قبل 46 عاما جاء ديوان أحمد عبدالمعطي حجازي الأول 'مدينة بلا قلب' ليثير شيئا أشبه بالعاصفة في عالم القصيدة العربية، لم يكن موقفا مختلفا ومغايرا في فنيات الشعر وجمالياته وإنما أيضا في رؤية الشاعر.. هو ليس ذلك النبي الذي تسقط عليه الكلمات من السماء وحيا فيتيه بها فخرا، إنما شخص عادي يصارع المدينة الظالمة القاسية التي ترفض فتح أبوابها أمامه.. هو الغريب وبائع الليمون والفتي الذي يكلم المساء.. تمرد علي كل التاريخ العربي السابق، قال: لن أخاطب ذلك الجالس في القصر بعد الآن، قصائدي ليست له، كلماتي لكائنات مملكة الليل: الصعاليك والمهمشين وأولئك الذين انكسرت قلوبهم.
بعد كل تلك السنوات، بعد هذا الصراع الطويل... حجازي في السبعين ومدينته لم تعد قاسية وباردة كما كانت قبلا.. كلاهما هده الحزن، غير أن القلب مازال مشتعلا بالرفض والغضب والحب.
الثلاثاء الماضي، السابعة والنصف بأتيليه القاهرة.. كان حجازي جالسا بأناقته البسيطة وابتسامته الهادئة محاطا بالأصدقاء والمحبين الذين ملأوا قاعة الأتيليه وأتوا لمشاركته في احتفالية بعيد ميلاده السبعين.
حجازي الذي أنصت له الجمهور وهو يلقي بصوته المميز قصيدة 'طردية' و'سلة الليمون' و'آيات من سورة اللون' كان حاضرا كما عوٌد جمهوره بروح منطلقة محافظا علي قيم الصعلكة، حالما كالمعتاد بالعدالة الاجتماعية والحرية.
الاحتفالية التي استمرت لأكثر من ثلاث ساعات بدأت بكلمة لأسامة عرابي مقرر لجنة الأدب بأتيليه القاهرة الذي رحب بالحضور وعبر عن سعادته بالاحتفال بسبعين حجازي العامر بالعطاء الفني وقال عرابي في كلمته أن الاحتفال بحجازي هو احتفال بشاعر لم يتنكر يوما لتراثه الشعري بل انكب عليه ليصقله ويرعاه ويطوره مدفوعا دائما بروح المغامرة والتجديد.
فاروق شوشة قال: 'إن هذه الأمسية تعيدنا إلي أنسام من العمر الجميل حين كنا جميعا قادمين إلي المدينة نشعر بالانسحاق من جراء قسوتها، علاقتنا الإنسانية الحميمة في القرية تتآكل، نبحث فيمن حولنا عمن يأخذ بثأرنا من تلك المدينة العصرية، حتى جاء حجازي فأحسسنا أن هناك من أخذ ثأرنا'.
شوشة أشار في كلمته إلي أن هناك من الشعراء قبله من عبروا عن صدمة المدينة لكن حجازي كان أكثرهم تميزا حيث عبر عن تلك الصدمة بأصدق تعبير في أكثر من قصيدة له وضرب مثالا علي ذلك بقصيدة حجازي 'أنا والمدينة' حيث شعر شوشة في تلك القصيدة بأن حجازي قد انتصر علي المدينة وأمسك بزمام الواقع لتتبلور شخصية حجازي الصعلوك بالمعني السامي للصعلكة والصعاليك في بحثهم الدائم عن العدالة الاجتماعية ودفاعهم عن الحرية، وهو ما تجسد في ماضي حجازي كله وحاضره حتى في مقاله الأخير في الأهرام الذي بدأ فيه مخلصا لمعني الصعلكة ولبحثه الدائم عن العدالة والحرية.
تعرض شوشة بعد ذلك في حديثه لجدلية التعامل مع التراث التي يطرحها حجازي في شعره، وهي جدلية كما يري شوشة تقوم علي الحوار والمعرفة والاختلاف لذلك فنحن نجد حجازي وقد عارض سينيه 'شوقي وسينيه' البحتري ونونيه العقاد.
وعن تجارب حجازي الشعرية الأولي وبداياته الأولي مع أبناء جيله قال شوشة: 'كنت أحس أن التجارب الأولي لرواد الحداثة هي تجارب جريئة ومقتحمة كتبت بلغة هشة تذكرني بالشعر المترجم فكنت أحس أن تجارب عبدالصبور الأولي مكتوبة بلغة الشاعر والسوق، وكنت أبرر ذلك بأنهم أبناء المدرسة الواقعية، فلم أكن أميز في قصائد البياتي الأولي السباب من الشعر، لكن هذه الهشاشة لم ينج منها سوي السياب في العراق وحجازي في مصر، فحين كنا نقرأ قصائد حجازي كنا نحس أن قصائد حجازي أكثر اتصالا بتراث الشعر العربي وخلوه من التعريب والترجمة ، كنا نحس أن حجازي هو ابن البرية وابن الفطرة الشعرية الخالصة.
كان عبدالصبور يبهرنا بفكر الشعر وفي كل قصيدة يقول لنا بطرق مختلفة أنا مفكر، بينما كان حجازي منطلقا بفطرته ينشأ كلاسيكيته الشعرية الحديثة.
وفي نهاية كلمته عبر فاروق شوشة عن اندهاشه من الأصوات التي ترتفع بين الحين والحين لتقول حجازي لم يعد يكتب شعرا، حجازي كاتب مقال، حجازي أصبح ناقدا.. حيث استنكر شوشة مثل هذه الأصوات واستغرب كيف يمكن أن نطالب مبدعا بأن يخرج لنا كل سنة كتابا، فمنجز حجازي الشعري حيٌ بيننا وليعش سبعين عاما أخري فقيمته لن تتبدل حتى لو لم يكتب من الآن ولقيام الساعة حرفا واحدا.
بعد ذلك تقدم الفنان هناء عبدالفتاح وطالب الحضور بالوقوف دقيقة حداد علي زملائه المسرحيين ضحايا محرقة بني سويف ثم قام بإلقاء قصيدة 'مرثية لاعب السيرك' بأداء فني جميل، تبعته د. كاميليا صبحي التي قدمت مداخلة بسيطة تحدثت فيها عن شعر حجازي الرقيق والبسيط في مفرداته الذي يصيغ من 'سلة ليمون' أو 'لاعب سيرك' عالم شعري يأثر قارئه.
***
'هذا شاعر قادم من سفر راحلا لسفر'..
بهذه العبارة وصف د. محمد عبدالمطلب الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي حين قابله للمرة الأولي عام 1963 حينما كان يلقي شعره في كلية دار العلوم، وهي العبارة التي يري عبدالمطلب أنها المفتاح لفهم شعر حجازي.
