أعد الملف وجمعه: جوان تتر

عماد أبو صالحالملف الذي ننشره هنا اقترحه وأعد مادته وجمعها الشاعر (جوان تتر)، وتنشره (سين) هنا كملف يتيح الاطلاع على بعض القراءات التي تناولت هذا الشاعر الذي ظل يتابع إصدارات كتبه الشعرية ذات الطبعات المحدودة بينما زلازله الشعرية المتوالية تعمل على إضافات جديدة لهندسة العالم. وإضافة إلى أن (سين) سبق وأن نشرت عدداً من دواورينه؛ يحتوي الملف على مختارات شعرية ل( عماد أبو صالح) .

الشِّعرُ في رأيٍ عجول هندسةٌ غيرُ جديرة بتنظيم العالم

*مقداد خليل

إذا تحدَّثَ عماد عن نفسه قالَ : ما لهذا الشاب النبيه من الريف قد أنهكَ حياتَه , راصداً نفسَه عبر رصده سواه ؟
بسيلِ العواطف كان ( كازانتزاكيس ) يكتبُ عن أحبَّته , ولكنَّ ذا لا يتحقّقُ الآن غالباً .
الامتزاجُ الشَّرهُ والرعديدُ بين العناصر , وهو على أشدِّ انتشارٍ يفسدُ ألوانَ كلِّ شيء . لاتُوهَبُ في هذا الخليط المعكَّر سوى تأمُّلٍ قاصرٍ مشوب .
يسعى عماد , أو يأمل في الإبقاء على مزقٍ من نصاعة الوجود عزلاء حيَّةً مثلما هي , فينادي بها : أنت حيَّةٌ . لتدركَ ما يتطلَّبُ من مشاقٍّ يتقدَّمُها الخلود , ويرجو أن يستردَّ ما غمرهُ الفوات .فما بغضهُ مقرَّبيه إلاَّ لضعفهم وعجزهم عن الثبات أبداً في وجودٍ ثابت .
لا يصمتُ , لا يسكتُ , فالسكوتُ نوعُ الموت . والموتُ مثمرٌ . شجرةٌ لا تنضبُ , ( كافافيس وإخوته يكتملُ نُضجُهم إلى ما لانهاية ) .
يقتربُ عماد حين يلمسُ طاقةَ المواجهة في محيطه السَّاذج , وينأى إذ يقتصرُ محيطُهُ على السَّذاجة دونما بريق .
بمحبَّةٍ وألمٍ ينتمي لعائلةٍ جديدةٍ منتظَمةٍ بالأشعار , حيثُ لا عبارةَ تصدُرُ بغير أن توسِّعَ العالم , والافتراقُ قاسٍ , هذه الجراحةُ الذّاتيَّة المميتة .
( الشاعر مهندسُ العالم ) تسليةٌ تراجيديَّةٌ . تمرينٌ على معايشة المبدعين الذين قضى معظمُهم في غربه , باستراتيجيَّةٍ مستَحدَثة نسبيَّاً . تمرينٌ لنا كي نبتَكِرَ ذواتنا
ونَخترقَ الصَّرامةَ , بل الكسلَ والكتامة .
قصائدُ تصنعُ ماتريدُ من فرط المكبوت جُلُّها , إنَّما قليلُها لا يستكملُ جرأةَ أسلوبيَّةَ الدِّيوان , بعدَم إنضاج الحياديَّة الضَّروريَّة , وبسريان الحسِّ المثالي في أوردتها , كقصيدَتي ( الشاعر مهندس العالم و أمّي كاتبةُ قصَّة ) وبعضها باستعجالِ الصُّنع وارتباكه كقصيدة ( أبي هو الآخر فنَّانٌ كبير ) حيثُ المقابلَةُ غيرُ الموفَّقة ما بين ألوان قوس قزح وآثار خيزرانة الأب في جسم الأم .
الشِّعرُ في رأيٍ عجول هندسةٌ غيرُ جديرة بتنظيم العالم .
في الغالب هو وبالٌ يستنهضُ الأشباحَ . أشباحَ الانتقام من اللاَّكمال .

