كمال خير بك إنّه رمز من رموز الثقافة العربيّة الحديثة، وضمير مرحلة استثنائيّة في تاريخنا القريب. وقد جاء موته يكرّس سقوط الأوهام القوميّة الكبرى في الزواريب النتنة. نعيد اكتشافه اليوم بكثير من الدهشة والفضول

كمال خير بك: أهلاً أيّها الشعر

أسهم في وضع المداميك الأولى للقصيدة الحديثة، قبل أن ينصرف إلى النضال السياسي. بقي في الظلّ طوال هذه السنوات، من دون أن تخفت الهالة التي تحيط به وبشعره. من هو الشاعر الفريد الذي يسكن الأيقونة؟

سناء الخوري

عن قصاصات من علب سجائر «جيتان»، جمع أصدقاء كمال خير بك دواوينه المنشورة بعد رحيله. كان الشاعر في الخامسة والعشرين حين وقّع باكورته «البركان» (1960) تحت اسم قدموس، وفي الثلاثين حين أنجز ديوانه الثاني «مظاهرات صاخبة للجنون» بتوقيع كمال محمد. دواوينه الثلاثة اللاحقة، جمعها أدونيس، وغسان مطر، وبدر الحاج، ومخول قاصوف في باريس، وصدرت بعد اغتياله. بعد خمسة عشر عاماً من الانقطاع عن النشر، رغم الكتابة المتواصلة، جاء موت خير بك، ليعطي قصائده حياةً ثانية. من يدري إن كان «قدموس» ليقرّر الإفراج عن كتاباته تلك في يوم من الأيام؟ «كان يؤمن بأنّ كل ما سلب بالقوة لا يسترد إلا بالقوة. لذا وضع هموم القلم في الدرج، إذ بدا له أن الشعر لم يعد قادراً على أن يكون أداةً للنهضة»، تسرّ إلينا زوجته خزامى قاصوف.
إسهامات كمال خير بك (1935 ــ 1980) في وضع المداميك الأولى لقصيدة الحداثة العربيّة، كانت بالنسبة إليه هاجساًَ فرعياً، في موازاة همّ نضالي وسياسي مقيم. هالة السحر المحيطة بسيرته، تعود إلى كونه الشاعر الوحيد من أبناء جيله الذي أقرنت قصيدته بالفعل المقاوم. لكنّه لم يكن هذا فحسب. فخلف المناضل الأيقونة، رجل استثنائي، كان ابن عصره بامتياز.

رفيق وديع حداد، وفؤاد الشمالي، وأبو حسن سلامة، سقط «خطأً» برصاص إحدى ميليشيات الحرب الأهليّة