عبدالمطلب الذي قال إنه أتي لكي يحيي حجازي لا لكي يتحدث عنه قال إن هناك ركائز أساسية في الشعر العربي وهي الموسيقي، اللغة، الخيال، والمعني وهي الركائز التي يري أن كل مراحل الشعر العربي حافظت عليها مع التغير في شكلها ومضمونها.. وفي شعر حجازي يبرز المعني كركيزة أولي فحجازي هو شاعر الشعراء في الصيغة الشعرية التي لا نجدها إلا عنده.
وعن رؤيته لشعر حجازي حكي عبدالمطلب كيف أخذ يبحث عن المعني في شعر حجازي فأخذ يقرأ أعماله الشعرية الكاملة، ويبحث عن السفر الذي رأي أنه يسكن الشاعر فأحصي مفردات السفر في مجمل دواوينه ليجدها 20 مفردة عن السفر واندهش حينها كيف يحس دائما أن حجازي شاعر مسافر ومع ذلك لا تتجاور مفردات السفر في شعره مفردة، ليعلم بعدها أن السفر عند حجازي ليس هو السفر الذي يحدده المعجم، بل السفر عند حجازي هو الحياة، فحجازي هو المسافر الأبدي فكل العمر عند حجازي أسفار.
فحجازي يرحل من مكان لمكان لأنه في رحيله يجد الحياة، ورحيل حجازي هو رحيل بالأساس في الداخل.. داخل نفسه.
قال المفكر محمود أمين العالم: إن هذا هو العيد ال30 أو ال40 علي صداقته لحجازي، وبأنهما عملا سويا منذ هجرة أحمد عبدالمعطي حجازي إلي القاهرة من قريته، وجمعتهما مجلة 'روزاليوسف'، وفي باريس، وخاضا معا الكثير من المعارك، ووصف شعره بأنه تعبير فني عن جوهر شخصية 'حجازي' ولا يشكل خطا جامدا بل تعبر حياته التعبيرية/ اللغوية/ الفكرية بجلاء عن مواقفه وحياته.
وأضاف أن الشعر عند حجازي بنية فنية محتشدة بالحماس والتدفق الانفعالي للبلاغة الشكلية واللغوية يغلب عليها الطابع الحكائي، والطابع التاريخي.
وحجازي بالنسبة للعالم لا يبحث عن تكامل لرصيد معرفي بقدر ما يسعي لاختراق لكل ما هو قائم وما كان ينبغي أن يقوم، وأن تجربة حجازي الشعرية تمتلئ بالدلالات المحرضة والفعالة، وتتسم شعريته بالتعبير بالصور، فهو يفكر شعريا ويعبر عن المشاعر بالصورة، فهو يحول المجردات إلي محسوسات.
يظهر في شعر حجازي¬ والحديث مازال للعالم¬ الظل الشكلي للتراث، ومع ذلك تتجلي حركة الإبداع في التصوير واللغة لاقتحام ما هو أعمق، وما هو أكثر استنارة، متواصل مع ذاتيتنا وانسانيتنا، فما تظهره تجربة حجازي الشعرية أن حرية فما الإبداع تحقق لنا إبداع الحرية.
الفنان التشكيلي عدلي رزق الله قال: إن الطريقة المثلى للاحتفاء بحجازي¬ وقد سبق أن أشار إلي ذلك في ستينية حجازي¬ هي وضع شعر حجازي بين يدي أبنائنا.
وذكر رزق الله إرادة حجازي وتصميمه أثناء تواجدهما في باريس بالسبعينيات فقد صمم حجازي علي الاستزادة من اللغة الفرنسية التي واظب علي دراستها بمدرسة الصداقة الفرنسية وكان حجازي في عقده الأربعين¬ أكثر من فصل في اليوم الواحد. وذكر رزق الله أيضا أجمل ليالي باريس الليلة التي تزوج بها الفن التشكيلي بالشعر¬ حسب تعبيره¬ حيث عرض حامد عبدالله علي عدلي أن يكتب حجازي قصيدة كمقدمة لمعرض فني لعدلي رزق الله¬ ويعتبر أول معرض شخصي للفنان¬ ومن هنا تولدت قصيدة 'آيات من سورة اللون' وقد ترجمها إلي الفرنسية جمال الدين بن شيخ، وألقي حجازي القصيدة بأسلوبه الذي يمثل الروعة في الإنشاد العربي، وإبن شيخ ترجمتها، وقد كان الجمهور الفرنسي أكثر إنصاتا من الجمهور العربي للقصيدة، وبعد ذلك سهرنا في مطعم يوناني وبهذا اكتملت أجمل ليالي باريس، وكانت ملكة هذه الليلة السيدة 'سهير' زوجة الشاعر التي مثلت المرأة المصرية حين تحتفي بشاعرها.
وأضاف عدلي رزق الله انه بصدد إعداد كتاب عن حجازي، وهو يعقد محاورة بين الفن التشكيلي والقصيدة، مشيرا إلي تقاطع في قصيدة 'كائنات مملكة الليل' حيث يظهر بها إيقاع تشكيلي، والكتاب سيهديه إلي حجازي في عيد ميلاده الحادي والسبعين (يذكر أن عدلي قد أعد من قبل كتاب من نفس النوعية مع شعر صلاح عبدالصبور).
واختلف الشاعر حسن طلب مع فاروق شوشة في مسألة الاتصال بالتراث واللغة، فشعر حجازي¬ في رأيه¬ ينحو إلي غربة، ليست غربة في المكان بل غربة في الزمن، وقال: الزمن الذي أقصده ليس زمنا معدودا وكمي، وليس الزمن المنصوص في التراث المعدود والمقدر، بل هو الزمن المفقود، ولهذا فإن اتصال حجازي بالتراث المتمثل في اللغة لا يهدف إلي نفس الاستخدام التراثي للزمن.
وأضاف أن شعرية حجازي ترتبط بالوجود وليس بقومية رغم تغنيه بالعروبة في البدايات فشعره يخاطب عقولنا وعقول البشر أجمعين. وحجازي يريد بالشعر تحقيق المستحيل مثل الشعراء المجيدين، واتفق طلب مع شوشة في مسألة توقف حجازي عن كتابة الشعر، فحجازي فعل ما كان لابد أن يفعله كل فنان عظيم، بألا يخضع لسيف ضرورية الكتابة.
وتحدث طلب عن صحبته لحجازي في مجلة 'إبداع'، وكيفية تطبيقه لشعار الديمقراطية، فكل المواد مطروحة للمناقشة، والفيصل في الأمر هو الاقتناع.
الشاعر حلمي سالم ألقي قصيدة من ديوانه 'الغرام المسلح' وهي قصيدة 'مرثية للعمر الجميل' التي استوحي عنوانها من عنوان قصيدة لحجازي في ذكري عبدالناصر.
