برحيل الشاعر البولوني تشيسلاف ميلوش، (1911 ـ 2004) يفقد شعر الشهادة والاحتجاج وشعر "الضمير التاريخي" آخر رواده، وقاماته الكبيرة، بعدما تغير ما تغير في العالم، وأصبح العالم "الجديد" قديماً، والثوري عتيقاً، والأيديولوجي من مفردات الاستهلاك. ميلوش، منذ بداياته، اختار ان يكون "شاهداً". واذا عرفنا، انه، ترعرع في بلاد غنية ثقافتها، وتناقضاتها، وأشكال إيمانها، وتحولاتها أخيراً، ومن ضمن صفقة نتائج الحرب العالمية الثانية، الى المنظومة الاشتراكية التابعة للاتحاد السوفياتي، نكتشف موقع هذا الشاعر، الذي وإن بدا في مرحلة من المراحل، جزءاً ولو هامشياً من تلك "الثورة التغييرية" ونظامها فانه، ايضاً عاين، وبشكل معيش، تبعاتها على بلاده، بولونيا.
فهل يمكن اعتبار ميلوش ابن "الثورة الاشتراكية" الضال؟ أي هل كان، وارتباطاً بالمناصب الديبلوماسية التي احتلها، "على مسافة قريبة من النظام الشيوعي في بولونيا، أم انه كان، برغم كل شيء، على هامش تلك البنى الشمولية التي حددت بنفسها حاجات المثقف وضروراته وحتى مضامينه وطرق كتابته؟ لكن يبدو ان ميلوش استفاد من تعيينه في السلك الديبلوماسي في واشنطن وباريس، ليختار فضاءه الخاص، المغاير للآلة الايديولوجية التي كانت تتحكم ببلاده. فهو ابن "التناقضات" التاريخية. لكن هو ايضاً "ضمير تاريخي" بامتياز. وهذا يعني انه إزاء التوتاليتارية الفكرية والسياسية اختار الحرية الفردية. او فلنقل اختار ان ينتقل من دور الشاهد "المرصود" و"المراقب" الى دور الشاهد الحر الذي تنكب كمثقف وشاعر، مهمة تغيير النظام القائم في بلده. وكان على السلطات، هناك ان ترد عندما اختار البقاء بين أوروبا وأميركا. وفي مناف أخرى، ان تمنع كتبه. فهذا الكاتب الذي شهد على احتلال النازية بلاده، ومن ثم الستالينية، كان لا بد له ان يمج الايديولوجيتين: الشيوعية والعنصرية، وهو يختلف عن العديد من المثقفين الأوروبيين الذين رفضوا الهتلرية وانحازوا الى الستالينية، (أي استبدال شمولية بشمولية ودكتاتورية بدكتاتورية) أو العكس. ولهذا، فانه، ومن موقع مستقل انشق عن نظام فرصوفيا وهو في قلب العالم الرأسمالي أو الليبرالي. من دون ان يذوب ضمن صراعات الحرب الباردة، ومتطلباته، في الفكر المحافظ او المتشدد. على هذا الأساس، وابتداء من العام 1945، انفرد على مساحات المنافي الأوروبية والأميركية، ليصير جزءاً من حركة مقاومة نظام بلاده الشمولي والقمعي والتابع للمنظومة الأم: الاتحاد السوفياتي. حركة المقاومة هذه التي أشار في كثير من كتاباته الفكرية والأدبية اليها، إشارات واضحة ودامغة، التقت بالمناخات المتصاعدة ضد مركزية الاتحاد السوفياتي في أوروبا، وفي بولونيا نفسها، حتى توجت أخيراً برحيل نظام ومجيء نظام آخر على رأسه ليش اليسا...
على أن المهم في أفكار ميلوش وأشعاره وحتى رواياته، انه اختار الكتابة ذات المروحة العريضة، أي البعيدة عن أفق الالتزام الضيق والمحدد والمباشر. فهو ابن عصره الشعري أولاً. عرف المدارس الشعرية الكبرى ابتداء بالرومانطيقية ومن ثم الرمزية وصولاً الى السوريالية، وانسحاباً الى المستقبلية التي ظهرت في روسيا وايطاليا في نهايات القرن التاسع عشر، من دون ان ننسى انه متجذر في التاريخ الأوروبي... (وهو أوروبي من الضفة المنفتحة) ككل ايضاً. من هنا هذا الطعم "المحلي"، و"المكاني" للكتابة لكن المشحون بكل الإرث الأدبي الطليعي، (بما في ذلك الثوري غير المقنن). ومن هنا ايضاً هذه القصيدة، التي وإن استقت مفرداتها ومضامينها وعبقها من ذاكرته، وحواسه، وأمكنته، إلا أنها بقيت "ضميراً" طليعياً بقدر ما بقيت مفتوحة على الارهافات المتسعة. وهذا يعني ان ميلوش استفاد من كل الإرث الفكري والشعري وحتى الأيديولوجي والأدبي، ليكتب قصيدة لا تنتمي الى مدرسة ما، وإنما تنتمي الى ذاتها، غارفة من مختلف انجازات الحركات الشعرية الأوروبية وغير الأوروبية. فهو شاعر بولوني بقدر ما هو شاعر أوروبي وهو أوروبي بقدر ما هو كوني. وربما على هذا الأساس منح نوبل في 1980، وإن ظهرت أسباب أخرى تتعلق بانشقاقه عن النظام الشيوعي في خضم الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي.