يخبرنا صديقه الشاعر غسان مطر، أنّ قول شاعر اللذة والحكمة طرفة بن العبد «دعني أبادِرْها بما ملكَتْ يدي»، كان حكمة خير بك. «كان حاضر النكتة، يطرب لكلّ جميل. يحبّ الحياة حبّاً جنونيّاً، ويحب الموت بالقدر ذاته. إنسان دائم الاشتعال، مليء بالدفء والضوء. شخصية مشعّة حاضرة، قلقة متوترة». ضوء يبدو أنّ حرارته لم تخفت في قلوب من عايشوه.
بالنسبة إلى هؤلاء جميعاً، سقط كمال خير بك على الجبهة الخاطئة. جنون أزقة الحرب الأهلية في بيروت، لم يرحم رفيق وديع حداد، وفؤاد الشمالي، وأبو حسن سلامة. «مات بسلاح الداخل» عوضاً عن مواصلة مسيرته في قيادة المقاومة ضدّ إسرائيل. تبقى خلفيات حادثة مقتله إلى جانب رفيقه القيادي في «الحزب السوري القومي الاجتماعي» بشير عبيد، «غامضة، وغير مبرّرة»، في نظر عائلته. خلاف على أحقيّة المرور بين سائق عبيد، أودى بحياة الأخير وصديقه الشاعر وناهية بجاني. هل هي «حادثة» فرديّة حقّاً تلك التي أودت بالمناضل الذي انخرط في العمل الفدائي في مواجهة العدوّ الصهيوني؟ ما إن سقط الشاعر، حتى تفردت إذاعة إسرائيل بالسبق: «قتل اليوم في بيروت الإرهابي كمال خير بك». يومها، في جيب قميصه المقطّع، وجد أصدقاؤه نبوءته الأخيرة: «كنت ميتاً على الرصيف وحولي وطن هارب/ وقربي حصاني...».
كانت تلك نهاية خائنة لحياة خلّاقة، بدأت في قرية القرداحة السوريّة، وتشعّبت مساراتها بين المدن والمنافي، بين الشعر والعمل السياسي. ابن عائلة محمد خير بك المؤلفة من تسعة أبناء، برزت «موهبته كشاعر منذ بداية شبابه الأول، إلى جانب امتلاكه بوادر الشخصية القيادية»، يخبرنا شقيقه جلال خير بك. انتمى «قدموس» إلى «الحزب السوري القومي الاجتماعي» مبكراً، وصعد نجمه فيه بقوّة. وبعد مقتل عدنان المالكي عام 1955، صارت بيروت منفاه الأول، إليها لجأ هرباً من الملاحقات التي طاولت القوميين في دمشق.
بين العاصمة اللبنانية، وقرية بشمزين في قضاء الكورة (شمال لبنان) بدأت تترسخ هواجسه الشعريّة والسياسيّة. «وجد في الكورة بيئة تناسبه، كلّها من رفقائه القوميين. لهذا تماهى مع أهلها، وتزوّج ابنتها نجاة نجار، وأنجب منها ابنه زياد»، يروي المسرحي رضا كبريت الذي عرفه عن كثب. كانت الخمسينيات مرحلة العطاء والصخب في شوارع بيروت، وسط «شلّة» من «المنفيّين» الذين سيمسكون بدفّة الشعر العربي الحديث، يوسف الخال، ومحمد الماغوط، وأدونيس.
لكنّ موعده مع المنفى الثاني لن يتأخر كثيراً. بعد الانقلاب الفاشل الذي نظّمه القوميون في لبنان عام 1961، غادر بيروت مع صديقه المقرّب فؤاد الشمالي إلى الأردن، ومنه إلى باريس. بعد رحيل الشمالي منتصف الستينيات، تكاد أرملته آنذاك أليسار سعادة، تكون الشاهدة الوحيدة على محطة مفصلية في مسيرة الثنائي خير بك/ الشمالي: «سكنّا كمال ونجاة، وفؤاد وأنا في البناء نفسه. تحول بيتنا إلى خليّة للطلاب العرب في ذلك الحين، حتى أصبحوا يلقبونه بمطار أورلي الثاني». انهمك خير بك والشمالي في العمل السياسي، والدراسة الجامعية، وتأمين سبل العيش، وتنقلوا بين باريس وجنيف. «كانا (فؤاد وكمال) في أوائل العشرينيات حينها. لكنهما أنجزا الكثير في فترة قصيرة»، تتذكر سعادة.
من ذكريات باريس في أيار 68، تحتفظ الناقدة خالدة سعيد من جهتها برؤية ليليّة عن كمال خير بك. «صادفته في إحدى الليالي في جامعة السوربون. كان واقفاً يتحدث كما كانت عادته بحماسة، وصلابة، وقدرة فائقة على الإقناع». وتضيف صاحبة «الاستعارة الكبرى»: «كان شخصاً مشتعلاً على جبهات كثيرة، ما جعله يعيش

أطروحته عن «حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر» أمدّت مجلة «شعر» بزخم حقيقي