* شاعر سوري

ما يفعل شاعر أدرك أنه يعيش بعد رامبو؟

بلال خبيز*

تجربة عماد أبو صالح الشعرية تضعه على حدة بين رفاق جيله، وعلى الساحة الشعرية العربية. فالشاعر المصري الذي أصدر حتى الآن مجموعات عدة على نفقة المؤلف وفي نسخ محدودة، يبحث عن نقاط ارتكاز جديدة تعيد الصلة بين القصيدة والعالم وتطرح إشكالات جمالية وفكرية، إنسانية ووجودية، تتجاوز سؤال موت الشاعر. متجنباً التكرار البليد ومحافظاً على خيوط واهية تربطه بالعالم، يكتب أبو صالح شعره الحافل بالثورات والزنازين والرائين.
يسلك عماد أبو صالح في مجموعته الجديدة (قبور واسعة) شعباً ضيقا وهو يعبر بالشعر إلى النور. إذ يبدو الشعر، بحسب ما يقول، سلطاناً مقتولاً، يسمع صدى صرخته من حين لآخر وهو ينادي (مملكتي.. مملكتي). كأنه يريد وضع القارئ – القارئ الميت بحسب إجابات عدد من الشعراء على استفتاء (الوسط) حول موت الشعر (راجع العدد 405) في موقع القارئ الحكم القادر على التسامح والمغفرة، بدعوى صعوبة إحياء الرميم التي تتبدي منذ القصيدة الأولي. والأرجح ان أبو صالح يذهب إلى تصديق مقولة (موت الشعر) على ما جاء السؤال الذي يتكرر كل وقت، وهو يكتب في الوقت الضائع بين لحظة الفقد وإيجاد الجثة بعد حين. لهذا لن يتواني عن جعل شعره يخوض في كل ما يتجنبه الشعراء اليوم من أساطير الأولين إلى ملوك الحكايات فالثورات والقتل والموت . وهذه مواضيع ومفاهيم درج الشعر (الحديث) على تجنب الخوض فيها.
لكن هذا الشاعر المصري الذي سبق له أن أصدر مجموعات عدة علي نفقته، في نسخ محدودة: (أمور منتهية أصلا) (1995)، (كلب ينبح ليقتل الوقت) (1996)، (عجوز تؤلمه الضحكات) (1997)، (أنا خائف) (1998)، يعي أن الخوض في ما هو راهن ومعاصر شعرياً، خوض ساذج ولا يجدي في أمر قيامة الشعر وبعثه من رماده. فالشعر يموت، لأنه فقد القدرة على تفسير العالم والانبهار به ، ولأنه من جهة ثانية مشدود إلى تاريخه اللغوي والصوري بحبال وثيقة لا فكاك منها. وعليه فلن ينجح الشعر في استيلاد وظيفة له. تشبه الوظيفة التي كان يملكها منذ زمن بعيد وهذه حال عدد لا بأس به من أنواع الفنون في العصر الحديث. حيث لم يعد الرسم، يستطيع ان يصور ملكيات النبلاء، أو مداخن المصانع، أو بحيرة مونيه، مثلما فعل اندي وارهول في محاولة أخيرة لإعادة الرسم إلي هذا الحقل الدلالي بالذات.
يتنكب أبو صالح، إذا، ارث الشعر ولا يتنكر له، لكنه أيضا يدرك في ما يبدو، ان القصيدة، إذا لم تكن تكراراً بليداً للعالم والأشياء والكائنات، فإنها تقصيه أو تغامر بإقصائه. والتكرار البليد بهذا المعنى يشبه ان تتخذ وكالة سفريات، من اسم كولومبس شعاراً لها. في حين انه لو قيض لكريستوف كولومبس ان يعود اليوم، لما كان في وسع أميرال البحرية البرتغالية التي كانت سيدة البحار آنذاك، أن يحصل وظيفة بحار مبتدئ علي متن إحدى السفن الحديثة. لكن اسم كولومبس، كاسم بيكاسو، والمتنبي، هو بالضبط، ما يجعل النشاط اليومي والراهن متصلا بالأسطورة والتاريخ، بسلك واه من تشعبات الذاكرة.
ما الذي يفعله شاعر، والحال هذه، حين يدرك انه يعيش بعد رامبو، بعد الاحتقار المر الذي رمى به الشعر، (يقال انه تاجر بالعبيد). الحل الأمثل، من دون ريب، يكمن في التوقف عن الكتابة، والانصراف إلي شؤون أخرى أقل صخباً.
متجنباً التكرار البليد، ومحافظاً على خيوط واهية في الصلة بالعالم، يكتب أبو صالح شعره لهذا لا لزوم لأن نتعجب من تكاثر الثورات والزنازين والرائين في نصه. فلهذه الأدوات وظيفتان، علي الأقل، الوظيفة الأولى تتعلق باستمرار هذا العالم، إذ تحيل علي الصحاري الشاسعة، والعروش المستبدة، والخيول التي تجوب السهوب شرقاً وغرباً، وتنشر رهبتها وسلطانها في كل مكان. والثورات والزنازين والجرائم والمعاقبات، كلها أدوات لمحو الألوان الغبراء ونفض الغبار عن الصورة المجلوة. إذ ما أن يسجن المرء، أكان مظلوماً أم ظالماً، أكان برئياً من تهمته أم كان مستحقا لسجنه، حتى يغدو بلا حول جسداً وروحاً، تمارس عليه كل أشكال القهر والكبت والحرمان. وما ان تشتعل الثورات، حتى يبدو العالم عابقاً بالدم والرؤوس المدلاة من المشانق أو المخروزة الأعناق. ومثل ذلك حديث الموت أيضاً. فبعد ظلم فعل القتل، يصير المقتول ميتاً، حيث لا فارق جوهرياً بين المقتول بالرصاص أو الحروق بالنار أو المصدوم بسيارة مسرعة.
وخلاصة القول، ان هذه الأدوات تحيل، في ما تحيل إليه إلى قتل وموت وتعذيب يتكرر كل مرة وليس في تكراره ما يجعله قابلاً لأن يندرج في علوم الرياضيات والحساب. وأغلب الظن، ان استحضار الأسياد، ليس الا اعتراضاً علي هذا التكرار، إذ (التفاصيل زائلة/ ما يبقى هو ان شخصا ما/ سيعاقب بطريقة ما/ لأنه اتهم بفعل شيء ما) (ص 64).

