الفليح (يسارا) وإلى جانبه إبراهيم الخالدي خلال أمسية له في الكويت مطلع هذا العام (الشرق)
شيعت جنازة الشاعر سليمان الفليح، مساء أمس، في عمان، بحضور نجله سامي، وعدد من أصدقاء الراحل، الذي توفي مساء أمس الأول في العاصمة الأردنية، إثر تعرضه لأزمة قلبية.
وكان الراحل قد سافر إلى الأردن مطلع هذا الأسبوع. ويفترض أن تكون زوجته وابنه سامي قد عادا إلى أرض الوطن أمس.
وتعهد الباحث الكويتي إبراهيم الخالدي بجمع ما يكتب في رثاء الفقيد في الصحف و«توتير»، نظماً ونثراً، لتطبع في كتاب تذكاري، على أن يوزع في أمسية تقام لتأبين الراحل، موضحاً أن هذا شيء بسيط يقدمونه لمَنْ «قاد راياتنا، ودرسنا هيبة البسطاء وراد لنا الدرب حتى رأى مواردهُ، فارتوى الشعراء، ولملم أشتات أحلامنا، وأعلن مملكةَ النبلاء فكنا صعاليك في ركبه، ندوس الفيافي، ونرعى الفضاء».
ونعت شخصيات سعودية وخليجية الفقيد، موضحة لـ «الشرق»، أن رحيله «فاجعة على الأدب والثقافة».
توطين القصيدة
وقال الناقد والشاعر عبدالله الصيخان إن الفليّح أسهم في توطين القصيدة الحديثة في الكويت، سواء في الشعر الفصيح أو الشعبي، وجعل من شخصه وثقافته قنطرة عبور لاكتشاف الجمال فيهما، وتأسيس معادلة للتبادل الحي والمثري بينهما على مستوى البناء الجمالي والإيقاعي، وأخذ بيد شعراء كثيرين إلى الضوء، خاصة في الساحة الشعبية التي كانت تحتاج إلى ناقد بإهاب شاعر.
وأضاف: على المستوى الشخصي، تعرفت على الصديق الفليح عام 1980م، عبر مكالمة هاتفية تلقيتها منه في مجلة «اليمامة»، حيث كنت أعمل، إثر قراءته إحدى قصائدي الأولى بها، ووقتها كان الفليح اسماً معروفاً يكتب زاوية يمزج الشعر فيها بالسخرية في الصفحة الأخيرة من جريدة «السياسة»، وهو الأمر الذي جعلني أدهش بمبادرته النبيلة، وبعدها بعامين كنت والزميل عبدالكريم العودة نشارك في أمسية شعرية إلى جانب الفليح في رابطة الأدباء في الكويت بمبادرة وتنسيق منه.
نكهة الصحراء
وأوضح الصيخان أن الفليح أضاف نكهة الصحراء إلى القصيدة الحديثة، ما شكل ملمحاً من ملامح خصوصيتها. وقال: لعل مولده وسنواته الأولى في صحراء الحماد (شمالي المملكة)، جعلته يفتح عينيه على الصحراء كجمالية أولى في حياته، فأحب البادية طوال عمره بقيمها النبيلة، واستحضر فرسانها وانتصاراتهم في الحرب وهزائمهم في الحب، لافتاً إلى أن قصيدته كانت تضوع بشيحها وخزاماها ورمثها، وتكاد تسمع صهيل خيلها وصيحات فرسانها.
وبيَّن أنه ظل صديقاً لقيم الفرسان الذين قرأ سيرتهم وأشعارهم، ومديناً لهم بالحب والإعجاب، لأنه يحمل داخله فارساً نبيلاً استطاع أن يعلو على عبرة السنين التي ظلت حبيسة محجر العين، وحين ترك الكويت ليستقر في الرياض، ظل يحمل الكويت حباً جارفاً، وذكرى خالدة، وظل يؤكد لكل مَنْ يسأل: أنا كويتي وسعودي وأردني وسوري، وقبل ذلك عربي، كما جاء في آخر تغريداته على «تويتر».
روح شعرية
وأبدت الشاعرة الكويتية سعدية مفرح، حزنها لرحيل الفليح، وقالت: غادرنا بعد أن أثرى حياتنا بالشعر والمقالات الصحفية ذات النكهة الخاصة والعابقة بنكهة البداوة ومفرداتها، التي ربما كان أول مَنْ اهتم بتطعيم قصيدته الفصيحة فيها، بموهبة تأججت بشكل مدهش، خصوصاً في مرحلة البدايات، قبل أن تلم بها التحولات، لكن الشاعر نفسه بقى ذلك الشاهد الأمين على زمنه بكل مراحله.