وتحدث الفنان التشكيلي وجيه وهبة عن مقالات أحمد عبدالمعطي حجازي في الأهرام، فقد أسهمت تلك المقالات¬ كما قال¬ في تغيير الكثير من آراء القراء وجعلتهم أكثر تقبلا للثقافة وانفتاحا للمعرفة.
الطريق إلى السيدة
يا عمّ..
من أين الطريقْ؟
أين طريق 'السيدة'؟
أيمنْ قليلا، ثم أيسر يا بجنَيٌْ
قال.. ولم ينظر إليٌ!
وسرْت ياليلَ المدينة
أرقرق الآهَ الحزينة
أَجرّ ساقي المجهدة
للسيدة
بلا نقودي، جائع حتى العياءْ
بلا رفيق
كأنني طفل رمته خاطئة
فلم يعره العابرون في الطريقْ
حتى الرثاء!
إلي رفاقِ السيدة
أجرّ ساقي المجهدة
والنورج حولي في فرحْ
قوس قزحْ
وأحرف مكتوبة من الضياء
'حاتي الجلاء'
وبعض ريحي هيْنِ، بدء خريف
تجزي ذَيَلَ عقصة مغيَمة
مهَوٌمه
علي كتفْ
من العقيقِ والصدفْ
تهفهف الثوبَ الشفيفْ
وفارس شدَّ قواما فارعا، كالمنتصِرْ
ذراعه، يرتاحْ في ذِراع أنثي، كالقمرْ
وفي ذراعي سلة، فيها ثيابْ!
والناسج يمضون سِراعا
لا يَحْفلون
أشباحهم تمضي تباعا
لا ينظرونْ
حتى إذا مرٌ الترامْ
بين الزحامْ
لا يفزعونْ
لكنني أخشي الترامْ
كلّ غريبي ههنا يخشي الترام!
وأقبلتْ سيارة مجنحة
كأنها صدر القدرْ
تقل ناسا يضحكون في صفاءْ
أسنانهم بيضاء في لون الضياءْ
رؤوسهم مرنَّحة
وجوههم مجلوة مثل الزَّهرْ
كانت بعيدا، ثم مرت، واختفت
لعلها الآن أَمامَ السيدة
ولم أزلْ أجرّ ساقي المجهدة!
والناسج حولي ساهمونْ
لا يعرفون بعضَهم.. لا يعرفونْ
هذا الكئيبْ
لعله مثلي غريبْ
أليس يعرف الكلامْ؟
يقول لي.. حتى.. سلام!
يا للصديقْ!
يكاد يلعن الطريق
ما وجهته؟
ما قصته
لو كان في جيبي نقودْ!
لا.. لن أعودْ
لا لن أعودَ ثانيا بلا نقود
يا قاهرة!
أيا قبابا متخمات قاعدة
يا مئذنات ملحدة
يا كافرة
أنا هنا لا شيءَ، كالموتى، كرؤيا عابرة
أجرّ ساقي المجهدة
للسيدة!
للسيدة!
نوفمبر 1955
***
مقتل صبي
الموت في الميدان طَنٌ
الصمت حطَّ كالكَفَنْ
وأقبلتْ ذبابة خضراءْ
جاءت من المقابرِ الريفية الحزينة
ولَوَلَبَتْ جناحها علي صبيٌي مات في المدينة
وما بكت عليه عين
الموت في الميدان طنَّ
العجلات صَفَّرت، توقفتْ
قالوا: أينْ مَنْ؟
ولم يجبْ أَحَدْ
فليس يعرج اسمه هنا سواه
يا ولداه!
قيلت، وغاب القائل الحزينْ
والتقت العيون بالعيونْ
ولم يجب أحدْ
فالناسج في المدائنِ الكبرى عَدَد
جاء ولدْ
مات ولدْ!
الصدر كان قد هَمدْ
وارتدٌ كفج عضَّ في الترابْ
وحملقتْ عينانِ في ارتعابْ
وظلتا بغير جَفْنْ!
قد آن للساقِ التي تَشرَدتْ أن تستَكِنْ!
وعندما ألقوه في سيارة بيضاءْ
حامت علي مكانِهِ المخضوبِ بالدماءْ
ذبابةْ خضراءْ
يناير 1958
***
أنا.. والمدينة
هذا أنا
وهذه مدينتي
عند انتصافِ الليلْ
رحابة الميدانِ، والجدران تلٌ
يبين ثم يختفي وراء تلٌ
وريقة في الريحِ دارَتْ، ثم حَطَّتْ، ثم
ضاعَتْ في الدروبْ
ظل يذوبْ
يمتد ظِلْ
وعين مصباحِ فضوَليٌ ممِلْ
دست على شعاعِه لما مَرَرْتْ
وجاش وجداني بمقطع حزين
بَدَأته ، ثم سكتٌْ
من أنت يا.. من أنتْ؟
الحارس الغبي لا يعي حكايتي
لقد طرِدت اليومْ
من غرفتي
وصرت ضائعا بدون اسم
هذا أنا
وهذه مدينتي
يونيو 1957
***
هذا المساء يا عزيزتي جميل
لا تسأليني إن أتيت في مساء غدْ
وفي مساء بعد غدْ
ماذا تريد؟
لأنني سأدعي أني نسيت عندكم كتاب
أني نسيت علبة الدخانِ ليلةَ الأحد
أني، نعم أريد. ما الذي أريد
ستلمحين فكريَ الشريد
من خلف عيني حائرا يبحث عن جواب
وأمضغ الأسى، ولا أردٌ
لا توقفيني هكذا،
فقد شبعت وقفة بكل باب
أسأل عن خبزي،
وعن حجبٌِ،
ولا جواب
غير صدي صوتي يضيع في السكون
أرجوكِ قولي لي: استرح!
أو: انتظر!
وابتسمي ابتسامةَ مشجٌعة
لأنني لن أستريَح لو بدا في وجهكِ الضجَر
وإنني أراك سوف تفعلين
أتذكرين؟
ليلة أن كنٌا نسير، ذات ليلة،
وقد تدثٌَر الطريق بالظلام
أنا أكاد أذكر الوقت وأذكر الكلام
لأنها أوَّل مرة نسير وحدنا
وكنت أستطيع أن أقول كجلٌَ شيء
لكنني لست من الذين يتقنون صنعة الغرام
أنا أكاد أذكر الوقت وأذكر الكلام
كنا نسير والطريق مظلم
والناس أشباح تمرّ
تبدو إذا سيَّارة مرت بهم
تمدّ فيهم إصبعين أزرقين من ضياء
وتختفي فيختفون!
أيامَها كنا نعيش في الظلام
كانت سماؤنا بِبومي ينشر الخراب
علي بيوتنا التي بنى سقوفَها العرق
علي حقولنا التي تخضرّ كل فصل
وتفرش الظلال للخرافِ والرعاة
وترضع المساءَ قطرة من الندي،
وخفقة من الورق
أيامها حتى الندي احترق
وقلت في نفسي اعطها يدك
ففي ليالي الحرب تأمن البنات للرجال
وقلت لا، فقد تردّها!