يحضر الأسياد والعرافون في النص للقول، وفق طرق ملتوية، ان لا شيء تغير، وتالياً لا شيء يستوجب إقفال باب الشعر. هذا في بادئ أمر حضورهم، لكن حضورهم يعني، مثلما يخيل الي، اختصاراً لكلام كثير، ومقالات تدبج هنا وهناك، وأبحاثاً عن مستوى الدخل في البلدان النامية، وتحقيقات عن جوع أطفال العراق. انه حضور يشبه حضورهم في روايات الأطفال، من ملك يمثل السلطة، وأميرة جميلة وطيبة، وشريرين وأخيار، فهل هذا ضرب من الأقنعة التي لا عمق لها؟
في الوظيفة الثانية يبدو الأمر اشد التباساً. إذ يحضر هؤلاء بسبب من جلالة ما يحدثونه ويأتونه. وهذه جلالة معاصرة فما زال التعذيب والفقر مزهق الأرواح والدماء البشرية، تملك، جميعاً ومعاً، قدرة علي الإثارة، وسبباً للتدوين، واستحضار اللغة (وربما كل اللغات والفنون). لذا فإن هذا الحضور يشبه لجهة الإصرار عليه، مبرراً للكتابة، لكنه مبرر سرعان ما ينكشف برانياً غير عضوي. بمعني ان هذا الحضور شكلي، فما يؤول اليه الشعر (شعر أبو صالح) لا يفترض حضورا مماثلاً، الا بقدر ما تميل لافتة تحمل اسم كولومبس إلى السفر والبحار بعد ذلك،ثمة المحركات النفاثة والرادارات الحديثة والملاحين الأكفاء، وأيضاً المسافرين المطمئنين. على مثل هذا الضرب من الإعلان الذي يستحضر أساطير الشعر- بعضها علي الأقل- يسع أبو صالح ان يكتب عن فمه (الذي لكمه أبي وأمي والمدرسون والأطفال ،الذي مل من الأكل والبصق والضحكات، الذي لم يقبّل امرأة، في تاريخه، أبدا، الذي حين ينطق كلمة، تجيء في غير موضعها) (ص 72). وهذا الخطاب بالضبط، يحاول مثلما يبدو ان يرتق فتقاً بين الشعر والعيش، تاريخ مختصر من الإشارات يبقي الشعر أسيراً في دائرة تاريخه، منذ أن استقام فناً خالصاً ويمكن تفريقه عن الفنون الاخرى إلى ان ضاعت مواضيعه وتشتتت قضاياه. وإلا كيف يمكن لرجل ضئيل (يرج صوته وتتخ عيناه) على ما يصف عباس بيضون نفسه، ان يكتب كلاماً ونسميه (الشعر). الشعر مع أل التعريف الذي نجزع لموته أو احتضاره، ونحمل مسؤولية الموت إلى بعضنا وندعي ان الموت حدث جلل، ليس كمثله حدث.
بين هذين الحدين، يكتب أبو صالح عن التراب والحرية والثورة والحب والقتل، والخطوة الأولى أيضا. يكتب، وجل همه ان يسلك، في خيط رفيع، أسلوب حياة، أوسع وأعم من الأحداث والأحوال التي نعيشها يومياً. فالثورات. كل الثورات متشابهة (كأن المشهد هو نفسه/ كأن الزمن لم يمر) (ص 22). ويسعنا الآن، ونحن ننظر الي الثورة التي يتحدث عنها أبو صالح. أن نصرخ مثلما صرخت حبيبة القتيل حين (تدخلت في اللحظة المناسبة/ وعرزت فيه سكيني/ هو لم يصرخ/ لكنني سمعت صرختها) (ص 44).
فالقتل ليس تعذيباً للقتيل، انه تعذيب للأحياء، تماما مثلما كان المنتصرون يرفعون رؤوس أعدائهم على أسنة الرماح، أو مثلما قالت أسماء بنت أبي بكر، لابنها عبد الله بن الزبير، حين قال لها: قالوا: خذ ما شئت، ولكن، ما قولك؟ - أنت الأدري، ان كنت محقاً لا تتراجع، أصحابك ماتوا طلباً للحق... – أخاف المثلة،... – شاة ذبحت، لا يؤلمها سلخ). فالمثلة تؤلم الاحياء، الاحياء (الذين ذبحوا بعضهم لأجله. هو مسحوق جماجم... يقولون: (نحن نحرره /ليبرروا حبهم لشرب الدم/ (ص 57 – 58). لكن الموتى لا يتألمون فـ (القتيل والقاتل/ نائمان/ جنبا إلي جنب/... بمرور الزمن... ينتقل قلب احدهما/ مكان قبل الآخر/ أو ربما يختلطان/ وينبتان وردة واحدة) (ص 60).

