تشارلز سيميك
Charles Simic

أحمد الشافعي

Charles Simic كلب يحاول أن يخط قصيدة عن سر نباحه،
هذا أنا يا قارئي العزيز!
وحينما حاولوا أن يركلوني من المكتبة
حذرتهم بأن لي مولى خفيا وقويا
وبرغم ذلك ظلوا يسحلوني على الأرض من ذنبي.

هكذا كتب الشاعر الأمريكي يوغسلافي الأصل تشارلز سيميك في أحدث دواوينه، ثم حدث أن غيرت المكتبة رأيها، ورأت أن تجعل من سيميك أميرا للشعراء الأمريكيين.
في الثاني من أغسطس لعام 2007 كتبت اثنتان من كبريات الصحف الأمريكية هما نيويورك تايمز وواشنطن بوست تزفان إلى عشاق الشعر في الولايات المتحدة، وعشاق تشارلز سيميك ـ أين يكونون ـ خبر تكريمه بأرفع ما يمكن لأمريكا أن تكرم به أحد شعرائها: إمارةِ الشعر الأمريكي. كتبت نيويورك تايمز عنوانا يقول: «تشارلز سيميك السوريالي السوداوي أميرا للشعراء»، فيما احتاجت واشنطن بوست إلى عنوانين: الرئيسي منهما هو «شاعر الشعب» ـ لا أعرف كيف قرأ سيميك هذا العنوان ـ أما العنوان الفرعي فيقول "شارلز سيميك أميرا للشعراء". ربما تبدو صيغة «أمير الشعراء» عربية أكثر مما ينبغي للقب أمريكي، ولكن الترجمة الحرفية أو القاموسية لا تبتعد كثيرا عن هذه الترجمة التي نؤثرها. فالترجمة الحرفية هي «الشاعر المتوَّج» وهو شيء يوحي بجلال الملك والإمارة. ثم إن اللقب نفسه مأخوذ عن تقليد بريطاني يُمنح بموجبه هذا اللقب لشاعر يصبح «شاعر البلاط الملكي»، هكذا كان تيد هيوز وفيليب لاركن وهكذا هو آندرو موشن اليوم، ونسبة الشاعر إلى البلاط الملكي أيضا متضمنة في «صيغة «أمير الشعراء» التي نؤثرها.

أمير الشعراء الأمريكيين لقب تخلعه مكتبة الكونجرس الأمريكية على شاعر تختاره ليكون مستشارا شعريا لها، ولا تطالبه بأي شيء ـ باستثناء أمسيتين شعريتين ـ في مقابل خمسة وثلاثين ألف دولار يحصل عليها على مدار عام ولايته القابل للتجديد. ومع أن لقب أمير الشعراء هذا لم يظهر إلا في عام 1987 أي منذ خمسة عشر عاما فقط، إلا أن وظيفة المستشار الشعري لمكتبة الكونجرس أسبق من ذلك بكثير، إذ إن هناك سبعة وعشرين مستشارا شعريا للمكتبة قبل استحداث هذا اللقب. ومع أنه لا تكاد توجد تكليفات لأمير الشعراء، إلا أن العرف جرى على أن يختار أمراء الشعراء مشاريع يتبنونها لترويج الشعر ودعمه في أمريكا. هكذا فعل بيلي كولينز في مشروعه «شعر 180» الذي لا يزال مستمرا بعد سنوات من انتهاء ولاية كولينز حيث لا يزال بوسع الطلبة الأمريكيين أن يطالعوا في موقع على الإنترنت قصيدة أمريكية معاصرة في صباح كل يوم دراسي، وهكذا فعل تد كوزر في مشروعه «الحياة الأمريكية شعرا» وهو أيضا مشروع مستمر إلى الآن، يقدم في عشرات الصحف الأمريكية عمودا أسبوعيا يحتوي قصيدة أمريكية المضمون لأحد الشعراء الأمريكيين مع قراءة موجزة من كوزر. وهكذا فعل في العام الماضي دونالد هول إذ نظم بالتعاون مع أمير شعراء بريطانيا آمدرو موشن سلسلة من الأمسيات الشعرية العابرة للأطلنطي. وهكذا فعل كثيرون من أمراء الشعر الأمريكيين الذين اختاروا من المشاريع ما رأوا فيه المقدرة على توسيع جزيرة الشعر ووصلها بالعالم المحيط. وأخيرا سيميك. الذي كتبت إليه أهنئه وأسأله عن المشروع الذي يتبناه فأجاب قائلا: سألزم البيت وأكتب قصائد». ومع أني ضحكت أول الأمر، إلا أنني تبينت أن هذا المشروع هو أكثر ما ينبغي أن نتوقعه حينما يتقلد إمارة الشعر، شاعر.