ولد ميلوش عام 1911 في ليتوانيا، ودرس في جامعة ويلنو التي كانت لا تزال بولونية، ثم انتقل الى فرصوفيا خلال الحرب العالمية الثانية حيث اصدر انطولوجيا تضم شعراء مناهضين للنازية. وفي 1946 و1950 انخرط في السلك الديبلوماسي، وعين ملحقاً في واشنطن. وباريس، حيث اختار ان "ينشق" عن نظام بلاده ويختار "المنفى" ملاذاً. في 1952 اصدر "الفكر الأسير" منتقداً الستالينية وتواطؤ المثقفين في أوروبا الشرقية. وفي عام 1960 دعي ميلوش الى جامعة بيركلي في كاليفورنيا لتقديم سلسلة من المحاضرات الأدبية والفكرية، فقرر البقاء فيها ليدرس مادة اللغة السلافية وآدابها.
وعندما سقطت الشيوعية عام 1989، والتحولات التي حدثت في المنظومة الاشتراكية اختار التنقل بين كاليفورنيا وكاراكوفيا.
وفي مطلع هذا العام صدر لميلوش "كتاب الألفباء" و"الكلب والنخبوي" أثار فيهما مسائل وإشكاليات يعبر بها عن مآسي القرن العشرين.
من ابرز أعماله "الفكر الأسير" (1953)، "أوروبا أخرى" (1964) "أرض اولرو" (1985)، "رؤى عن خليج سان فرانسيسكو (1986)، "شهادة الشعر" (1987)، "خلود الأدب" (1988)، "من البلطيق الى الباسيفيك" (1990)، الالفباء" (2004).
وفي الشعر "قصائد (1934 ـ 1982) (1983) ومن رواياته "الاستيلاء على السلطة" (1954) "على ضفاف ايسا (1956)
آن الأوان...
السهول المجدفة كأحواض زرقاء تبصق دخانها. على أطرافها، نيران، رشقات، وكشافات.
شمس كبريتية مرعبة تعبر الحقول.
عرف الطرقات كأنه ينشق غالباً تحت الضغط.
عندها كانت تتبعثر خارج التيار المعسكرات المسحوقة.
المدافع كانت تسقط عرضاً، والأحصنة تثور في أعنتها المقطوعة.
في الضواحي. في الضواحي حيث كانت المنازل المقفلة صامتة.
توقفت دبابة. كل قبعات الحامية تطوف على جماع الدم والعرق الآسن.
لم يتبق الا ساعة لإصلاح المحرك.
عندها يجثون، أيديهم ترتجف من الحمى، الزيت الأشقر يتسرب الى الرمل.
يقيس الزمن.
بين الإعلام التي ترفرف، مواطن من الجمهورية البولونية
يخرج ويتفرج على الاستعراض.
اثنتا عشرة سنة مرت، الجيوش تتألق. الأوركسترات تعزف الحدائق أزهرت.
النهار الواسع، ينهض عمودياً مغسولاً بالغيوم.
آن الأوان.
آن الأوان لمراقبة السنوات.
السنوات المنقضية تقف مصفوفة كمعادن من الخرطوش.
المفرغ.
يا تاريخاً
يا تاريخ السنوات المقبلة
في تشنج، كمختصر يفتح يده ويقبضها،
يتجمد فجأة
الذي فهمك.
في الربيع
1933 في الربيع. توهج على المدينة.
العجلات تدور، المضخات تلتهم الفضاء، بلا انقطاع تجري المركبات.
في طبقات المباني كلها ترن الفونوغرافات.
انت تقف على حواجز النهار.
فوقك تزبد غيمة كغابة أحرقتها القنابل.
والليل
ببطء
يهبط.
بقميصك الذي لم تغيره منذ أسبوعين، بحذائك الذي ينتن، بلحيتك الشقراء تستعرض حياتك وحياة الذين يمضون في الشارع
والذين ينامون في محطات القطار
والذين يتضورون جوعاً أكثر منك
ترصد الأرض من مرتفعات طيارين مجهولين.
قاس
ان تكون مجرد واحد بين ملايين عدة
عليك ان تقبل بأن حياتك ليست الا ذرة غبار في الأكاليل، في الأوسمة شهب ريح المستقبل
المدن في الشمس الخضرة تنمو
الأرض تصير الأكثر سعادة بين الكواكب
لكنك تكون عندها قدمت.
الليل يتمتم في الأبواب الموصدة
في الغرف التي تهز صدمة القلوب الصامتة
في الناس غير الواعين، الراصدين نبض الدم.
واسعة، جميلة، الأرض هنا أمامك،
واسعة، دامية، تتمدد على قدميك.
المواس
في الساعة الثامنة المواس وهي تصر تنهش اللحى في الطابق الرابع من منزل ابرد من الصقيع. شاب مرهف بلغ منتهى النوبة يزمجر تحت الدوش، ولسانه ممدود
الثلج يذوب على القمم، الأحصنة ذات الوبر الطويل تدخن.
اذا لم يبق الا مادة للبحث
اذا لم يستبق سوى سر مغر
من تراه يقول ان كان ذلك خيراً أو شراً؟
لحسن الحظ ما زالت السماء محجوبة بجلد ولحم امرأة ممزقة
علقة الأرض
تمتص شفتي، بالكاد ميتة تسقط
في ماء عدم يرعب النفس
التاريخ
التاريخ
هكذا كان تاريخ الإنسان
الزمن كحصان في ضحكة خفيفة يركض على الساحل الصخري.
ترجمة: ب. ش
المستقبل
الأربعاء 18 آب 2004