مالك حداد
(الجزائر)

نقلته إلى اللغة الأم:
مالك أبيض العيسى
راجع الترجمة
سليمان العيسى

كلمة على الطريق

سليمان العيسى
(سوريا)

غابات من الصنوبر الشامخ أبدا إلى السماء..
جبال، ووديان، وأنهار.
طبيعة رائعة توحي الشعر، والقوة، والجلال ..
مدينة تضرب جذورها عريقة في التاريخ .. تتحدى العصا
الهجينة التي تريد أن تسلخ عنها كل جلالها، وماضيها بضربات
مجنونة، لتحولها إلى "وجود" فرنسي.
جماهير هادئة في وعي، واعية في هدوء .. ماتلبث أن تحولها همسة سحرية من همسات الثورة إلى بركات صاخب يقتلع كل شيء. وأهوان ما يمر به أشياء يسمونها الموت..
والخطر..
جو سياسي صاخب يجسد الصراع بين أشراس استعمار
عرفة التاريخ.. وأصلب ثورة عرفها التاريخ.
تلك هي مدينة فلسطينية .. العاصمة الثالثة في الجزائر..
وفي هذه المدينة ولد الشاعر الثائر مالك حداد، عام 1926.
ويتلفت الطفل إلى ما حوله، فلا يرى من تاريخه ولغته،
وأصله، إلا بقايا محطمة تراجعت إلى البيت لتحتفظ بكل شقائها وعنفوانها في حكايات الجدة، وحنان الأم، ولغط الصبية الصغار في الحي بلغتهم العربية العامية، يحسون دفئها وحرارتها بين جدران المنزل حيث تهدهد الأمهات الجزائريات أطفالهن بأولى الأغاني في المهد، وأولى القصص والأساطير .. فإذا بريق من الأمل يشع في العيون، ما يلبث أن يتردد همهمه في الشفاه حين يكبر هؤلاء الأطفال قليلا .. وإذا هم يقولون: لم نخسر كل شيء بعد..
ويطلب الطفل الشاعر الدراسة .. فإذا كل ما حوله فرنسي .. وإذا هو بالرغم منه في مدارس فرنسية تلقنه كل ما يجعله غريبا عن نفسه .. ويتابع تحصيله الابتدائي، ثم تحصيله الثانوي بلغة المستعمر، وتبدو مخايل نبوغه وهو على مقاعد الدرس، فينتزع جوائز التفوق انتزاعا .. ولكن رفاقه من أبناء "الوطن الأم" لا يرون فيه إلا جزائريا دونهم في المرتبة الإنسانية، فيهتف في إحدى قصائده بعد حين، والألم يعصر قلبه، والثورة تحتاج كيانه:

"أتسمونني جزائريا ؟
لاتقولوا ذلك .. فشقيقتي لا تضرب على وجهها الخمار..
ألم أحصل في المدرسة على كل الجوائز
في الفرنسية، في الفرنسية، في الفرنسية،
وباللغة الفرنسية؟ "
ويسافر الشاعر الشاب إلى فرنسا، ويتم هناك دراسته العالية .. ويحصل على إجازة الحقوق في مدرسة "اكس آن بروفانس ".
وتصطبغ الجزائر كلها بالدم والدموع في صباح 8 أيار من عام 1945، حيث يقوم الاستعمار الفرنسي بأبشع مجزرة في التاريخ يسقط فيها خمسون ألف شهيد .. ويلقى بمثل هذا العدد وأكثر منه في غياهب السجون .. كان ذنبهم، كل ذنبهم، أنهم أنقذوا سمعة فرنسا في الحرب العالمية الثانية، وزحزحوا ببطولاتهم الرائعة نير النازية الرهيبة عن عنقها .. فكالت لهم الوعود بالحرية والاستقلال فور انتهاء المحنة. وصدقوا هذه الوعود .. واحتشد شباب الجزائر وشيوخها من جميع أركان الأرض المجاهدة يلعنون فرحتهم التاريخية بميلاد الاستقلال في مؤتمر وطني ضخم عقد في مدينة "سطيف" قرب قسطنطينية، ويرفعون الأعلام الوطنية .. وماهي إلا لحظات حتى كانت نيران المدافع من الأرض والسماء تنصب عليهم من كل جانب تحصدهم حصدا .. وتتابع فلول المتظاهرين المبتهجين في كل مدينة من مدن الجزائر، حتى لم يبق بلد أو قرية بلا مذبحة .. تلك كانت ثمرة الوعود .. والمكافأة التي كوفئ بها الشعب الصابر المجاهد على بطولاته وصدقه أيام المحنة..
وتسأل الشاعر عن تاريخ ميلاده فيجيبك والغصة في صدره، والزفرة في شفتيه:
لقد ولدت في صباح 8 أيار 1945.
إن مالك حداد ليس وحده هو الذي ولد في صباح تلك المأساة الدامية..
ان الجزائر كلها قد ولد في ذلك اليوم..
لقد انبثق سبيل الخلاص أمام الشعب العربي في ذلك القطر
الذي لم يعرف الهزيمة ولا الاستسلام منذ نكب بالاحتلال البغيض عام 1830 ..
انه الكفاح المسلح .. إنها الثورة .. الثورة هي الحل الوحيد..
ويختار مالك حداد كغيره من الأحرار طريق الثورة، ويساهم بأعصابه وقلمه في المعركة، كما يساهم رفاقه بالبندقية والمدفع.. فيشترك في تحرير الصحف الوطنية، ويكتب الشعر، ويؤلف القصة، ويعمل مدرسا في المدارس الثانوية فترة من الزمن.
ولكن ثلة مؤلفة من سبعة عشر جنديا فرنسيا تداهم منزله ذات يوم، فيضطر إلى الاختفاء، ثم يغادر البلاد منفيا إلى أوروبا حيث يكرس حياته للكتابة عن الثورة، والتغني ببطولة الشعب، وبمستقبل الجزائر المتحررة الزاهر.
استمع إليه يهتف:
"في كل الدروب التي تقود إلى النهار..
أفتش أبدا عن اسمي بين شواهد القبور..
عجبا ! كيف يفتح الماضي المظلم أبوابا لغد جميل؟
إني أحلم دائما بغع كالأساطير .."
إن أهم مؤلفاته حتى الآن بين قصة وشعر هي:
ديوان شعر "الشقاء في خطر" : 1956
رواية "الانطباع غزالة" : 1958
رواية "سأهديك غزالة": 1959
رواية " أنا المعلم والتلميذ": 1960
رواية "رصيف الورود لم يعد يجيب": 1961
ديوان شعر "أسمع وأناديك"، 1961
دراسة بعنوان "الاصفار التي تدور في الفراغ" تناول فيها مأساة التعبير عند أدباء الجزائر .. وتسأله عن أثر الثقافة الفرنسية في شعره وقصصه فيجيبك بمرارة:
لم نتعلم من فرنسا إلا يتمنا ..
لقد أوفدته حكومة الجزائر المؤقتة في شتاء هذا العام ممثلا لبلاده في مؤتمر الكتاب الآسيويين الإفريقيين الذي عقد في طوكيو، فكان النفحة العربية الأصيلة بلغة أجنبية..
تلك هي مأساة مالك حداد، ورفاقه من كتاب الجزائر وأدبائها المعاصرين، وفيهم الموهبة الفذة، والنبوغ القادر من محمد ديب، إلى كاتب ياسين، إلى مولود فرعون .. إلى مولود معمري .. إلى آخر القافلة
مأساتهم أنهم يعبرون بلغة فرنسية عن تجربتهم، عن آمالهم وآلامهم العربية، عن شخصيتهم، عن وجودهم العربي الأصيل.. وقد يهز البعض رأسهم قائلين بشيء من الدهشة المصطنعة:
وما قيمة اللغة ؟
ولكن مالك حداد لا يقتنع إلا بأنه محروم.. محروم من أغلى مقومات وجوده.. من لغته ..
فلا تعجب إذا سمعته يقول مخاطبا صديقه الشاعر الفرنسي:
"إن الفرنسية هي منفاي الذي أعيش فيه .. بلى، يا اراغون، لو كنت اعرف الغناء .. لتكلمت العربية."
إن العربية لتشعر بالاعتزاز والزهو وهي تفتح ذراعيها لتحتضن ابنها العائد إليها.. لتستقبل هذه الموهبة الخصبة المبدعة في أول ديوان من أدب الثورة الجزائرية ينقل إلى اللغة الأم، هو هذا الديوان الجميل الذي نقدمه للقارئ العربي بعنوان:

" الشقاء في خطر"
إن في نقل الشعر من لغة إلى لغة مجازفة أية مجازفة ..
يعرف ذلك كل من تصدي لهذه التجربة. ولكن شعورنا بحق القارئ العربي في الاطلاع على هذا الأدب الذي يعبر بحرارة ووعي عن أعمق تجربة .. واخطر قضية من قضاياه .. شعورنا بحق مالك حداد وزملائه أن يعيشوا في صدور أمتهم، وعلى ألسنة أبناء قومهم.. هذا الشعور هو الذي يحدونا إلى هذه المجازفة .. ويشفع لنا بالتقصير.
وأسعد ما يسعدنا أن نكون بهذا العمل المتواضع قد أدينا واجبا قوميا ضئيلا نحو أبطالنا الصامدين على قمم الجزائر وسفوحها يضيئون الطريق لأمتنا العربية بأسرها..
طريق الوحدة، والحرية، والحياة..