حياةً فيها من الكثافة والعنف والتوتر الكثير». صحيح أنّه لم يشارك في تأسيس مجلة «شعر»، لكنّ خالدة تعتقد أنّه قدّم مساهمة حقيقيّة لتجربة المجلّة من خلال أطروحته «حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر». بدأ العمل على أطروحته المرجعيّة في «السوربون»، بإشراف المستشرق الفرنسي الشهير جاك بيرك، ثمّ أتمّها في جامعة جنيف عام 1972.
لكنّ طباعة الأطروحة بالفرنسيّة تأخرت حتى عام 1978. تتذكر زوجته خزامى كيف جمعتها، وأخذتها بيدها إلى المطبعة. كان قد مضى على زواجهما أربع سنوات، قلَب خلالها خير بك حياتها رأساً على عقب. حين التقته في الثالثة والعشرين، كانت مخطوبة من آخر، وإذا بها تتلقى قصاصة ورق، من رجل صادفته في منزل أحد الأصدقاء: «بلحظة عرفت أن السماء من دونك أضيق من نقطة حبر وأنّ الحياة انتحار». أنجبت منه خزامى ابنهما هشام، وعايشت بوهميته لحظةً بلحظة. «لم يكن عنده انفصام بين حياته الخاصة وحياته العامة. كان هو نفسه، متجانساً، وحقيقياً، يقدّر حرية المرأة إلى أبعد الحدود».
تتذكر حين كانا عائدين من أحد الأعراس، بثيابهما الرسميّة، وبدأت تمطر على شاطئ بيروت. «أوقف السيارة، ونزلنا نركض على السمرلاند مثل المجانين». بعد ثلاثين عاماً على رحيل خير بك، تبقى بيدها هذه القصيدة: «الشوق يدخل من نوافذنا السجينة/ الشوق زهرة برتقال/ سقطت على وجه المدينة». ثلاثون عاماً؟ عمر الجيل الذي يبحث اليوم عن نفسه ويطرح الأسئلة نفسها، ولو منكسرة. ثلاثون عاماً؟
الوقت الكافي كي يعيش الشاعر من جديد، كي نعيد اكتشافه، ونستعيد تلك السنوات الخصبة بالأفكار الكبرى. في زمن الخيبة، نودع الشعر لنستقبله من جديد. أهلاً أيها الشعر.

في مطلع العام المقبل، تصدر المجموعة الكاملة لكمال خير بك عن «دار نلسن». بعد ورشة طويلة من التنقيح والتجميع، تولاها الشاعر غسان مطر، نستعيد دواوين خير بك الخمسة، «البركان» (1960)، «مظاهرات صاخبة للجنون» (1965)، «دفتر الغياب»، و«داعاً أيها الشعر»، و«الأنهار لا تتقن السباحة في البحر» التي صدرت بعد رحيله. تحت عنوان «الشهاب» كتبت الناقدة خالد سعيد توطئة للمجلّد الذي سيضمّ أطروحة الشاعر «حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر ــ دراسة حول الإطار الاجتماعي الثقافي للاتجاهات والبنى الأدبيّة».

شاعر من طراز خاص

حسين بن حمزة

كمال خير بك وضع كمال خير بك قدماً في الشعر وأخرى في النضال الحزبي والسياسي. تفوّق الشعر على النضال تارةً، وتفوّق النضال طوراً. لكن في الحالتين، كتب الرجل سيرة موزّعة على سكّتين متوازيتين ومتداخلتين. كان صاحب «دفتر الغياب» ابن زمنه المكتظ بالأحلام القومية والثورية، وكان الجمع بين الشعر والقضايا الكبرى ممارسة طبيعية ومحمودة. كان الالتزام طموحاً شخصياً، لا قيداً مفروضاً من الخارج. لم يفرِّق خير بك كثيراً بين الحداثة، التي كانت قد بدأت بتقويض عمود الشعر العربي القديم، وبين أن تكون القصيدة الحديثة مرآةً تعكس مشكلات عصرها.

الواقع أن الشاعر انحاز إلى قصيدة يتزايد فيها نفوذ المضمون على حساب الكيفية، التي ينبغي أن يُنجز بها هذا المضمون. وحين بدأ بعض مجايليه بسلوك طرقٍ جانبية تصنع لهم أصواتهم الخاصة، كما فعل الماغوط وأنسي الحاج وأدونيس وشوقي أبي شقرا، كان خير بك قد وطَّن قصيدته في أسلوبية إيقاعية وشكلانية أقرب إلى تجارب رواد قصيدة التفعيلة التي دشنها الثالوث العراقي: السياب والملائكة والبياتي.

صحيح أنه كان منفتحاً على الأزمة الوجودية والفكرية واللغوية التي انطلقت منها مجلة «شعر»، إلا أن قصيدته اكتفت بالمنجز الذي تحقق حينذاك، وظلت متحفظة حيال الأسئلة التفصيلية والدعوات التجديدية التي كانت تغلي حولها. في إحدى قصائده المبكرة، كتب: «دفنتُ مجدي المناضل الكسيح/ تحت رمال الشعر والعقيدة». وهي جملة أشبه بخريطة طريق لتجربة لن تغيب عنها هذه المكونات الثلاثة التي ستسهم، رغم وجاهتها النضالية ونبالة جوهرها، في تقليل الحصيلة الشعرية الصافية التي يطمح إليها الشعراء عادةً.