وأضافت: غادرنا بعد أن غنى في صحراء الألم، وحمل أحزان البدو الرحل على عاتقه الشعري طوال مسيرته الأدبية، التي بدأها في وطنه الكويت منذ بداية السبعينيات من القرن المنصرم، كاتباً صحفياً مشاكساً في جريدة «السياسة» من خلال زاويته الشهيرة (هذرولوجيا)».
وأوضحت أنه في عام 1979م، صدر ديوانه الشعري الأول «الغناء في صحراء الألم»، منبئاً عن روح شعرية جديدة حلقت في سماء القصيدة العربية آنذاك بسرعة ودهشة ميزت الراحل الذي احتفى برحلة التحولات البدوية نحو المدنية والتحضر. وبينت أن الفقيد كان في دواوينه الشعرية الأولى، ذلك الشاهد المشارك على تلك التحولات وفيها، فهو الطفل البدوي الذي نشأ يتيماً في البادية وانتقل للعيش في المدينة لاحقاً من دون أن يتخلى عن قيم البداوة ومعجم الصحراء، ولكنه في الوقت نفسه لم يستسلم لوطأة بعض هذه القيم والتقاليد، ولم يجعل منها سداً يحول بينه وبين القيم النبيلة للمدينة أيضاً.
إشكالية الهوية
وتابعت مفرح: نتيجة لإشكاليات عديدة، أبرزها إشكالية الهوية، توقف الفليح عدة سنوات عن النشر، قبل أن يعاود رحلة الكتابة في الصحافة والشعر، خصوصاً بعد انتقاله للإقامة في مدينة الرياض. وقالت: بالإضافة إلى دوره في تكوين المشهد الثقافي والشعري في الكويت بشكل عام، أسهم الفليح في بلورة ظاهرة الصحافة المهتمة بالشعر الشعبي في منطقة الخليج العربي، وينظر له كثيرون من شعراء الثمانينيات والتسعينيات الشعبيين، باعتباره الأب الروحي لهم، فقد ساعد كثيراً منهم، وأخذ بيدهم نحو النشر والاهتمام بالثقافة الأدبية العامة بعيداً عن محدودية الثقافة الشعبية.
فخر بالصعلكة
من جانبه، قال وزير الإعلام السابق في الكويت سعد بن طفلة: رحم الله الشاعر والكاتب والجندي في الجيش الكويتي سابقاً، الصديق سليمان الفليح. كان مثالاً للرجل العصامي، وعاش فخوراً بصعلكته الشعرية، وببداياته البدوية، وبشرف العسكرية، وبقلم نادر، وكلمات نادرة الصياغة.
وأضاف: آخر اتصال أتاني منه كان قبل شهور، وكان يقول لي «اشتقت لك وحبيت اتصل فيك»، «أما الآن فأقول: سأشتاق لك كثيراً».
حالة صمت
ولم يستطع صديق الراحل، مدير تحرير مجلة «الريان» القطرية، الشاعر عايد الخالد، التعبير عن مشاعره: «عندما تصاب بالوجوم، لا تعرف من أين تبدأ وإلى أين تنتهي؟ هذا هو خبر وفاة الأب والأدب سليمان الفليح.. أحر التعازي لأبنائه وعائلته ومحبيه.
فيما قال الشاعر والإعلامي الكويتي بدر الحمد: من أين يمكن أن يبدأ من عرف «هذا الرجل الكبير، الإنسان، الأديب، الشاعر، الكاتب، الأخ الصديق، الطيبة، الحميمية؟.. أبو سامي، إنسان جداً»، موضحاً أنه التقاه للمرة الأولى عام 1984م في منزل الشاعر هزاع بن زيدان، واستمرت الصداقة، حتى فوجئ بخبر وفاته، واصفاً إياه بـ «الفاجعة على الأدب والثقافة»، وعلى كل مَنْ عرفه.
في حين أشار الشاعر ضامن عبيد إلى أنه عرفه قبل أن يلتقيه، لافتاً إلى أنه عرفه شخصياً وتزامل في الجيش الكويتي، «وكان نعم الأخ والصديق الموجه، يأخذ بأيدي الشعراء المبتدئين بالنصح والإرشاد والمشورة. حمل هموم الشعر والقصة وأحزان البدو الرحل، وكان نبراس وعراب الساحة».
تغريدات
ونعى مجموعة من الكتَّاب والأدباء والمثقفين الراحل، عبر تغريدات على «تويتر»، وقال الكاتب الكويتي فؤاد الهاشم: «صدمت بوفاة صديق العمر الأديب والصحافى والفيلسوف «سليمان الفليح» بعد تواصل لفترة تزيد على ثلاثين عاماً، لكنها إرادة الله التي لا راد لها».
فيما كتب الدكتور عبدالله الغذامي: «رحمك الله يا شاعراً ملأ الصفحات حباً وصفاءً، وكتب بقلم ينهل من دم قلبه ويلملم جراح اللغة والخيالات، تغمدك الله برحمته».
