(ملاحظة: خصّصت جريدة أخبار الأدب المصرية, الصادرة اليوم, العديد من صفحاتها لنشر هذا الملف الصحفي حول الإحتفاء التاريخي بالشاعر د.عادل قرشولي, كما نشر أيضا بلندن مترجما إلى اللغة الإنجليزية بمجلة – بانيبال – المختصة بترجمة وتقديم الأدب والثقافة العربية …)
استغربت جدا, حين تلقيت دعوة لحضور حفل تكريم الشاعر الصديق د. عادل قرشولي الذي إعتزمت كلّ من الإدارة الثقافية لمدينة لايبزغ واتحاد الكتاب الألمان وتجمع مكتبات المدينة إقامته بأكبر قاعات المكتبة المركزية للمدينة بمناسبة بلوغه سن السبعين, ذلك أنني إعتقدت بأن التوقيت والتاريخ لم يكونا مناسبين على الإطلاق, فالدعوة تنص على أن التكريم سيكون صباح يوم الأحد, ويوم الأحد كما هو معروف يوم عطلة, وعطلة الأسبوع عادة مقدسة عند الألمان, من النادر أن تقام خلالها تظاهرة بهذا الحجم, وصباحا فوق ذلك.
والحقيقة أنني لم أكن لأصدق أن التكريم سيكون على ذلك الشكل الباذخ والمؤثر الذي كان عليه, وأن القاعة ستضيق بالمئات من الحاضرين فعلا, لولا أنني كنت حاضرا وتابعت كلّ ذلك.
مايقارب ثلاثمئة شخص, قدموا من كلّ مكان, من لايبزغ ودرسدن ومغديبورغ ومونيخ وبرلين ومن الضواحي القريبة والبعيدة وغيرها من المقاطعات.
شعراء .. كتاب .. صحافيون ..رسامون..سياسيون..أطباء..أكاديميون.. ناشرون..طلبة وأصدقاء شدوا الرحال من كلّ مكان لحضور هذا الحفل الإستثنائي في هذا المنبر الثقافي العريق, الذي سبق أن شهد قراءت وامسيات وحفلات تاريخية بكل المقاييس لكتاب كبار مثل غونتر غراس وكريستا فولف وفولكر براون وسلمان رشدي ويفتوشنكو ومحمود درويش الذي قدمه عادل لجمهور لايبزغ وقرأ ترجماته لقصائده. ومن المعروف أن قرشولي قدم لهذا الجمهور حين كان يرأس فرع لايبزغ لاتحاد كتاب ألمانيا كثيرين من الكتاب العرب كعبد الرحمن منيف وأدونيس والطيب صالح وغيرهم..
افتتح الحفل الدكتور آرنه أكرمان, مدير المكتبة المركزية للمدينة الذي ذكر أن هذا العدد الغفير جدا من الحضور يكاد يكون غير مسبوق وهو يدل على الشعبية المنقطعة النظير التي يتمتع بها عادل قرشولي في المدينة.
وألقى عمدة المدينة للشؤون الثقافية الدكتور جورج جيرارديه كلمة هنأ الشاعرفيها باسم المدينة وعبرعن بهجته بالحضور الكبير وبالمعرض الذي أقامه أرشيف المكتبة عن حياة الشاعر وأعماله تحت شعار”باني الجسور بين الثقافات”، خاصة وأن المكتبة خصصت فيها جناحاً لميراث الشاعر الثقافي بعد أن اشترت حقوق الإشراف عليه ورعايته. ثم إشارإلى أن عادل قرشولي يقيم في المدينة منذ خمسة وأربعين عاماً، جاء إليها غريباً ومالبث أن ارتبط اسمه بسرعة إبان الموجة الشعرية في الستينات بأسماء شعراء أمثال فولكر براون وسارة وراينر كيرش وهاينس تشيخوفسكي وأدولف اندلر وآخرين. وتابع قائلاً: “ولأن عادل قرشولي لم يشأ أن يبقى مثل زهرة نادرة غريبة توضع في مزهرية بغرفة مريحة راضية وأن يساء فهمه باستمرار، كما قال في كلمة الشكر عند تسلمه جائزة شاميسو، بدأ يكتب قصائده الألمانية التي انتزعت هذا التقدير الكبير الذي يحظى به اليوم. ورغم مافي ذلك من صعوبة، ورغم