لكنني وددت أن يتوه دربنا
فلا نري خيال دار
ويشربَ الليل الخلودَ كلٌه،
فلا يري النهار
وكان حراس الطريق والجنود يعبرون
وقد تقلصت أكفهم علي السلاح
وكنت أطرد الهواجسَ التي تأتي بفكرة ابتسام
وربَما لولاك ما فكرت أبتسِم
هربت من خواطري
كأنني استيقظت من حلم
ثم استدرت نحو وجهك الذي يفيض بالجمال
والعذاب
وقلت:
هذا المساء يا عزيزتي جميل!
الأفق صلبان من الشرر
تقاطعت علي الدجى
والطلقات تنهش السكون
لا تفزعي!
لا تفزعي، نحن معا
نحن معا نخوض في المنون
ولا نموت!
أحسست أنني أحب
أحسست أن إصبعي يفَتٌِت الصخور
وصدري العاري يطيش حوله الرصاص
وفي دقيقةِ يصير لي جناح
أمشي به علي الرياح
إذا شربت جرعة من نبعك النمير
أحسست عندما اقتربنا من طريق منزلك
أن لياليَ السهادِ والغناءِ أقبلتْ!
أني بحاجِة إليك
أني أريد، ما الذي أريد
هربت من خواطري كأنني استيقظت من حلم
ثم التفتح نحو وجهك الذي يفيض بالجمال
والعذاب
وقلت:
هذا المساء يا عزيزتي جميل!
مارس 1957
***
السجن
لي ليلة فيهِ
وكلّ جيِلنا الشهيد
عاش لياليهِ
فالسجن باب، ليس عنه من محيد!
والسجن ليس دائما سورا، وبابا من حديد
فقد يكون واسعا بلا حدود
كالليل.. كالتيهِ
نظل نعدو في فيافيه
حتى يصيبَنا الهمود؟
وقد يكون السجن جَفنا، قاتم الأهداب نرخيه
وننطوي تحت الجلود
نجتر حلمَ العمرِ في صمتي، ونخفيهِ!
والساق سجن، حين لا تقوي علي غير القعود
يشدها مكانها.. والقلب ترميهِ مراميهِ
لعالم يعطي المني، ولا يزيد!
وأن نعيشَ دون حجبٌ، دونَ إنسانِ ودود
نغلِق أبوابَ البيوتِ خلفنا
لأن أرضا لا تضمّ أهلَنا ليست لنا
والوجه إن لم يحتفل بنا،
بدا مسطحا.. بلا خدود
ضاعت معانيِه
فلم يعد فيهِ
باب يقودنا لدفئه البعيد!
مِنْ أين آتيهِ
حبي الوحيد
من أين آتيهِ
والليل يغلق الحدود!
***
فبراير الحزين
قلنا انتهى.. فلن يعود
اغتاله سبتمبر الماضي علي أبوابِنا
فما خرجنا نمنع المسكينَ من أيدي الجنود
لكنه عاد إلينا.. فالزمان
ليس إذن مثلي جبانا
أيها الأخ الجبان!
أين سنخفي حين نلقي وجْهَه وجوهنَا؟
ماذا نقول عندما يسألنا؟
وكلٌ عام حين يأتي.. كلَ عام
ماذا نقول عندما يسألنا؟
وكلٌ عامنا حرام
ومرٌ وجهه الحزين
يرنو إلي أطفالِنا فيجهشون بالبكاء
ويمسحون عن ثيابه مراحل الشتاء
ويتبعون بالعيون سيره إلي دمشق
من يرحم الشهرَ النبيلَ وهو رَاحِل وحيد
بغير جندِ، أو نشيد
بغير أنصاري، وكم غنٌي له الراديو وقال
يا أيها الشهر السعيد!
أين انتهت أصداء أغنيَاتنا
حين أتانا قبل أعوامي قصار
حين تحلقنا عليه مثلَ أطفال صغار
يستطلعون وجهَ مولود جديد!
هل تذكرون يومها ماذا فعلت؟
لقد رقصت
في شارعي لا رقص فيه
إلا لسِكيري تعيسي أو مهرج صفيق
لقد تحديت قوانينَ المرور
وكيف يا علامة حمراء في وجه الطريق
أن توقفي بحرَ السرور؟!
وفي الصباح حين سدت خيلهم بابَ المكان
وجاء يطلب الحصان
أنكرته أنا الجبان
وحين جاء في مساء اليوم يطلب الأمان
هل تذكرين يا دمشق ما فعلت؟
لقد بكيت
واغتاله سبتمبر الماضي أمام منزلي
أنا الجبان!
كيف تركتِهِ وحيدا يا دمشق؟
أنت التي حملته فوقَ السنين
وأين تهربين منه يا دمشق!
مِنْ جرحك الدامي الثخين
لن تتركي أنهاركَ السبعةَ خوفا يا دمشق
منه، من الوجهِ الحزين
فأين منه تهربين؟!
فبراير 1962
***
الموت فجأة
حملت رقْمَ هاتفي
واسمي، وعنواني
حتى إذا سقطت فجأة تعرفتم عَلَيٌ
وجاء إخواني!
تصوٌروا لو أنكم لم تحضروا
ماذا يكون؟!
أظلّ في ثلاجة الموتى طِوالَ ليلتين
يهتز سلك الهاتفِ الباردِ في الليل، ويبدأ الرنين
بلا جوابي.. مرة ومرتَيْن!
يذهب إنسان إلي أمي.. وينعاني
أمي تلك المرأة الريفية الحزينة
كيف تسير وحدها في هذه المدينة
تحمل عنواني!
كيف ستقضي ليلَها بجانبي
في الردهِة الشاملة السكينة
تقهرها وحدتها
يريحها انفراجها بحزنها
حيث تظل تستعيد وحدَها
أحزانَها الدفينة
تنسج من دموعها السوداء أكفاني!
يا ليت أمي وشَمتني في اخضرار ساعدي
كيلا أتوه
كيلا أخونَ والدي
كيلا يضيع وجهيَ الأول تحت وجهيَ الثاني!
حين أرى أن الرجالَ والنساءَ يخرجون صامتين
من بعد ما ظلوا أمامي ساعتين، ما تبادلنا النظر
ولا تغيرت أمامنا الصورة
حين أرى أن الحياةَ قد خَلَتْ من الجنون
ورفٌ فوقٌ الكل طائر السكون
أحس أني مِتّ فعلا، واضطجعت صامتا
أرقب هذا العالم الفاني!
1964
***
من نشيد الإنشاد
خرجت أطلب في الليل من أحبته نفسي
وضعت وشمي على جبهتي، وضَمَّخت رأسي
قابلني العسس الساري في هواء المدينة
فشق صدري وأبقي قلبي لديه رهينة
بالله يا من ستَلقي
في ذات يوم حبيبي
أخبره أني انتظرت
إلي الصباحِ.. ومِتّ!