* شاعر لبناني

(كلب ينبح ليقتل الوقت) وقصيدة الإيقاع الحر

صبرى حافظ

كانت نتيجة معظم استفتاءات نهاية العام أن ديوان الشاعر التسعيني الشاب عماد أبو صالح (كلب ينبح ليقتل الوقت) من أبرز انجازات عام 1996 الشعرية. وهي نتيجة لابد من التوقف عندها قليلا بالرغم مما يحيط هذه الاستفتاءات الموسمية من شكوك، وبالرغم من تورط الكثير منها في لعبة المصالح والقوي المصنوعة لأن ديوان هذا الشاعر الشاب جديد كلية على الذوق الشعري السائد، فكيف استطاع هذا الشاعر الجديد ان يستأثر بالذوق العام، وأن يفرض نفسه عليه؟ وما هو السر في أن هذا الديوان الجديد استطاع ان ينجح فيما أخفقت فيه أعمال أخرى لشعراء عديدين ينتجهون منهجه الشعري نفسه؟ ولماذا تحول الذوق الشعري العام إلى هذه القصيدة الجديدة؟
تحتاج هذه التساؤلات إلى إجابة شافية، خاصة وأن الديوان الآخر الذي استأثر معه بمعظم أصوات تلك الاستفتاءات الموسمية وهو ديوان محمد صالح (صيد الفراشات) ينتمي هو الآخر إلى هذا الشعر الجديد. فإذا أضفنا إلى هذا كله أن الديوانين اللذين حظيا بإجماع استفتاءات العام الأسبق، وهما ديوانا إيمان مرسال وفاطمة قنديل، كانا من النوع نفسه من الشعر أصبح من الضروري أن نتوقف عند هذه الظاهرة الجديدة التي أود دعوتها بظاهرة قصيدة الإيقاع الحر، أو الشعر غير العروضي. ولا سبيل إلي الإجابة علي هذه التساؤلات الا من خلال التوقف عند النماذج الشعرية ذاتها. وكما فعلت مع إيمان مرسال وفاطمة قنديل في العام الماضي، فإنني سأتناول هنا ديوان عماد أبو صالح الجديد، ثم أتناول بعده ديوان محمد صالح (صيد الفراشات) لأصطحب القارئ معي في رحلة مع قصائد الديوانين يتعرف فيها على منهجهما في الإبداع الشعري، ويضع يده من خلال هذا التعرف على أسباب التحول في الذائقة الشعرية.
وعماد أبو صالح شاعر تسعيني جديد بكل معنى الكلمة. أصدر في العام الماضي ديوانه الأول (أمور منتهية أصلا) 1995 فلفت الأنظار إلى موهبته الأصلية وشاعريته الجديدة، وصوره المتميزة ومنهجه الفريد في المعالجة الشعرية. وها هو يصدر ديوانه الثاني (كلب ينبح ليقتل الوقت) عام 1996 فيؤكد به جدارته الشعرية ويرسخ أقدامه في ساحة الشعر التسعيني الجديد.