سليمان العيسى
حلب ـــا 24 تموز 1961


****

مقدمة الديوان

بقلم المؤلف

إلى صديقي الشاعر الجزائري

لست جزائريا فحسب .. لذلك
لا تبالغ في شيء، ماعدا قلة
اكتراثك، لتكون أشد تضامنا
مع نفسك، ومع الآخرين ..
م.ح.

 

أنا على يقين بأنك تتساءل عما إذا كانت قصيدتك جديرة
بأن تكون أغنية شديدة القوة، بالغة العنف.
ليس هذا هو المهم ..
المهم يكمن في حالتك الشعورية .. في موقفك.
لقد سلمت معي بأنه ليس من تنافر بين القلم، والأغنية العنيفة..

إنك لتدع التاريخ يدفعك..يسيرك .. في الوقت الذي تحس فيه أنك مدعو إلى أن تسير التاريخ..
وانه لحقك..لا ينازعك فيه أحد.
إنك لتتألم في صميمك..حين ترى إلى الأشجار تقطع
أغصانها.. لتصنع منها حواضن للبنادق.

لاشيء أجمل من السلم ..
ولكن .. لكي يصبح التاريخ قصص بطولة .. لكي يصنع كل إنسان تاريخه بيده.. علينا أن نختار بين القيلولة الهادئة إلى جذع شجرة، وبين انفجار أغنية عنيفة.
إن لفظتي الوظيفة والواجب، في التشريح العجيب
للمفردات، تشتركان في معنى واحد.
إننا نقول: علي واجبات لأنجزها، ولدي وظيفة
لأملأها.
لم تكن الأشجار تواقة في يوم من الأيام لتنتهي إلى حاضنات للبنادق .. ولم تكن الأقبية الرطبة لتميل في يوم من الأيام إلى ادخار بارودها لأنها حياة.
يبدو أن الأعضاء لا تعطى دائما الوظيفة التي تستحقها.
أيها الشاعر، يا صديقي !
لنجعل القلب ذكيا .. ولنمنح قلبا للذكاء.
أريد براكين مفكرة .. فالاندفاع الأهوج هو صلع الفكر، والفاعلية السليمة.
إنك تغط قلمك في السواقي الكدرة، ألسواقي التي تحمل الجسد المتورم للأفاعي عدوة المياه الصافية المغردة.
محبرتك هي النبع .. هي الإنسان كله.
وفي آخر معجم .. في آخر سفر من أسفار الأدب،
ستتحول كلمة "بطل" إلى كلمة "إنسان".
إنني أعرف قلمك، كما أعرف أولادي .. كما أعرف طيبتنا..
أعرف قلمك كما أعرف الحدث القاهر الذي لايمهل.
اعرفه كما أعرف أصدقاءنا .. ومياه "الرومل (1) " ذات النشيج البربري الحار.

أعرف كاتب ياسين (2) وثورته التاريخية.
أعرف كاتب ياسين مجددا معرفته للعيش في "جثة" لم يطوقها إلا الأغبياء (3).
أعرف هذه الإرادة الطيبة لمحمد ديب (4) .. الطيبة كدرس ممتع.
أعرف "رولان دوكان " الذي كان حلمه يتخطى آمالنا
كثيرا عندما قال:
... طالما حلمت بوطن شاعر...
أعرف "كرازا" وأغانيه الواعدة..

أعرف محمد العيد (5) الذي ذاق مرارة السجون وعرف ظلام الأقبية لأنه ارتفع إلى مستوى اللغة الغاضبة .. و "جان سيناك" المتخم بالمواهبة والوساوس.
لقد كان إخلاصه لوطنه الجزائري يسمو به عن بهلوانيات القلم.
أعرف كل هؤلاء، بداة ومتحضرين، بالجاكيت
وبالجلبات، إنهم جميعا حاضرون .. وكأني بهم يعلنون:
كلنا على استعداد ..
أيها الشاعر يا صديقي !
سيكون في قلمك دائما قطرة من الروعة.

التاريخ غاص بالقيود .. إنه يلد في الحديد.
كل ما حولنا يصدمنا، يثير فينا المرارة والألم.
لقد حولت الهندسة إلى حساب للزاوية القاتلة في ارتفاع
بندقية قبيحة. وواضح أني لا أستنتج من ذلك شيئا...
بودي أن أدلي باعتراف رهيب..
عندما كانت طفلا، كانت نزهتي الأثيرة حين يتاح لي أن اركب القطار..
ما أجمل أن يركب الطفل القطار !..
لكم كنت أستمتع برؤية أعمدة البرق السامقة، عندما كنت ألصق أنفي على الزجاج!
لم يكن ليدور في خلدي آنذاك أن هذه الأعمدة ستقطع في يوم من الأيام..
واليوم.. أيها الصديق! عليك أن ترى أبعد من طرف
أنفك، أبعد من واجهة المخازن التي لم تدخلها، أبعد من الأعمدة
التي تجعل السنونو يتراقص على البعد كلما سار القطار ... كلما سار القطار...
هذه هي المرحلة الجديرة بالتقدير!
إنك ترى اليوم أبعد من طرف بندقيتك .. تمد بصرك إلى
أبعد من طرف قلمك .. يجب ان تسير ياصديقي لتجعل وجودك أغنى وأخصب.
لقد داعب "أراغون (6)" غرورك حين امتدحك بقوله:
انك طائر من طيور الأغصان العليا..
وإذا ما صبغت الخمرة وجهك فلن تكون بالتأكيد حمرة الكبرياء.

إن "مايا كوفيسكي(7) " هو الذي وضع يده على السر ..
هو الذي أدرك الحقيقة.
ولكنه كان وحيدا .. وحيدا كجندي الحراسة .. وحيدا
كتحذير.
كان وحيدا منتصبا، مفجعا، مظفرا، يحز القلب مرآه.
كان فضفاضا كحاشية رداء سابغ.
لقد ألصق أنفه بزجاج النهار .. أترانا نعلم في يوم من
الأيام لماذا تحطم ذلك الزجاج؟
وحينئذ.. تتساءل أنت: العدو.. ما هو العدو إذا؟
ألعدو رجل، له ذراعان وساقان مثلك، ولكنه لا يؤمن
بالربيع إلا إذا وجده مسجلا في التقديم.

إن كلية الإنسان هذه لتتجسد في علم، في برتقالة، في خريف دافئ كصدر امرأة حبيبة، في كل شباب العالم الذين يمدون إليك يدهم حين تتحرر من شللها..
وكلية الإنسان هذه ستصل إليها عندما تنقب جميع زوايا شقائك.
تجول في الصحراء .. إفتح صحراءك على الحياة.
إصنع منها خلقا كوردة في الرمال..
إصنع منها ما يمكن أن يكون خلقا ووردة.
إنك لتبدو نافد الصبر، منقبضا، سيئا.
وسوءك الواعي هو خير قدراتك .. لأنك لم تصبح بعد
الإله الرحيم..
وعندما تكون قد نقبت جميع زوايا بؤسك، وسوئك،
ستذكر "باعة العقاقير" .. هؤلاء الرجال المساكين الأمجاد
الباهتين.. الذين لا رسالة لهم إلا توزيع "اللزقات" الناجعة.
كن صيدليا . ليقتلك الضجر خلف زجاجات الدواء..
هؤلاء الرجال المساكين.. ما أصغر مطامحهم! وما أقل
مطالبهم!..
لذلك يجب الانتقام لهم ..
إجعل منهم سواقي، وبحيرات، وأنهارا ..
إعبث بنجوم المجرة ..
كن بسيطا، ولطيفا؛ إن أقصر طريق بين نقطتين
ليس بالضرورة الطريق المستقيم.
عندما يذهب جندي إلى القتال لا يجد ما يدعوه للنشيد.
إحترم الأزهار .. لا تضعها في بندقيتك.
وإذا ألحت عليك القيلولة ما بعد ظهيرة شديدة القيظ،
فاني أتوسل إليك أن تغفي في سفح جبل مغطى بالبنفسج..


