قاسم حداد‮

1

أمين صالحستتمنى لو أن لديك المزيد من الجراح لتعالجها بهذا البلسم المسمى أمين صالح‮. ‬
هذا شعور سينتابك بعد أن تتعرف على أمين صالح،‮ ‬وهذا هو بالضبط الوصف الذي‮ ‬أحب أن أتمثل به كلما طلب أحدٌ‮ ‬مني‮ ‬وصف هذا الصديق‮.‬
منذ أن تعرفت عليه،‮ ‬قبل أكثر من ثلاثين عاماً،‮ ‬صار‮ ‬يشكل الشقيق الأجمل لحياتي‮.‬
تشاركنا في‮ ‬كل لحظة من لحظات هذه السنوات القاسية كما لو أنها النزهة الخرافية لكائنات لا تحسن النوم إلا في‮ ‬المستقبل،‮ ‬وهذا ما صاغ‮ ‬لنا عائلتنا الصغيرة،‮ ‬التي‮ ‬يشكل أمين صالح سماء رؤوفة لها‮. ‬لقد نشأت علاقتنا من خلال الكتابة والحياة مثلما تنشأ الشجرة طالعة من كتاب لكي‮ ‬تصبح حديقة في‮ ‬بيت‮.‬

‮٢‬

هذه شهادة شخصية خالصة،‮ ‬يجب الاعتراف بذلك منذ الوهلة الأولى،‮ ‬وخصوصاً‮ ‬منذ أن طلب مني،‮ ‬أنا بالذات،‮ ‬الكلام عن أمين صالح‮. ‬لأنهم‮ ‬يدركون جيداً‮ ‬أن شهادة‮ (‬مجروحة‮) ‬كالتي‮ ‬أقولها عن أمين صالح،‮ ‬هي‮ ‬بالضبط ما‮ ‬يريدون،‮ ‬فهي‮ ‬شهادة الصديق على الصديق،‮ ‬شهادة‮ ‬يمكن أن ابدأ بها نصاً‮ ‬لا‮ ‬ينتهي‮ ‬أبدا،‮ ‬لو‮ ‬يعلمون‮. ‬فهي‮ ‬الشهادة التي‮ ‬لن‮ ‬يتاح لنا فيها معرفة الحدود بين التجربة المشتركة في‮ ‬الكتابة والعلاقة الحياتية الممتزجة بالأفق الإنساني‮ ‬المطلق‮.‬
لم أعرف معنى أن‮ ‬يكون لك صديق،‮ ‬بالمعنى النهائي‮ ‬المطلق،‮ ‬إلا مع أمين صالح‮. ‬حيث‮ (‬المعنى النهائي‮ ‬المطلق‮) ‬للصداقة عندي،‮ ‬هو أن تشعر باستحالة أن تجد في‮ ‬الأرشيف السماوي‮ ‬كائناً‮ ‬في‮ ‬مرتبة بين المرتبتين‮: ‬الملاك والإنسان‮.‬
أحب أن ازعم أن ذلك‮ ‬يمكن أن‮ ‬يحدث،‮ ‬وإلا كيف‮ ‬يمكننا الكلام عن اجتراح المعجزات‮. ‬
هذا صديق لا‮ ‬يمكن تفاديه‮. ‬خصوصاً‮ ‬إذا وضعنا في‮ ‬اعتبارنا أن الكتابة،‮ ‬بالمعنى الأسطوري‮ ‬للإبداع،‮ ‬هو ضرب من عمل الآلهة،‮ ‬وهو خلق مضاعف للحياة سوف تزعمه المضاهاة الجسورة للفعل المقدس،‮ ‬والصداقة التي‮ ‬تنشأ في‮ ‬كينونة خلق من هذا النوع،‮ ‬هي‮ ‬أيضا مرشحة‮ (‬أو هي‮ ‬مطالبة بالضرورة‮) ‬باجتراح المعجزات،‮ ‬التي‮ ‬أشعر بأننا‮ (‬معاً‮) ‬لم نتوقف عن اكتشافها كل‮ ‬يوم وكل نص‮. ‬
مع أمين صالح أزعم أننا نذهب هذا المذهب في‮ ‬حقل الكتابة،‮ ‬إذا تفادينا الحدود التقليدية للتواضع المفتعل،‮ ‬ففي‮ ‬لحظة الحقيقة لا تتنازل الآلهة عن أوجها الشاهق‮.‬

‮٣‬

بين مخلوقات هذه الحياة ليس من المتوقع أن تصادف،‮ ‬بسهولة،‮ ‬شبيهاً‮ ‬لأمين صالح،‮ ‬شبيهاً‮ ‬بالمعنى الشعري‮ ‬الذي‮ ‬نتورط فيه منذ أكثر من ثلاثين عاماً‮. ‬وصداقتي‮ ‬معه هي‮ ‬واحدة من المكونات التي‮ ‬صاغت حياتي،‮ ‬ليست الأدبية فحسب،‮ ‬ولكن الإنسانية خصوصاً‮. ‬فالدرس الحميم الذي‮ ‬أقرأ فيه الكون معه‮ ‬يتجاوز البعد الثقافي‮ ‬والأدبي،‮ ‬لأن في‮ ‬شخصية أمين من السحر ما‮ ‬يجعلك تشعر بأن ثمة ميزاناً‮ ‬رهيفاً‮ ‬يقدر على أن‮ ‬يسعفك في‮ ‬اللحظة التي‮ ‬تحتاج ذلك‮. ‬لذلك فإننا لم نكن نكتب الكتب معاً،‮ ‬بل كنا نصقل المرايا التي‮ ‬تستعصي‮ ‬على الوصف‮.‬

‮٤‬

منذ اللحظة الأولى في‮ ‬عالم الكتابة كان أمين صالح قد قطع‮ (‬علينا‮) ‬الطريق نحو الشعر،‮ ‬بالرغم من شهرته بكتابة القصة،‮ ‬فطاقته الشعرية في‮ ‬التعبير وضعته في‮ ‬الجوهر الجميل من النص الشعري،‮ ‬حتى أن أحد النقاد وصفه مبكرا بأنه شاعر ضل الطريق،‮ ‬وفات هذا الناقد أن أمين صالح كان‮ ‬يعرف ماذا‮ ‬يفعل،‮ ‬خصوصاً‮ ‬وأنه سوف‮ ‬يصوغ‮ ‬لنا النزوع المبكر للخروج على النوع الأدبي‮ ‬الموروث،‮ ‬حتى أنني‮ ‬رأيت في‮ ‬روايته‮ (‬أغنية ألف صاد الأولى‮) ‬واحدة من الاقتراحات المبكرة الواضحة نحو النص الحر‮. ‬
لقد كان شاعراً،‮ ‬بالمعنى العميق للكلمة،‮ ‬وربما كان هو أكثرنا شعرية‮. ‬والشعرية التي‮ ‬اقصدها سوف تتجاوز هنا النص المكتوب ليطال الطبيعة الإنسانية للشخص،‮ ‬حيث سيبدو أمين صالح،‮ ‬حسب معرفتي‮ ‬به،‮ ‬كائناً‮ ‬شعرياً‮ ‬بامتياز في‮ ‬سلوكه اليومي،‮ ‬فهو من الرهافة والشفافية والحميمية،‮ ‬بحيث تستطيع أن تكتشف الطفل المتحكم في‮ ‬طبيعته منذ اللحظة الأولى لتعرفك عليه‮. ‬وبهذا المعنى،‮ ‬فانه،‮ ‬حين‮ ‬يكتب،‮ ‬لم‮ ‬يكن‮ ‬يخرج عن حدود طبيعته،‮ ‬حتى أنك سوف تواجه صعوبة في‮ ‬معرفة الحدود بين أمين الشخص وأمين النص‮. ‬وهذه طبيعة‮ ‬يندر أن نصادفها في‮ ‬حياتنا الأدبية‮. ‬لكن أمين صالح استطاع أن‮ ‬يقترح علينا طوال هذه السنوات إمكانية أن‮ ‬يحافظ الكاتب على حقيقة التماهي‮ ‬في‮ ‬نصه إلى الدرجة التي‮ ‬تجعله طاقة هائلة من الحب الذي‮ ‬سيفيض دائماً‮ ‬على من حوله،‮ ‬فيقع في‮ ‬حبه كل من‮ ‬يتعرف عليه‮.‬