بطريقة ما، وبمفعولٍ رجعي، يمكن القول إن الشعر عمل في خدمة الموقف السياسي والفكري، وتأخّر عن تلبية متطلبات المخيلة وابتكاراتها. لعلّ هذا ما يفسر الطابع الأيديولوجي للكثير من أعمال الشاعر، حيث تتخلى اللغة عن طاقاتها التعبيرية الهائلة لصالح فكرة أو موقف أو... مناسبة حزبية.
ويتجلى ذلك في ديوان «البركان» الذي ضم «قصائد قومية» كتب معظمها وفق البحور الشعرية التقليدية التي رأى الشاعر أنها «نمط ضروري يصبّ في إطار التنوع». الواقع أن هذا «التنوع» يكشف عن جانب أساسي في تجربة كمال خير بك، وهو تصالح شعره مع الوزن الكلاسيكي والتفعيلة المستجدّة وغير المرنة. إذْ يحس القارئ أنه أسير الإيقاع الصارم الذي يعوق حركة المعنى، وأنه يبذل جهداً إضافياً لإزاحة ضجة الإيقاع كي يصفو له المعنى الذي يصبح خطابياً ومباشراً، ما إن يُنزع عنه «سحر» الوزن. حتى قصائد النثر القليلة التي كتبها الشاعر بدت مثل قصائد موقّعة سُحب منها الوزن.
كان صاحب «دفتر الغياب» أقرب إلى التفعيلة التي تبيّن لاحقاً أنها نصف ثورة حطمت جزءاً من قيود الشعر التقليدي، لكنها لم تحصل على الحرية الكاملة، كما هي الحال في هذا المقطع: «حافياً جئتُ من الشرق/ مليئاً بالوعود/ أحمل الله، وشيئاً وثنيّ الطعم، سريّ الوجود/ في إهابي ألف نسرٍ يتمزق/ ألف إنجيل حقود الحرف أزرقْ/ جئتُ كي أعتق أو أنعتقا/ جئتُ كي أحترقا/ جئت كي أزرع في الريح رمادي/ علّه يحمل تاريخي إلى كل بلادي». الأمر نفسه يحدث في القصائد القصيرة التي تسمح للشاعر أحياناً بأن يُنجز صوراً واستعارات صافية، من دون أن يفلت من الوزن الصارم: «أثقب جلد العالم المريض/ أدخل في جرثومة الأشياء/ أزوّج السكون للضوضاء/ أولدُ في قرارة الحضيض».
وظهر ذلك في قصائد الحب أيضاً: «أسقطُ في أدغالك الوردية/ كالرمح في المياه/ أغيب في أحشائك السرية/ كفاتحٍ، كسائح/ كجدول مشرد/ يبحث عن مجراه». ليس القصد هنا لوم الشاعر أو محاسبته، فقد كان جزءاً من مشهد قصيدة التفعيلة في زمنه، إلى جانب التزامه السياسي والفكري الذي ظهر حتى في رسالة الدكتوراه التي تناول فيها الحداثة الشعرية العربية داخل «الإطار الاجتماعي الثقافي للاتجاهات والبنى الأدبية». بهذا المعنى، كان كمال خير بك شاعراً من طراز خاص. مزج الأداء الشعري بالأداء الفكري. كان مع شعارات تلك الحقبة الشعرية: «التغيير» و«الرؤيا» و«إعادة خلق العالم»، لكنه تبنى «اللغة المفرطة العمق، والجِدّة المفرطة البساطة، والوضوح القادر على الوصول والتحرك»، بحسب ما كتبت الناقدة خالدة سعيد عقب استشهاده.

قصائد مختارة

تصميم

جئتك، يا باريس، في آخر الشتاء
مستسلماً للنفي والهزيمه
في رحلة عمياء،
مستنقعاً يغصّ بالوحول
ينذر بالغياب والجريمه،
لكنني عزمت أن أغوص في لهيب حوضك السريّ
كفارس مقتول
أغرق في عذابك الوحشي.
(باريس، 1963)

معرفة

... وفجأة ينتحر
يدرك أن الموت
خديعة كبرى،
أن الصدى
خيانة للصوت
(باريس 1965)

ضحايا

كان مثلي شاعراً يصطاد ظلّه
ثم أدركنا معاً أن السراب
كان في أشعارنا الحيرى مظلّه
لسؤال ساذج بلا جواب.
أننا كنّا ضحايا
في صحارى الاغتراب.