أنه يكتب في قصيدته (الرقص على حبل) لاالغرب غرب فيك/ وليس شرقاً فيك ذاك الشرق/ فإن هذا الحضورالبالغ الذي يتمتع به بيننا كشاعر ومفكر ومترجم يشكل إغناء عظيماً لثقافتنا لم يعد يستطيع أحد أن يلغيه أو يتجاهله”.. ثم توجه إليه قائلاً: “”لقد لفت نظرنا أيها العزيز عادل قرشولي إلى إنجازات الشعر العربي كما عرفت العالم العربي بأمثال بريشت وجورج ماورر وفولكر براون وغيرهم، ففي شخصك تلتقي الثقافة العربية بالثقافة الألمانية في وحدة متكاملة بأبهى صورها. كما أن صوتك مسموع دائماً في القضايا الإجتماعية والسياسية. أذكر لك جملة وردت في مقابلة أجريتها في إحدى الصحف قبل عشرين عاماً. يومها سئلت عن المستقبل، فقلت (إنني آمل أن تنتصرالقوة الوديعة للعقل). وقد تحقق هذا الأمل في بعض جوانبه، ولكنني أعرف أنه لم تزل توجد أيضاً خيبات كثيرة تحتاج إلى حكمة العقل. ولذلك تكتسب مطالبتك المستمرة بوجوب ولوج جوهر الأمور والإنتصار للحكمة أهمية أكبر وأكبر… أهنئك ثانية بعيد ميلادك من كل قلبي وأشكرك بحرارة لقرارك بالقدوم إلى لايبزغ وللبقاء فيها”.
وكانت كلمة التكريم الرئيسية للكاتب هلموت ريشتر، البروفيسور والعميد السابق لمعهد الأدب الذي تخرج منه كثيرون من كبار الكتاب والشعراء الألمان المعاصرين، وكان عادل قرشولي الأجنبي الوحيد الذي درس فيه في مطلع الستينات. كلمة وافية حميمية شاملة ضربت على أكثر من وتر في سينفونية جميلة على تنويعات عنوان مجموعة قرشولي “لو لم تكن دمشق”، وقال “لو لم تكن دمشق لما عرفت عادل قرشوليز ياله من تصور أحمد الرب على أنه لم يحدث”…
ثم توالت الكلمات والقصائد.
فولكر براون مثلا، أحد أكبر الشعراء الألمان المعاصرين, جاء مع زوجته قادما من برلين ليقدم للشاعر قصيدة بعنوان ( هكذا تكلم عادل ) حاور فيها بجدليته المعهودة مقاطع من مجموعة ( هكذا تكلم عبد اللّه ): وهكذا تكلم عادل وقال لي/ الغربة ليست عني بغريبة/ إلى الجذور/ تتسلل الغربة/… ثم قلنا معاً/ لايعانق الغريب إلا نفسه/ أما نحن/ فيعانق أحدنا/ الآخر/. وكان من الغريب جدا عليّ أن أستوعب كلّ ذلك الكمّ الهائل من المرح والتلقائية في تفاصيل الوجوه الألمانية يوم أحد والساعة لم تشر إلى منتصف النهار بعد.
الناشرألبرت فولكمان, مدير الدار التي إشتهرت بإصداراتها الأنيقة جدا, والذي كان أول من قدّم الشاعر للقراء في ألمانيا الغربية بعد الوحدة الألمانية من خلال مجموعته الشهيرة – لو لم تكن دمشق –، جاء بالطائرة مع زوجته حاملا معه نسخة من الطبعة الثالثة من مجموعة – هكذا تكلم عبد اللّه – أكثر أعمال الشاعر د. عادل قرشولي روعة وتميزاً ليقدم لصديقه قصيدة كتبها بعنوان – لقاء غربي- شرقي: (الشيء والمعنى المتعانقان/ بتردد وبسحر منير/ في هذا القدسي الرفيق الدقيق/ يتراسلان مع زمن الغربة) , والحقيقة أنني تأثرت جدا, ككلّ الحضور بهذا الصفاء المذهل والسحر الأخاذ المؤثر الذي صبغ عباراته النافذة بشكل عجيب. وأعتقد أنني مدين لهذا التكريم باكتشاف شاعر من طينة نادرة أعرفه شخصياً منذ سنوات طويلة, ولكنني لم أكن أعرف أنه يكتب بتلك المقدرة المذهلة.