خطرة هذه المهنة، مهنة الشاعر.. يفقد فيها
الريش .. ولكنه يصنع الأغاني.
ذاك ما قاله لي بلبل أعذب غناء مني ..
هذا البلبل ما إن يتكلم عن الحرية حتى يحمل
جناحي عقاب .. حتى يصبح عربة منقذة .. حتى
يصبح ريا للأرض .. للأرض العطشى.
هذا البلبل يسمى قمحا .. قمحا .. قمحا ...
لا تكن القبرة، سارقة حبات القمح، هذه
القبرة التي تفيد من أزمة سكن لتزرع أغانيها في أخاديد
لم تحفزها هي ..
انك تقرأ الخطوط في كف العلم..
أنت تشخر كقاطرة، وأنت حيي حياء حب أول.
ستضرب الأرض بأقدام جندي ..
وليسألوك عما تفعل.
إنك ستجيبهم : ذلك من شأني وحدي.
بعثر سوءك في كل مكان .. مزقه قطعا صغيرة ..
إنها الطريقة المثلى لكي تجد طريقك من جديد ..
ثم دعهم يتكلمون..
ولكن .. ما تراك صانعا بدوار الحب؟
ماذا تصنع بأزهار أيار ؟
أتراها قطعا من قوس قزح ترسمها أناشيد الحب في
سن العشرين؟
دعهم يهذرون ...
إقفل شدقك الكبير .. وتكلم صادقا .. سواء
سمعوك أم لم يسمعوا .. تمثالك سيصنعه لك الآخرون ..
تذكر "مايكوفسكي" إذ يقول:
"أنا لا اكترث كثيرا بكنتال من البرونز .."
أواه .. ما ألذ المجد تصنعه الأغاني التي لا يعرف
قائلها !
إني سأخلع عليك اسما جديدا .. سأسميك فن الشعب..
روحه المتجسدة.. فأنت اكبر من بلدك، أنت اكبر
من قارة .. أتسمعني جيدا ؟
أنت الإنسان ...
اربط قدميك بتراب الجزائر.. إلتصق به .. إنتعله..
فقدماك، قدما الجندي، قدما الشاعر الجوال، قد وجدتا
أخيرا قالبهما ..
سر .. يجب أن تسير.. أن تسير ..
السير هو طريقتك في الانتظار .. في ارتقاب الأحداث.
دع غيرك ينتظر قبر .. وهو جامد كالموت.
أنت تكتب لأنك تحب .. وإذا لم يكن لديك ما تحبه..
فاطرح قلمك ..
بأقدامك، أقدام الجندي، أقدام الشاعر الجوال (8)
ستخط طرقا جديدة .. ستخط دروبا معطرة بالأساطير

.. مزروعة بالحلزون.
اقفل المذياع .. لا تفتح رسائلك. انظر إلى أمك..
أليست لديك الرغبة في تقبيل أمك (9) ؟
إن هدها ليبدو شيئا مروعا ...
لقد تجرأ علج من أكلة لحوم البشر على ان
يجعل من الخد الجميل متكأ لبندقية في عملية تسديد قاتلة.
إنك لربان طائرة تطير بطريقتك الخاصة، بأسلوبك
الفريد. إني أحذرك . لن تكون لك محطات استراحة
تلتقط فيها أنفاسك .. ستطير حتى ساعة وصيتك .. ولن تكترث لذلك .. لأنك شاعر...
هذا ما أريد منك أن تصرخ به ملء شدقيك،

أن تعوي به حتى يصبح حقيقة حية..
لن يكون على جدار منزلك لوحة تشير إلى الكلية التي
تخرجت منها .. ومع ذلك فأنت خير من حاملي
الشهادات..
أنت صفة .. أنت إنسان ..
لقد صنعت إنسانيتك بنفسك.
أنت هذا الاستباق الرائع للزمن..
أنت الذي ستصنع البشر ..
هذا النجار الذي لا يملك إلا ان يكون نجارا،
ستحوله إلى شاعر .. وهذا الجراح الذي لا يستطيع ان
يكون إلا جراحا سيصبح شاعرا .. والمكنس، حتى
المكنس الذي ليس إلا منظفا للشوارع .. سيصبح شاعرا
أيضا.
أنت هذا النور الذي ينساب إلينا من النجوم بعد
قرون من السفر..
ستحاول في هذه الآونة أن تكون جديرا بالذرى.
هناك في الأعالي سيصبح قلمك الضئيل شيئا خارقا للعادة.
ستداعب مقبض مهمازك بنفس الاحترام، ونفس
اللامبالاة اللذين تحملهما لبغي مريحة نافعة..
كان "أراغون" يقول: اصمتوا الآن، اصمتوا
لأصغي إلى قلبي ..
أما أنت.. فانك تصدح بالغناء الحقيقي. إحترس
جيدا. يجب أن تكون بمستوى البشر.
أيها الشاعر، ياصديقي !! إني أتوسل إليك ألا
تغتبط غبطة المنتصر الذي يحتقر انتصاره.
لقد قاتلت من أجل العصافير.
لتكن لك حركات ربان الطائرة الدقيقة ..لا
الحركات المخاتلة الثقيلة التي يقوم بها الصيادون..
وازن جيدا بين الحب، وبين غريزة البقاء فيك.
يجب أن تكون جميلا.
إنك ستصرف، أول ما تصرف، فعل "عمل".
إني أحذرك على الفور .. أذكر أنك لست مغامرا.
أد واجبك .. تلك هي مهمتك.
ولنبدأ تحليل ذلك ياصديقي . ما أكثر واجباتك
وأعباءك حتى تبلغ تلك الجنيات السواحر اللواتي أصبحن
اوكسجين وهيدروجين!
يجب أن تقدم حسابا للماء. أنت تعرف ما أريد..
هناك ماء في الإبريق، وماء في الكوب.
لا ماء الإبريق، ولا ماء الكوب هو ما أعني.
إنني أعني الماء في مقره .. في المنبع.
إنهل من المنبع . لا تغرق أبدا . ستجعلك الحمى
تعرف بلادة الغرق . إشرب على الجبل.
ليس للدم مذاق شائغ.
إني لأوثر الندى.
ولكن هذا لا يدعوك لتجنب الجبل . أنت ربان
طائرة. تعرف ذلك جيدا. إن وجود السحب هو الدافع
لصعود الجبل .. هذه السحب الكثيفة المزعجة التي تبدو
تجاعيدها في بعض الأحيان كجين كئيب ..
علينا أن ننزع القناع عن أعيننا. إنني مقتنع بوجود
الماء في معزل عن الأوكسجين والهيدروجين.
لقد لقنونا في المدرسة .. التويج، الوريقات،
الكأس.. أما أنا فأجيبهم : صعتر.
إنني أحن إلى الصعتر (10).
لم أر قط صعترا، لذلك أهز كتفي، كتفي
المثبتتين فوق ظهري، وأمضي في طريق الحياة، وفي
أطراف أصابعي .. صعتر.
أنا الذي أغني بالفرنسية .. أيها الشاعر ياصديقي!
لا تلمني إذا ما صدمتك رطانتي .. لقد أراد لي

الاستعمار أن أحمل اللكنة في لساني.. أن أكون
معقود اللسان.

سيخيم الحزن على جبلنا .. ولكنه سيكون جميلا
في كآبته. هذا الحزن لا مفر منه . إنه فريضة لا بد
أن تؤدي.
ستترك لطخات كثيرة على دفترك المدرسي . ستنتقي
الكلمات التي تخلطها بيدك.
أبدأ "بغلمة (11)" و "الجرجرة (12)" .. ولا عليك
أن تكتب بعد ذلك ما تشاء .. "سيئول (13)" مثلا

و "أورادور (14) و "الفركور (15)" أو "اوكرانيا (16) "...
تلك هي دروسك .. ستمر بها درسا درسا حتى تصل
إلى هذا الحرش الذي يروقه أن ينقل إلي لهبه عندما
أكون شاهدا للغابات التي يجب الانتقام لها.
فلينهض .. ليقف على قدميه من أصبح يعرف
أن الإنسان هو الذي يختار طريقه.. وأن عليه أن
ينمو .. ان يكبر أبدا ..
ستقول: إن مالكا هذا يستخدم كلمات
فرنسية..
وما أهمية ذلك؟

إن كلمة الجزائر يمكن أن تقال بالصينية.
بلى ! يا أراغون .. تلك هي مأساة اللغة (17)..
لو كنت أعرف الغناء.. لتكلمت العربية.


لم يكن للعسل ذنب في يوم من الأيام . إني لا أحب فلسفة
النحل النفعية. إني مع الزهور .. فالزهور جميعها لداتي.
أعرفها يا إلهي! .. أعرف أسماءها .. من زعفران الحقول .. إلى شوك الدواب الذي هو أشد
سوءا من قلب رأسمالي.
أراني أنفث الحقد .. نعم .. إني لأنفث الحقد ..
رغم أنني كتبت يوما:

أنا
الحقد يصدمني ..
ينفرني كالابتذال.
أنا محب قبل كل شيء
نعم .. أنا أنضج الحقد .. ولكن حقدي عاقل
كوجبة طعام ضرورية، ولتطمئن أيها الصديق فليس لدي
شهية للطعام .. شهيتي قليلة أيها السادة...
ستحاول أن تكون جديرا بالذرى.. إني أدعوك أن
تحاول .. أن تعلن ميلاد أغنيتك الخارق.
إنك لست ضد الفرنسيين .. يجب أن لا تكون
ضدهم.. بل انك لا تستطيع أن تكون ضدهم.
أتعلم لماذا ؟ أسمع إذا !
رأيت هذا المساء كهلا يعمل في دكانه حتى ساعة
متأخرة من الليل.
كان صديقي الحذاء المجهد يزدرد قطعة من الجبن وهو يفصل الجلد. كانت له أصابع ثقيلة، واثقة .. قادرة على أن تشد بحرارة على يدك.. قادرة على نسج إكليل من الزهور لأول أيار .. قادرة كل القدرة على صفع رجل غليظ شرير..
لاتنس هذا الكهل المجهد الذي كان يزدرد الجبن..
لقد همس في أذني : لن أصنع أحذية عسكرية أبدا.
لقد سيق ابنه على التو إلى الجزائر ليشارك في حرب
لم يعلنها هو.
إن فرنسا هي هذا الكهل الذي كان يكدح في دكانه حتى ساعة متأخرة من الليل.. هذا الكهل
يمكن أن يكون ابن عم "لدسنوس"، أو "لبول إيللوار (18)".
ليست فرنسا عدوك ..
وإذا ما فهم التاريخ على هذا النحو.. فلن يكون
هناك "تصفية حسابات"..