يبلغ تشارلز سيميك من العمر تسعة وستين عاما، ولد في بلجراد بيوغسلافيا عام ،1938 وهاجر إلى الولايات المتحدة مع أسرته وهو في السادسة عشرة من عمره، وبدأ كتابة الشعر بالإنجليزية بعد سنوات قليلة من إتقانه للغة. يقول سيميك: بدأت كتابة الشعر حين لاحظت أن أحد أصحابي في المدرسة الثانوية يجتذب أحلى البنات بكتابته قصائد عاطفية. ويقول أيضا: حين بدأت كتابة الشعر كانت الفتيات اللاتي أردت أن أريهن قصائدي أمريكيات. وذهلت لأنه لم يكن من الممكن قط أن أكتب بلغتي الأصلية. بهذه البساطة يتعامل سيميك مع حالة قد ترقى إلى مستوى العجائب. صحيح أن اللغة الإنجليزية قد أنتجت أدبا على أيدي أدباء لم تكن ـ أي الإنجليزية ـ لغتهم الأم، إلا أن ذلك الأدب كان في الأغلب روايات وقصصا كما هو الحال عند نابوكوف وكونراد على سبيل المثال، أما أن تصبح اللغة شعرا على يد شاعر لم ينشأ على هذه اللغة، ولم تهدهده أمه بها، ولم ينطق بها في أحلامه، فتلك حالة نادرة. ولكن سيميك لا يتوقف كثيرا ليحاول تفسير هذه الحالة، إذ إنه فيما يبدو كان أكثر انشغالا بإنتاج أكثر من عشرين ديوانا، وأكثر من أربعين كتابا منها ما هو نقدي ومنها ما هو سِيَرِي ومنها ترجمات لشعراء من أوروبا الشرقية لعل أبرزهم هو فاسكو بوبا الذي ترجم سعدي يوسف بعضا قليلا من شعره القابل للترجمة. كما كان سيميك مشغولا أيضا بكتابة تلك المقالات البديعة التي تظهر بين الحين والآخر في ملحق نيويورك تايمز لعروض الكتب، وهي المقالات التي يقدم من خلالها سيميك شعراء وكتابا واتجاهات في الكتابة والفن والفلسفة برؤى طازجة تمنح لكل هؤلاء حياة جديدة. هكذا فعل سيميك مؤخرا مع إليزابث بيشوب، ومن قبلها مع الدادية، ومع جمبروفيتش، بل ومع أقرانه وأبناء جيله مثل بيلي كولينز وجيمس تايت وراسل إدسن. وفي كل ذلك ينطلق سيميك بدافع من حب حقيقي لا يصدر إلا عن روح كبيرة. وليس أدل على ذلك من قوله في ابن جيله الشاعر الفذ المهمش راسل إدسن: لو جاز لليوتوبيا أن تتحقق، فلن يكون أمير شعرائها إلا راسل إدسن.


في البيان الذي أعلن به أمين مكتبة الكونجرس تنصيب سيميك أميرا للشعراء، قال إنه «من الصعب للغاية وصف سيميك، وتلك ميزة كبرى». ولكن سيميك أعفاه من هذه المهمة فوصف نفسه لنيويورك تايمز مؤخرا بقوله «أنا شاعر مدينة، فلقد عشت عمري كله في المدن، اللهم إلا في السنوات الخمس والثلاثين الأخيرة!». أي منذ تولى منصبه الأكاديمي وبدأ تدريس الإنجليزية في عدد من الجامعات الأمريكية، أما قبل ذلك فقد عمل بائعا للكتب، والقمصان، وأمينا لمكتبة، وكان في الأساس يريد أن يحترف الرسم إلى أن أدرك أنه "ليس موهوبا في ذلك". يقول سيميك إن شاغله الشعري الرئيسي هو التاريخ. "أنا أقرب إلى منتج من منتجات التاريخ. هتلر وستالين هما وكيلا سفرياتي، ولولا وجودهما ربما كنت قضيت طول عمري مقيما في الشارع نفسه الذي ولدت فيه".


وعندما سألته نيويورك تايمز عن دور الشعر في الثقافة سخر من السؤال قائلا «إن هذا السؤال يذكرني كثيرا بشباب الشيوعيين حينما كانوا في مؤتمر كبير للحزب يتساءلون عن دور الكاتب». ولو طالعت محررة نيويورك تايمز كتاب سيميك «العراف العاطل» لعرفت أنه "بالشعر وحده، يمكن الإنصات لعزلة الإنسان في تاريخ الإنسانية كله، وإن كل شعراء التاريخ ـ بهذا المعنى ـ معاصرون".