والواقع أن عماد أبو صالح ليس شاعرا تسعينيا بالعمر والممارسة الشعرية وحدهما، ولكنه شاعر تسعيني بالمزاج والمنطلق الشعريين كذلك. فهو شاعر يكتب شعرا فصيحا غير عروضي، شعر الإيقاع الحر، أو ما اصطلح خطأ على تسميته بقصيدة النثر، كمعظم شعراء التسعينات، لا في مصر وحدها، وإنما في سائر أقطار الوطن العربي. وهو شاعر يطرح عن عالمه كل القضايا الكبيرة، والمواقف المسبقة، والانفعالات الزاعقة، والبلاغة التقليدية القديمة والتطريب الغنائي، وكل جماليات القصيدة العروضية الحديثة، ويستبدل بها شعر الحياة اليومية البسيطة بجزئياتها المتناهية الصغر، ومفارقاتها الساخرة، وصبواتها المعربدة النزقة فهو شعر الكشف عما تنطوي عليه هذه الحياة البسيطة من حيوية وثراء، وارتياد أصقاع شعرية جديدة على صعيدي المعنى والمبنى معا في محاولة مستمرة للبحث عن شعر تسعيني مغاير للشعر السائد والمألوف. فهو شعر يتمرد بوعي مرهف على عمود الشعر، لا عمود الشعر العربي القديم وحده، كما فعل أسلافه الأقربون، وإنما على عمود شعر التفعيلة الحديث كذلك الذي تكلس هو الآخر وتصلبت شرايينه، وتكررت محفوظاته الشكلية والمنطقية والمضمونية، حتى أصبح له عموده الراسخ، مما استوجب الثورة عليه.