للمراكب، في بعض الأحايين، رعشات غريبة..
لاتفضح فرنسا بأغانيك . ولكن إفضح هؤلاء
الفرنسيين الذين لم يحترموا مواطنهم الكهل الذي يمكن
أن يكون ابن عم "لدسنوس" أو "لبول ايللوار" ..

وعندما ستبلغ الذرى.. عندما تصبح جديرا بها..
ستصبح يداك نظيفتين ..
من الغضب لا يمكن أن ينطلق أي فرح..
إن أية أغنية ليس بمقدورها أن تصمد أمام السهل
الذي تحول إلى ساحة للحرب.
وإذا ما نسفت الجسور أيها الصديق في الوقت الحاضر،
فذلك لأننا نضطر في بعض الأحيان إلى أن نرفض
مصافحة بعض الأيدي ..
وإذا لم تبصر لأعمدة البرق ارتفاعها الشاهق، وإذا
ما رأيت شجر البرتقال يغفو، أيها الشاعر، ياصديقي،
فان هذا "المرض العصبي" عرضي لا بد منه..
لقد فرض علينا فرضا هذا "المرض العصبي"..

ما زالت ترن في سمعي كلمات الرجل الذي كان
ينادي في باريس:
إنسفوا .. إنسفوا الجسور
لنرقص أخيرا ..
وكان يضيف على الفور:
أصغ إلي من زوايا العالم الأربعة ..
أصغ إلي .. فأنا أناديك ..
كان ينادي السلم.


إني أوثر الثلج.. لقد لطخه المسوخ بالأوساخ.
لقد سرقونا كل شيء..
إني على يقين بأن الحطبة التي تئن عندما تحترق في
مدافئنا، تقص الأشجار، وحنين الأشجار التي
حولت إلى حواضن للبنادق، والى مقابض للسياط.
حتى الرعد .. حتى الرعد .. لو قيل له يوما بأن
"روزنبرغ (19)" قد تحول بالكهرباء إلى كومة صغيرة
من الفحم لصاح بملء فمه: شيء مقرف .. لكم
استخدمت بصورة سيئة !!..
أنا اعرف حزن السواقي.. تلك السواقي العذبة التي
تستبدل فيها سمكة م. شوبرت بالفحم الأبيض..
يا للسواقي التي حولت أغانيها. وسمكاتها الناعمات إلى
فحم أبيض !...


مرة أخرى.. سأكرر ..
هناك صيادلة لا يملكون صيدلية .. ولا تضجر العقاقير
لديهم في الدروج ..
هكذا أنتم أيها الشعراء .. أيها الصيادون الذين لا
يصطادون الأسماك الناعمة إلا ليقدموا لها مياها أعذب
وأصفى .. أيها الصيادون الذين لا يضايقون القبرة إلا
ليهيؤا لها دغلا أوفر راحة ودعة ..
أيها الشراء الذين زودوا بقليل من الجنون، وكثير
من الحكمة..
أيها المحلقون وراء المغامرة الحقة، على طريق الفكر..
لكم وحدكم الحق في الكلام ..
بعض الناس يستولي على قمة "إفرست (20)

وبعضهم يستولي على أقحوانة، أو على فكرة أجمل من
سمكة بوري(21)، على فكرة أكثر شاعرية وسموا من
صورة جانبية مائلة لبلبل يهيئ في ضوء القمر ألحانا
يهديها إلى صديقه " بيرو ".
أما أنت يا صديقي الشاعر فليس أمامك إلا المجازفة..
المجازفة البطولية تستولي عليها، وتحقق بها وجودك.
لكل غاب مكتشفوه .. أما أنت .. فلست إلا
الفارس المخاطر الذي يطارد وعل الشمال البليد المتوحش.
وعندما أقول "يطارده"، أعني أن يطرده من الغاب،
ويفرض سيادة الغزلان.
أنت المخاطر الذي لم يرتض غير الملحمة البطولية

زوجة له..
أنت "كريستوف كولومبس" الحس السليم ..
أنت متسلق قمم الصفاء .. الغائض في أعماق الفكر
الصحيح . وليس لك من رسالة إلا الانتقام للغابات
التي تحدثنا عنها..
أنت إنسان في خدمة البشر.
قبل أن يمضي "فوسيك (22) " طلب إلينا أن نسهر ..
أن نبقى يقظين، لقد كانت السهرات في زمن يحترم فيه
الإنسان نفسه سهرات سلاح (23).
أنت يا صديقي الشاعر اكبر من أن تكون طائفيا،
متحزبا، ضيق الأفق. أنت تحتقر البلداء. واحتقارك
لهم يجعلك في يقظة دائمة.

أما أنا فاني للباقات ..
الشاعر اكبر من أن يتحزب.. إنه يحلق فوق
وطنه كنسمة من نسمات التحرير..
نسمة وطنية، ذات نشيد وطني..
لا تدع الأصابع يغار بعضها من بعض. إن اليد
بمجموعها هي التي تستأثر باهتمامي.
فلأرفع قبضتي ..
ولتنطلق أسراب النحل.

مالك حداد.
كليرمون فيران : نيسان 1956


ملاحظة:
أباحت المترجمة لنفسها بعض الإيضاحات والشروح الخاطفة على هذه المقدمة..
وفي بعض القصائد الأخرى .. كما أباحت لنفسها وضع العناوين المناسبة لقصائد رأى
الشاعر أن يتركها بلا عنوان. فمعذرة.
م.أ.

*****

الأغاني

يجب أن نقتل الليل

1

كنت تبحث عن الرائع النبيل
إذا، فلتصم أذنيك عني
إني أفضح سر الزهرة التي انتهت على الحجر.
أيها الشاعر السعيد الذي يستطيع أن يصمت.
إن الكلمة لتبدو فرضا علي الآن..
بلى .. إنه لفرض أن أتكلم..
ملايين من الذكريات تلح علي ..
بل .. أكثر من ملايين
إني أدفع عن عطر الأزهار الذي ينتظر مني أن أبدعه.
ولكني فريسة اليأس في طائرتي اللعينة.
ليس للحب حدود.
سيظل الحب اكبر وأغنى.. مهما أحببنا ..
إني أمضغ فكرتي كقطعة من الخشب
وحلمي ؟ .. يا للمقبرة الضخمة ترافق الليل!
يجب أن نقتل الليل ..
يجب أن نقتله..
لتنبثق الحياة من ورائه ..

*

إصغ إلي .. إني أشعر برعدة الخوف
إني أرى رفاقي صرعى !
أرى قرية تباد فوق كل الشقاء الذي عانته..
كل الشقاء الذي يستطيع العقل أن يتصوره.
أرى ذكريات قد لويت كما تلوى المسامير.
أرى أملنا محطما كزجاج المطر.
أرى الغزالة المذعورة.
لقد استطاعت أن تهتك سر الخرافة.
أرى الخراف الصريعة، والرجال المخطوفين.

*

وهناك..
ما عساني أرى !
هناك مصنع الجحيم الذي يقيمه صانعو المغامرات السود.
هناك نسغ الحياة الذي يقتلونه باستمرار.
هناك المذاق المر لعادات غريبة تفرض بالقوة.
هناك كل هذا .
وبالرغم من كل هذا..نعيش
إني أتمزق ضجرا
كلما تذكرت أني بعيد عن الجزائر.

*

سنبدع تقاويم جديدة للزمن.
سنصب الحياة كلمات في توابيت رفاقنا.
سنجفف دمعنا بأكفان فقيرة.
وسنقول لأولادنا الذين ذاقوا اليتم ألف مرة:
ستنجبون أطفالا يعرفون آباءهم..
أطفالا يستطيعون أن يقولوا:
وطني هو الإنسان..



*

إني لأحس السجن في قلبي مهما تخطى الحدود.
إني أتمزق ضجرا ..
كلما تذكرت أني بعيد عن الجزائر.

*

سننشد أعذب الأناشيد بعد حين.
إن البارود ليبعث في نفسي الغثيان.
إني أوثر السوسن حبيب أيار.
فأيار يعيد إلي أبدا ذكرى "غلمة (1)" الذبيحة.