مغامرة

أثقب جلد العالم المريض
أدخل في جرثومة الأشياء
أزوّج السكون للضوضاء
أولد في قرارة الحضيض.

تشي

أيّها السيّد، كنا ننحني
لسياط اللذّة المستعجله
نحن أطفال السنين الموحله
لم يعلمنا أب أن نستقيم.
لم يعلمنا نبي واحد أن نشتهي
... باب الجحيم.

بقاء

(إلى محمد بوضيا *)

مرّ الكلام هنا، هنا
مرّ الكلام على ضفافك وانحنى
يا نهر، يا نهر الدموع
يا نهر، يا نهر الفرح
أدركت أنك راحل نحو المحيط بلا رجوع
كيما تعود مع الغيوم إلى الجبال
مطراً وأقواس قزح،
أدركت أنك راحل لما أتيت
من جرح ليل الراكضين إلى الصباح، وفي الصباح
لما هويت
في كل قبضة ثائر
في كلّ دفتر شاعر
في كل بيت
خلفت قلبا خافقاً نحو الكفاح
ها أنت تسكن في الجراح
ها أنت تطلع من ينابيع الرياح
الأرض تدرك أن صوتك لن يموت
الشعب يعلم أن صرختك المضيئة في الجبال
هزّت جذوع النوم في جسد الرمال
هزمت مؤامرة السكوت.
سقطت قنابلهم سدى
سقطت على أطراف جرحك كالندى
بقيت لهم أشلاء جثتك الرقيقه
شرراً يمد على ضمائرنا حريقه.

* مناضل ومثقف جزائري اغتالته الاستخبارات الاسرائيليّة في باريس صيف 1973

صعود

صعد الموت إليّ
بثياب الفقهاء
فتسلّقت يدي
وتسللت إلى جوف السماء
فوجدت الله يبكي في انتظاري
وعلى ركبته، كان النبي
حاملاً مسبحة بيضاء من دمعي ودمع الشعراء

سَفر

كأنها القبّعات
وحيدة، تسير في شوارع المطر
بلا رؤوس؛
كأنها الحياة
تنوء تحت وطأة الخطر
تهم بالجلوس
في مقعد السفر.
(1971)

الوداع

أيها الشعر، وداعاً
انتهت رحلتنا
بين أدغال الكلام
وبساتين الجسد.
إن في أعماقنا جرحاً ينام
حان أن نوقظه
حان أن يوقظنا
من أراجيح الأبد
نحن أجيال النيام
نحن شعب الكلمات المشرقه
والعيون الشبقه.
السراديب التي نسكنها
السراديب التي تسكننا
آن أن نهدمها
آن أن نرسمها
في كتاب الذكريات
شاهداً ومرّ ومات.
أيها الشعر، وداعاً
انتهى عصر الكلام المخملي
وانتهى عهد السلام
بين جرحي والضماده
بين رأسي والوساده،
إننا ندخل عصراً همجيّاً
طارحاً جمجمة الشعر العتيقه
بين أنقاض المعاهد
والمقاهي والملاهي والنوادي والمعابد
وبيوت الشعراء الحالمين
إنه عصر الحقيقه
إنّه عصر اليقين
كل شعر ضلّه، ضلّ طريقه.
أيها الشعر وداعاً
انتهت غربتنا
في تجاويف الرموز المقفله
فلنخلف للرياح
لعصور أقبلت، أو مقبله
كل أشعار النواح
ودواوين الضجر
ولنمزّق في الصباح
راية الحزن القديمه
وجوازات السفر.
أيها الشعر، وداعاً
انتهت رحلتنا
وامّحى من خلفنا من خلفنا وجه الطريق
إننا ندخل تاريخ الحريق
وجحيم اليقظة المشتعله
حيثما الحرف سلاح
خنجر أو قنبله.
أيّها الشعر، سلاماً
أيّها الشعر الصديق
بدأت رحلتنا.

قصائد من مجموعة «وداعاً أيّها الشعر» التي صدرت بعد رحيله (بيروت، 1982)

الاخبار
٥ تشرين الثاني ٢٠١٠