بكل جنونه وثوراته والتباساته

(في ذكرى رحيله الخامسة والأربعين)

كوليت مرشليان
(لبنان)

جان كوكترحل الأديب والشاعر والرسام والمسرحي والسينمائي المتعدد جان كوكتو منذ خمسة وأربعين عاماً وتعمل فرنسا على تكريمه هذا العام بأساليب مختلفة، إذ ثمة أبواب كثيرة يمكن طرقها لتذكره وتذكر أعماله والحديث عنه: قصائد، رسوم، مسرحيات، دراسات وضعها هذا الشاب المتعدد المواهب الذي انتقل بسهولة من خشبة المسرح الى صالات الميوزيكهول، الى جبهات القتال... من الجبهة ذات يوم من عام كتب قصيدة الى أحد أصدقائه وأرسلها مع مجموعة رسائل تخبر أحوال الجبهة. حملت هذه القصيدة رائحة شاعر ملهم: "الآن وأنا أعود الى البحيرة/ألتحم بشفافيتها/ أنا نحن، وأنتم أنا..."

* * *

خريف باريس سيقع هذا العام تحت تأثير كوكب مشع اسمه او عنوانه: جان كوكتو. أجل، كوكتو عنوان كبير وهائل، لا يمكن اختصاره، كما يصعب القول: "عثرنا عليه" أو "أخيراً"، هذا هو كوكتو!" شاعر ملتبس، نتاجه ملتبس، قصائده ملتبسة: كل جنون وصخب السوريالية التي عاصرها وانضم اليها على طريقته لم تكن كافية لاحتضان فكره او مشاعره التي حاول قولها بالقلم والريشة والحركة والموسيقى وأيضاً في السينما عبر اقتباسات لكتبه. ذات يوم كتب عنه أحد النقاد: "هو أورفيوس الاغريق المعاصر، لكن هذا لا يكفيه. هو أيضاً أوديب وانتيغون وهورتبيز وتريستان. ولكن هو أيضاً الحيوان الشرس والعنيد والباحث، والأكاديمي الأنيق وابن الشارع والعالم السفلي، هو الأديب المترفع والشاب الوسخ..." كل هذه الصفات الصقت به حين كان شاباً يضج حيوية ونشاطاً في باريس العشرينات وحتى الستينات.

تأثراته

جان كوكتو المولود في الخامس من تموز في منطقة ميزون ـ لافيت في عائلة بورجوازية، لم يكن بعيداً عن الأجواء الأدبية والثقافية العامة منذ صغره. وتأثر أشد تأثير بجده كوكتو الموسيقي الذي كان يقيم الحفلات الموسيقية في دارتهم وكان ذا مستوى ثقافي كبير وسعى الى تثقيف حفيده الذي لمس لديه ميولاً فنية قوية وأول انطلاقة له كانت مع "فريق الـ " وكان يضم ستة موسيقيين فرنسيين محليين حاول معهم ضرب كل التقليد الموسيقي السائد، وأطلق على هذا التيار اسم "نقيض فاغنر" وعبر عن نظريته هذه في المسرحية الهزلية الموسيقية الراقصة: "اعراس برج ايفل". وكان دوماً يعود الى ذكر هذا البرج وكأنه ملازم له في حياته: "أنا المولود مع برج ايفل في العام ذاته: ".

انتحار والده وهو في التاسعة كان الواقعة السوداء في حياته التي صبغت ايامه التالية بأسود الجنازات وأحمر الدم الذي رآه بأم عينه ولم تنج عناوين كتبه بعد ذلك من هذين اللونين القدريين، وستبقى التراجيديا موضع اهتماماته ومصدر الهامه: "دم الشاعر"، "النسر ذو الرأسين"، "صرخة مكتوبة"، "الأولاد الرهيبون"، فرسان الطاولة المستديرة"، "وصية أورفيكوس"، "رقصة سوفوكليس"، "الآلة الشيطانية"... كلها عناوين استخدمها كوكتو ليدل الى عالم رصده واختاره وجمع عناصر من ميتولوجيا وتاريخ وماض وأيضاً من شخصيات تتطلع الى مستقبل ضبابي فيسعى الى صفاء الرؤية ليرصده.