وكل يوم يمر يحمل إلي ذكريات جديدة.
لم يمر يوم واحد بلا مأساة ..

*

في كل الدروب التي تقود إلى النهار.
أراني أبحث عن اسمي أبدا بين شواهد القبور.
عجبا .. كيف يفتح الماضي المرعب أبوابا لغد جميل!
إني أحلم دائما بغد كالأساطير...

***

سأعطيك النهار الجميل

2

الشمس. هل تريدين الشمس؟
ها هي ذي.
تقدمي.
إني ابسم لك يا قطتي الصغيرة!

*

ألسماء زرقاء
والبحر يقص علينا حكاياته.
وأنا أجول في عينيك.
الشمس. هل تريدين الشمس؟
هاهي ذي
تقدمي
إني أبسم لك، يا قطتي الصغيرة!

*

عندي للشمس صباح يروقها
سأعطيك النهار الجميل
إني أسأل الموجة أن لا تغرق
علها تنقل إلى وطني
حبي العظيم...

أيها الموسيقيون القابعون على المسرح دونما موسيقى
تعزفونها ..
إني أسمع أغنية لم اكتبها
لقد سرقت الأغنية.

*

إني أستخدم كلمات تخرج من أفواه غريبة.
إني يتيم القبل ..
أحس هذا اليتم كلما لاح موطن الفجر بعيدا عن عيني.
ما أقسى ان يكون الإنسان يتيم القبل !

*

لن يغني "الصفاري (1)" بعد اليوم ..

إن أجنحته تخترق بعيدا عن الشمس.
والليل يبتدئ .. بعيدا .. بعيدا عن الصباح.
الكلاب تبكي في منفاها بكاء وحشيا.
إني أحب البلبل.
ولكنهم يريدون تعبئة أغانيه في اسطوانات.
وحين أرى ذلك.. أشعر أن الغابات قد
سطا عليها اللصوص..
أنا واثق من ذلك ..

*

أريد أن أبتسم للأغنية
التي تعلن، رغم كل شيء،
عن غضبة مغنيها ..

****


المسير الطويل

3

أنا الكلمة الأخيرة في القصة الضخمة التي ابتدأت لن ننسى شيئا مما مر .. لن نبدأ من الصفر.
إني أحتفظ بأنشودتي نقية في عيني ..
ومن ثم .. أتابع المسير، دون ان أنكر شيئا من ماضي.
أنا الكلمة الأخيرة في القصة الضخمة التي بدأت..

*

ما عسانا نفيد من التمييز بين السماء والأفق؟
عسير أن نفصل بين الموسيقى والراقصين.
إن البرنس(1) الذي ارتداه أجدادي
البرنس الذي يتراءى أمامي في كل مكان..
ما يزال دثاري
ما يزال استمرار الحياة في داري.
أنا الكلمة الأخيرة في القصة الضخمة التي ابتدأت.

*

من صحرائي اللاهنتين سأضع أناشيدي.
إني احتفظ بأنشودتي نقية في عيني.

*

أنا في الحقيقة المعلم .. وأنا التلميذ.

كم أتخيل أني كنت راعيا ذات يوم
وحينئذ يلتمع في عيني هذا الصبر الطويل ..
صبر الفلاح الذي ينظر إلى يديه الصلبتين
فيرى فيهما تاريخ الوطن الذي سينبت البرتقال.
كم أتخيل إني كنت راعيا ذات يوم..
وأني قطعت رغيفي الكبير
ووزعت التين ..
واني هيأت لبناتي
زواجا سعيدا
ما أجمل كل ذلك !
أما الآن ...
فإلى البندقية ..
إلى العمل ..
أنا وابني البكر..
لقد كانت زوجتي أجمل نساء الوادي

*

لكلمة "وطن" عندنا طعم الأساطير.
لقد داعبت يدي قلب أشجار الزيتون.
إن مقبض الفأس هو منطلق ملحمتنا.
لقد رأيت جدي الذي يحمل اسم "المقراني"
يلقي "مسبحته" جانبا ليتابع بنظراته انطلاق النسور.
لكلمة "وطن" عندنا طعم الغضب.

أبي.. يا أبي !
لماذا حرمتني
تلك الموسيقى المنسوجة من لحمي، ودمي؟
انظر إلي ..
إلى ابنك ..
ابنك الذي يلقن أن يقول في لغة غريبة
تلك الكلمات الحلوة التي كان يعرفها
عندما كان راعيا.

*

يا إلهي ..
ما اشد وطأة الظلام في عيني هذه الليلة !..
أماه ! ... يا مه !...
هل يمكن ان يكون اسمك MA MERE ؟

لقد فقدت برنسي، وبندقيتي، وقلمي
لقد حملت اسما اشد زيفا من مظهري
يا إلهي !..
ما ارهب هذا الليل.. ولكن ما عسى يجدي الصفير ؟
إنه الرعب .. يملأ الأفق من حولك
أنت خائف .. أنت خائف .. أنت خائف ..
فهناك أبدا رجل يلاحقك كرآة لا ترحم
زملاؤك في المدرسة ..
الشوارع ...
الترع ..
كل أؤلئك الذين تؤكد لهم في كل لحظة انك فرنسي .
انظروا جيدا إلى ثيابي ..
إلى لهجتي الفرنسية..
إلى منزلي ..
أنا الذي يجعل من أصله.. من نسبه مهنة زرية ..
أنا الذي يسخر بالتاجر، فيسميه تونسيا.
أنا الذي يعرف ان اليهودي جندي جبان.
أتسمونني جزائريا !
لا تقولوا ذلك ..
فهذه شقيقتي لا تضع على وجهها الخمار.
ألم احصل في المدرسة على كل الجوائز في الفرنسية
في الفرنسية .. في الفرنسية .. وباللغة الفرنسية !
يا إلهي !
ما اشد وطأة الظلام في عيني هذه الليلة !
وفي ذات يوم .. اطل 8 أيار (1) ...
دوري إذا أيتها الأرض..
وزمجري أيتها الرعود..
لقد خلقت ماضي المظلم بجميع أخطائه
في قراره قبري العميق ..

*

في ذات يوم .. أطل 8 أيار ..
أيحتاج الإنسان ان يدفع كل هذا الثمن لكي يفهم؟
أيحتاج لكل هؤلاء المعلمين ليتلقى هذا الدرس؟
وكل هؤلاء الموسيقيين ليحب الموسيقى؟
في ذات يوم .. أطل 8 أيار ..

*

وكما ينقص المرأة المجد الكامل
إذا لم تهبنا عيون الأطفال
التي نرى فيها استمرار عيوننا..
كما تنقص الغابات أفواج العشاق
الذين يملأونهاالمساء:لوا لنسيم المساء : كم تحمنا أيها النسيم !
كما ينقص الشراع المركب الذي ينطلق
والمنديل الصغير الذي لا ينسى أبدا..
كما ينقص الأسرة البشرية واحد منها
كان ينقصني أنا أشياء كثيرة..
كنت بحاجة إلى بستان لأزهاري
إلى عطر لأزهاري
كنت بحاجة إلى بستاني.
لقد شاهدت عيون رفاقي تبللها الدموع..
رفاقي.. ناسجي العلم الوطني الكبير
علم الجزائر.
وها هوذا الآن ينتصب كالريح القوية ..
شامخا .. واسعا .. كالتاريخ
إنه يجعلنا ننتقم لشعرنا الأبيض ونحن في العشرين.
آه ! ...
يجب ان تكون لدينا فضائل النحل
لنسحق العسل .
ولنغني .. أيها الرفاق ..

****


لقد مات رفاقي

4

أعرف جيدا أن مدريد لم تجفف دموعها بعد،
إنها لم تجفف دماءها.
واعرف جيدا أن درجا ضخما للشرف
يقبع قرب "غرونوبل" ..
وأعرف ان "سيئول" قد فقئت عيناها
أعرف جيدا مزارع الأرز الدامية في الهند الصينية..
والسيمفونية الحمراء التي عزفت لنواب مدغشقر
اعرف جيدا كيف ينفى سلطان، وكيف يسجن شيوعي..
ولكني اعرف جيدا أننا الآن
نحتكر وحدنا كل الشقاء والآلام ..

*

إني أحصي رفاقي
لقد مات رفاقي
إني لأتوقف عن العد
عندما أصل إلى اللا نهاية في حساب رهيب ..
إني أتوقف عن العد عندما تتحول الكلمات
إلى أرقام ..

****

كنت ملك أيار

5

ها أنذا أصغي للأنشودة التي لن تأتي أبدا
إن قلبي يتيم "فالس" بطيء ..
كنت ملك أيار.. يوم كنت تحبينني
إن عاشق النسمة الوادعة قد اختار العاصفة.

*

لقد اخترت الابتسامة
لأطهر بكائي من عذاب الأحزان التي يقصونها علي.
لأجعل الشقاء يطفو أخيرا على صفحة تيار.
تيار يجري..
وعلينا أن نخوض عبابه حتى النهاية..