كما ألقى أيمن مبارك رئيس إتحاد الطلبة والأكادميين العرب كلمة رائعة وحميمية, ذكر فيها المساندة التي قدمها الشاعر عادل قرشولي للإتحاد لدى تأسيسه, وروى كيف أنه كان مرّة يشعر بتوتر وقلق خلال أول أمسية ثقافية للإتحاد وكانت أمسية شعرية لعادل قرشولي، إذ علم قبل ساعات قليلة من بداية الأمسية بأن عادل طريح الفراش منذ أيام وأنه يعاني من نزلة برد شديدة جدا, وحين كان يعد كلمة إعتذار للحضور, فاجأهم قرشولي بالحضور بملامح أنهكها المرض وبروح انسانية لا تخلف المواعيد…وكانت أمسية رائعة مازلنا نفتخر بها ونتذاكرها…وفي ختام كلمته فاجأ الجميع بأن المجلس الإداري للإتحاد إتخذ عشية هذا التكريم قراراً بالإجماع لإختيار الدكتور عادل قرشولي رئسيا فخريا له، وقبل أن يردّ الشاعر بكلمة الموافقة الضرورية للبروتوكول المفترض لاحقا، توجه له بالخطاب قائلا : – شكرا سيدي الرئيس-…مما جعل القاعة ترتج بالضحك من هذه الإشارة الظريفة والذكية, وطبعا لم يكن أمام قرشولي إلا القبول بالمهمة ضاحكا ومعجبا بفطنته وخفة روحه المرحة.
وأعتقد حقيقة أنه ليس من السهل على الإطلاق إهمال أي مداخلة أو كلمة ألقيت خلال هذا التكريم, فكلّ ما ألقي أو قرأ من كلمات وشهادات في شخص عادل قرشولي, شاعرا ومفكراً وناصباً للجسور بين الثقافتين، كانت كلها تقريبا عبارة عن نصوص إبداعية نادرة ووثائق تاريخية هامة.
أسماء كبيرة: الشاعر والناقد المعروف يواخيم سارتوريوس المدير العام لمهرجانات برلين، الشاعرة السويسرية إلما راكوزا، الشاعر بيتر غوسة، العالم اللغوي الشهير هارالد فاينريش، الكاتب يوهانو شتراسر رئيس نادي القلم الألماني، الروائي فرنر هايدوشيك، الرسام فرانك روديجكايت.. وغيرهم وغيرهم. .. بعض من تمكنوا من الحضور ألقوا كلماتهم بأنفسهم، أما من لم يتسن لهم الحضور شخصياً لموانع قاهرة، فقد أرسلوا تحياتهم إلى إتحاد الكتاب ليضمها في ملف أنيق قدمته للشاعر الكاتبة ريجينا موبيوس، رئيسة فرع مقاطعة ساكسونيا لاتحاد كتاب ألمانيا ونائبة الرئيس العام للأتحاد. ويتضمن هذا الملف إثنين و خمسين نصاً ستصدر مع الكلمات التي ألقيت في الحفل في كتاب خاص..ثم قرأت مع الكاتب شتيفن بيرنباوم، رئيس فرع لايبزغ للإتحاد، بعضاً من نصوصها.
في الختام ألقى الدكتور عادل قرشولي بصوته الخافت، كلمة مؤثرة جدا، عبر فيها عن إمتنانه العميق لهذا الفيض من المحبة. وعن اعتزازه بأبنائه وأحفاده. وشكر زوجته ريجينا التي وقفت إلى جانبه طيلة اثنين وأربعين عاماً أصبحت خلالها مستشرقة مرموقة ترجمت عدداً كبيراً من الأعمال العربية إلى الألمانية كأعمال الطيب صالح وسحر خليفة وصبري موسى وعالية ممدوح والتي أجابت مرة حين سئلت لماذا تعلمت العربية إنها أدركت أنها لن تفهم هذا الرجل إن لم تتعرف على ثقافته. “ولأن قرشولي يعرف تماماً أن محبي شعره لن يتركوه رغم مايزيد على الساعتين من الإنصات للكلمات دون الإستماع إلى بعض قصائده”، هكذا كتبت صحيفة “روندشاو”، فقد ألقى عدداً من القصائد قوطعت عشرات المرات بالتصفيق الحاد, قبل أن يشكل الحضور طابورا طويلا جدا من المهنئين, حتى أنني حدثت أحد الأصدقاء مازحاً بأنني لم أر طابورا بذلك الطول سوى في موسكو خلال يوم إفتتاح أول فرع لماكدونالز بها في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي.