الطفولة

وكوكتو من الشعراء الكبار المحسوبين على طفولة تتأرجح بين وردية وسوداء داكنة. وفي كل ما كتبه، كانت تعود اصداء الوالدة التي اعتنت بالعائلة وحيدة، وفي كل تفصيل يعيشه يعود الى ذكرى من الماضي ترتبط بها فيذكر بذلك بالعديد من الأدباء الذين عانوا "أمراض الطفولة" التي تحولت معهم ابداعات لاحقة: جان ـ جاك روسو، مارسيل بروست، شاتوبريان وغيرهم... عام وكان في التاسعة عشرة، التحق كوكتو بالحياة الباريسية الصاخبة وتحول في تلك الفترة الى متأنق باريسي يلتحق بالمجتمع البورجوازي والثقافي، وكأنه في داخله حاول ان يمثل على الأرض الشخصية التي ابتدعها في كتابه "الأمير العابث".
والوجه الآخر والوحيد الذي حاول ان يخفيه كوكتو طوال مرحلة شبابه ثم ما لبث ان رضخ الى الأمر الواقع واعترف به علناً كان الوجه الذي يحمل شذوذه الجنسي، وعرف على صعيد واسع في باريس بعلاقته برفيق صفه في المدرسة "دارغولوس" الذي صوره في كتابه "الأولاد الرهيبون" ثم الممثل المسرحي ادوارد دوماكس وبعدها مدير الفرقة المسرحية الروسي سيرج دو دياغيليف وأيضاً الأديب الفرنسي الذي مر كالشهب في سماء باريس ورحل باكراً في العشرين ريمون راديغيه...
والعديد من كتب كوكتو في خضم المرحلة السوريالية عرفت انتقادات واسعة وسلبية منها "الآلة الكاتبة" التي صدرت عام وأيضاً "الأهل الرهيبون" لما حملته هذه الكتب من روح ثورية هدامة. لكن هذه المؤلفات بالذات هي التي كانت مسؤولة عن شهرة واسعة وضجة اعلامية أوصلتها الى كل أقطار العالم وبلغات مختلفة.
كوكتو الثوري، المشاكس، المحافظ، الملتبس، الطفل الكبير، الطفل الذي شاب وظل يبحث عن وجوه وأوراق وأسماء ضاعت في الطفولة، هذا "الكوكتو" بالذات استقبلته الصحافة بحفاوة يوم صدور كتابه "الصوت الانساني" وهو مونولوغ مؤثر عبر جهاز التلفون لامرأة تتحدث الى عشيقها الذي تخلى عنها وتحاول استرجاعه بالطرق الشتى في كلمات ومواقف مؤثرة جداً. هذا الكتاب ترجم الى لغات عديدة وجعل كوكتو يجوب كل عواصم الثقافة في العالم كواحد من الشعراء الملهمين. لكنه وبعد نجاحات عديدة في الشعر وفي الرواية وفي المسرح، وكانت السينما في أوج تألقها، ارتد الى عالم الافلام وسحرته هذه اللغة بجمالياتها، وبعد ان كان قد كتب وترجم الشعر في كل المجالات، ألف شعرياً للسينما روائع لم تبق في اطار جمهوره الضيق بل أصبح له الجمهور العريض الذي لم يتمكن من استيعاب كل جنونه الابداعي لكنه تلمس جماليات مغايرة معه. كوكتو المخرج ابدع في "الوثائقي الواقعي لأحداث خيالية خارقة" ـ حسب تلخيصه له ـ لمؤلفه "دم الشاعر" الذي استحوذ على اهتمام المحللين في الطب النفسي، لكنه انخرط أكثر في اللغة السينمائية مع فيلمه الثاني "الجميلة والوحش" عام وبعده في الفيلم "وصية اورفيوس" عام وقد ساعده على انتاجه حينذاك المخرج الشاب فرنسوا تروفو. في هذا الفيلم، وكان كوتو على أبواب السبعينات، وضع كل شعره وأحلامه وأحزانه، كما أظهر الجانب الفانتازي والمهلوس في روحه، وكأنه فيه يرسم وصيته الخاصة، لا وصية أورفيوس الأسطورية". لم يعرف في ذلك الحين فيلمه نجاحاً كبيراً وعلق هو على الموضوع بالتالي: "إنه لغة مستقبلية، وربما ليس هو مصنوعاً لهذا الزمن"... وبالفعل ان الفيلم حمل رائحة أرض غريبة وخاصة ولم تكن له ركائز على أرضية الواقع فبقي معلقاً في عالم كوكتو الصعب والمعقد".