‮٥‬

دقيق في‮ ‬تفاصيل حياته تماماً‮ ‬مثل دقته في‮ ‬صياغة كلماته،‮ ‬والكتابة عنده هي‮ ‬المبرر الوحيد لكي‮ ‬يرى الحياة ممكنة‮. ‬يسهر على جملة واحدة أياماً‮ ‬ولياليَ،‮ ‬ولا‮ ‬يقبل النص بسهولة،‮ ‬تؤرقه الكلمة فيما‮ ‬يكتبها،‮ ‬وتدمره كلمة فيما‮ ‬يسمعها أيضاً‮. ‬
معه تتأكد بحق من القول الذي‮ ‬يشير إلى‮: ‬أن الحياة ضرب من كلمات تعاد صياغتها بين وقت وآخر‮. ‬

‮٦‬

الحوار العميق الذي‮ ‬دار بيننا في‮ ‬الكتابة والعمل الأدبي،‮ ‬هو بمعنى ما،‮ ‬انعكاس شفيف للحوار الإنساني‮ ‬المشترك الذي‮ ‬صهرنا طوال السنوات،‮ ‬فعندما كتبنا‮ (‬الجواشن‮) ‬لا اذكر أننا احتجنا إلى نقاش للاتفاق على الفكرة والمشروع وطريقة الكتابة،‮ ‬كان كل شيء‮ ‬يحدث بسلاسة وبمعزل عن التحكم العقلاني‮ ‬أو الذهني،‮ ‬ربما كنا نمشي‮ ‬في‮ ‬حلم،‮ ‬وأعتقد أن الأمر برمته كان ضرباً‮ ‬من المغامرة التي‮ ‬تبدأ بدعابة وسرعان ما تأخذ شكل الدرس والاستحواذ والمتعة والتحرر من الحدود التي‮ ‬أرهقتنا في‮ ‬الحياة‮. ‬في‮ ‬الكتابة،‮ ‬نشأ بيننا ما‮ ‬يمكن وصفه بمضاهاة الحلم‮. ‬تدربت مع أمين صالح على رؤية الواقع من شرفة الحلم،‮ ‬وهي‮ ‬الطريقة الفاتنة في‮ ‬جعل النص نقيضاً‮ ‬مستمراً‮ ‬للواقع وليس انعكاساً‮ ‬له،‮ ‬كما ظل الآخرون‮ ‬يحاولون إقناعنا‮. ‬
عندنا،‮ ‬النص هو نقيض للواقع،‮ ‬بالمعنى الجمالي‮ ‬العميق للإنسانية،‮ ‬فأنت لكي‮ ‬تصوغ‮ ‬ذاتك في‮ ‬مواجهة ضراوة العالم وبشاعته،‮ ‬لابد من التحصن ضده بطاقة مخيلتك الحرة التي‮ ‬لا تكون فاعلة ونشيطة وصادقة إلا في‮ ‬الحلم،‮ ‬ذلك الحلم الذي‮ ‬أحسن أمين صالح وضعه في‮ ‬المكان الشاهق من سعيه الإبداعي‮ ‬وهو‮ ‬يصوغ‮ ‬تجربته الأدبية‮. ‬لقد تعلمت مع أمين صالح أنه كلما صارت الكتابة متعة حقيقية بالنسبة للكاتب،‮ ‬تسنى لها أن تكون كذلك عند القارئ‮. ‬ومضاهاة الحلم،‮ ‬إذن،‮ ‬هو الظهير القوي‮ ‬لتجربتنا في‮ ‬الكتاب‮. ‬وبسبب من هذه المضاهاة الفاتنة،‮ ‬أصبحت الكتابة بالنسبة لنا آلية الاستمرار في‮ ‬الحياة في‮ ‬سبيل وضعها في‮ ‬مهب المستقبل الأجمل،‮ ‬ولا أظن أن ثمة أسمى من أن تكون الكتابة متمثلة في‮ ‬هذا التوق الإنساني‮ ‬النبيل‮. ‬لقد منحني‮ ‬أمين صالح،‮ ‬فيما كنت أخرج من تجاربي‮ ‬الدامية وكثيفة الألم،‮ ‬قدرة الصمود ضد كافة أنواع السلطات التي‮ ‬أرهقتني‮ ‬روحاً‮ ‬وجسداً،‮ ‬ومقاومة شتى أشكال الكبح الفكري‮ ‬والسياسي‮ ‬الذي‮ ‬رافقت تجربة انهماكي‮ ‬المبكر في‮ ‬العمل الحزبي‮ ‬والسياسي،‮ ‬وهو عمل أستطيع الزعم أنني‮ ‬كنت أقوى منه بما لا‮ ‬يقاس منذ اللحظة التي‮ ‬تعرفت فيها على أمين صالح،‮ ‬حيث أصبحت الكتابة هي‮ ‬قوتنا ضد كافة السلطات،‮ ‬الكتابة بوصفها حرية الكائن وجنته‮. ‬منذ تلك اللحظة بدأت فكرة الجمال الفني‮ ‬تأخذ بعداً‮ ‬أكثر عمقاً‮ ‬ومسؤولية ومتعة‮. ‬وعندما تجد صديقاً‮ ‬مثل أمين صالح،‮ ‬سوف تدرك معنى تبادل أنخاب الكتابة،‮ ‬في‮ ‬ما‮ ‬يشبه المضاهاة المشتركة نحو النص،‮ ‬كما لو أننا كنا نكتب لإثارة إعجاب بعضنا البعض،‮ ‬فمن هنا‮ ‬يبدأ نجاح النص أو فشله بالنسبة لنا‮.‬
لأن تحقق ذلك الإعجاب لم‮ ‬يكن سهلاً‮ ‬لأحدنا،‮ ‬كأننا كنا نطلب النص المستحيل،‮ ‬النص‮ ‬غير المكتوب على قياس نص سابق‮.‬

‮٧‬

في‮ ‬سياق التجربة الأدبية في‮ ‬هذه المنطقة من العالم،‮ ‬شكلت تجربة أمين صالح طاقة تأثير حميمة لكتابات عربية كثيرة،‮ ‬لا تزال ترى فيه المحرض الصادق على كتابة مختلفة،‮ ‬في‮ ‬بنية النص،‮ ‬شعراً‮ ‬ونثراً‮. ‬وهي‮ ‬مسألة‮ ‬يعترف بها شباب كثيرون ويرون في‮ ‬مقترحات نصوصه الأفق الذي‮ ‬تطمح له كتاباتهم منذ البدايات‮. ‬فهو من بين أهم التجارب العربية التي‮ ‬ساهمت في‮ ‬تأسيس حساسية جديدة في‮ ‬الكتابة العربية منذ بداية سبعينات القرن الماضي،‮ ‬بصمت خفر لكن بثقة رصينة الانجاز‮.‬

‮٨‬

نزوعه الشعري‮ ‬يجعله‮ ‬يعبر عن حسده للشعراء،‮ ‬حتى أن اهتمامه بالشعر‮ ‬يبدو مثيراً‮ ‬ولا‮ ‬يستقيم مع شخص عرف عنه أنه كاتب قصة وروائي‮. ‬غير أن هذا هو الطبيعي‮ ‬منذ أن عرفته‮. ‬فالشعر عنده لم‮ ‬يكن مقتصراً‮ ‬على القصائد،‮ ‬وهذا هو البعد الذي‮ ‬أشرت إليه قبل قليل،‮ ‬عن عمق حساسية أمين صالح الشعرية،‮ ‬فهو منذ بدأ كان‮ ‬يرى الشعر في‮ ‬كل تفاصيل الحياة،‮ ‬حياته وكتابته خصوصاً‮. ‬فبالإضافة إلى ولعه الجنوني‮ ‬بفن السينما منذ بدايته الثقافية،‮ ‬كان قانون الشعر وقيمته هما اللذان حكما علاقته بالمكونات الأساسية لمعرفته الأدبية والفنية‮. ‬فهو أحب الشعراء في‮ ‬كل فنون التعبير التي‮ ‬انهمك في‮ ‬التعرف والتقاطع معها،‮ ‬لقد أحب تاركوفسكي‮ ‬وبيرغمان في‮ ‬السينما،‮ ‬وأحب ماغريت وميرو في‮ ‬الرسم،‮ ‬وأحب جورج شحادة في‮ ‬المسرح،‮ ‬وأحب ديستوفسكي‮ ‬وكافكا وكونديرا في‮ ‬الرواية،‮ ‬وأحب بارت في‮ ‬النقد،‮ ‬وأحب سان جون بيرس ولوتريامون وأدونيس وسليم بركات في‮ ‬الشعر‮. ‬وهذا ما جعل علاقتنا اشتباكاً‮ ‬شعرياً‮ ‬متواصلاً‮ ‬ساهم في‮ ‬صقل وتأجيج متعتنا المشتركة في‮ ‬الكتابة،‮ ‬وساهم بالضرورة في‮ ‬الاحتكام الصارم للذائقة المشتركة تجاه ما نكتب،‮ ‬وسوف نتبادل صراحة القراءة لكل ما نكتب‮. ‬