*

إني أسمع من نهايات الزمن لحن قيثارة أندلسية
إني أنادي الشقاء لأمزق شدقيه ..
كنت ملك أيار.. عندما كان الجو طلقا رائقا ..
إن غزالتي تشكو وحدتها القاتلة
في أعماق الصحراء ...

*

ها أنذا أصغي للأنشودة التي لن تأتي أبدا .
المطر يتساقط فوق الشمس التي تجفف ابتسامتها.
المطر يتساقط على يد الماضي
عندما كنت ملكا لأيار ..
المطر يتساقط على حبي
الذي لم يعد له ما يهمس به.

*


العصفور الأزرق

6

ليس هناك من حقيقة سوى الموسيقى، والحب العظيم.
أنا أعرف أن في الحب وساوس لا نهاية لها.
لأعرف الموسيقى تعوزني صحراء تلو صحراء..
ولأعرف اللا نهاية
لا تعوزني غير نظرة إلى عينيك.

*

ليقفز العصفور كالمجنون عندما يهبط إلى الأرض
ولكن ليترفع قليلا عن الحبات التي تنثر أمامه.
حينذاك.. يصبح هذا العصفور الأزرق بكل أوهامه،
يصبح أغنيتي التي أبدعتها منذ لحظات..

*

لقد تعرف نشيدي في صباح يوم ضاحك.
كان حزينا متعبا..
كان يتغنى بالبنفسج..
وهزت رأسها ثمرة توت موافقى ..
وانطلق نشيدي ..
لقد وجدت الصواب .. عندما أضعت رشدي.
وحينئذ ناديت:
لقد انزلقت الزجاجة في البحر.
لترقص في ركن كالحلم..
إن من يصيبه الدوار يعرف أن الصحراء
ينتابها جنون غريب لترى نفسها
شاطئا رمليا.. نديا ..
حينئذ .. أطلقت صوتي ..
كان علي أن أنادي.
إن الهالة التي تحيط بي ليست إلا غيمة عابرة،
وطائرتي ترقص وسط العيون
متسولة الشرر..
باحثة عن نجمة الخلاص القابعة على حافة الأفق البعيد.

*

 

غريق

7

الغريق يطفو في عباب التيار
ناسجا من شعره سيقان الغرب (1)
لحلم يمضي
وهناك..
يقف العصفور وحيدا
يحرسه
ينقل روحه
إلى ركن حالم
حيث يستطيع الغرقى مثله الغناء.

رفيقي الصغير

8

إلى أن.. أضع حدا للحيرة والضياع
وتبتدئ الإنسانية بين ذراعي
الآن يبتدئ تاريخي
كانت حياتي الماضية (ما قبل تاريخي).
إن لحبي مذاق أكوان ترقص ..

*

سنسير عبر الألحان لنجمع البشر
يجب أن يفسر لي
مجد الموت، وعظمة الحياة ..

*

رسالتي سأؤديها
تلك هي مهمتي
إني أغني عن قناعة، ومبدأ
اغني .. وأحب هذا الغناء.

*


إني أمنح عطلتي لخدام الشقاء
تعالوا أيها الصبية الصغار..
سأخترع قصة ..
سأقطف نجمة .. لكي أخط لكم كلمة.

*

كان في قديم الزمان ..
هناك .. في بلادي ..
كان هناك صبي
يشتهي “بالونا"..
يالرفيقي الصغير !..
كانت له عينان كرويتان كالأرض
والآن.. وقد مات رفيقي
لقد قتلوه في السجي –
لم أعد أومن بكروية الأرض ..
عندما أرى البالونات ..
رسالتي سأؤديها ..
وليس للأرض إلا الإصغاء.

*

بعيدا عن القبر

9

جئت كالإعصار
وقطرة قطرة أعود.
كلما سرت أراني أبتعد ..
مبررا حياة الأغبياء.
يموت من يحيا.

*

شاعر هنا..
وشاعر هناك..
من البلاهة أن يموت الإنسان
بعيدا عن قبره كل هذا البعد.

*

صمت

10

على تخوم الموهبة
يقوم "موظف الجمارك" بعمله..
هناك فكرة تجتاز الحدود
وليس لديها ماتعلن عنه.

*

ياللبغي .. على الورق الأنيق!
أني أحذرك ياصديقي ..
إن التاريخ سيلقي
في قاذورات النسيان
بنفايات الأدب..
وبالأبواق الصدئة..

*

صور

11

إني أتذكر الطرق الزرقاء
كان البحر وادعا
والجبل ابتسامته الفظة على شفتيه.
كانت يدك ترتعش كغم مطبق.
كانت قبلنا لاهبة
والعنب يتورد
وكان شلال من الشعر يبلل عيني .

*

ما يزال على الطريق نغم ماندولين
وعندما يغفي المساء في عيني
لا احلم أبدا ..
إني أذوق طعم الفجر قويا في هذا الشلال.

*

إني أكتب لأكون جديرا بأمي

12

أمي أبدا جميلة.
إني معها كل يوم
يسمونها حمامة
ولكن اسمها الحقيقي عربي.

*

يمضون في الأسطورة

13

هاهم يمضون في الأسطورة
والأسطورة تفتح لهم ذراعيها.

*

لقد تحدثت إليهم ..
لامست أيديهم ..
كان لهم أبناء ..
وكانوا لا يخلون من العيوب.
كم كانوا يجبدون الابتسام عندما يخيم الليل!

*

إني ألتقي بهم جديد كلما اشتريت جريدة.
كانوا أصدقائي ..
لم يكونوا مجرد كلمات
مجرد أرقام، أو أسماء.
كانوا الأيام الألف، والسنين العشر من حياتي..
الطعام الذي تقاسمناه
ولفافة الضجر..
كانوا يعرفون أطفالي ..
منت أهبهم كل قصائدي
كانت أمي تحب قلوبهم الصافية ..
كانوا رفاقي ..
ما أكثر ما تحدثت إليهم!

*

إنهم يمضون في المعجزة
والمعجزة تفتح لهم ذراعيها.

*

والآن.. لقد تجسدوا روحا كبيرة
لقد أصبحوا وطني
لن أرى بعد اليوم رفيقي عامل المنجم.
كانت ابتسامته تضيء النظرة المرة في عينيه ..

لن أرى رفيقي الجزار
ولا رفيقي معلم القرية
إني أستميحهم عذرا
لبقائي بعدهم على قيد الحياة..
إني أشد يتما من ليلة بلا قمر.

*

إنهم يمضون في الأسطورة
والأسطورة تفتح لهم ذراعيها.

*


على المنضدة

14

على المنضدة المستديرة
كان المصباح الأحمر
وصورتك الجانبية
إلى قاعدة قدح.

*

وتمتمت الزهرة

15

... وتمتمت الزهرة: إني أشعر بالضيق
أعيدوا إلي مروجي
إنها زهرة الحرية.

*

أنا أشعر بالضجر من البيانو
قال العندليب
أعيدوا إلي غابتي ..
فهي الموسيقى كلها.

*

إني أشعر بالضيق، قالت كلمة : احبك.
إني أتململ ضجرا على الورق.
أعيدوا إلي القبلات .. فهي رسائلي.

*

إني أكاد اختنق .. قالت الصورة.
ردوا إلي البسمة التي كانت تشرق بها عيناي.

*

إني أتألم ..
أتألم أن أكون مرآة..
قالت لي الصورة الحية.

*

أطفال الحب العظيم

16

لقد مات رفيقي في غمرة الأنغام
مات في حاكورة قمح ..
وا أسفاه !
كان رفيقي في زهرة الشباب
كان جزائريا ..
لقد كتب قصتي الجميلة ..
هو الذي كتبها ..
كانت كلماته أجمل من حاكورة قمح.

*

أريد أن أقول: شكرا.
أتني موسيقى مادام صديقي يصنع الموسيقى.
سأظل في وقفة الجندي المتأهب.. المستعد
أمام الحلم الضخم الذي سنحققه
وأقول له : شكرا.

*

الآن.. بدأت أعرف الحشرة الضئيلة المتوارية
بين سنابل القمح.
أيها الينبوع .. أثأر له..
إجعل الجرار الصغيرة تحس القرف..
وأنت يا شقائق النعمان
إرتمي بين ذراعيه
قولي له : لقد أصبحت قصيدة حالمة .. أيها الرفيق.

*

أفرغ جرارك قطرة قطرة
واختزن البارود ..
إختزن البارود
ياقلبي ..

*

الموت والأسطورة ينهمران على وطني كالمطر.
إن سنبلة واحدة تكفي لتغنني حقول القمح.
ولحظة واحدة.. تكفي ليهبط الليل.
وتكفي لحظة أيضا .. ليولد النهار.

*

الخبز ..
سنأكله
مع آلاف الوساوس..
مع ألف حذر
إن رفيقي إنسان ..
إنسان يرقد في الأسطورة.

*

إبكي .. يا أماه ..
هذا الصغير الذي غدا ابنك جدير بالدموع..
منذ اهتدى إلى أن يناديك يا أمي !
فباسم مواسم الحصاد دعاك أمه.
ومن صدرك شرب طعم الضياء.

