ثلاث سنوات". العنوان يشير إلى المحتوى العام والخارجي للفيلم (Out Line) لكني ألّفت حكاية أخرى في نواة الفيلم استمديتها من تأمل أمي وهي في حال الانتظار. إنها حكاية جميع الجنود، وأمهاتهم.
السيناريو عن جنود في معسكر ناء. تنتهي الحرب ولا يصلهم خبر انتهائها ويبقون في مواضعهم، لا حرب ولا معارك، ومع ذلك ينتظرون ولا يجرؤون على الهروب بسبب انتشار كتائب الإعدام في المدن. بالصدفة يعرفون أن الحرب قد انتهت والضباط كانوا قد هربوا، فيقررون العودة سيراً على الأقدام ويضيعون على الطريق.
هذا الفيلم يقوم أساساً على ثلاث شهادات تفسر اختفاء الجنود، ولكنها لا تهبنا النهاية الصحيحة أو الحقيقية. الجنود باتوا مفقودين. وبهذا المعنى، الفيلم هو إدانة للجميع: الديكتاتورية، الاحتلال، الشعب الذي رضي أن يكون راضخاً، وأنا نفسي لأني كنت صامتاً ولم أمنع أخي من الذهاب إلى الحرب.
لقد قررت ألا أصمت بعد الآن. (انتهى كلام مراد عطشان).
الملاحظ في ما قاله حلو وعطشان وفي ما تبوح به أعمالهما وأعمال الآخرين، أن هذا الجيل السينمائي يعي أولاً تلك الضدية بين الثقافة البصرية والثقافة التي كانت سائدة، ويعي ثانياً تلك العلاقة العضوية ما بين صناعة السينما وتأليف مدينة، ويعي أيضاً فعل "المقاومة" (من غير ابتذال) الذي يبديه الفن ضد الإرهاب. والمفارق أن كلاً من حلو وعطشان، على وشك أن ينجز فيلمه الخاص، لكن بثيمة واحدة، هي "الأم".
مفارقة، لن نتسرع في تفسيرها، طالما أننا هنا نروي فحسب حكاية من بغداد، بعيدة عن أخبارها الأخرى المؤلمة.
المستقبل
الأحد 2 تموز 2006