…
خمس ساعات بالقطار السريع هيّ المسافة التي تفصل مدينة مونيخ حيث أقيم عن مدينة لايبزغ العريقة…خلال رحلة عودتي الطويلة كانت تمر بخاطري أيضاً تلك الأمسية الفريدة الطريفة التي رافقت عادل إليها عشية هذا الإحتفال الكبير. كان الجو سريالياً بكل معنى الكلمة. بيت أثري من بيوت مدينة لايبزغ القديمة في حي يسميه اللايبزيغيون “بغداد الصغيرة” . القاعة مقاعدها خشبية لاتضم أكثر من خمسين شخصاً من مختلف الأعمار، أناس بسطاء، صبايا جميلات، نور خافت يلف الجميع تخرقه بقعة ضوء مسلطة على طاولة مستطيلة، ومقعد لشخصين مسنداه متداخلان وكأنه لوحة تشكيلية، تجلس عليه الممثلة شتيفي بوتغر وإلى جانبها الشاعرعادل قرشولي. الممثلة تقرأ قصيدتين أو ثلاث لغوتيه شاعر ألمانيا الأعظم من الديوان الغربي الشرقي ليجيبها عادل بقصائد له بعضها حميم وأخرى ساخرة من الديوان الشرقي الغربي الذي كان عنواناً للأمسية. كنت أراقب طيلة الأمسية اثنين فاقدي البصر، إمراة ورجل، كل معه كلبه، كانا يهتزان مع الايقاع، يقطبان لصورة حنين ويضحكان لأخرى ساخرة، وكأنهما يريا الكلمات ولايسمعانها فقط. بعد الأمسية وبينما كان البعض يتحلق حول عادل ليتحدث معه أو يأخذ توقيعه على كتاب حمله أو على بطاقة الدعوة، تحدث معي رجل تبين أنه مخرج مسرحي حضر الأمسية، وبكى، نعم أقسم أنه صار يكفكف دموعاً حقيقية وهو يقول لي إنه يشعر بما يشعر به الشاعر حتى الصميم، ولكنه لايستطيع أن يعبر عنه بهذه الروعة. وقالت إمرأة عجوز: كان لابد لي أن أصبح في الثانية والسبعين حتى أدرك أن الشعر جميل على هذا الشكل.
وكنت أتساءل ومازلت كيف يستطيع هذا الرجل الذي جاء من الشرق أن يخترق هذه الساحة الثقافية الألمانية التي تبدو محكمة الإغلاق، وكيف له أن يستطيع الوصول إلى كل هؤلاء من شعراء كبار وأكاديميين أفذاذ وأناس بسطاء بنفس القدر! لعله “عادل قرشولي: الضمير الثقافي” كما عنونت لايبتسغر فولكس تسايتونغ تحيتها له، “بكل هدوئه وتواضعه وجرأته رغم صوته الخافت”، ولعله صفاؤه الأصيل و”النبل”، و”عادل بكل بهائه” الذين تحدث عنهما هلموت ريشتر، ، أولعلهم هؤلاء الألمان الذين يحتاجون إلى من يستطيع أن يحرك في أعماقهم أحاسيسهم الكامنة كما يفعل هذا الشاعر القادم من الشرق.
مهما كان الأمر فسأبقى مدينا لعادل قرشولي ماحييت لأنه كان السبب في أن أكتشف وجها آخر دافئا وحميميا لألمانيا، غير ذلك الوجه الصارم المتجهم الذي لم آلفه ولم أتصالح معه قبل ذلك على الإطلاق.