المرأة

عرف كوكتو صداقات فنية وأدبية واسعة النطاق، وأحب المرأة ايضاً عبر سيدتين لكنه اعترف أكثر من مرة "لكنهما لم تحباني!" كان ضعيف الأمل في جذب المرأة ولم يتمكن يوماً من فهم الأسباب على الرغم من أنه تحدث عنها. كان صديقاً وفياً ومولعاً بالمغنية الفرنسية اديث بياف. ويوم ماتت في تشرين الأول وحين علم بالخبر، قال أمام أحد أصدقائه: "انه يومي الأخير على هذه الأرض". وكان بالفعل يرغب في الرحيل معها لدرجة انه أغمي عليه. وقد كتب في "صعوبة العيش":
"الحياة تقودني في طرقات خاطئة أكثر من الموت"... وأيضاً "أرغب في ان أطفئ شعلتي وأدخل الأبدية..."، و"الآن، لست هنا، دائماً لست هنا، كل ما أملكه، يصلني من الطفولة"... وفي كل هذا وفي كل المراحل، كان الشعر في يد كوكتو مشعلاً دائماً. معه اتسع أفق الشعر ولم يعد في اطار القصيدة، معه حط الشعر في المسرح، في الرسم وفي الشاشة الكبيرة التي استخدمها على طريقته ليقول معها ما لم تتمكن الكتب من قوله. لكن هذا القلق الذي رافق جان كوكتو في كل ابداعاته لم يكن في مكانه، إذ إن جماد الورق والكلمات في الكتب قال الكثير ولا زال يقول الكثير عنه. في قصيدة أرسلها للأبدية ورسم لها خطوطاً وتشعبات رغبة منه ان تصل هذه الخطوط الى أبدية منشودة كتب: "اجعلوا اسماءكم تندمج بالأشجار/ اجعلوا اسماءكم تندمج بالجدران/ اجعلوا اسماءكم تندمج بالرمال كي تصمد أمام الأمحاء/ ليس سوى الأسماء التي تبقى/ .وتقوى على سواد الدخان وطبشور الكتابة/ أيها العشاق البديعون/ اقطعوا اسماءكم في هذه الدقيقة (التي تحاول الإيحاء بأنها كانت) ليبدأ موتكم بصياغة دانتيل الأبدية".