أركيولوجيا الذاكرة الفردية

وهو شعر يعي انه يؤسس عالمه فوق أنقاض عالم متداع، ويحرص على أن يؤسسه على قواعد صلبة، وبعيدا بقدر الإمكان عن كل أنقاض العالم القديم ولذلك فهو ليس شعر تقويض العالم القديم، والصور القديمة، والقيم القديمة، وحتى البنى الشعرية القديمة كما كانت الحال في شعر السبعينات، فليس همه أن يقوض هذا القديم، لأنه يعي تداعيه من تلقاء نفسه، وإنما شاغله الرئيسي هو تأسيس جديده، وبلورة ملامح الجدة فيه بشل واضح ولكن هذا الوعي اللامبالي بالقديم لا يرهن علاقته بالماضي في الحاضر، وبمدى قدرة هذا الحاضر على تجاوز هذه الترسبات والتخلص من قبضتها. ومن هذه الناحية فهو أكثر المغامرات الشعرية المتعاقبة على الشعر العربي منذ الأربعينات وعيا بما يمكن تسميته بآليات النسيان التاريخي، وإهدار الذاكرة التاريخية. ويتجلى هذا الوعي، لا في اهتمامه بالقضايا الكبرى، وإنما بتجنبها كلية، والحفر بدلا من ذلك في أركيولوجيا الذاكرة الفردية، وفي طبقاتها المنسية.
وترتبط هذه الذاكرة الفردية عنده أول ما ترتبط بالريف المصري، فهو شاعر ذو نشأة ريفية كما يبدو لي من كل تجارب ديوانه الجديد ذلك، نشأ مثل عدد كبير من كتاب مصر في الريف، وشاله في طبقات وعيه الدفينة، و(شال منه) في آن كما نقول في التعبير الشعبي. ولهذا نجد أن علاقته بالريف، وهو أكثر من قرأت من الشعراء الجدد قدرة علي التعبير بعمق عن هذا الريف، علاقة إشكالية إلى حد كبير أقرب إلى علاقة الحب/ الكراهية وهي العلاقة التي لاتكون فيها الكراهية نقيض الحب، لأن نقيض الحب هي اللامبالاة وإنما تكون نوعا آخر من الحب، سلبيا في الظاهر، ولكنه أكثر حدة في أغلب الأحيان من الحب الخالص.
وديوان عماد أبو صالح الثاني (كلب ينبح ليقتل الوقت) هو ديوان هذه العلاقة الإشكالية بلا منازع وان كان الديوان السابق (أمور منتهية أصلا) قد دار حولها في القسم الأكبر من قصائده فان توزع قصائده بين هذا المحور وغيره من المحاور ساهم في تشتيت شاعريته، بينما عمل الديوان الثاني على تركيزها حول هذا المحور الجوهري، لكن الديوان الأول لا يقل أهمية عن الديوان الثاني. فقد قدم لنا شعر الحياة اليومية البسيطة بجزئياتها متناهية الصغر وقدمها بشعر ينطوي على قدر لا بأس به من الفكاهة الشفيفة (خفة الدم) الملحوظة ويعي في الوقت نفسه جدته. ولذلك فانه يدرب قارئه داخل القصائد الأولى من الديوان على قواعد تلقيه فيضع بعض التفاصيل الزائدة بين قوسين في القصائد الأولى تمهيدا لتلافيها كلية فيما بعد. وكأن الشعر يؤسس مبدأ الحذف و الإضمار بهذه الطريقة، فهو يسيج هذه الزوائد التعبيرية بين القوسين ثم يحذفها ليحقق بذلك هدفين في آن واحد أولهما أن لكل جملة تقريبا رديفها المحذوف، استطرادا أو تزيدا، وأن هذا الحذف ينهض على بنية المفارقة التي تكشف عنها الجمل المسيجة بين القوسين وتكشف لنا قصيدة (البريء) عن هذه الإستراتيجية النصية في قصائد الديوان الأولى. ولنقرأ معا أبياتها الأولى لنتعرف منها على وظائف هذه الإستراتيجية النصية.

لم أكن ابدا ولدا سيئا
لم أفقأ عيني كلب صغير.
ولم اسرق قلم ابن جارتنا.
(الأسود ذا السلسلة الصفراء)
ولم اقطف وردتهم
(مع أنني كنت ألمسها من شرفتنا)

في هذه الأبيات نلاحظ بداية ميل القصيدة لتبني منهج التعبير بالسلب أو بالغياب وهو من المناهج التعبيرية المفضلة في القصيدة الجديدة. فهو يعرف البراءة فيها لا بالأفعال الدالة عليها، وإنما بغياب الأفعال المناقضة لها. فهو لم يكن ولدا سيئا، ويدلل على ذلك بأنه لم يفقأ عين الكلب الصغير، وهي فيما يبدو التسلية المتاحة للفقراء في الريف. ولم يسرق قلم ابن جارته، ويضع بين قوسين وصفا له يشي بأنه كان قلما مغريا يحض على السرقة، ولكنه قاوم الإغراء فلم ينس تفاصيل هذا القلم الذي حرم من الحصول على مثله برغم مرور سنوات على الواقعة، ولم يكن أمامه الا السرقة لامتلاكه ومع ذلك قاوم هذه النزعة الشريرة. فهو ولد طيب كما سنعرف فيما بعد – كما قاوم من قبل فقأ عيون الكلاب الصغيرة.