مقطتفات من بعض شهادات المبدعين الألمان, التي ألقيت خلال التكريم, ترجمها عن الألمانية: الدكتور وحيد نادر :
هلموت ريشتر…لو لم تكن دمشق …
…إشعاعات المواهب السامية تخترق قلوبنا وعقولنا بأشكال عديدة. وخاصة إذا كان الأمر يتعلق بمن يعاصرنا منهم، وبالذي نتمكن من مواكبة تنامي نتاج موهبته الهامة بأنفسنا منذ بداياتها. إن كلماتهم وجملهم وأبيات شعرهم الاولى تشبه عدسات بصرية تخثر ضوء الموقف الذي نعيشه في لحظة ما وتشعل في بؤرة نورها لهيب معرفة الذات، بل ربما تختزل كذلك فهماً لمراحل العصر. وهكذا قال فولكر براون قبل سنوات: “لاتأتونا بما هو جاهز”، فأحس الجيل، الذي شكت آنذاك كريستا فولف نضجه المتردد، بأنه معني بهذه الجملة وانتقل من خطوته البطيئة ليسير بخطوات أسرع قليلاً.
وكان جورج ماورر، الذي سنحتفل في العام القادم بمئويته، يكرر وعظ تلاميذه دائماً “إن اكتساب الذات في القصيدة هو اكتساب للعالم”. وهذا ماكان أيضاً لدى المحتفى به اليوم. فهو يمتلك منذ البداية عدداً كبيراً من هذه الحراب الشعرية التي لم يعد بالإمكان التخلص منها أو التخلي عنها. وهنا تأتي بالطبع وقبل كل شيء أشهر صوره الشعرية وأكثرها مركزية، تلك التي عنونت مجموعته الشعرية الأولى والتي كتب قصائدها مباشرة بالألمانية وصدرت عام 1978 “عناق خطوط الطول”. هذه الصورة الشعرية أصبحت رمزاً لشعره وفكره، لحياته وعشقه. وهي في الوقت ذاته أجمل وصفة وأكثرها إقناعاً لخلق عالم عادل. – ومع ذلك أريد أن أبدأ ببيت شعر كتبه الشاعر عام 1965 واختاره نفسه بعد سبع وعشرين سنة عنواناً لمجموعة أخرى “لو لم تكن دمشق …”. هذه المجموعة صدرت عام 1992 ، في العام الذي تم تكريمه، كما هو معروف، بجائزة شاميسو. ولكنني سأقتبس الاستشهاد من الطبعة الثالثة الصادرة عام 1999. ونحن نعرف كم هو نادر اليوم أن يعاد طبع مجموعة شعرية مرةً أخرى.
“لو لم تكن دمشق …”، يتساءل المرء، ما الذي كان سيحدث؟ من الطبيعي أن نحس فوراً بشئ عائم، رقيق، هش، قابل للكسر، بشيء يحيلنا إذن إلى كينونةٍ شاعرية اضطرت في البداية أن يكون موطنها الغربة، ثم أرادت فيما بعد أن تكون هذه الغربة وطناً: أهو التكلم بلغتين؟ التحدث بلسانين؟
ثم نستغرب على الفور إذ نرى، كيف مازالت تؤرق هذا الرجل، هذه الصدفة السعيدة النادرة، هذا الشاعر بكل مراسيه العائلية والصداقية والشعرية والإجتماعية، أحاسيس لاتعرف الحسم وتلاحقه حتى عام 1992. إن فقدان الوطن القسري يخلف دائماً جرحاً لايمكن أن يندمل. وأنا أعرف عما أتكلم، رغم أن تهجيري من “سوديتن لاند” لم يواكبه فقدان الانتماء اللغوي الذي ولدت فيه.
“لو لم تكن دمشق”، لها موازيات كثيرة بالنسبة لنا، نحن الذين كونت المسيحية سماتنا. إننا نتذكر بالطبع مباشرة تلك ال “دمشق” التي احتضنت ساولوس الشرير، هذا الذي تحول بعد أن أوقعه الرب عن جواده من مضطهد للمسيحيين لايرحم إلى الرسول بولص. وهو حادث ايجابي من دون شك، إلا أن نتائجه كانت سلبية. إذ يقال بأن كثيراً من التغييرات الخطيرة التي طرأت على أصول المسيحية مردها إلى الرسول بولص، هذه التغييرات التي أدت في القرون الوسطى إلى محاكم التفتيش وحرق الساحرات وإلى الحروب الصليبية أيضاً …
لاتخافوا، لن يغيب المحتفى به عن ناظري لحظة واحدة. إذ أن برشت استطاع أن يستخلص من تلك الأزمنة المظلمة مسرحيته المنيرة “حياة غاليليو غاليلي”، ومن يقول في هذه اللحظة العالمية بريشت، لابد له من أن يقول قرشولي ولابد له أن يتذكر أن هذا الأخير ليس شاعراً فحسب، بل هو كذلك أكاديمي كتب رسالة الدكتوراه عن بريشت.