1970
***
مرثية لاعب سيرك
في العالم المملوءِ أخطاءَ
مطالب وحدكَ ألا تخطئا
لأن جسمكَ النحيلْ
لو مَرة أسرعَ أو أبطأَ
هوي، وغطي الأرضَ أشلاءَ!
في أيٌِ ليلة تجري يقبع ذلك الخطأ
في هذه الليلة! أو في غيرها من الليال
حين يغيض في مصابيح المكان نورجها وتنطفئ
ويسحب الناسج صياحَهم،
علي مقدمِك المفروش أضواءَ!
حين تلوح مثلَ فارسي يجيل الطرْفَ في مدينته
مودعا. يطلب وجد الناسِ، في صمتي نبيل
ثم تسير نحو أوٌلِ الحبال،
مستقيما مومِئا
وهم يدقون علي إيقاع خطوِك الطبول
ويملأون الملعبَ الواسعَ ضوضاءَ
ثم يقولون: ابتدئ!
في أي ليلة تجري يقبع ذلك الخطأ!
حين يصير الجسم نهبَ الخوفِ والمغامرة
وتصبح الأقدام والأذرع أحياءَ
تمتد وحدها
وتستعيد من قاع المنون نفسَهَا
كأنَّ حيات تلوتْ،
قططا توحَّشت، سوداءَ بيضاءَ
تعاركتْ وافترقتْ علي محيطِ الدائرة
وأنت تبدي فنَّك المرعبَ الاءَ وألاءَ
تستوقف الناس َ أمامَ اللحظة المدمرة
وأنت في منازل الموت تَلجّج عابثا مجترئا
وأنت تفلت الحبالَ للحيال
تركتَ ملجأ، وما أدركتَ بعد ملجأَ
فيجمد الرعب على الوجوه لذة، وإشفاقا وإصغاءَ
حتى تعود مستقرا هادئا
ترفع كفيك على رأ' الملأ
في أي ليلة تجري يقبع ذلك الخطأ!
ممددا تحتك في الظلمةِ،
يجترٌ انتظارَه الثقيل
كأنه الوحش الخرافي الذي ما روضت كفّج بشر
فهو جميل!
كأنَه الطاووس
جذاب كأفعى،
ورشيق كالنِمر!
وهو جليل!
كالأسد الهادئ ساعةَ الخطر
وهو مخاتل، فيبدو نائما
بينا يجعد نفسه لوثبة المستعرة
وهو خفي لا يري
لكنه تحتك يعلك الحجر
منتظرا سقطتكَ المنتظرة
في لحظتي تغفل فيها عن حساب الخطوِ
أو تفقد فيها حكمةَ المبادرة
إذ تعرض الذكري!
تغطي عريَها المفاجئا
وحيدة معتذرة
أو يقف الزهو على رأسكَ طيرا،
شاربا ممتلئا!
منتشيا بالصمتِ، مذهولا عن الأرجوحةِ المنحدرة
حين تدور الدائرة!
تنبض تحتك الحبال مثلما أنبض َ رامي وترَه
تنغرس الصرخة في الليل،
كما طوح لصّ خنجره
حين تدور الدائرة!
يرتبك الضوء علي الجسمِ المهيضِ المرتطم
علي الذراع المتهدل الكسيرِ والقدم
وتبتسم!
كأنَّما عرفتَ أشياء
وصدقتَ النبأْ!
1966
***
تعليق علي منظر طبيعي
شمس تسقط في أفقي شتويْ
شمس حمراءْ
والغيم رصاصيٌْ
تنفذ منه حزم الأضواء
وأنا طفل ريفيَ
يدهمني الليل!
كانت سيارتنا تلتهم الخيطَ الإسفلت
الصاعدَ من قريتنا لمدينتنا
حين تمنيتْ
لو أني أقذف نفسي
فوق العشب المبتل!!
شمس تسقط في أفْقي شتويٌ
قصر مسحورْ
بوابة نورْ
تفضي لزماني أسطوريَ
كَفَّ خضبت بالحناء
طاووس يصعد في الجوزاء
بالذيل القزَحٌي المنشورْ!
في الماضي كان الله
يظهر لي حين تغيب الشمسْ
في هيئةِ بتسانَي
يتجول في الأفق الورديَ
ويرش الماءَ علي الدنيا الخضراء
الصورة ماثلة
لكن الطفلَ الرسامْ
طحنته الأيامْ!
1967
***
مرثية للعمر الجميل
في ذكري عبدالناصر
هذه آخر الأرض!
لم يبقَ إلا الفراق
سأسوي هنالك قبرا،
وأجعل شاهده مِزقةَ من لوائكَ،
ثم أقول سلاما!
زمن الغزوات مضي، والرفاق
ذهبوا، ورجعنا يتامى
هل سوي زهرتين أضمهما فوق قبرك،
ثم أمزق عن قدمي الوثاق
إنني قد تبعتك من أولِ الحلمِ،
من أول اليأس حتى نهايتهِ،
ووفيت الذماما
ورحلت وراءك من مستحيل إلي مستحيل
لم أكنْ اشتهي أن أري لونَ عينيك،
أو أن أميط اللثاما
كنت أمشي وراء دمي
فأري مدنا تتلألأ مثل البراعم،
حيث يغيم المدى ويضيع الصهيل
والحصونَ تساقط حولي،
أصرخ في الناس! يوم بيومِ،
وقرطبة الملتقي والعناق
آه! هل يخدع الدمج صاحبه
هل تكون الدماء التي عَشقَتْك حراما!
تلك غرناطة سقطت!
ورأيتكَ تسقط دون جراحِ،
كما يسقط النجم دون احتراق!
فحملتك كالطفل بين يدي وهرولت،
أكرم أيامَنا أن تدوس َ عليها الخيول
وتسللت عبر المدينةِ حتى وصلت إلي البحر،
كهلا يسير بجثةِ صاحبهِ،
في ختام السباق!
مَن تجري يحمل الآن عبءَ الهزيمةِ فينا
المغني الذي طاف يبحث للحلم عن جسدِ يرتديه
أم هو الملك المدعي أن حلمَ المغني تجسَّد فيه
هل خدعت بملكك حتى حسبتكَ صاحب المنتظرْ
أم خدعت بأغنيتي،
وانتظرت الذي وعدتْكَ به ثم لم تنتصر
أم خدعنا معا بسرابِ الزمان الجميل؟!
كان بيتي بقرطبة،
والسماء بساط،
وقلبي إبريق خمري،
وبين يدي النجوم
صاح بي صائح: لا تصدٌِق!
ولكنني كنت أضرب أوتارَ قيثارتي،
باحثا عن قراره صوت قديم
لم أكن بالمصدق، أو بالمكذٌِبِ،
كنت أغني، وكان الندامى
يملأون السماء رضا وابتساما!