‮٩‬

‮ ‬إن تفاهمنا في‮ ‬الحياة منقطع النظير،‮ ‬حتى أننا في‮ ‬مواقف كثيرة لم نكن بحاجة للكلام لكي‮ ‬نقرر أو نتفق أو نذهب أو نعود أو نفعل الأشياء‮. ‬يكفي‮ ‬أن نتبادل النظرات لكي‮ ‬نعرف ما نريد‮. ‬ثمة حوار روحي‮ ‬عميق من شأنه أن‮ ‬يفتك بنا إذا ما تعرض أحدنا لأي‮ ‬مكروه‮.‬
لا أحد‮ ‬يحسن العودة من السفر مثلما‮ ‬يفعل أمين صالح‮. ‬فهو بعد أن‮ ‬يقيم ورشة الاستعداد لسفر إلى مكان ما،‮ ‬مستغرقاً‮ ‬أياما في‮ ‬ذلك،‮ ‬وبعد ان نغادر ونصل إلى ذلك البلد،‮ ‬سرعان ما‮ ‬يقف في‮ ‬اقرب شرفة في‮ ‬الفندق،‮ ‬لكي‮ ‬يلتفت ناحيتي،‮ ‬وقبل أسمع سؤاله قائلاً‮: (‬ما رأيك؟‮).‬
سوف أدرك أنه‮ ‬يفكر جدياً‮ ‬في‮ ‬العودة إلى البحرين‮. ‬والمشكلة أنني‮ ‬أجد في‮ ‬هذا السؤال جواباً‮ ‬يمسّ‮ ‬الشغاف عندي،‮ ‬فبالنسبة لي‮ ‬العودة إلى البيت‮ (‬من أي‮ ‬مكان في‮ ‬العالم‮) ‬هي‮ ‬نعمة تضاهي‮ ‬الجنة‮. ‬فنجد أنفسنا بعد قليل في‮ ‬مقعد الطائرة عائدين مثل أطفال‮ ‬يهرعون خارجين من أسوار المدرسة ناحية الدار‮. ‬
بالنسبة لأمين صالح،‮ ‬البيت هو المكان الآمن الوحيد في‮ ‬الكون،‮ ‬وبالمناسبة فان أمين صالح هو الذي‮ ‬اكتشف لي‮ ‬جملة كافكا المعبرة التي‮ ‬تقول‮ (‬ان مجرد عبور عتبة البيت مغامرة‮ ‬غير مأمونة العواقب‮). ‬
لا أحد مثل أمين صالح‮ ‬يحسن العودة من التجربة،‮ ‬فما من مرة عدنا من تجربة إلا وكنا مفعمين بالحكمة والحب والمعرفة والكتابة التي‮ ‬نعشق‮. ‬وأحب هنا الإشارة إلى ضرورة تجاوز المفهوم الحرفي‮ ‬للمشاركة المتواصلة في‮ ‬ورشة الكتابة بيني‮ ‬وبين أمين،‮ ‬فالأمر لم‮ ‬يكن مقتصراً‮ ‬على النصوص التي‮ ‬أنجزناها مطبوعة معاً،‮ ‬مثل‮ (‬الجواشن‮) ‬و(موت الكورس‮) ‬و‮ (‬الدم الهاطل‮)‬،‮ ‬فما أعنيه في‮ ‬الواقع تلك الروح الغامرة التي‮ ‬لم تتوقف طوال هذه السنوات من الاستغراق في‮ ‬مباهجها الفنية،‮ ‬فثمة تداخل‮ ‬غامض‮ ‬يمكن رصده والحديث عنه في‮ ‬العديد من نصوصنا التي‮ ‬نشرت لنا في‮ ‬كتب منفصلة،‮ ‬حيث أجواء الحوار العميق بين تجاربنا اليومية،‮ ‬سوف تجعل كلا منا قريبا من تجربة الآخر ومساهماً‮ ‬فيها بشكل من الأشكال،‮ ‬فهناك مثلاً‮ ‬ملاحظات مهمة على نصوص لي‮ ‬طرحها أمين بعد الكتابة أفادت الصورة النهائية للنص،‮ ‬كما أن هناك اقتراحات متبادلة لبعض عناوين النصوص،‮ ‬وأشكالا‮ ‬غير قابلة للرصد نقبلها من بعضنا في‮ ‬المراجعات الأخيرة للنص‮. ‬بهذا المعنى أستطيع الزعم أن مثل هذه التجربة هي‮ ‬بمثابة الدرس الفاتن للمفاهيم الفنية التي‮ ‬نسعى دائماً‮ ‬لبلورتها ومغادرتها،‮ ‬على صعيد الكتابة المشتركة من جهة،‮ ‬وصعيد النص المفتوح على مختلف الآفاق من جهة،‮ ‬وعلى صعيد تجاوز أنواع التعبير من جهة،‮ ‬وخصوصاً‮ ‬على الصعيد الأشمل وهو مفهوم النص‮ ‬غير النهائي،‮ ‬حيث الحلم الباذخ الذي‮ ‬يشكل بالنسبة لنا‮ ‬وضع الكتابة في‮ ‬مهب المخيلة الحرة‮.‬

10

لكن هذا لا‮ ‬يعني‮ ‬أننا متشابهين في‮ ‬طبيعة الظاهر،‮ ‬على العكس،‮ ‬فطبيعتي‮ ‬الانفعالية سوف تحتاج دائماً‮ ‬لطبيعته المتبصرة التي‮ ‬تقارب الحكمة‮. ‬ونحن مختلفان في‮ ‬بعض التفاصيل التي‮ ‬لم تكن مدعاة لأي‮ ‬اختلاف أبداً،‮ ‬فهو مثلاً‮ ‬قد أعلن ذات مقال عن ضجره من المسرح الذي‮ (‬كنت‮) ‬أحبه،‮ ‬وهو أشار إلى خلودي‮ ‬إلى النوم في‮ ‬قاعات السينما التي‮ ‬يعشقها حد الجنون‮.‬
دائماً،‮ ‬ستتمنى لو أن لديك المزيد من الجراح لتعالجها بهذا البلسم المسمى أمين صالح‮.‬
أقول ذلك،‮ ‬لأن أحداً‮ ‬لم‮ ‬يضمد جراح حياتي‮ ‬مثل أمين صالح،‮ ‬ولم أعرف أحداً‮ ‬يصعّد مفهوم الصداقة الإنسانية بالمعنى الأمين والصالح‮.. ‬مثل أمين صالح،‮ ‬وما عليكم إلا أن تبحثوا عن هذه الأيقونة في‮ ‬الأرشيف السماوي‮.‬