يبدأ عادل مقاله الجميل “طريقي الطويل إلى بريشت” الذي ضمه كتاب “نصوص في الأدب” كما يلي: “لم يكن عمري تجاوز العشرين حين كنت قد قرأت سيراً ذاتية للورد بايرن ورامبو وهاينة. وقرأت لشعراء أمثال نيرودا وناظم حكمت ولوركا إلى جانب القرآن وألف ليلة وليلة ومزامير داؤود ونشيد الإنشاد. كما كان كتّاب من أمثال دوستويفسكي وتولستوي وغوركي وتشيخوف وبلزاك وكافكا وسارتر وشتاينبك، وشخصيات روائية كفرتر وفاوست لغوته قريبين إلينا، حتى لكأنهم كانوا يجلسون معنا في المقاهي الدمشقية ليدخنوا نرجيلاتنا معنا”. أليس هذا رائعاً؟ دعونا نستمع إليه متابعاً: “ولكن لم يكن أحد منا، وأنا منهم، يعرف اسم بريشت. ولم أسمع بهذا الاسم سوى عام 1959، حين كنت هارباً في بيروت، إذ قرأت في مجلة “الثقافة الوطنية” التي كنت أنشر فيها بعض القصائد عنواناً أثار اهتمامي هو “شكسبير العصر الحديث”. إننا نرى إذن أن الايجابي لايجر وراءه السلبي أحياناً، بل السلبي يجر خلفه الايجابي أيضاً. تماماً مثل مفيستو الذي جعله غوته يقول: “أنا جزء من تلك القوة/ التي تريد الشر دائماً/ ولكنها دائماً تخلق الخير”.
“لو لم تكن دمشق”: هي قصيدة كتبت إذن سنة 1965 ونشرت في مجموعة >عناق خطوط الطول< عام 1978. يومها انتهت القصيدة بهذا الشكل: "هنا أعيش حيث الأمنيات ليست أحلاماً بلا أمل/ وجوه كثيرة تقابلني بودّ/ حميمة كتحية العصافير/ ولو لم تكوني يادمشق/ أنت، يامدينتي الوحشية الرقيقة/ ياملحاً وماء على الجبين/ وياوردة في القلب/ أواه/ لو لم تكوني/ في مكان ما على وجه هذه البسيطة/ بعيدة كل هذا البعد وقريبة كل هذا القرب/ لو لم تكوني/ لما أردت أن أعيش/ ولا أن أموت/ إلا هنا."
أما الآن في العام 1992 فلم يعد النصّ يتضمن البيت الذي يقول فيه: " هنا أعيش حيث الأمنيات ليست أحلاماً بلا أمل". كما حذف المقطع الأخير: "/ لو لم تكوني/ لما أردت أن أعيش/ ولا أن أموت/ إلا هنا." – نعم، ثمة قصائد هي دائماً كما هي، قصائد نهائية، ولكن توجد قصائد أخرى لاتنتهي، ولاتهدينا الراحة. فهي أدوات بيد الزمن، من دون أن تتحول إلى قصائد مؤقتة. كما أن ال "هنا" من عام 1965 وعام 1978 لم تعد موجودة في العام 1992 كما كانت. وهكذا فلم يختصر النص وحسب بل اختصر الواقع ذاته. ولحسن الحظ لم يحاول الشاعر التصرف ب "الآن" وكأنها مازالت متماهية مع ما كان.