والسماء صحاري،
وظهر مدينتنا صهوة
والطريق
من القدس للقادسية جد طويِل
قلت لي:
كيف نمضي بغير دليل
قلت:
هاكَ المدينةَ تحتكَ،
فانظر وجوهَ سلاطينها الغابرينَ،
معلقة فوق أبوابها، واتقِ الله فينا!
كنت أحلم حينئذي
كنت في قلعة من قلاع المدينةِ ملقي سجينا
كنت أكتب مظلمة،
وأراقب موكبكَ الذهبيْ
فتأخذني نشوة ، وأمزق مظلمتي،
ثم أكتب فيك قصيدة
آه يا سيدي،
كم عشنا إلي زمن يأخذ القلبَ،
قلنا لك أصنْع كما تشتهي،
وأعدْ للمدينة لؤلؤة العدلِ،
لؤلؤةَ المستحيلِ الفريدة
صاح بي صائح لا تبايعْ!
ولكنني كنت أضرب أوتارَ قيثارتي،
باحثا عن قرارة صوت قديم!
لم أكن أتحدث عن ملِكي،
كنت أبحث عن رجل،
أخبرَ القلب أن بأمته أوشكت،
كيف أعرف أن لدي بايعته المدينة،
ليس الذي وَعَدَتنا السماء؟!
والسماء خلاء
وأهاج المدينةِ غرقي يموتون تحتَ المجاعة
ويصيحون فَوْق المآذن
أن الحوانيتَ مغلقةْ
وصلاة الجماعة
باطلة، والفرنجة قادمة
فالنجاءَ النجاءْ!
ووقفت على شرفات المدينةِ أشهدها،
وهي تشحب بين يديْ كطفل،
ويختلط الرهَج المتصاعد حول مساجِدها
بالبكاء
وأنا العاشق المستحث قوافيَّ من يوم أن وجلِدْتْ،
واستدارت علي جيدِها وسوسات القلادة
تهت فيها، وضاع دليلي
يا تجري هل هو الموت؟
هل هو ميلادها الحق؟
من يستطيع الشهادة
أنا لا!
لم أكن شاهدا أبدا
إنني قاتل أو قتيل!
محتج عشرين موتا،
وأهلكت عشرين عمرا،
وآخيت روح الفصول
تتوارى عصوركم وأظل أغني لمن سوف يأتي،
فترجعك قرطبة وتجوز الشفاعة
صاح بي صائح: أنج أنتَ!
ولكنني كنت في دمِ قرطبة أتمزقْ
عبرَ المخاض الأليم
كنت أضرب أوتار قيثارتي،
باحثا عن قِرارة صوتي قديم
صِحْتَ بي أنتَ..
هل كنتَ أنت؟!
آه! لا تسألوني جوابا،
أنا لم أكن شاهدا أبدا
إنني قاتل أو قتيل
وأنا طالب الدمِ،
طالب لؤلؤةِ المستحيل
كان بيتي بقرطبة
بِعت قيثارتي، ثم جزت المضيق
قاصدا مكة، والطريق
رائِع.. كنت وحدي وكانت بلاد دليلي
وكان محمد فوق المآذن يمسك طرف الهلال
وينير سبيلي
ويوقف خيل الفرنجِة
يمسخها شجرا أخضرا في التلال!
إنني أحلم الآنَ.
بيتي، كان بغرناطة
بعت قيثارتي، واشتريت طعاما
ورحلت إلي بلدي لست أدري اسمها،
جعت فيها
وانضممت لطائفة الفقراء بها،
واتخذت إماما
هل هو الوحي؟
أم أنه الرأي يا سيدي والمكيدة.
هل أمرنا بأن نرفَع السيفَ؟
أم نعطَي الخدْ؟
هل نغصب الملكَ؟ أم نتفرق في الصحراء؟!
ولقيتك، أنتَ الذي قلت لي:
عد لغرناطة، وادع أهل الجزيرةِ أن يتبعوني،
وأحيِ العقيدة!
إنني أحلم الآنَ.
لم تأتِ
بل جاء جيش الفرنجةِ
فاحتملونا إلي البحر نبكي علي الملك.
لا، لست أبكي علي الملك،
لكنْ علي عمر ضائعي لم يكن غيرَ وهمي جميل!
فوداعا هنا يا أميري!
آن لي أن أعودَ لقيثارتي،
وأواصل ملحمتي وعبوري
تلك غرناطة تختفي
ويلف الضباب مآذنَها
وتغطي المياه سفائِنَها
وتعود إلي قبرِكَ الملكي بها،
وأعود إلي قدري ومصيري
من تجري يعلم الآن في أي أرضي أموت؟
وفي أي أرض يكون نشوري؟
إنني ضائع في البلاد
ضائع بين تاريخي المستحيلِ،
وتاريخَي المستعاد
حامل في دمي نكبتي
حامل خطئي وسقوطي
هل تجري أتذكر صوتي القديمَ،
فيبعثني الله من تحت هذا الرماد
أم أغيب كما غبتَ أنتَ،
وتسقط غرناطة في المحيط!
سبتمبر 1971
***
غربة
يا مَن يعيدنا إلي بلادنا
بلادنا العميقة الخضرة
نبكي، ولو مرة
من قلبنا!
آيات من سورة اللون
1 إلي الرسام سيف وانلي
يرقد العالم في بلورة يغسلها ماء المطر
ها هي اللحظة تأتي.
أهو اللون، أم الإيقاع ما تصطاده،
أو ربما تسلمه نفسكَ
حتى يغمرَ الموج التجاعيدَ،
ويلهو بصَيْلاتِ الشَّعَرْ!
يهبط اللون
من الياقوتِ
للفضةِ،
لعشبِ،
ويعلو
سلم الصوتِ
فقاقيعَ من الأضواءِ
لا تلبث حتى تنفجر
أهو اللون، أم الإيقاع ما يحملك الآنَ
علي هذا البكاء الفذ؟
أم بعد الصور؟!
يرقد العالم في الزاويةِ الأخرى من المرسمِ
وَعْلا نادرا
ينعم بالألفةِ والدفءِ
ويجترّ الفِكَرْ
تدخل العاشقة الفندقَ في حَزْمِ
وتعطي نهدَها للرجلِ المملوءِ صمتا
قبل أن يدهَمه وقت السفَرْ
ينفر الديك نجيماتِ السَّحَرْ
يرقص البحارة الأغراب في الملهي
ويبكون فرادى
ويعودون زمَرْ
أهوَ اللون الذي كنتَ تراه؟
أهوَ ذات الصوتِ؟
لكنكَ لا تملك أن توقف ركضَ الغيمِ في وجه القمَرْ
فانتظر أن يَرجعَ الصيف
وحاول مرة أخري مع الضوءِ
الذي لا ينتظر
18/1/1974
***
2 إلي الرسام عدلي رزق الله
قطرتانِ من الصحوِ
في قطرتينِ من الظلْ
في قطرة من ندي
قل هو اللون!
