رحل عن وكالة عطية ولم يشهد تحوّلها إلى وطن

سليم النجار

خيري شلبيمثل شهاب ارتفع، فأنار وأضاء وتألق، ثم انطفأ في لحظة واحدة، عاش بنبل المحاربين، فرسان العصور القديمة. دون كيشوت ظل يحارب طوال حياته، واضطر أحياناً أن يضع قناع القسوة على وجهه الحالم الطيب، ليواجه نكران الحياة، وتكبّر الأيام التي منحتها الدال قيمة بلا قيمة.

شعر بخديعة الأيام فصرخ أن الأيام في فن الرواية خدعت في كثير من الأوقات المجتمع المصري، ومثلما اضطر لقناع القسوة، كان يرتدي أحياناً قناع الترضية، حماية فقط لإنجازاته من جود البيروقراطية العريقة.. وعاش الروائي والناقد والساخر خيري شلبي مخلصاً حقيقياً للرواية، وللرواية فقط.
وعلى طريقة أرخميدس، صاح منذ الدرس الأول: 'وجدتها... وجدتها'، اكتشف بعد كل سنوات التعب أن رغبته الحقيقية هي تعلم لغة روائية جديدة، وبعيدة عنه تماماً، وكانت حياة المهشمين في مصر هي الموسيقى الشعبية، والنغمات المبتكرة في نصه الروائي.

ولا يختلف مصطلح التجريب في الرواية عنه في المسرح، أو السينما، أو أي منتج فني آخر' فالتجريب هو غزو للمجهول، أي البحث عن غير المألوف حتى يصبح مألوفاً عند المتلقي فيخرج من بوتقة التجريب، وبناء على ذلك نجد أن الروائي الإنسان خيري شلبي اختار عناوين رواياته، التي كانت جميعها مجالاً للتجريب. واستطاع إخراج أصوات دالة على حالات انفعالية مختلفة من عناوين رواياته حتى وصل إلى ما يعرف بالعنوان، وهو التطور الطبيعي للجمع ما بين الصوت واللغة.
ما يميز به العناوين الروائية أنها عصارة التجربة المأساوية التي عاشها شلبي حيث ألقت به قوى الشر في بئر الظلمة، وغيبته عن المكان اللائق به في مجتمعه وعالمه، بل زجت به في كهف الفقر وفي ريعان اكتماله الإبداعي وعطائه الفني. ولكنه ارتفع على مأساته، فلم يكتب بكائية ملتاعة مثل تلك التي نجدها لدى الرومانسيين، إنما امتلك القدرة على مقاومة الحزن والكآبة، وفجر من جراحه نبعاً من روح الحكمة الكاشفة عن أغوار القلق الوجودي والاجتماعي في عالمنا العربي، جاعلاً من التاريخ العربي حيناً والفرعوني حيناً آخر خلفية لتأملاته أو مسرحاً يقيم عليه أعمدة هذه الحكمة.

نظراً لما تحتشد به من عناصر الصراع التراجيدي، في عناوين رواياته، وتفردها، التي صغت في وزن إيقاعي اجتماعي، لكن خاصيتها الدرامية حالت دون رتابة الإيقاع، فبدا كما لو كانت العناوين مصوّبة في أوزان متنوعة، وفي رأينا أن اختيار القالب الموحد الإيقاع كان ضرورة حتمية لتحقيق هدفه، وهو الافصاح عن الخواطر التي تجيش بها نفسه بأسلوب هادئ منساب لا يكلفه رهقاً ومشقة، وهو فترة استشفاء من مواجعه وهمومه الذاتية والوطنية، أو كأنه دندنة لفن قديم ومحطة استراحة محارب على طريق موحش طويل، يلتقط فيه أنفاسه استعداداً لجولة أخرى يتمناها إذا أسعدته الظروف ولم يحطم المعتدون آخر معازفه.
يستقي شلبي كثيراً من اسقاطات الماضي على الحاضر وتضميناته لعناوينه الروائية، مستخدماً صورها ولغتها، ونحن نلتقي بهذا النهج التعبيري، في عنوان روايته مول البيات والنوم، إذ يضمنها ثلاثية تلفح قلوبنا بحرارة الشمس الكامنة في قلب خيري شلبي ووهجها، الذي لا ينطفئ رغم الآلام المبرحة التي كان يعانيها... ثلاثية تزلزل ضمائرنا الهاجعة براكين الروح الجياشة التي ألهمته عنوان روايته، وهي تحمل معول هدم الأطلال البالية لتبني عالماً جديداً وعلاقات إنسانية سوية تتسم بالدفء وروح الأخوة البشرية، وتتجاوز هذه الثلاثية لتشكل نسيجاً واحداً مضفوراً، وإن كان كل منها يستقل منها بكيانه ومضمونه، وليس مصدر هذه الوحدة هو الوزن الاجتماعي الواحد الذي التزمه خيري شبلي فحسب، بل هي الرؤية الإنسانية التي ضمت ما انتشر من الثلاثية، فهي معزوفة طويلة ذات لحن أساسي تتألف من أنغام متعددة تنبع منه وترتد إليه، في إيقاع هارموني مما يطلق عليه في لغة الموسيقي اللحن البولوفوني أي المركب.
وهكذا نجد أيضاً في عنوان صالح هيصه البطل الرومانتيكي بكل انفعالاته المتباينة، وتصرفاته الحادة، وتصاعد عواطفه، كما كنا نجدها في فيكتور هوجو بحيويته الفائقة إلى الرمزيين الذين شطحوا بدورهم متجاوزين أسلافهم الرومانسيين، وبعدها حمل السورياليون الشعلة بعبادتهم اللاوعي إلى أقصى الحدود. مجدداً أن يظل الفرد على حدود الانفعال، يكتب دون أن يفكر، ولا يسمح للعقل بالتدخل بصورة سافرة في إبداعاتهم. هذه الحقيقة تنعكس في تصرفات المبدعين غير المتزنة، في بعض الأحيان لكن لا يعني هذا، أن ينعكس اللاتوازن في إبداعهم، لكن قد يكون مرآة لإبداعهم.