****

نديم المرفأ‮ ‬
هذا هو لا أقل بل أكثر

علي القميش

استغرقتُ‮ ‬في‮ ‬الكتابة‮ ‬يوم أمس عن أمين صالح،‮ ‬لكنها دائما ما كانت تنتهي‮ ‬بنقطة على السطر،‮ ‬تقول لي‮: ‬إنك من بين أكثر المغامرين في‮ ‬الكتابة عن ذلك الأمين فشلاً،‮ ‬لا لشيء سوى أنك كنت واهماً‮ ‬أعتقاداً‮ ‬بأنك قريب جداً‮ ‬من تلك القارة الإنسانية قبل أن تكون مبدعة في‮ ‬لحظة من اللحظات،‮ ‬فقد تبيَّن لي‮ ‬كلما ذلفت بحثاً‮ ‬في‮ ‬الكتابة عنه بأني‮ ‬قد انتخبت للإمساك بكائن رسمت حدوده،‮ ‬شكله،‮ ‬بقطرة صفاء،‮ ‬قطرة نقاء،‮ ‬هذا هو لا أقل بل أكثر‮. ‬
دون شك وجدت في‮ ‬طرقات الكتابة ذلك الإنسان والمبدع،‮ ‬القاص والروائي‮ ‬والسينمائي،‮ ‬الصديق والأخ الكبير،‮ ‬لكن الكتابة ذاتها،‮ ‬دائما ما كانت تفسد عليَّ‮ ‬كلّ‮ ‬شيء،‮ ‬مجنونة هي‮ ‬بلا شك‮. ‬
عرفت ندماء المرفأ،‮ ‬ندماء الريح أولاً،‮ ‬لم أعرف أمين صالح بعد،‮ ‬قرأتها نصاً‮ ‬نصاً‮ ‬ولا أعرف ما إذا كنتُ‮ ‬أنا من كان‮ ‬يقرأُها أم هي‮ ‬من كانت،‮ ‬لا أعرف لا أعرف،‮ ‬ما أعرفه جيداً‮ ‬بأنها كانت تقول‮ : »‬حين أسرفت،‮ ‬وكانت خطوتك تأخذك بعيدا في‮ ‬خضاب الأنفاق لتستخرج نثار الكبريت،‮ ‬دخلت المحنة وجئت العالم مقتحما وحوشه‮. ‬
لم تكن باسلا لنهلل لك‮. ‬لم تكن رعديدا لنخبئك في‮ ‬راحاتنا‮. ‬كنت الجاهل البريء تخلص الطرائد من فخاخ القنص،‮ ‬ترابط عند شاطئ المقهى منتظرا شبح العدل،‮ ‬فأشفقنا أن‮ ‬يأسر كاحلك قناص ماهر‮. ‬
ترصدناك طويلا،‮ ‬وعندما حانت لحظة موتك جئنا لنقول لك الكلمة المؤجلة‮: ‬أي‮ ‬ثناء لن‮ ‬يكون كافيا‮. ‬أحببناك‮. ‬أطعمناك،‮ ‬في‮ ‬سباتك،‮ ‬الأرز والزيتون‮. ‬كنت لنا الصديق الغائب،‮ ‬الصديق الذي‮ ‬لم نختلط به،‮ ‬لكنا شممنا لون عذابك في‮ ‬أسمال الهجر‮. ‬نذكر خلوتنا،‮ ‬نحن وأنت،‮ ‬في‮ ‬ورقة القمر وكان مذاق النبيذ‮ ‬يرطب أجفاننا‮. ‬في‮ ‬تلك الخلوة لم‮ ‬يكن أحد حاضرا،‮ ‬لا أنت لا نحن لا القمر،‮ ‬لكننا تبادلنا الأنخاب وضحكنا‮« .‬
هي‮ ‬سيرة شخص ما ربما كنتُ‮ ‬أعرفه،‮ ‬سيرته ربما،‮ ‬لكنها كانت سيرتي‮ ‬أيضاً،‮ ‬أذكر تلك الأنخاب جيداً،‮ ‬أعرف مذاقها،‮ ‬ألوانها،‮ ‬وجعها،‮ ‬لكنه النص بتعددية التلقي‮ ‬لا الأنخاب،‮ ‬كان كفيلاً‮ ‬بأن‮ ‬يسعف وجعاً‮ ‬هنا ويسد فاه جحيم فاغر من الألم هناك،‮ ‬ويكفني‮ ‬فقط،‮ ‬بأني‮ ‬جعلت ذلك الأمين أيقونة جميلة في‮ ‬ذاكرتي،‮ ‬و الجميل في‮ ‬الأمر،‮ ‬بأن علاقة إنسانية جميلة قد أثثت نفسها دون سابق إنذار فيما بيننا،‮ ‬فرحت بها كثيراً،‮ ‬فقد كان بمثابة الأخ الأكبر لي،‮ ‬أنا افترضت ذلك وهذا ما أعتقد بأنه كان‮.‬
وإذا كان‮ »‬عزوز‮« ‬أمين صالح في‮ »‬رهائن الغيب‮« ‬مصابا بلعنة التأتأة لسبب ما،‮ ‬وعندها فقط‮ ‬تتعثر الحكاية ويتخبط المعنى في‮ ‬رواق الكلام،‮ ‬فإن هذه اللعنة ستصيب كل من‮ ‬يتجرأ بقصد الكتابة عنه،‮ ‬إذ إن كل صور أمين تتحول إلى صيغ‮ ‬شبحية،‮ ‬تحاصرك،‮ ‬تطلع لك من كل الزوايا،‮ ‬فتصيبك بحالة من الشلل الذهني،‮ ‬فلا تعرف لأي‮ ‬صورة فيه تنتصر،‮ ‬وبأي‮ ‬صورة ستفر للكتابة عنه،‮ ‬لهذا سيكفيك أن تقول عنه‮ : ‬بأنه ذلك الإنسان بحق،‮ ‬فهو عبر إنسانيته الخرافية هذه كان مبدعاً،‮ ‬عبرها فقط كان له الحرف و النص ملاذاً‮ ‬لولادة المعنى لتلك الحياة التي‮ ‬نعيش،‮ ‬ورواية لتلك القيمة الإنسانية الفاخرة‮.‬

***

أمـين صالح‮.. ‬بـحر صداقـة

‬حسن حداد‮

1

الكتابة عن أمين صالح‮.. ‬مشروع ليس باليسير وليس آمناً‮ ‬في‮ ‬ذات الوقت‮.. ‬ذلك لأن أمين محور مهم في‮ ‬تجربتي‮ ‬مع السينما والكتابة عنها‮.. ‬فدائماً‮ ‬ما‮ ‬يلتبس الأمر علي،‮ ‬هل أنا اشرع في‮ ‬الكتابة عن أمين؟ أم الكتابة عن تجربتي‮ ‬مع أمين؟
الإجابة هنا عصية وذلك هو الأمر الفاتن الذي‮ ‬يتميز به أمين مع كل من‮ ‬يعرفه عن قرب من جيلي‮.. ‬ومسألة دائماً‮ ‬ما تؤرقني‮.. ‬أقف مذهولاً‮ ‬أمام تمنع الكلمات‮.. ‬لتبدو لي‮ ‬الكتابة بعيدة المنال‮... ‬هل أعتبر هذا بمثابة سحر أمين‮.. ‬أم أنه سحر صداقته الصامتة المختزلة لحوار لا‮ ‬ينتهي‮ ‬ووجهه الذي‮ ‬يتركه في‮ ‬ماء الروح ويذهب‮ ...‬

‮( ٢ )‬

‮»‬يأسرني‮ ‬هذا الرائع أمين صالح في‮ ‬حديثه‮.. ‬في‮ ‬طريقة نصب فخاخه للأصدقاء‮.. ‬العلاقة مع أمين صالح لابد أن تأخذ شكلاً‮ ‬روحانياً‮.. ‬حتى لو حاولت التملص من هذه الورطة‮.. ‬فهو‮ ‬يسحرك بصداقته‮.. ‬يحتويك‮.. ‬يهيئ لك جنة من الرؤى ويأتي‮ ‬بك إلى ساحات البهاء‮.. ‬يضعك في‮ ‬مهب جنته‮.. ‬يباغتك بماء الفضة‮.. ‬ويحول مشكلة الكون إلى مزحة‮..!!!‬

‮( ٣ )‬

‮(‬تجده أحياناً‮ ‬متقمصا طاقة الطفولة في‮ ‬داخل أي‮ ‬شخص‮ ‬يشاركه حلمه‮.. ‬تجده‮ ‬يخذلك أحياناً‮ ‬في‮ ‬كشف أسرار هذا الحلم‮.. ‬ولكنه‮ ‬يعينك في‮ ‬نفس الوقت على اكتشاف أسرار هذا الدخول‮.. ‬يجلب لك المعونة لكي‮ ‬تحاول‮.. ‬وتفشل‮.. ‬ثم تنجح في‮ ‬النهاية‮.. ‬لتجد نفسك في‮ ‬متون الحلم مزهواً‮ ‬بما فعلت‮.. ‬منتصراً‮ ‬من تحريض منه‮.. ‬هكذا هو أمين صالح‮.. ‬لا‮ ‬يهدأ إلا بعد أن‮ ‬يغرر بك وتدخل في‮ ‬المغامرة‮..!!!‬