في البدء كانَ
وسوف يكون غدا
فاجرح السطحَ
إن غدا مفعَم
ولسوف يسيل الدم!
سنغني لكم أيها السادة الغرباء
غناء رتيبا
على وتري مفردي يتردد بين مداريْهِ
كالقمر العربيٌ
هو الأبيض الأسود، اللؤلؤ المعتم
سنغني أغانيَنا الخضر
لكننا سنفاجئكم بقنابَل موقوتة
كان أسلافنا خبَأوها مع الخبزِ والخمرِ
في خشب المومياتْ
لكي تتفجرَ في غرف الدفْنِ
حين تحين مواعيد عودتهم للحياةْ
وردة أم فمج
هذه الورقات التي تسمح الآنَ صدري
وقبرة تتنفس تحت الأصابعِ
أم برعم
نَهدها؟
قطرتان من الصحوِ
في قطرتين من الظلْ
في قطرة من ندي
هكذا يزرعون البيوتَ
فتكبر مثلَ الكرنبِ
أليس سوي الأخضرِ الطّحلبي
أو الأصفر المعدنيٌ؟
تعالوا نلونْ كما نشتهي هذه الأرضَ
أو نشعلِ النارَ فيها
كما يشعلون الصواريخَ في ليلةِ المولدِ النبوي
فتحملنا وتطير
وتسقطنا مَطرا قزحيا
وتزرعنا شجرا موقدا
ها هو الهرم
رَحِم
فتعالوا نولده ولَدَا!
قطرتان من الصحوِ
في قطرتين من الظل
في قطرة من ندي
تركب الريشة الريحَ في أثَر اللونِ
تلقطه شذرةَ شذرةَ
من مسامير أحذيةِ الجندِ
من رهَجِ الذكرياتِ السحيقة
تدخل في إثره بطنَ أرزْةِ لبنانَ
تشتفّ نطفته المستكنَّةَ نَسْغا فَنَسْغا
وتجمع أشلاءَه حزمة حزمة
ثم تدعوه أن يتنفسَ
لكن سدى!
إن لونا هنا ينقص اللونَ
كي يتنفسَ
لون كَحب اللقاحِ الذي لا يجري
كالأوز الذي غاب في زَبَدِ الأفقِ
قل إنه الطين
فلينظر الطين مِم خلقناه!
قل هو ماء
وما هو ماء، ولكن دمج
نخلة أنتِ
أم سلم
وأنا خنجر طالع
أم هلال تحدرَ بين الترائبِ
حتى اختفي في الذوائبِ
ثم بدا
جسدا
وارتدي جسدا!
قل هو اللون
في البدءِ كانَ
وسوف يكون غدا
فاجرح السطحَ
إن غدا مفعم
ولسوفَ يسيل الدم
5 يناير 1977
***
بطالة
أنا، والثورة العربية
نبحث عن عملي في شوارع باريسَ
نبحث عنْ غرْفة
نتسكع في شمس ابريلَ
إن زمانا مضي
وزمانا يجيء!
قلت للثورةِ العربيةِ:
لابد أن ترجعي أنتِ
أما أنا
فأنا هالك
تحت هذا الرذاذِ الدفيءْ!
ابريل 1974
***
سفر
بيْننا، يَتَغَير لون الشجرْ
يتوغل طير المسافات في بحرِ هدأتِهِ
عالقا بالخيوطِ التي تتقاطع في خضرة السهلِ
أو تتوازي
ويتصل البحر بالليل، ينقص وجه القمرْ!
زمن من مطرْ
من رذاذي رتيبي
يسح بغير انقطاعي
أفي الليل، أم في النهارِ
تجري، كان هذا السفرْ؟!
مدن للعبورِ فحسب
وأرصفة للصدى المعدني
وفي المدنِ الهامشيةِ ما يوقظ الذكرياتِ
وبين القرى ومدافنها شبَهَ
ثَمٌ في العشبِ درب
ومتسع لمرور الرياحِ
وبين القرى ومدافنها ينفذ الضوء في ورق الشجراتِ
ولا يتجسد!
بينهما شهوة غير مرئية
لفحة من بياض الطلاءِ الذي يتردد بين البيوتِ
وبين المقابرِ
مرتجفا في مياه النهَرْ!
التفاصيل تفقد أسماءَها الآنَ
واللحظات التي سرقتني انتهت
والذي كان يفصل ما بيننا يختفي
مثلَ نافورة سكتَتْ
ثم نبقي علي الطرفْينِ يواجه كل أخاه ولا يتقدم
يا أيهذا الجمال ج الذي ظل محتفظا بالصبا
أيهذا الجمال الذي ظل محتميا بالحجرْ!
29/5/1977
***
غرفة المرأة الوحيدة
ها هي الآنَ تطرد عنها المدينةَ
تغلق من خلفِها بابَها
وتضم الستارْ
ثم تشعل مصباحَها في النهارْ
تلك أشياؤها
حيوانات وحَدْتِها
تشرئِب لها في الزوايا
وفوق الجدارْ
ثَمٌ موقد غازي
ومَغسلة
ورفوف لوضع المؤونِة.
منفي صغير
وفي العمق ثَم سرير
ومنضدة
وشموع صغارْ
كلّ شيءِ له موضع لا يبارحه
وحضور
له من خطى الوقتِ خبز وماء
ومن ظلها المتأرجح إعفاءة ودثارْ.
كلّ شيءِ له معها شهوة وبكاء
له نكهة الجسدِ المتعودِ وحدتَه
المتأملِ في ذاتِه.
كلّ شيءِ مرايا
لها وجهها
ولها ما لأعضائِها مِنْ حميمية وانكسارْ
ربما عَبَرَتْ في طفولتها بمكاني كهذا
بضوء
وآنية يسقط الظلّ منها على مفرشِ ناصعِ
ربما استحضرَت بالعقودِ المدلاةِ، والشمعداناتِ روحا
تعود بها لبساتينَ هاربةِ
لينابيعَ تجري علي أوجهِ
تترجرج تحت المياه النقيةِ
باسمة في القرارْ!
لم أكن أنا
كانت تكلم غيري
وتنظر في وجهه المستعار
24 إبريل 1978
***
طليطلة
كان الحنين مَدى عَذْبا، وكان لنا
من وجهها كوكب في الليل سيار
هذا دخان القرى، مازال يتبعنا
وملء أحلامنا زرع، وأجنحة
وصبْية
وطريق في الحقولِ إلي الموتى
وصبار
فملتقي الأرضِ بالأفقِ الذي اشتعلت
ألوانه شفقا
فالقاطرات التي غابت مولولةَ
في بؤرة الضوءِ،
فالحزن الذي هَطَلَتْ
علي أمطاره يوما
فصِرت إلى طيري،
وسافرت من حزنِ الصبيٌِ إلي
حجزنِ الرجالِ، فكجلّ العمرِ أسفار
يا صاحبِيٌ قِفا!