ربما لم يبق لدى أمريكا اليوم ما تعطيه لسيميك الذي أعطاها الكثير من الشعر. فقد حصل من قبل على عدد كبير من الجوائز سواء كشاعر أو كمترجم، ولعل أهم هذه الجوائز هي جائزة بوليتزر عام 1990 عن ديوانه «العالم لا ينتهي» والذي ترجمه كاتب هذه السطور ونشر أغلبه في عدد حديث من مجلة نزوى، وهو الديوان الذي حظي بترجمة أخرى إلى العربية قدمها الشاعر الأردني تحسين الخطيب في مجلة الكرمل، كما حظيت بعض قصائده بترجمة من الناقد السوري صبحي حديدي. ومن هذا الديوان، ومن ترجمة كاتب هذه السطور نقدم هنا مختارات من قصائد سيميك النثرية، احتفاء منا بشاعر ومثقف ومترجم وناقد جدير بأن نحتفي به وبأن نعرفه.

النهر ينسى أحياناً ويجري إلى الوراء

1

بلغنا من الفقر أني اضطررت إلى أخذ موضع الطُعم في مصيدة الفئران. ووحدي في القبو، كنت أسمع أصواتهم وهم يذرعون الطابق الأعلى، ويتحركون في أسرَّتهم ويتقلبون. قال لي الفأر وهو يقرض أذني «يا لها من أيام شر عصيبة». ومرت سنون. ولبست أمي معطفًا ياقته مكسوةٌ بفراء قطةٍ ظلت تتحسسها إلى أن أضاء شررها القبو.

2

أنا آخر الجنود النابليونيين، بعد قرابة مائتي عام لا أزال أنسحب من موسكو. وعلى جانبيْ الطريق شجر بتولا أبيض ووحلٌ إلى ركبتيَّ. تريد المرأة العوراء أن تبيعني دجاجة، وليس على جسمي قطعة من ثياب. يسلك الألمان طريقا وأنا آخرَ. والروس يسلكون ثالثا ويلوحون مودعين. معي حسامٌ للمناسبات. أقص به شعري الذي يبلغ طوله الآن أربعة أقدام.

3

حواديت الأشباح مكتوبة مثل المعادلات الجبرية. إميلي الصغيرة مرعوبة أمام السبورة. تبدو حروف الـ ظ كأنها جبَّانة في الليل الدامس. والمعلم يريدها أن تمرَّ بينها بقطعة الطباشير. حبس الأطفال جميعًا أنفاسهم. أصدرت الطباشيرة البيضاء صريرًا وحيدًا بين علامتي الزائد والناقص، ثم ساد السكون من جديد.

4

الصخرة مرآةٌ لا تعمل بكفاءة. لا شيء فيها سوى الغشاوة. غشاوتك أم غشاوتها، من يدري؟ في الصمت يكون لقلبك صوت صرصور أسود.

5

يخطو الميت نازلا من على المقصلة. يحمل تحت ذراعه رأسَه الذبيح.
شجر التفاح مزهر. والميت يشق طريقه إلى حانة القرية والجميع يشاهدون. هنالك يسحب كرسيًا ويجلس جنب منضدة ويطلب زجاجتي جعة، واحدةً له وواحدةً لرأسه. تمسح أمى يديها في المريلة وتقوم على خدمته. ما أشد الهدوء في العالم. يمكن للمرء أن يسمع النهر، الذي أحيانا ما ينسى في غمرة ارتباكه، ويجرى إلى الوراء.

6

هذا زمان الشعراء الصغار مقبلٌ. مع السلامة يا ويتمان، ويا ديكنسن، ويا فروست. ومرحبا بكم يا من لن تتردد أسماؤكم خارج نطاق أسركم الصغيرة، اللهم إلا إذا تجاوزته إلى واحد أو اثنين من أقرب الأصدقاء الذين يتجمعون بعد العشاء على إبريق نبيذ أحمر قوي... بينما الأولاد ينعسون متذمرين من الضوضاء التي تحدثها وأنت تنبش في الخزانات باحثا عن قصائدك القديمة، خائفا أن تكون زوجتك رمتها مع مخلفات الربيع الماضي.
الجليد يسقط، هكذا يقول واحدٌ حانت منه نظرة إلى الليل المعتم، ثم يلتفت هو الآخر إليك وأنت تتهيأ كي تقرأ بطريقة شبه مسرحية، وبوجه آخذٍ في الاحمرار، مطوَّلَتك الغرامية التي لا تعرف أن آخر مقطع فيها، ضائعٌ، ولا أمل في العثور عليه.

عُمان (ملحق شرفات)
22/08/2007