*

على أسطورتي يهطل المطر ..
وأسطورتي تحس الألم في عينيها.
وإذا ما تكالبت عليها الغربان
فذلك لأن الغربان بدأت تخشى الموت.

*

هنيئا لكم طعامكم أيها السادة !
لم يكن رفيقي قد بلغ الثلاثين
ذلك الرفيق المتحفز، ذو النظرة النافذة.
إن دأب الغربان أن تسرق القمح
ذاك ما يعرفه الفلاح
الذي يخشى على أخاديد أرضه زمن البذار.
ولكن الصقور تحصده ..
وقلبي يعرف ذلك
قلبي الذي يخاف على أغانيه.

*

يا للحلم اللاهب في أرض الجزائر!
إن ناسج العلم لم يكن غير صانع للقمح عندما خاض
الحرب الجائرة التي تذرعت بجميع حجج المناطقة لتبرر جريمتها.
لقد أراد ان يهزم الشتاء فمات في لهيب الصيف.

*

إني مصنع إلى الأنشودة التي تجلجل أبدا ..
إنه صوت "الفرح" الذي يرن في أرض الجزائر.
إن جنود الصباح هؤلاء هم أطفال الحب العظيم.
لقد رقدوا بين سنابل القمح ليعيشوا في ذاكرتنا.

*

أرقصي يا شقائق النعمان ..
لقد مات رفيقي في غمرة الأنغام.

*

وقوفا أيها الرفاق

17

وقوفا أيها الرفاق
فالجبل على صواب
إنه الحل الوحيد ..

*

أصغوا إلى خطوات الموتى الثقيلة ..
ماذا تسمى أيها الشبح؟
- إني أسمي جثة
لقد كنت واحدا من هؤلاء الأحياء .. وكانت لي بناتي.
لقد شربت الحليب
والماء
كما شربت الوهم..

*

وقوفا أيها الرفاق
فالجبل على صواب.

*

ولاح لي حطام قلبي، وحطام القباب
في قرانا ..
وآليت أن أجدد بناءها في أنشودة أمل.
إني اكتب عن موتانا.
لقد سمعتهم يقولون:
إن عويل المآتم هو أحيانا مهد الأغنيات.
مهد الموسيقى ذاتها !!

*

أما الآن .. فان الشقاء
وخطى الموتى الثقيلة
ستكون وحدها نغم الصباح
الشقاء الجزائري.. يا لجلال الشقاء!
إنه يعيد أناشيد الغد المترع بالغناء
لقد لوى الإنسان ذراعيه

*

إنه ينتحب في أعماق فرحه
ما أشد غيطة الموتى بالضحكات المقبلة!
إنهم يزرعون أغانيهم فوق البيوت المحترقة.
السواقي دمهم ..
والمحيط في عيونهم.
وقمح المجاعة قد أرسل لحنه الحزين.

*

غن أيها الراعي
فالمشاعل رجال ..
ما أشد غبطة الموتى بالضحكات المقبلة!

*

وقوفا أيها الرفاق
فالجبل على صواب
هؤلاء الموتى الذين تظلكم حمايتهم
لهم وحدهم السلطة..
لهم وحدهم الحق
بأن يرسموا لنا طريق الحياة.

*

لقد ركزونا بعدهم
كما تركز الزهرة على الحجر الصامت.
إني أحمل أملي الواثق من الظفر
أمل لا يتوسل، ولا يستجدي.

*

إني واثق من الفرح
سيكون الفرح جزائريا.
فرح هذه القرية التي سيولد فيها أطفال
يذهبون إلى المدرسة.
يا للفرح الغارق في الفرح !
كسعادة بكر ..

*

إن افتراضي يقين
وقوفا أيها الرفاق
فالجبل على صواب

*

ستملأ الأعراس والحلوى الربوع
سنكون وقوفا كلنا..
وسيرتاح الجبل، سيستسلم للنوم الهني.
لن تكون المناديل لتجفيف الدموع
ولن يكون النسيج لصنع الأكفان.

*

ذلك هو الفرح
إنه أشد بساطة
من كلمة "صباح الخير".
في بساطة حياتنا اليومية تكمن العظمة والسمو.
في بيتنا الذي سنبنيه.
في بيتنا الذي سنجدد بناءه.
ذلك هو الفرح ...
ذلك هو الفرح ..
يا يتيمتي ..
سيكون لك أم غدا ...

*

إني أحيا للعاصفة

18

وإذا كنت أحيا الآن
فاني أحيا للعاصفة
اعني
لك
أنت..

*

عندما يزدحم شارع "سان ميشيل (1)" بالأقدام
رائحة غادية..
فاني أرثي لأصابع قدمي
أين منها طريقها الذي تحن إليه ؟
طريقها الذي حرم عليه ضوء النهار
طريقها حيث يحمي القمر الشاحب الثوار.

*

ما أغبى باريس حين تعتقد أن وجودها يبرر كل شيء.
إني أبسم لهررة وهي تضطهد الفئران
وأفكر في هذا "الآله الرحيم" الذي لم يفقه كل شيء.


إني لأحذر الهررة كما أحذر الفئران
إني لأعشق تلك اللحظة التي تهبني الحياة
سأسمي تلك اللحظة.
أصغوا إذا..
سدوا آذانكم جيدا ..
وافتحوا قلوبكم على مصراعيها.
سأسميها: رفاقي الذي سأعانقهم عما قريب.
سأسميها : داري حيث تنتظرني أمي بصبر نافذ.
سأسميها : رفيقة القيثارات المحطمة
سأسميها :
الجزائر

لقد تغنيت بهذا الاسم عندما ولى الشتاء
لم أبدع شيئا إلا أسلوب حياتي
إنه شعوري الكامل المترع باليقين
إليك يا بلادي سنجتاز الحصى البيضاء في كل قاع.
إلى المخاضة سنعبر أنهار الظلام ..
إلى المخاضة .. أتسمعينني جيدا ؟
على الشاطئ
ستجد المياه الغريقة
السباحين
المنقذين..

****


عندما تغش باقات الزهور

19

أحس التعاسة في أعماقي عندما تغش باقات الزهور.
عندما يعتري الأزهار الذبول.
أو حين يبدو البستاني كحامل النعش
ولكن ..
ما إن يبدو في خاطر الزهرة
أن تصب لعناتها على جامعي الحشائش
على صانعي العقاقير ..
حتى أشعر بالرضا
حتى أحس السرور ..
سرور عصفور تقدم للدخول إلى معهد موسيقي فرفضوه .

*

الجندي وخطيبته

20

كان كل منهما يحدق في عيني الآخر
الجندي وخطيبته..
وكانت عيون باريس مخضلة بالدموع.
ياللجندي الصغير، يبدو كلازمة نشيد محطمة ..
كان ذاهبا إلى الحرب ..
المطر ينهمر على باريس
ومن عيني خطيبته..
كان كل منهما يحدق في عيني الآخر ..
الجندي ومصيره المحتوم .

الحمامة

21

أرأيت أشد سخفا من لقبي في الحرب !
إنه الحمامة ..
ياللمهزلة !

 

أيذكر الصيف؟

22

الخريف في قبضة يدي
كعصفور
وأنا أبكي عبر دموعك..
كعصفور
ترى ! أتمرين في خاطر الصيف ..
حين كانت أشجار الصنوبر تتراقص!
وكان البحر تحت قدمينا!
أيذكر الصيف يا ترى تلك القبلة الباقية على الزمن؟
الخريف في قبضة يدي
ماذا كنت تقول يا حبيبي؟
عشرون قتيلا..
عشرون قتيلا في قريتي !! ...

*

المخاض العظيم

23

واختنق عامل من شمال أفريقيا
في كوخه
وانتهت أوى أناشيدي
بزفرة موجعة.
وانزلقت في الرذيلة فاطمة
التماسا لكسرة الخبز..
إن تاريخا كاملا ليسطر بمثل هذه الأحداث
الشقاء نفسه يتألب علينا
وددت لو أعرف اسم الشقاء..

*

هذه السماء ليست إلا كفنا هنا
ولكنها في بلادي مشعل يتقد..
إنها كيوم احد فقئت عيناه
إنها كربيع منهوب أبدا
لم يمض يوم بلا مأساة
لقد ألفت سيمفونيتي
من ألحان الشقاء ..

*

الشقاء نفسه يتألب علينا
وددت لو أعرف اسم الشقاء..

*

لقد كان لي رفيق
واختار المسكين أن يفقد رفيقه
رأيت سنابل قمح تحني هاماتها
رأيت حملانا تحب الذئاب
وغاضت ابتسامتي في سفر طويل
الشقاء نفسه يتألب علينا
وددت لو أعرف اسم الشقاء

*

يا لأيتام الخميس التي أضعتها
في عيني الميتتين ..
ربما كانت لي خطيبة في سيئول
لقد قيل لي : أيها الملون ..
كما تقال كلمة مجرم
ثم فقأوا عيون قيثارتي
الشقاء نفسه يتألب علينا
وددت لو أعرف اسم الشقاء

*

زبغتة
رأيت مدينتي
في مخاضها العظيم
أيها التاريخ؟
إذا قدر لك أن تنطلق من أرضنا
فلأن الشمس قد اختارت مهدها ..
في الشرق
الشقاء نفسه يتألب ضدنا
وددت لو أعرف اسم الشقاء..