فالشمس قد رجعت،
ولم تَعِد بغَدِي
كجلّ المقاهي انتظار. ساءَ ما فَعلَتْ
بِنَا السنون التي تمضي،
ونحن علي موائدي في الزوايا،
ضارعين إلي شمسي تخلَّلتِ البللٌورَ واهنة
ولامَستْ جلدَنا المعتل، وانحسرت
عَنٌَا إلي جارنا،
فما نَعِمْنا، ولم يْنَعم بها الجار
يا صاحبيّ!
أخمرْ في كئوسِكما
أَمْ في كئوسكما هَمَّ وتَذكار!
وما الذي تنفع الذكري إذا نَكأَتْ
في القلب جرحا، علمْنا لا دواء له
حتى نعودَ،
وما يبدو أن اقتربتْ
أَيَّام عودِتنا، والجرح نَغَّار
ها نحن نفرِط فوق النهرِ وردتَنا
وتلك أوراقها تنأى، ويأخذها
ورادَ أحلامِنا موج وتيار
يا صاحبيَّ!
أحقا أنَها وسِعَتْ
أعداءَها!
وجفَت أبناءَها الدار؟!
لو أنَها حوصرت حتى النهايِة،
حتى الموتِ، لو سحَبَتْ
علي مفاتِنِها غلالة من مياهِ النيلِ،
واضطَجعتْ في قاعِهِ!
لو سفَتْها الريح فانْطمَرَتْ
في الرمِل وانْدلعَتْ
من كل وردةِ جرحي وردة
فالمدى عشب ونوَّار
هذا دخان قراها يقتفي دَمَنا
ومِلء أحلامِنا زرع، وأجنحة
ومِلء أحلامِنا ذئب نَهَشّ له
نسقيه من كأسنا الذاوي،
ونسأله عنها،
وننهار!
باريس 1979
***
العودة من المنفي
لَمَّا تحررتِ المدينة عدت من
منفايَ،
أبحث في وجوه الناسِ عن
صحبي،
فلم أَعْثر على أحَدى،
وأدركني الكلالْ
فسألت عن أهلي، وعن دارِ لنا
فاستغرب الناسج السؤالْ
وسألت عن شَجري قديمي،
كان يكتنف الطريقَ إلي التلالْ
فاستغربَ الناسج السؤالْ
وبحثت عن نهرِ المدينةِ دون جدوى،
وانتبهت إلي رمادِ نازِلي
من جمرِة الشَّمس التي كانت تميل إلي الزوالْ
وفَزِعت حين رأيت أهلَ مدينتي
يتحدثون بلكنةِ عجماء متجهين نحوي،
فابتعدت،
وهم أمامي يتبعون تراجعي بخطي ثِقالْ
حتى خرجت من المدينة مثقلا بحقائبي
وانهرت مثل عمودِ ملحي
في الرمالْ
باريس نوفمبر 1979
***
أشجار الأسمنت
يقبل الوقت ويمضي
دون أن ينتقل الظلّ
وهذا شجر الأسمنت ينمو
كنبات الفِطْرِ،
يكسو قشرة الأرضِ،
فلا موضعَ للعشبِ،
ولا معنى لهذا المطر الدافقِ،
فوق الحجرِ المصمَتِ،
لا ينبت إلا صدأ
أو طحلبا دون جذورْ
تقبل الريح وتمضي
دون أن تَعْبرَ هذا الصمتَ،
أو تقوي علي حمل استغاثات القرى
والسفن الغرقَى،
وهذا شجر الأسمنت في كل مكانِ
يتمطَى ، ويخورْ
كالشياطينِ،
ويصطاد العصافيرَ التي تسقط كالأحجار،
في أجهزِة الرادارِ،
أو تشنق من أعناقها الزّغب،
علي أَسلاكِ آلات استراقِ السَمعِ،
في تلك السموات التي نعرف من شرفاتنا
أن العصافير تموت الآن فيها
حينما يرتطم السرب،
فتهتز قرون المعِدنِ الوهَاجِ في الضوءِ الأخيرْ
يقبل الليل ويمضي
دون أن نشبع من نومي،
وهذا شجر الأسمنت يلتفّ علينا.
والمواليد الذين اعتاد آباؤهم الصمتَ
يجيئون قصارا
ناقصي الخلقةِ،
لا خرج من أفواههم صوت
ولا تنمو خِصاهم.
والنفايات التي تلفظها الشهوة في كل صباحِ
سأَما، لا شَبَعَا
توضع أكداساَ علي الأبوابِ،
والآلات تلقي غيرها زبدا، وخَمْرا
في النهيرات التي تفضي إلي الباعِة،
والأرض تدورْ!
باريس 20/3/1979
***
خمرية
الأصدقاء الحميمون أقبلوا
في ثيابي جديدة
من بلادي بعيدة
وقبورِ
ساقوا سماءَ إلي البهو من دخانِ
وشدوا
نجومَها بخيوطي
ورفرفوا كالطيورِ
بعيدة كأسنا الأولي،
والوجوه عليها من النهارِ انطفاءات
والمدينة ضمَت أسواقَها
وتهاوت
تحت الزجاجِ المطيرِ
بعيدة هذه الكأس، والنهار بعيد
وعن يميني بساتيننا التي لا نراها
لما ركِبنا عليهم أسوارَها، ودخلنا
كانت هناك تلال
من خالص التٌبرِ،
كانت من النساء عذارى
كلؤلؤي منثورِ
ورجب ظبيي غريرِ
دعوته لسريرِي!
وكان ثم رفات
يسيل بين محطاتِ أدبَرتْ
ومحطات أقبلتْ
وجسورِ
ولات حين نشورِ!
مَن ينزل الغَيْمَ؟
لي فيه وردة
أزهرت وحدها هناكَ، وأبقت
جذورَها راعياتِ
في جسمي المهجورِ
بعيدة هذه الكأس، مثَل شمسي شتائية
تدور، وتفتر عن سني مقرورِ
ونحن بين المرايا
نعشو لها بمهيضِ،
من الجناحِ، كسيرِ
محاصرين بأشباحنا،
نبادلها الكرٌ والفرِارَ،
إلى أن مضي الزمان فقمنا
وانسلْ كجل لمثواه في الظلامِ الأخير
الأصدقاء الحميمون اقبلوا
في ثيابي جديدةِ
من بلاد بعيدة
وقبورِ
ساقوا سماءَ إلي البهو من دخانِ
وشدوا
نجومها بخيوط
ورفرفوا كالطيورِ
باريس 1984
أخبار الأدب-25 سبتمبر2005