‮( ٤ )‬

الذهاب مع أمين إلى‮ »‬أفلام من الإمارات‮«‬،‮ ‬لم‮ ‬يكن في‮ ‬الحسبان‮.. ‬لم أتخيله تماماً‮.. ‬كان بمثابة اكتشاف بالنسبة لي‮.. ‬بالرغم من عمر صداقتنا الطويلة،‮ ‬إلا أن السفر معه لم‮ ‬يكن قبل ذلك‮.. ‬لم أختبر نفسي‮ ‬مع أمين في‮ ‬مسافات أخرى‮.. ‬كان حلماً‮ ‬يسهر معي‮ ‬حتى الصباح‮.. ‬صداقتي‮ ‬مع أمين ازدادت رونقاً‮ ‬هناك‮.. ‬فاللحظات التي‮ ‬جمعتنا ـ وهي‮ ‬كثيرة ـ تألقت بالفكرة والمزحة والمرح‮.. ‬وكأني‮ ‬أتعرف عليه من جديد‮.. ‬كان اكتشافاً‮ ‬جديداً‮ ‬حقاً‮.. ‬كم أنت زاخر‮ ‬يا أمين‮..!!!‬

‮( ٥ ) ‬

اكتشفت انه من الضروري‮ ‬أن لا أصل إلى إجابة على سؤالي‮ ‬فالكتابة عن أمين‮.. ‬والكتابة عن تجربتي‮ ‬مع أمين‮.. ‬ضرب من الغموض الخاص بي‮ ‬في‮ ‬حل لغزه سيفقدني‮ ‬النشوة التي‮ ‬تدفعني‮ ‬للتباهي‮.. ‬أولاً‮ ‬لأن أمين صالح‮ ‬يشكل بداية المعرفة ومحورها بالنسبة لتجربتي‮ ‬في‮ ‬السينما ومن ثم الكتابة عنها‮. ‬وثانياً‮ ‬لأن أمين‮ ‬يحيل كلام الصداقة إلى مشاعر بسحر خاص لا‮ ‬يفوقه أحد فيه‮.. ‬أمين الصديق‮.. ‬أمين الصادق‮.. ‬كيف لي‮ ‬أن أكلمك بالصداقة‮..‬؟

‮( ٦ )‬

كان ذلك في‮ ‬بداية الثمانينات،‮ ‬عندما بدأ الاهتمام والكتابة عن السينما‮ ‬يحتوياني‮.. ‬في‮ ‬البدء كان مجرد اهتمام جارف بالسينما وبكل ما‮ ‬يكتب عنها في‮ ‬الصحافة‮.. ‬ثم بدأ البحث والقراءة في‮ ‬الكتب والمراجع السينمائية،‮ ‬والتعرف قدر الإمكان على المدارس والأساليب والتيارات السينمائية الهامة‮.‬
شخصياً‮.. ‬أعتبر نفسي‮ ‬محظوظاً‮ ‬لتواجدي‮ ‬في‮ ‬وسط ثقافي‮ ‬زاخر‮.. ‬كان عونا لي‮ ‬على البدء والسير في‮ ‬هذا المجال مرحلة تلو الأخرى‮. ‬كان أخي‮ ‬قاسم،‮ ‬أول المهتمين بما كتبت‮.. ‬كان الدرس الأول درس العقل والروح‮.. ‬

‮( ٧ ) ‬

لا اعرف بالضبط هل وجدته ام وجدني‮ ‬ـ استكمالا للالتباس ـ الرائع أمين صالح،‮ ‬باعتباره أكثر اهتماماً‮ ‬بما أسعى إليه‮.. ‬السينما‮. ‬فكان عليه أن‮ ‬يهيئني‮ ‬لتشكيل رؤية واضحة وعميقة لما جئت به عن السينما‮.. ‬كان صبوراً‮ ‬ومتفهماً‮ ‬بشكل خيالي،‮ ‬لذلك الاندفاع والحماس الذي‮ ‬طغى علي‮ ‬لنشر ما أكتبه‮.. ‬فكم من المشاريع التي‮ ‬ألغيت،‮ ‬أو أعيدت صياغتها،‮ ‬لكي‮ ‬تظهر على الشكل الذي‮ ‬ظهرت عليه‮.. ‬تعلمت من أمين الكثير‮.. ‬تعلمت منه كيف أسيطر على جموح الكتابة‮.. ‬وكيف أستفيد من هذا الجموح في‮ ‬نفس الوقت‮.. ‬تعلمت منه أن أكسر التقليد وآتي‮ ‬بالجديد‮.. ‬كيف أكون نظرة خاصة بي‮ ‬أثناء المشاهدة السينمائية‮.‬
كنت محظوظاً‮ ‬جداً‮.. ‬لوجودي‮ ‬في‮ ‬مثل هكذا وسط‮.. ‬وسط أمين وقاسم‮.. ‬وسط لا‮ ‬يحتفي‮ ‬إلا بالمخيلة‮.. ‬والقلم والحب،‮ ‬لنسكب حبرنا جميعا بين‮ ‬يديهما تاركين أمامنا كجيل النقيضين والمسافة بينهما فضاء تزدهر فيه مواهبنا

****

شهادات

أمين خرج بالإنسان من رحم الظلمة إلى النور‮.. ‬وذهب بنا نحو الخيال‮.. ‬مثقفون‮:‬
منح أمين صالح هذا الوسام‮.. ‬تقدير صحيح من قبل القيادة

رؤى‮ - ‬المحرر الثقافي‮: ‬
يجيء تكريم الكاتب والروائي‮ ‬أمين صالح وتقليده وسام الكفاءة من الدرجة الأولى بيدي‮ ‬جلال الملك،‮ ‬ليدفع في‮ ‬عروق الثقافة البحرينية أملاً‮ ‬جديداً،‮ ‬بأن ثمة من‮ ‬يلتفت فعلاً‮ ‬لعطاءات المبدع والمثقف البحريني،‮ ‬ويجيء هذا التكريم ليمنح المثقف البحريني‮ ‬دافعاً‮ ‬ليقدّم وليعطي‮ ‬وليبدع ولينتج؛ لأنه‮ ‬يعرف أن ثمة من سيرى هذا الإنتاج وهذا العطاء‮. ‬
ولأنه أمين صالح،‮ ‬هذا المتشظي‮ ‬تماماً‮ ‬في‮ ‬فعل الإبداع،‮ ‬هذا المشغول بماء الكتابة وبرائحة الورق،‮ ‬هذا الذاهب إلى اتجاهات شتّى كلها تفضي‮ ‬إلى كائن جميل‮ ‬يربيه بعينيه،‮ ‬هو الثقافة،‮ ‬لأنه كل هذا وأكثر،‮ ‬فقد استطلعنا في‮ ‬رؤى آراء بعض المثقفين البحرينيين بمختلف اتجاهاتهم في‮ ‬هذا التكريم،فكان أن اتفقوا جميعاً‮ ‬على أن هذا التكريم ليس لشخص واحد هو أمين صالح،‮ ‬وإنما لتاريخ طويل من العطاء والإبداع،‮ ‬تاريخ طويل من الفعل الثقافي،‮ ‬تاريخ طويل من الحفر في‮ ‬الصخر،‮ ‬تاريخ طويل من‮ (‬أمين صالح‮): ‬