التعبير بالسلب

ويواصل الشاعر منهج التعبير بالسلب، مؤكدا لنا أنه لم يقطف وردة الجيران، بالرغم من أن نفسه ساورته أكثر من مرة باقتطافها، وإلا فما معنى أنه يضع بين قوسين أنه كان يلمسها من شرفتهم، وما معنى هذا اللمس المتكرر إلا أنه همّ أكثر من مرة باقتطافها، ولكنه تراجع في اللحظات الأخيرة فيما يبدو، وها هو يذكر هذا كله، ويضع التفاصيل المؤكدة لانطواء الموقف على مفارقات مضمرة بين قوسين، وتستمر القصيدة بهذه الطريقة التي تكرر استخدام الأقواس بهذا المنهج، ومن وظائف الأقواس في هذه القصيدة كذلك حصار التعبيرات الكليشيهية، أو التنبيه إلى أن تسللها للقصيدة لم يكن في غفلة من الشاعر، بل بوعي منه بطبيعتها البلاغية التي يسارع بمحاصرتها، لأن الوعي اليقظ من أهم سمات هذا الشعر الجديد، ومن مبادئ تلقيه الأساسية في الآن نفسه. حيث يقول في القصيدة نفسها معددا تجليات براءته:

البائع نسي ثمن الحلوى
فذكرته به
(وأشياء كثيرة من هذا القبيل)
ثم ينهي القصيدة
إن الله يعلم ذلك تماما.

وهي نهاية أو عبارة مقحمة على القصيدة، وإن كانت تنهض بوظيفة يبدو أنها وظيفة أيديولوجية لا تتواءم مع طبيعة القصيدة الجديدة بأي حال من الأحوال، وهي ظاهرة تتكرر في أكثر من قصيدة من قصائد هذا الشاعر الموهوب بطريقة تؤكد أن الوعي الإيديولوجي اليميني هذه المرة، ولو كان مغايرا هنا للوعي الأيديولوجي اليساري الذي ساد في الشعر الستيني، يمكنه أن يفسد القصيدة الحداثية كما أفسدها سلفه، كما لا تتواءم هذه الإقحامة الأيدلوجية مع طبيعة الوعي الشعري الفطري الذي يمنح هذا الديوان دفقات قوية من الشاعرية، حيث تعقب قصيدة الديوان الأولى تلك قصيدة أخرى بعنوان (الشرير) تقيم مفارقة مع قصيدة (البريء) السابقة من ناحية، وتطرح الشباب في مواجهة الطفولة من ناحية أخرى، لكننا نلمس تحت جلد هذه المفارقة وعياً شعرياً بأن الشر يشكل حاجة مثلها مثل الحاجة للبراءة فالقصيدتان متقابلان كوجهي عملة واحدة، ومع أنه يقحم وعيه الأيديولوجي على هذه القصيدة كذلك، مؤكدا للقاريء بأنه رغم نزعاته الشريرة، أو بالأحرى رغم شروره الصغيرة، فإنه لن يرتكب الكبائر، ويؤمن بالله.

لكنني – بصدق- لن أشرب الخمر
مثلما يفعل الشريرون اصدقائي
وأقول – إلى الآن- لابد لهذه النملة إله
يميتها حين تشرب الماء

وبالرغم من هذه الإقحامات الأيديولوجية، وهي إقحامات لاتزال تتكرر في ديوانه الجديد، ولم يتخلص منها الشاعر بعد كلية، وبالرغم من ولع الديوان الأول بالإشارة المتكررة إلى (الفاصوليا) وهي فيما يبدو أكلة الشاعر المفضلة، فإنه استطاع أن يعبر في بعض قصائده عن طاقة شعرية حقيقية، وأن يجسد في بعضها الآخر روحا معربدة نزقة مترعة بالصبوات والرغبات التي تعبر عن نفسها في محاولة لكسر رتابة العالم وتعرية بلاهته، أو يعبر عن الحزن الدقيق وغير المرئي أحيانا، والذي يتخلل تفاصيل تبدو مرحة ونزقة على السطح وأن يجسد في بعض قصائده كتابة القرية والمشهد الريفي الطالعة من إهاب حساسية جديدة غير الحساسية الرومانسية ذات المذاق الرعوي القديم.

المشهد الريفي

ولم تسفر هذه الحساسية الريفية الحداثية الجديدة عن نفسها بشكل كامل وجلي إلا في ديوان (كلب ينبح ليقتل الوقت) فهو ديوان المشهد الريفي الجديد بلا نزاع، وهو مشهد مكتوب بحساسية فائقة ترفدها خبرة عميقة بالحياة في الريف، وبكل ما يمكن دعوته باسم تيارات الثقافة التحت