("المكتبة الوطنية" في باريس تحتفل بمئوية الشاعر)

أنطوان جوكي
(لبنان/باريس)

بعد سبعة وعشرين عاماً على المعرض الذي خصصته "المكتبة الوطنية" (باريس) للشاعر الفرنسي الكبير رينيه شار، تنظّم هذه المؤسسة المرموقة حالياً أضخم معرض حوله بمناسبة مئوية ولادته. ومقارنة بالمعرض الأول الذي لم يتناول سوى دواوين الشاعر المزخرفة من قبل فنانين كبار، وأشرف شار بنفسه عليه وأمّن كامل مادته، يُعنى المعرض الحالي بجميع جوانب إبداع هذا العملاق وبمختلف مراحل حياته الصاخبة والغنية بالأحداث والانجازات. من هنا أهميته القصوى.
ولعل ميزة هذا المعرض الأولى تكمن في ارتكاز منظّميه على مراسلات شار المنشورة وغير المنشورة لترتيب قصائده وأحداث حياته بشكلٍ متسلسل تاريخياً يُظهر، وللمرة الأولى، أهمية سيرته في سيرورة إبداعه، أهمية حجبها غالباً انجرار معظم النقاد على خطأ خلف تواريخ إصداراته لتحديد مراحل حياته المهمة، وذلك على الرغم من هاجس الشاعر في تأريخ كل نص فور كتابته ومن مراجعته الثابتة لمخطوطاته السابقة. إعادة النظر بمساره الساطع إذاً كان لا بد منها، خاصة وأن المحطات التي اعتُبرت غير مهمة فيه، أو فقيرة إبداعياً، تم التعتيم عليها بشكلٍ جائر، بينما تبدو، وفقاً للترتيب المعتمَد في المعرض الحالي، أكثر غنى وخصوبة وإنتاجاً من بعض المحطات التي اعتُبرت مهمة.
ولأنه لا يمكن عرض شاعر ما إلا من خلال مخطوطاته وكتبه المزيّنة بالرسوم، اختار منظّمو المعرض عرض شعر شار بطريقتين متكاملتين: في اللحظات الأولى لكتابته، ولدى تكريس هذه الكتابة الناجم عن تزيينها من قبل كبار الرسامين. ويبرر هذا الخيار ميل الشاعر باكراً للإصدارات الفخمة، حتى خلال نشاطه داخل الحركة السرّيالية، وتقرّبه فيما بعد من فناني جيله وتحريكه مواهبهم في اتجاهه بشكلٍ أدّى إلى طبعات مصوّرة كثيرة لدواوينه كان له فيها دائماً الكلمة الأخيرة. ولأن الاطلاع على عملية ولادة كتابته ضروري بقدر الاطلاع على كتبه الثمينة وقراءة شعره داخلها، يكشف المعرض عن مجموعة ضخمة من الأوراق والمخطوطات التي تركها شار وراءَه عمداً لإدراكه أهميتها في تحديد سيرورة خلقه، ونشاهد فيها تطوّر عدد كبير من قصائده، منذ المسودّة الأولى وحتى النص النهائي، مروراً بالتصحيحات التي كان يقوم بها تدريجياً على كل منها.
ومثل أي تظاهرة ترتكز على كشف وثائق أصلية، يخضع المعرض الحالي لسلسلة إكراهاتٍ أوّلها حصر خيار المواضيع والنصوص المقاربة بتلك التي يمكن إبرازها مادّياً. فعلى سبيل المثال، كيف يمكن مقاربة تأثير الفيلسوف نيتشه على شار في غياب نصٍّ مكتوب أو بدون توفّر كتاب يحمل في هامشه ملاحظاتٍ للشاعر حول هذه المسألة؟ ولسد هذه الثغرة، اعتمد منظمو المعرض على مقابلاتٍ وأحاديث، قديمة أو أجريت حديثاً للمناسبة، مع بعض المقرّبين من شار ساهمت أيضاً في تحديد أو تصحيح معطياتٍ كثيرة تتعلق بسيرته، وسمحت في اكتشاف مشاريع مهمة كثيرة وضعها الشاعر ولم يتمكّن من إنجازها لسببٍ أو لآخر، وفي تقييمٍ أفضل للعلاقات التي ربطته بشعراء ومفكرين وفنانين كثر، وبالتالي للدور الذي لعبه هؤلاء في بلورة شخصيته الفريدة.