أمين‮.. ‬ذاهب بنا إلى
‮ ‬الخيال،‮ ‬خارج بنا إلى النور

فوزية رشيد تعتقد بأن هذه الالتفاتة من القيادة لتكريم أحد الوجوه الأدبية البارزة في‮ ‬البحرين،‮ ‬هي‮ ‬بادرة من المبادرات الهامة التي‮ ‬كان الوسط الثقافي‮ ‬في‮ ‬البحرين‮ ‬ينتظرها،‮ ‬وتعتقد أن حصول أحد المبدعين المهمين كالكاتب والروائي‮ ‬أمين صالح على وسام الكفاءة هو مكسب للثقافة في‮ ‬البحرين‮. ‬
وترى رشيد أن ثمة مبادرات سابقة في‮ ‬الالتفات إلى هذا الكاتب والمثقف ولكنها لا ترقى إلى هذا الوسام،‮ ‬وتضيف رشيد‮ (‬أمين صالح من الوجوه الإبداعية الريادية القديمة في‮ ‬الإبداع البحريني،‮ ‬ويستحق بكل ثقة نيل هذا الوسام‮) ‬وعن علاقتها بأمين صالح تقول رشيد‮ (‬أمين صالح بالنسبة لي‮ ‬بقدر ما هو زميل في‮ ‬نفس المجال الإبداعي‮ ‬وهو الكتابة السردية قصاً‮ ‬وروايةً،‮ ‬فإنني‮ ‬أعتبره من المبدعين والكتاب المقربين إلى قلبي،‮ ‬وربما‮ ‬يعود هذا لأننا شهدنا معاً‮ ‬معترك الثقافة في‮ ‬إبان فترة حرجة،‮ ‬وشهدنا معاً‮ ‬العمل البدء في‮ ‬أسرة الأدباء والكتاب البحرينية،‮ ‬باختلافاتها وائتلافاتها،‮ ‬ولذلك فإنني‮ ‬سعدت جداً‮ ‬بهذا التكريم الذي‮ ‬يستحقه بكل ثقة الصديق أمين صالح‮). ‬
‮(‬قبل كل شيء‮.. ‬أمين صالح‮ ‬يستحق بكل جدارة هذا التكريم‮) ‬هكذا بدأ المسرحي‮ ‬عبدالله السعداوي،‮ ‬الذي‮ ‬أضاف‮ (‬هذا التكريم هو تكريم للأدب البحريني،‮ ‬ولأسرة الأدباء والكتاب البحرينية؛ لأنه بالإضافة إلى أمين ثمة كثير من الأدباء الذين‮ ‬يستحقون هذا التكريم،‮ ‬لأنهم حفروا في‮ ‬صخور صلبة وقاسية،‮ ‬وكان أمين صالح من بين هؤلاء الذين حفروا فضاء الثقافة بأصابعهم‮) ‬ويضيف‮ (‬كي‮ ‬تصنع مهندساً‮ ‬عليك أن تجعله‮ ‬يدرس أربع سنوات،‮ ‬ولكن كي‮ ‬تصنع مبدعاً‮ ‬فهي‮ ‬مسألة وعملية جداً‮ ‬صعبة،‮ ‬وأمين صالح من الأدباء والمبدعين الذين صنعوا أنفسهم بإرادة قوية‮) ‬وعن الإبداع لدى أمين‮ ‬يقول السعداوي‮ (‬إنه خروج بالإنسان من رحم الظلمة إلى النور،‮ ‬ذهاب بنا إلى الخيال،‮ ‬وهذا الخيال مقموع في‮ ‬أوطاننا،‮ ‬وربما‮ ‬يكون قمع الخيال هو من بين أسباب تخلفنا،‮ ‬أمين من الأدباء الذين‮ ‬يحاولون دائماً‮ ‬زحزحتنا إلى منطقة الخيال هذه‮) ‬ويضيف‮ (‬لقد أوجد أمين أطياف عمياء‮.. ‬أطياف ليست لها عيون،‮ ‬ولكن لها بصيرة،‮ ‬ومن‮ ‬يمتلك بصيرة كبصيرة أمين فهو‮ ‬يمتلك الرؤية،‮ ‬كل الرؤية‮). ‬
وطالب السعداوي‮ ‬أسرة الأدباء والكتاب أن تحتفي‮ ‬بهذا التكريم،‮ ‬وأن تحتفي‮ ‬بأمين صالح وأن تعمل على إبراز هذا التكريم،‮ ‬وأكد السعداوي‮ ‬أن هذا العيد جاء أجمل لأنه حمل هذا الخبر،‮ ‬وعبّر السعداوي‮ ‬عن فرحته بهذا التكريم ووصف فرحته به بأنه فرحة طفل‮. ‬

****

أمين تاريخ‮.. ‬يتعدّى
‮ ‬البحرين ويسكن العالم

الفنان المسرحي‮ ‬حمزة محمد‮ ‬يؤكد من جانبه على أن هذه اللفتة هي‮ ‬لفتة كريمة من صاحب الجلالة،‮ ‬بأن‮ ‬يكرم رجال البحرين الذين قدموا الكثير في‮ ‬المجال الثقافي‮ ‬والفني‮ ‬وغيرها من المجالات،‮ ‬وأن‮ ‬يتم هذا التكريم على حياتهم،‮ ‬هو دافع للآخرين،‮ ‬لأن‮ ‬يبذلوا جهودهم في‮ ‬سبيل الارتقاء بتجاربهم للمستوى الذي‮ ‬يرضي‮ ‬طموح هذا البلد‮. ‬
ويضيف محمد‮ (‬نبارك لأمين صالح هذا التكريم،‮ ‬ونتمنى أن نرى أدباء وفنانين ومثقفين آخرين‮ ‬يتسلمون هذا الوسام الذي‮ ‬هو وسام فخر واعتزاز لكل بحريني‮) ‬وتمنى محمد أيضاً‮ ‬كما تمنى آخرون أن تستمر هذه المبادرة عبر تكريم مثقفين ومبدعين آخرين أثروا الساحة الثقافية في‮ ‬البحرين،‮ ‬وتمنى أيضاً‮ ‬أن‮ ‬يكون هذا الوسام هو وسام اعتراف بما‮ ‬يقدمه المثقف والمبدع البحريني‮.‬
وعن تجربة أمين صالح الأدبية‮ ‬يقول حمزة محمد إنها من التجارب الفريدة والمميزة،‮ ‬والتي‮ ‬وصلت بالتجربة البحرينية إلى مستويات عالمية،‮ ‬فترجمة قصص وروايات لصالح إلى لغات حية كثيرة منذ بدايات حياته الأدبية،‮ ‬يدل على أهمية هذه التجربة،‮ ‬ويدل على تمايزها‮. ‬
المخرج السينمائي‮ ‬بسام الذوادي‮ ‬يرى أن أمين صالح بالنسبة له هو تاريخ وليس شخصا،‮ ‬هو تاريخ السينما الروائية الطويلة في‮ ‬البحرين التي‮ ‬بدأت بأمين صالح وبدعم وتشجيع أمين صالح،‮ ‬ويضيف الذوادي‮ (‬عرفت أمين ليس فقط من خلال كتبه وقصصه ورواياته،‮ ‬وإنما أيضاً‮ ‬من خلال رؤية بعض الطلبة العرب والمصريين الذين كانوا‮ ‬يقومون بدراسات تتناول ما‮ ‬يكتبه أمين صالح لدى دراستي‮ ‬في‮ ‬القاهرة‮) ‬ويؤكد‮ (‬تاريخ أمين صالح تعدى المنطقة المحلية وامتد إلى العالم العربي،‮ ‬والعالم بشكل عام،‮ ‬ولذلك فإن اسم أمين صالح كان‮ ‬يبرز اسم البحرين بشكل عربي‮ ‬وعالمي‮ ‬في‮ ‬مجالات شتى ليس فقط في‮ ‬مجال الرواية والسرد والقصة،‮ ‬بل في‮ ‬مجال السينما والتحليل والتقنية الفنية السينمائية‮). ‬
ويعتقد الذوادي‮ ‬بأن تكريم أمين صالح بوسام الكفاءة هو‮ (‬تقييم صحيح من قبل القيادة لهذا الرجل الذي‮ ‬أمضى أكثر من ‮٥٣ ‬عاماً‮ ‬يرسّخ فيها اسم البحرين،‮ ‬ويعكس ثقافة البحرين بعاداتها وتقاليدها بداخلها بهويتها،‮ ‬بل ويتناول رؤية البحرين أيضاً‮ ‬للآخر وللثقافات الأخرى،‮ ‬ففي‮ ‬قراءة أمين بالشكل الجيد،‮ ‬سترصد حقبة مهمة من تاريخ البحرين‮). ‬
وعن العلاقة بينهما‮ ‬يقول الذوادي‮ (‬أمين صالح هو الذي‮ ‬شجعّني،‮ ‬هو الذي‮ ‬دفعني،‮ ‬هو الذي‮ ‬أعطاني‮ ‬أملاً‮ ‬في‮ ‬أن أرى سينما بحرينية،‮ ‬لقد كان‮ ‬يرى بشكل صحيح،‮ ‬وأنا هنا أحاول السينما في‮ ‬البحرين بسبب أمين صالح،‮ ‬لذلك فإن تكريم أمين صالح ليس تكريما لشخص،‮ ‬إنه تكريم للثقافة في‮ ‬البحرين بشكل عام،‮ ‬للأدب،‮ ‬للسينما،‮ ‬للمسرح،‮ ‬لنا كلنا،‮ ‬وهو بالتأكيد‮ ‬يعطينا دفعة قوية لنستمر في‮ ‬العطاء،‮ ‬لذلك فإنني‮ ‬أقول إننا كلنا في‮ ‬البحرين قد كرّمنا عبر تكريم أمين صالح،‮ ‬كلنا منحنا وسام الكفاءة من خلال منحه لهذا الرجل