الشرق- (٢٣-٠٨-٢٠١٣)
********
يشكل غياب الشاعر سليمان الفليح (1950-2013) خسارة كبيرة، ليس للشعر المعاصر في بلديه: السعودية والكويت فحسب، بل وللمشهد الشعري العربي، بشكل عام، حيث قدم للمكتبة الإبداعية مجموعة من الدواوين الشعرية، منها: “ديوان الغناء في صحراء الألم” ،1979 “أحزان البدو الرحل”،1980 “ذئاب الليالي” ،1993 “الرعاة على مشارف الفجر” ، “رسوم متحركة” ،1996” البرق فوق البردويل” ،2009 وهو آخر دواوينه، ولدى الفليح أيضاً مجموعة من المخطوطات الشعرية والنقدية، إضافة إلى الكثير مما كتبه في عالم السرد، لاسيما أنه كان من كتاب الأعمدة الصحفية التي تابعها قراؤه، خلال فترة طويلة، عندما كان يكتب زاوية “هذولوجيا” .
يعد الفليح أحد رواد الحداثة الشعرية في الخليج العربي، عامة، حيث كان صاحب رؤية شعرية خاصة، وقد كان ممن تبنوا هذا المشروع، وترجمه على امتداد عقود، وجاءت أعماله الشعرية التي كتبها، في مجال قصيدة التفعيلة، ضمن هذا الإطار .
البيئة الأولى
تشيرالدراسات التي تناولت سيرة الشاعر إلى الفليح أنه ولد في بيئة بدوية، فقد فتح كلتا عينيه في منطقة الحماد في المملكة العربية السعودية، وكان أبوه فليح بن لافي العنزي شاعراً معروفاً، ولكنه فجع برحيله، وهو ابن الأربع سنوات، ما ترك أثراً عميقاً في نفسه، فوجد نفسه، أمام قطعان صور الشعر الهائلة التي كانت ترتسم في مخيلته، وتحتاج إلى التقاطها، وكتابتها في القصيدة التي ستشبهه، وقد أوتي بالكثير من العوامل التي ستساعده على ارتكاب فعل الشعر: قوة الموهبة، الثقافة الواسعة التي سيكتسبها أثناء تعليمه، علاقاته بالأدباء والمبدعين وتعلقه الكبير بسير الكتاب والشعراء وتعمقه في قراءة إبداعاتهم واستظهار الشعر، أضف إلى كل ذلك، الشعور المرير باليتم، هذا الشعور الذي كان يدفع به نحو الإبداع .
وإذا كان الفليح يميل بروحه إلى الحداثة التي أبهره بعض نماذجها التي قرأها لعدد من الشعراء المبدعين، في عدد من عواصم الشعر العربية، لاسيما: بغداد، دمشق، القاهرة، بيروت، إضافة إلى عدد من الشعراء الخليجيين السابقين عليه، أو الذين واكبوا تجربته الزمنية، فإن تشربه بالبيئة البدوية الأولى، التي ظل تحت سطوتها، طوال حياته، مثلت معيناً روحياً ثقافياً لا ينضب كان له في المقابل أثره الكبير على تشكيل ملامح تجربته، ما جعله يقرأ الشعراء القدامى، لاسيما الصعاليك منهم- إلى جانب الشعراء المحدثين، ما يدفع لوسمه ب”آخر الشعراء الصعاليك” لاسيما أنه، وفي آخر ندوة له، ضمن فعاليات مهرجان القرين الثقافي التاسع عشر في الكويت، وأشار إلى مفهوم الشاعر الصعلوك، وجذر الكلمة “صعلك” .
إشكال المكان
توفي الفليح في المملكة الأردنية الهاشمية- قبل أربعة أيام- بعد أن زارها مؤخراً، ليمضي فيها إجازته الخاصة، كي يوارى الثرى في تراب المقبرة الهاشمية في عمان، وخاض غمار الشعر، وامتطى لججه في الكويت، التي عاش فيها إلى وقت طويل، يكتب في صحافتها، ويشارك في الأمسيات والندوات الشعرية والأدبية والنقدية فيها، إلى الدرجة التي قد اعتبر بنظر بعضهم مبدعاً كويتياً، وهو هنا ابن أكثر من مكان، وكان من الطراز الذي يتم التفاعل مع حصيده الإبداعي، على نطاق واسع، حيث عرف قصيدته جمهور كبير واسع، على امتداد خريطة قراء ومتلقي العربية، ما يجعلنا هنا، أمام شاعر ينتمي إلى أمكنة كثيرة حقاً . وقد تبدو صورة -الرجل- على نحو أبرز إذا عرفنا، أنه شارك أثناء حرب الاستنزاف في سبعينات القرن الماضي ضد العدو “الصهيوني”، وكي يكون جندياً في حرب الخليج عام 1990 .