*

إن جاري الأثير لدي
هو دائما الجندي
الذي لم ير الفرح في حياته
الفرح الذي صنعته يداه ..
أما العيد فانه لأولئك الذين يعيشون في عيد دائم
الشقاء نفسه يتألب ضدنا
وددت لو اعرف اسم الشقاء..

*

لامي وللحمامة
اسم واحد
أمي التي ما تجف دموعها
لقد ابيض شعرها وقسا
كقلوب رجال الدرك..
ما أكثر الأغاني التي تعرفها !
الأغاني التي لا تردد إلا همسا
الشقاء نفسه يتألب علينا ..
وددت لو اعرف اسم الشقاء..

*

أخبروني عن القبلة التي حرمت منها
قولوا لي شيئا عن هذه الصحراء
التي أستمد منها أناشيدي
أخبروني عن غزالتي التي قتلوها ..
وزهرتي التي حرموها من البستان
قوا لي: ما الذي يبرر كل هذه الآثام؟
م الذي يبرر مائة ألف حماقة؟..
مائة ألف جريمة؟...
قولوا لي: لماذا يعب المرعوبون كل هذه الكحول؟
لماذا يرتعدون من الأسود الحبيسة
في منفاها؟
ولكن ..
أخبروني قبل كل شيء..
كيف حال الجزائر ؟!!!

*

سأهبك الشاطئ

24

سأهبك الشاطئ الرملي الناعم
والبحر الغارق في غيبوبة ..
وهذا العصفور الذي يتموه
وبعدئذقلبي.هبك قلبي ..
قلبي الذي لا يحسن القتال ..

*

عندما تعرفت إلى قلبي
بدا لي غريبا ضائعا
كصيني صغير..
كانت الشمس تضحك صفراء شاحبة
حين بدأت يداك تصنع لي الكلمات.

****

المهمة التي أنجزت

25

... وعاد السلم.
ستقول الحمامة :
دعوني، وشأني
سأعود عصفورة شاعرة.

******

ها قد وهبته غزالة

أحلام مستغانمي
(الجزائر)

ألأنه مَن قال: "في محطات السفر والمطارات، مكبّرات الصوت تقول "على السادة المسافرين أن يتوجّهوا إلى. ."، ذلك أن السيدات لا يغادرن أبداً، كان أول من أخذ القطار وغادرنا؟

وكنت سأقيس لقائي به، ببضع ثوانٍ مرّت على عجل، لولا أنّه القائل "يجب ألاّ تضيع شيئاً. العشّاق بخلاء. . الثانية والثانية، لا تُساويان ثانيتين. . بل تساويان قبلتين". فصاحب "سأهبك غزالة" كان بخيلاً عن خجل، لكن كان في إمكانه أن يعطيك في كلمتين يلفظهما بلهجة قسنطينية. . ما يعادلهما من قُبل.

لا أظنّ مالك حدّاد، الذي لم ألتق به سوى مرتين لقاءً عابراً، توقّع أن تلك الفتاة التي تقاطعت خطاه معها في اتحاد الكتّاب الجزائريين، ستظلّ وفيّة لذكراه بعد ربع قرن من وفاته، أي زمناً أكبر من عمرها آنذاك. ولكن لا أظنّه سيعجب؛ بأنها هي التي أخذها مأخذ الشعر، والتي كانت أصغر من أن تهبه غزالة، ما انفكّت تهديه بعد موته قطيعاً من الغزلان، عساها كلّما باغتته سخاء تضاهيه شاعرية.

كلّ ذلك السخاء، لاقتناعها بأنّ مع الشعراء، أجمل من الوفاء لِعشرة، الوفاء للحظة، وأجمل من الوفاء لِمَا حدث، الوفاء لِمَا يحدث، وأنّ مالك حدّاد بالذات، سيفهم هذا. فمَن غيرُ الأموات في إمكانهم فهم ما نهديهم حق فهمه؟

يوم التقيته في السبعينات، عابراً في ذلك المقر، أذكر، كان أكبر حزناً من أن يكون في متناول فرحتي به، وكنتُ أنا أكثر خجلاً، وأقلّ خبرة من أرد على طلبه المتواضع بترجمة بعض قصائده للعربية، التي كان يتمنّى أن يسمعها بصوتي في ذلك البرنامج الليلي الذي كنت أُقدّمه، والذي كان يستمع له بشغف مَن يحبُّ موسيقى اللغة العربية التي حُرم من تعلُّمها.

كنت بالنسبة إليه رمزاً للجزائر الفتية، التي صمت ليستمع لصوتها العربي.

وكان بالنسبة إليًّ اسماً كبيرا لم أقرأ له شيئاً، ولكن أدري أن فيه الكثير من فجيعة أبي وحرقة حرمانه من تعلُّم اللغة العربية.

لم يبقَ من لقائي به شيء، عدا ذكرى وسامته الأندلسية، وارتباكي في حضرة تواضعه. فقد كان شاعراً يتكلّم بصوت منخفض، كمَن يعتذر على وجوده خطأ في زمن تُهيمن عليه كلّ تلك الضوضاء، وتحكم ساحته ضفادع الشعر.

لقائي الحقيقي بمالك حدّاد، حدث بعد موته، عندما كنتُ أُعدّ أطروحة في الثمانينات، في السوربون، عن الأدب الجزائري. وصادفت كُتبه زمن غربتي، فأيقظت حنيني إلى قسنطينة، المدينة التي كان مالك مهووساً بها، والتي لم أكن قد عرفتها حقاً.

وبرغم هذا، ولعي بمالك حداد، هو إعجاب أيضاً بنصّه الأجمل. . حياته، التي كروائي كبير أبدع في كتابة خاتمتها، عندما قال: "أنا نقطة النهاية في رواية تبدأ"، وقرّر ان يتوقف عن الكتابة مصرّحاً بجملته الشهيرة "اللغة الفرنسية منفاي، ولذا قررت أن أصمت". وهكذا مات مالك حداد بسرطان صمته، ليكون أول شهيد يموت عشقاً للغة العربية. فهل عرف تاريخ العرب قبل مالك حداد. . كاتباً أقدم على عملية استشهادية كهذه؟

منذ اثنتي عشرة سنة بالضبط، وبمناسبة مرور 10 سنوات على وفاته، كتبت مقالاً آنذاك، عنوانه "سأهبه غزالة"، أُعلن فيه أنني سأكتب إكراماً لمالك حداد ولقسنطينة أول عمل. . روائي لي.

وإن كانت "ذاكرة الجسد" قد أخذت مني أربع سنوات من الكتابة، فجائزة مالك حداد التي ما فتئت أُطالب بإنشائها، انتظرت 12 سنة، حتى تكفلتُ بدوري بمبادرة إنشائها.. لا تكريماً لمالك حداد، الذي لا يُكرّم إلاّ بترجمة أعماله ووضعها في متناول قرائه العرب.
إنما تكريماً للغة العربية ومساندة لكتّابها الصامدين في الجزائر، ولردّ الغُبن المادي والمعنوي عنهم. . بنشر أهم عمل روائي يُكتب بالعربية في كبرى دُور النشر في المشرق، ومنح صاحبه مبلغاً يحميه من الحاجة، ويمكّنه من التفرّغ للكتابة مدّة سنتين. في إمكاني بعد الآن أن أرتاح. كلّ عامين سيخرج إلى الوجود عمل إبداعي كبير، يثبت أن الجزائر ما زالت قادرة على إنجاب الغزلان العربية. . ذلك أنّ الغزلان كالأرض "بتتكلّم عربي"!

عن مجلة (إبداع) الإلكترونية





******

La voix de Malek Haddad dans la pénombre d’un pays retrouvé

Malek Haddad est né le 5 juillet 1927 à Constantine. Il poursuit ses études
primaires et secondaires dans cette même ville. Contraint à l’exil dès 1954 , il s’inscrit à la Faculté de Droit d’Aix-en-provence. Il abandonna ses études pour se consacrer à la politique. Passionné d’écriture, il publiera en quelques années une production poétique et romanesque remarquable. Ainsi paraîtront Le malheur en danger 1956 (poèmes) ; La dernière impression (roman) 1958 , Je t’offrirai une gazelle (roman) 1959, L’élève et la leçon (roman) 1960, Le quai aux fleurs ne répond plus (roman) 1961, Ecoute et je t’appelle 1961, poèmes et essai.
Fervent amoureux de sa patrie mais aussi de sa ville natale, Malek HADDAD a été le témoin d’une société à l’heure de la colonisation et à l’aube d’une indépendance retrouvée. Il assuma de hautes responsabilités au sein de l’Etat. Il s’est éteint le 2 Juin 1978 à Alger.
Essayons de voir sa poésie et sa production romanesque.