***

منذ أغنية ألف صاد‮ ‬
الأولى‮.. ‬وهو‮ ‬يواصل التجريب

الشاعر علي‮ ‬الشرقاوي‮ ‬أكد على أن تجربة أمين صالح هي‮ ‬من التجارب البحرينية الهامة التي‮ ‬ساهمت مساهمة كبيرة في‮ ‬تطوير الحركة الأدبية في‮ ‬البحرين والخليج،‮ ‬مضيفاً‮ ‬أن صالح منذ تجاربه الأولى في‮ (‬هنا الوردة‮.. ‬هنا نرقص‮) ‬وروايته المبتكرة‮ (‬أغنية ألف صاد الأولى‮) ‬واصل عملية التجريب وطرح ما هو جديد ومختلف ومتميز ليس على صعيد الحركة الأدبية في‮ ‬البحرين،‮ ‬وإنما على صعيد التجربة العربية ككل‮. ‬
وأكد الشرقاوي‮ ‬أن مثل هذه التجربة لا بد من تكريمها على جميع المستويات،‮ ‬سواء على المستوى الرسمي‮ ‬أو على المستوى الأهلي،‮ ‬ويضيف‮ (‬لذلك فإننا فرحنا كثيراً‮ ‬حينما قلّده جلالة الملك وسام الكفاءة من الدرجة الأولى‮) ‬ويؤكد الشرقاوي‮ ‬على أن تكريم أمين هو تكريم للحركة الأدبية في‮ ‬البحرين والتي‮ ‬منذ تأسيسها وهي‮ ‬تحاول أن ترفع اسم البحرين عالياً‮ ‬في‮ ‬جميع المحافل الأدبية الدولية،‮ ‬ويضيف‮ (‬لا أذيع سراً‮ ‬إن قلت إن البحرين معروفة من الناحية الثقافية أكثر من الناحية السياسية،‮ ‬بمعنى أن الثقافة في‮ ‬البحرين ساهمت في‮ ‬تكوين علاقات رائعة بين البحرين كأرض،‮ ‬وبقية الدول العربية،‮ ‬إن لم أقل العالمية‮). ‬
ويضيف الشرقاوي‮ (‬أقول‮.. ‬هنيئاً‮ ‬لنا بتكريم أمين صالح وأتمنى أن‮ ‬يتم الالتفات إلى تجارب أخرى،‮ ‬ويتم تكريم مبدعين آخرين‮). ‬

***

أمين صالح قنديلنا الأزلي

‬فريد رمضان‮

1

أذهب دائما لقراءة وتأمل تجربة الكاتب المبدع أمين صالح،‮ ‬بمعزل عن تجربة الشاعر قاسم حداد،‮ ‬لأن في‮ ‬ذلك إنقاصا لتجربة كل مبدع منهما،‮ ‬رغم الالتباس الذي‮ ‬روج له الصديقان،‮ ‬والذي‮ ‬للأسف أخذ منحى آخر عند المتلقين لتجربة كل من أمين صالح وقاسم حداد‮. ‬وخلق من هذا الارتباط القوي‮ ‬انعكاسات لا تصب في‮ ‬قيمة كل تجربة إبداعية عند كل من أمين صالح وقاسم حداد،‮ ‬ذلك إن الإبداع مشروع شخصي‮ ‬قائم بذاته،‮ ‬حتى مع المشاريع التي‮ ‬يحاول المبدع فيها تأسيس تجارب مشتركة،‮ ‬مثلما‮ ‬يحدث بين الفن التشكيلي‮ ‬والشعر‮. ‬أو ضمن مشاريع إبداعية تكشف تقارب وجهات النظر نحو الأدب والإبداع بشكل عام،‮ ‬مثلما فعل الصديقان في‮ ‬بيانهما المشترك،‮ ‬أو في‮ ‬مشروع كتاب‮ "‬الجواشن‮". ‬ورغم ما تحققه هذه المشاريع الثنائية المنبثقة من وعي‮ ‬ثنائي‮ ‬في‮ ‬حقل إبداعي‮ ‬واحد‮ ‬ينهض أساساً‮ ‬على اللغة وفضاء الإبداع،‮ ‬إلا إنه‮ ‬ينبغي‮ ‬النظر إليها ضمن سياقها الخاص بها،‮ ‬دون تعميمها على تجربة كل مبدع لأن في‮ ‬ذلك ظلم فادح على القيمة الإبداعية الشخصية عند كل كاتب،‮ ‬مهما كانت تقارباتهما الفكرية والإبداعية،‮ ‬ومهما ترك كل مبدع من أثر في‮ ‬إبداع الآخر‮.‬

‮-٢-‬

منذ مجموعته القصصية الأولى‮ »‬هنا الوردة هنا نرقص‮« ‬التي‮ ‬صدرت في‮ ‬العام 1973 ‬كان أمين صالح‮ ‬يؤسس زمنه السردي‮ ‬والفني‮ ‬الخاص به على قاعدة ثابتة ولكنها‮ ‬غير ساكنة،‮ ‬وغير خاضعة لشروط ثابتة،‮ ‬تتطور مع كل تجربة لتقدم للمنتج العربي‮ ‬إبداع من نوع خاص جداً،‮ ‬مخلص لمشروعه،‮ ‬وذاهب نحو مناطق جديدة على مستوى الشكل واللغة والبناء،‮ ‬مما خلق أرباكا ظاهرا لدى النقاد والقراء والناشرين في‮ ‬حيرة عند تصنيف بعض مؤلفات هذا المبدع،‮ ‬والتي‮ ‬تشكل بحد ذاتها حيلة جميلة من حيل أمين صالح الذي‮ ‬لا‮ ‬يكف عن إدهاشنا دائماً‮. ‬
‬منذ وردته الأولى،‮ ‬مرورا بمجموعته‮ »‬الفراشات‮« ‬و‮ »‬الصيد الملكي‮« ‬و‮»‬الطرائد‮« ‬و»ندماء المرفأ‮.. ‬ندماء الريح‮« ‬و‮ »‬العناصر‮« ‬ومؤلفاته الأخرى،‮ ‬كان أمين صالح شاعرا مخلصا للغته أكثر من التجارب الشعرية التي‮ ‬طلعت علينا في‮ ‬المشهد الإبداعي‮ ‬البحريني،‮ ‬بل إنه كان قادرا على تطوير مشاريعه على عدة مستويات،‮ ‬من خلال البناء العام لمشروعه السردي‮/ ‬الشعري،‮ ‬على مستوى اللغة والصورة الشعرية والسريالية،‮ ‬القادرة على سبر مكامن النفس البشرية،‮ ‬حتى وهو‮ ‬يذهب بمشاريعه الأولى في‮ ‬مرحلة مبكرة معبرا عن أخلاص متميز للسّريالية،‮ ‬دون كل الكتّاب في‮ ‬البحرين،‮ ‬وهو في‮ ‬ذهابه ذلك‮ ‬يستوحي‮ ‬منها‮ - ‬ليس لكونها مذهباً‮ ‬أدبياً‮ - ‬بل لأن أمين صالح وجد فيها أهم ما‮ ‬يبحث عنه حول قيمة اللاوعي‮ ‬وتفجير اللغة والصورة لما‮ ‬يخدم نصه السردي،‮ ‬حتى باتت قصصه القصيرة أكثر شعرية من قصائد الشعراء،‮ ‬ولهذا السبب أرى في‮ ‬المنتج الإبداعي‮ ‬عند أمين صالح طاقة كبيرة أعطت ثمارها بتأثيره على المشهد الإبداعي‮ ‬عند الشعراء وكتاب القصة‮. ‬وهو الجانب الذي‮ ‬يستحق الدرس لإيفاء هذا المبدع حقه،‮ ‬خاصة في‮ ‬تطور التجربة الشعرية في‮ ‬البحرين،‮ ‬التي‮ ‬قام بها من خلال اشتغاله على السرد القصصي‮ ‬والنثري‮ ‬والشعر والترجمة،‮ ‬وبلاغة الصورة المكتوبة والمرئية والفنتازية والغرائبية،‮ ‬والذي‮ ‬أعتقد أن اخلاصه المبكر لتجربته على حساب التحزب والعمل السياسي‮ ‬الذي‮ ‬وقع فيه أغلبية المبدعين،‮ ‬كان سببا جوهريا في‮ ‬أن تشكل تجربته تطوراً‮ ‬سبق به الشعراء،‮ ‬مثلما سبق به كتّاب القصة القصيرة والسرد‮. ‬