ثنائية البادية والمدينة
وغير بعيد عن إشكال المكان، نجد أن حياة الفليح، تتوزع بين فضائين: فضاء البادية، التي كانت مهاده الأول، وفضاء المدينة التي كانت مهاد قصيدته، وقلمه، ولهذا فإن شساعة الفضاء الذي عايشه، وتفاعل معه الشاعر، منذ الطفولة، ومروراً باليفاعة والصبا والكهولة، جعلته يستخلص لذاته معجماً فريداً يشبهه: حيث قساوة الصحراء، ورخاء المدينة، المدى اللامتناهي في البادية، مقابل الأسر الذي تمارسه المدينة، وضجيجها على ابنها، وذلك على نحو أكثر حدة، عندما يكون هذا الابن: مبدعاً، شاعراً، أو فناناً، أو تشكيلياً، أو موسيقياً، أو روائياً، أو قاصاً .
إن دارس قصيدة الفليح يستطيع أن يعثر على كل مفردات هذين العالمين في قصيدته، وكي يصلح أن يكون بدوياً في المدينة، ومدنياً في البادية، وإن كانت قصيدته ستحتل له مقعده في مركبة الحداثة، بلا منازع، يقول: “توفي أبي وأنا ابن الأربع سنوات، وأصبحت يتيماً، ولم يكن لي أخوة، فقلت حينما أتزوج سأنجب قبيلة من الأبناء تعوضني مأساة اليتم، لكي لا يتذوقوا ماذقت من مرارة اليتم والوحدة دون إخوة، وضعتني أمي تحت شجيرة في الصحراء، ولفتني بطرف عباءتها، ثم سارت تغني في ركب القبيلة الظاعنة حدود الغيم” .
الانتماء الجيلي
ثمة إشكال، يتم عند تناول العديد من التجارب الإبداعية، وذلك عندما يتم التدقيق في البيلوغرافيا الإبداعية لهم، حيث يتم اعتبارهم أبناء جيل محدد، قياساً إلى موعد إصدار العمل الإبداعي الأول، وهو خطأ قد يقع فيه من لم يتابع تجربة الفليح، حيث إنه أحد شعراء سبعينات القرن الماضي، إذ بدأت أولى محاولاته في كتابة الشعر، في سن مبكرة، ونضجت تجربته خلال هذا العقد، وإن كانت مجموعته الأولى ستنتمي إلى أواخر هذا العقد، وهي بحق مشكلة كبيرة، إذ إن هناك مبدعين تتأخر طباعة إبداعاتهم عن الفضاء الزماني لحراكهم الثقافي، وتنتمي تجربة الفليح إلى هذا الأنموذج تحديداً، حيث إن المجلات والصحف احتضنت بواكير إبداعاته الأولى في وقت سابق على العام 1979 الذي صدرت فيه باكورته الشعرية الأولى .
ترجم الشاعر الفليح إلى عدد من لغات العالم: الإنجليزية، الفرنسية، الروسية، الصربية، ترك وراءه عدداً من الكتب مثل: “دراسة عن حياة الصعاليك العرب”، “السيرة الذاتية لطائر الشمال”، “دراسات وترجمات”، “الدراسات النقدية والأنتربولوجيا”، و”الأعراف والعادات - البدو”، كما كتب عدد من النقاد والدارسين حول تجربته، والضروري طباعة أعماله ومخطوطاته التي لم تر النور خلال حياته، إضافة إلى طباعة ما كتب عن تجربته، كما أن إصدار جائزة باسم الرجل، يعد ضرباً من الوفاء لمبدع حقيقي، يمكن الاحتكام إلى تجربته -الحياتية- وحدها، لمعرفة ما فيها من مواجهة كبرى للظروف، تشبثاً بالحياة، وهياماً بالإبداع والعطاء، وإذا كان الفليح قد نال في حياته عدداً من الأوسمة والدروع، فإنه من الضروري أن يحمل المبدع الجديد الذي يحث الخطا على طريقه جائزة تحمل اسمه .
من أغنية الولد البدوي
الليل يرخي حجابه
ونحن سنسهر حتى الصباح،
نعيد حديث الصعاليك، نأرق
أن نام كل خلي وأوصد بابه
ونقاسم تمرتنا
وناقسم كل شقي بهذا الزمان عذابه
ونختط ما أختط بالسيف أسلافنا بالكتابة
***
غن لي أيها الولد البدوي
فثلج تراكم في الروح منذ سنين يريد الإذابة
فاشعل روحي لهيباً فحادي القوافي تغرب عني
طويلاً إلى أن خمدت فطال اغترابه .
الخليج -آخر تحديث: السبت , 24/08/2013