ووسط المناخ الفاسد، الراكد، الزائف، حيث الكلّ في حالة موات، لم يكن ممكناً أن تبزغ حالة (حبّ) نقي طاهر، لأن الحب لا ينمو مع القهر والخوف. لكن شبلي (يبعث) الحب فجأة (حياً) من جديد في اللحظة نفسها التي فقد الجميع فيها كلّ أمل. وها هو الذي اعتبر ميتاً بفرح سيئ من البعض وبألم عميق من آخرين، قد أنجز فجأة فعلاً غير مألوف بحيوية فائقة، وهو روايته، التي عنوانها ب وكالة عطية - إلى درجة أن الكل يمكن اعتباره بالنسبة إليه ميتاً، ويبدو أن الحماس للمهمشين في رواية وكالة عطية يولد حماساً دالاً للعنوان الموظف للنص الروائي، وحماس آخر عند الروائي نفسه، الذي استطاع التغلب على حيائه وتردده وشغل بحكايته عن الفقراء والمعدومين والمهمشين، والشوارع المنسية في حاضرة المدن الكبرى، مثل القاهرة، وبهذا الإبداع اللاقط للعنوان، يلتقي مع مقولة المفكر إدورد سعيد: 'إذكاء وجود المثقف العضوي الفاعل' - في كتابه 'تمثلات المثقف'- 'الذي يشارك ولا يُملى عليه'، إن وجود المثقف المستقل هو أهم دلالة على نجاح السياسة الثقافية، وهكذا هو خيري شلبي عندما اختار عنوان وكالة عطية، وعندما غادرنا، وقد كان الوطن المصري، غادر الوكالة وأصبح في طريقه للوطن الذي يعظم الإنسان، ويمجد كرامته.
أما عنوان روايته لحس العتب فهو هجاء القبح الإنساني، وكأن عنوانها يدفعنا إلى قناعة: أنت لم تختر لنفسك هذا الطريق، إنه اختارك وكأن قدرك وأيامك، ويدفعك لتساؤل هل تصورت أن يسرق كل سنوات العمر، فرحك وحزنك... لقد وهبك الله الأداة التي تستطيع أن تخاطب بها جميع البشر ومن دون حاجة للكلام، وكأن على الآخرين أن يقرأوك بعيونهم ويلفه عنوان خاص.

عاش شلبي مخلصاً لأدواته منسجماً مع قديمه، لم تبهره محاولات تبديل جلده، ولم يهرب إلى مواقع خاصة بعيدة عن شخوصه الروائية، متلاحماً مع فضائها بعيداً عن التغريب والانبهار بالخارج، لم يقيماه مع الفذلكة التنظيرية ولم يحشر نفسه في القول على حساب بساطة العمل، قد يصدمك بالمباشر والتقريري، ويأتيك من الأخير، من دون أن يتعب متلقيه العادي على حساب الصفوة وصفوتها، كل ما يفعله أن يرهن أدواته للغالبية وينوب عنها في لغتها البصرية المفهومة والواضحة والعنيفة والمباشرة في حضورها، كما فعل في عنوان روايته الأوباش.
إنه عنوان دال على قدر إنسان ما، جاء في عصر ما، واختار قدره، بهذه الصورة، وعلى هذه الشاكلة، وقد يكون هذا الإنسان وهب سنوات العمر لهذا القدر الذي اختاره.

يقول أبو الطيب المتنبي:
هي المقادير فدعني أو قدّر إن كنت أخطأت فما أخطأ القدر
العنوان الأبرز كما أخبرني، الشاعر حميد سعيد أن خيري شلبي كان صادقاً مع نفسه، ومع الآخرين، ودّلل على ذلك، بأنه كان يعيش في الحواري والأزقة، ويلبس ملبس أهل هذه الأحياء، ويعيش كما يعيشون، وفي أدق تفاصيلهم.
رحم الله خيري شلبي، وتحية لشاعرنا العربي حميد سعيد عندما اختار وفي لحظات كثيرة، أن يكون سيد الصمت البليغ، وما بين الاثنين، شعور بالغبطة والامتنان، لأن كلاب بلدانهم لم تخذلهم، كما خذلتهم كلاب هايد بارك التي لا تعرف النباح، لكنها تجيد نهش اللحم البشري.

القدس العربي
2011-09-19