ومن بين المراحل المهمة في حياة شار التي يتوقف عندها المعرض بشكلٍ خاص: طفولته في مقاطعة "فوكلوز" الفرنسية، في ظل والدٍ مميز ولامع غادر الحياة بسرعة تاركاً ابنه يترعرع في محيطٍ يطغى عليه العنصر النسائي، مما يشرح ولع الشاعر اللاحق بالمرأة؛ مرحلة انخراطه في الحركة السرّيالية (1929 ـ 1935) التي شارك خلالها في نشاطاتٍ جماعية مختلفة ووقّع عشرات البيانات وساهم بنصوصٍ رائعة في مجلتي "الثورة السرّيالية" و"السريالية في خدمة الثورة"؛ مرحلة انخراطه في المقاومة الفرنسية برتبة نقيب، أثناء الاحتلال النازي، التي أوحت إليه بأحد أفضل كتبه، "أوراق مغناطيسية"؛ ومرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية التي شهدت إنجازاتٍ كثيرة، ليس فقط على المستوى الشعري، استمد شار طاقتها من قصة حبه مع إيفون زيرفوس، مديرة مجلة "دفاتر الفن" الشهيرة التي صرفت أموالاً باهظة على مشاريعه السينمائية وساعدته في تحقيق فيلم "شمس المياه" الذي يتناول فترة المقاومة السرّية في الجنوب الفرنسي. لكن عدم نجاح هذا الفيلم دفع الشاعر إلى تحويل سيناريواته السينمائية إلى نصوصٍ مسرحية ضم بعضها إلى كتاب "صباحيون".

ولأن شار أحب قبل إيفون وبعدها نساءً عديدات، يستحضر المعرض مسلسل علاقاته الغرامية الطويل بهدف استخلاص التأثيرات التي خلّفتها كل واحدة من النساء على عمله الشعري. أما الفنانون الذين بقوا طوال حياته "حلفاءه الأساسيين" فنجدهم أيضاً حاضرين بقوة في صالات المعرض من خلال الرسوم التي زيّنوا بها دواوينه وقصائده أو من خلال أعمال فنية أخرى أحبها الشاعر. ونذكر منهم: جورج براك وخوان ميرو وبيكاسو وفيكتور براونر وكاندينسكي وفالنتين هوغو ومان راي...

ولم ينس منظمو المعرض تخصيص فسحة مهمة داخله للأشخاص الذين حافظ شار على "حوارٍ مطلق" معهم، من بول إيلوار وأندريه بروتون وصولاً إلى الفيلسوف مارتن هايدغر الذي زاره ثلاث مرات في دارته، مروراً بجورج باتاي وألبر كامو وبيار بوليز وخصوصاً الشاعرَين جيلبر ليلي وموريس بلانشار اللذين كانا بمثابة أخوين له، استشارهما الشاعر في أمور كثيرة واستمع إلى نصائحهما، خاصة لدى انجازه ديوان "وحدهم يبقون"...

علاقاتٌ غزيرة وعميقة إذاً تغذت منها أعمال شار الشعرية بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، وقال في سياقها: "فقط شبيهي، الرفيقة أو الرفيق، قادرٌ على إيقاظي من كبوتي وعلى إثارة الشعر (داخلي)". المفارقة المثيرة التي تتجلى لنا لدى زيارة هذا المعرض هي أنه بقدر ما تتوفر لنا معرفة معمّقة للشاعر، تتجلى أمامنا تعقيداته وتناقضاته، وبالتالي جاذبيته.

المستقبل - الاثنين 11 حزيران 2007