‮-٣-‬

‬إن شمولية الكاتب المبدع أمين صالح لم تؤسس فقط أشكالا إبداعية جديدة على مستوى الشكل واللغة،‮ ‬بل أنه‮ ‬يمكننا أن نتحدث عن قاموس لغوي‮ ‬تأسس مع تجربة أمين صالح،‮ ‬هذا القاموس الذي‮ ‬من السهل أن نرى تأثيراته اللغوية الواضحة على المشهد الإبداعي‮ ‬والشعري‮ ‬خاصة،‮ ‬ولكن للأسف لم‮ ‬يلتفت نقاد الشعر إلى دور هذا الاسم،‮ ‬فقط لأنه لم‮ ‬يقدم نفسه كشاعر،‮ ‬مع أن تجربته تنطوي‮ ‬على شعرية‮ ‬غير متوفرة عند العديد من‮ ‬يمارس كتابة الشعر‮. ‬

‮-٤-‬

أمين صالح،‮ ‬قنديل الحركة الإبداعية التي‮ ‬لم تأخذ حقها حتى الآن من الدرس والفحص‮. ‬قنديل قادر على إبهارنا دائما،‮ ‬بكل ما هو جديد،‮ ‬وغامض،‮ ‬وشهي،‮ ‬وسلسل ومثير للدهشة .

رؤى
الايام- 22-12- 2007

***

أمين صالح‮: ‬الوردة تذبل إن لم تعرها التفاتة

عبدالقادر عقيل

تكريم جلالة الملك حفظه الله للأديب والمبدع أمين صالح ومنحه وسام الكفاءة من الدرجة الأولى كان تكريماً‮ ‬للحركة الأدبية في‮ ‬البحرين،‮ ‬فحين شاهدت الوسام بيد أمين اعترتني‮ ‬فرحة لا توصف،‮ ‬فأمين في‮ ‬تلك اللحظة كان‮ ‬يمثلنا جميعا،‮ ‬وهو أكثرنا استحقاقاً‮ ‬لمثل هذا التكريم ولمثل هذا المقام،‮ ‬فمنذ السبعينيات من القرن الماضي،‮ ‬منذ أعلن للعالم عن‮ »‬هنا الوردة‮.. ‬هنا نرقص‮«‬،‮ ‬وأمين‮ ‬ينطلق بكل ثقة وتألق إلى أفق إبداعي‮ ‬يتجاوز نطاق المحلية‮: ‬أديباً،‮ ‬روائياً،‮ ‬سينمائياً،‮ ‬مسرحياً،‮ ‬ومترجماً،‮ ‬مثيراً‮ ‬الاندهاش،‮ ‬بلغته الجديدة،‮ ‬ونصوصه المغايرة،‮ ‬الصادمة،‮ ‬وفكره الحر الذي‮ ‬يرفض الوقوف عند محطة ما،‮ ‬أو في‮ ‬قالب ما،‮ ‬أو في‮ ‬أسر فكرة أو نظرية أو منهج ما‮. ‬
ولأن أمين أستاذي،‮ ‬وأخي،‮ ‬وصديقي،‮ ‬فقد اعتبرت تكريمه تكريماً‮ ‬شخصياً‮ ‬لي،‮ ‬فأمين الذي‮ ‬ظل طوال العقود الثلاثة الماضية‮ ‬يعمل بصمت وبثقة دون ضجيج،‮ ‬زاهداً‮ ‬عن ماكينة الإعلام،‮ ‬والجري‮ ‬وراء بريق الأضواء،‮ ‬ومترفعاً‮ ‬عن الترويج لنفسه وكتاباته،‮ ‬كان وفياً‮ ‬كل الوفاء،‮ ‬ومخلصاً‮ ‬كل الإخلاص،‮ ‬لنشاطه الدؤوب في‮ ‬أي‮ ‬عمل إبداعي‮ ‬كان‮ ‬يقوم به بلا شرط ولا تحفظ،‮ ‬ومتجاهلاً‮ ‬النقد الذي‮ ‬لا‮ ‬يثق فيه كثيراً،‮ ‬وهذا أكثر ما تعلمته منه،‮ ‬وهذا أكثر ما‮ ‬يمكن لأي‮ ‬كاتب أن‮ ‬يتعلمه،‮ ‬وكنت على‮ ‬يقين،‮ ‬كما‮ ‬يردد شاعرنا الجميل قاسم حداد حكمته الأثيرة‮ »‬الوقت كفيل بكل شيء‮«. ‬
فأمين الذي‮ ‬اعتبر في‮ ‬وقت من الأوقات إبليس الغموض والحداثة والشكلانية والسريالية والابتعاد عن قضايا الجماهير،‮ ‬وغير ذلك من النعوت‮ ‬غير المنصفة،‮ ‬والأحكام الطائشة وغير المسؤولة،‮ ‬التي‮ ‬كانت تلصق به،‮ ‬جلس بهدوء،‮ ‬بروحه المرحة،‮ ‬وإنسانيته الفائقة،‮ ‬ورؤيته الواثقة،‮ ‬يعمل دون توقف في‮ ‬مشاريع أدبية وفنية لا تنتهي‮ (‬رغم الضرر الفادح الذي‮ ‬أصاب عينه نتيجة هذا الانغماس الهائل في‮ ‬الكتابة‮) ‬ويكتب مئات الصفحات من الأعمال الروائية والقصصية والدرامية والسينمائية،‮ ‬ويثري‮ ‬المكتبة العربية بترجمة كتابين مهمين جداً‮ ‬هما‮ »‬السينما التدميرية‮« ‬لأموس فوجل،‮ ‬و»النحت في‮ ‬الزمن‮« ‬لأندريه تاركوفسكي‮. ‬
تعامل أمين مع الحياة بأسلوب خاص جداً،‮ ‬فهو‮ ‬يفضل العيش في‮ ‬عزلة جميلة مع نفسه،‮ ‬محافظاً‮ ‬على موهبته المتميزة،‮ ‬مقدساً‮ ‬حريته دون سطوة رسمية أو أيديولوجية،‮ ‬ومحصناً‮ ‬نفسه من أي‮ ‬انكسار محتمل‮. ‬وهو واثق إلى حد اليقين أن‮ »‬الوقت كفيل بكل شيء‮«‬،‮ ‬وهذه المقولة تثبت،‮ ‬يوماً‮ ‬وراء‮ ‬يوم،‮ ‬صحتها‮.‬
سيظل أمين صالح،‮ ‬كصديقه الحنون قاسم حداد،‮ ‬مثالاً‮ ‬لجيل بأكمله،‮ ‬ليس على المستوى الإبداعي‮ ‬وحسب،‮ ‬بل على المستوى الأخلاقي‮ ‬أيضاً،‮ ‬وسنظل جميعنا ننظر إليهما بكل مشاعر الحب والتقدير والاعتزاز‮.‬