سيرة وأعمال

  • ولد جان كوكتو في تموز في ميزون ـ لافيت في فرنسا في عائلة بورجوازية. له أخت وأخ: مارت وبول.
  • يمضي طفولة سعيدة خاصة برفقة جده الموسيقي الذي كان ينظّم حفلات موسيقية. لكن سعادة الطفل انتهت مع انتحار والده جورج كوكتو اثر مشادة كلامية مع أحد أقربائه بسبب ديون متراكمة. هذه الحادثة تركت أثرها على الابن وسيعود الى ذكرها مراراً في كتبه.
  • تجربة قاسية مع الموت من جديد بعد رحيل صديقه ورفيق صفه. يعود الى ذكر الحادثة في كتاباته أيضاً.
  • بدأ كتابة قصائده الأولى، قصائد مفعمة بالرمزية. يرسب للمرة الأولى في امتحانات البكالوريا.
  • يرسب ثانية في امتحانات البكالوريا ويقرر عدم العودة الى الدراسة.
  • ينشر قصيدته الأولى في مجلة "أعرف كل شيء" يذكر فيها حادثة انتحار والده.
  • يؤسس مجلة "شهرزاد" وتصدر لسنتين متلاحقتين في أول شباط، يصدر ديوانه الأول: "فانوس علاء الدين" وفي أيار يفتتح عمل "الباليه الروسي" الذي كتبه ومعه يدخل عالم الفن ويتعرّف الى الراقص دياغيلي فتربطه به علاقة صداقة قوية.
  • تربطه علاقة حب بالممثلة مادلين كارلييه لكنها لن تطول. يلتقي الروائي مارسيل بروست في شتاء ذاك العام ويصدر له ديوان "الأمير العابث" في شهر أيار. في تموز ـ آب يكتب مسرحية "صبر بينلوبي".
  • يبدأ مراسلاته مع الأديبة آنا دو نواي في كانون الثاني. يرسم ملصق العمل الراقص "شبح الوردة". يلتقي شارل بيغي وسترانسكي.
  • أولى رسائله الى اندريه جيد. يصدر له: "رقصة سوفوكلس" ويرشح الى نيل جائزة الأكاديمية الفرنسية.
  • يكتب مسرحية "اليزابيت باتر" وينشر "تكريس الربيع" الذي تناولته الصحافة على أنه تحفة أدبية. كما ينشر مقالة نقدية مع صدور رواية بروست "من جانب سوان" في مجلة "اكسيل سيور" تنال اعجاب جميع النقاد لعمقها وجماليتها.
  • يشارك في نشاطات اجتماعية مع بدء الحرب وينشر رسومه في مجلة "كلمة" تحت اسم "جيم" وهي حول مشاهدات من الحرب.
  • أول لقاء مع الرسامين: بيكاسو، دورين وبراك... مشاركة في الجبهة في معارك حربية، وبعدها لقاءات أدبية وفنية في باريس: الشاعر أبولينير، وكل رسامي مونمارتر... مراسلة مع اراغون تستمر الى العام ومراسلة مع تزارا حادة في نقاشات حول "الدادائية".
  • صدور كتابه "بوتوماك"، وعرض العمل المسرحي "أزواج برج إيل" الذي لاقى نجاحاً كبيراً.
  • عرض مسرحيته "الثور فوق قرميد السطح" ـ انتقل للسكن في منطقة ريفية حيث كتب بغزارة: "انتيغون"، "الخطوة الكبيرة" و"وردة فرانسوا"...
  • موت مارسيل بروست ورثاء غاستون غاليمار له الذي اعتبر كتاب "توماس المخادع" لكوكتو "إبداع من نوع آخر قد يكمل المسيرة"...
  • كذلك موت صديقه راديغيه اثر إصابته بمرض التيفوئيد وكانت تربطه به علاقة شاذة لم يحاول أبداً كوكتو التستّر عليها.
  • يقدم مسرحية "روميو وجولييت" ويؤدي دوراً تمثيلياً فيها. كما يقدم عمله المسرحي "القطار الأزرق".
  • يصدر له ديوان: "خطاب النعاس الطويل" ويعرض في بروكسل مجموعة كبيرة من رسومه.
  • صدور "البحار الفقير" ـ يتعرض كوكتو الى التوقيف والسجن بسبب تعاطيه المخدرات. يصدر له "الكتاب الأبيض" من دون توقيع ولا اسم الناشر ويتعرض الكتاب للمنع. يدخل مصح "سان ـ كلو" للمعالجة من الإدمان.
  • يكتب "الأولاد الرهيبون" في يوماً ـ حسب قوله ـ وينشر " رسماً لنائم". في آذار يقرأ "الصوت الإنساني" في "الكوميديا الفرنسية". يصوّر فيلمه الأول: "دم الشاعر". يعرض عمله المسرحي "الآلة الشيطانية" ويصدر له "شبح مارسيليا".
  • يقدم عمله المسرحي "مدرسة الأرامل" المكتوبة من أجل الممثلة آرليتي استناداً الى "السيدة المهيبة" لاويس دو بيترون. عرض مسرحية "الأهل الرهيبون" الذي يثير جدلاً كبيراً.
  • يقدم عمله المسرحي "الشياطين المكرسون" ـ تربطه صداقة قوية مع المطربة اديث بياف.
  • يعرض عمله "رونو وآرميد" في "الكوميدي الفرنسية" ويعرف نجاحاً كبيراً، كذلك مسرحية "العودة الأبدية".
  • ينشر ديوانه "شعر" من ضمنه القصائد الطويلة "ثلج" و"الصديق الذي ينام".
  • يصوّر فيلمه "أسطورة أورفيوس" ويبدأ بكتابة مذكراته: "الماضي المحدد" الذي يستمر به الى نهاية حياته. ويكتب "مذكرات مجهول" و"الرقم " قصيدة طويلة مهداة الى بيار سيغرز.
  • يُرشح الى مقعد في "الأكاديمية الفرنسية" ويرفض الانتساب الى "أكاديمية غونكور".
  • في تموز، يقدم "الآلة الشيطانية" في مدينة بعلبك الأثرية بالاشتراك مع الممثلة جان مورو.
  • انتُخب "أمير الشعراء" في فرنسا.
  • في تشرين الأول، توفيت اديث بياف ويتأثر بموتها: "انه يومي الأخير على الأرض"، بعد ساعات يتعرض الى أزمة قلبية ويتوفى محاطاً بطبيبه وبابنه بالتبني.

المستقبل
الاربعاء 7 كانون الثاني 2009