في حوار مع صحيفة >زيكزيشه تسايتونغ< سنة 2003 يصاغ السؤال الجوهري ليس كما طرحه غوته على لسان غريتشن: "مارأيك بالدين ياهاينريش "، بل كما يلي: "هل كنت تؤمن بأن الاشتراكية سيكتب لها الحياة؟" وكان جواب عادل: " جئت إلى ألمانيا الديمقراطية أحمل معي أحلاماً خضراء. وكان حلم الاشتراكية في البداية مطابقاً للواقع كما رأيته، لأنني كنت أقارنه دائماً بالواقع في سوريا. حين بدأت أحكم على ألمانيا الديمقراطية من خلال قانونياتها الداخلية فقط تغير الأمر. لم يعد هناك تطابق بين التطلع والواقع. تماماً كما أتيت إلى الوحدة الألمانية بمفهومي الخاص عن الديمقراطية كما ينبغي لها أن تكون. ولكن هذا المفهوم ليس مطابقاً كذلك لما هو متحقق في اقتصاد السوق. إنني لم أعد أسمي تطلعي هذا يوتوبيا، بل خداعاً للذات".
وهكذا كانت تلك ال "هنا" الأولى القطب النقيض لحبيبته دمشق، التي أرسلته إلى المنفى، لأن الجلاد "ذلك الرجل بهيئته اللطيفة الراضية" أراد قطع لسانه ... والآن وفي العام 1992 ليس هناك تهديد شخصي من الوطن الحبيب، بل إن هذا الوطن نفسه مهدد الآن. لنتذكر بأنه وفي العام 1991 قام جورج بوش الأب بشنّ حرب العراق الأولى وأنهاها بانتصارٍ سريع. حيث صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي شامير بشهوانية، بأن العدو الرئيس لإسرائيل هو الرئيس السوري أسد. وبأنه، أي الرئيس الأسد، لايملك مايميزه عن صدام حسين سوى أسمه. وقد قال ذلك بالرغم من أن سوريا كانت مشاركة في قوات التحالف ضد العراق يومها. ومما زاد الطين بلة كما يقولون هو قيام بعض الزملاء الكتاب الألمان، ومن بعض المشاهير مثل إينتسِن بيرجِر و بيرمان، بمقارنات ثرثارة تسمي صدام حسين تناسخاً لهتلر.
وقد ردّ عادل يومها بقنوطٍ قائلاَ "كم أتمنى لو اختفى صدام ومنذ زمن طويل عن وجه البسيطة. لقد قتل صدام أصدقاء شخصيين لي، أباد الكثير من الأكراد بالغازات السامة، استعبد شعباً بكامله .... رغم ذلك فإنني لا أستطيع أن أقول وضميري مرتاح، بأنه كان يجب فعلاً دفع مثل هذا الثمن الباهظ، خاصة وأن الحرب لم ولن تحل أية مشكلةٍ من مشاكل شعوب المنطقة."
هذا الكلام قاله عادل إذن عام 1991، أي قبل 12 عاماً من قيام بوش الإبن بحرب العراق الثانية والمشكلة االأفغانية التي مازالت قائمة. هذه الحروب الوقائية التي أدت إلى زعزعة استقرار المنطقة بأسرها وتخريبها وإذكاء نار الإرهاب من خلال تجنيد مستمر لمتحمسين جدد.
لنتذكر الآن وبهدوءٍ في هذه اللحظة الاحتفالية، تحت أية ضغوط ممزقة كان يعيش هذا الرجل ولعشرات الأعوام ومازال يعيشها حتى يومنا هذا. ومما يدعو للإعجاب أكثر، هو كيف استطاع تجاوزها والسيطرة عليها. ما أتذكره الآن هو الأزمة الكبيرة التي مرّ بها في منتصف الثمانينات من القرن الماضي، والتي منعته يومها حقيقة عن الكتابة، هذه الأزمة التي كانت لها أسباب عديدة. وكم أنا سعيد الآن بقيام اتحاد كتاب لايبزغ يومها، وقد كنت رئيسه في العام 1985، بتكريمه بجائزة مدينة لايبزغ للأدب، فلعلنا تمكنا من مساعدته بذلك بعض الشيء على تجاوز محنته العابرة تلك. كان عليه ألا يسكت، كنا نعرف أننا بحاجة إليه. وهكذا أفدنا أنفسنا بتكريمه.
قد تكون دمشق بالنسبة للكثيرين منا، أيها الأصدقاء، مرادفاً للتحول الفجائي للإنسان. ذلك الديوان الشعري من عام 1992 والذي ترافق بكلمةٍ ختامية للكاتب هاينتس تشيخوفسكي، تلك الكلمة التي تبدأ كما يلي: لا يستطيع الإنسان أن يختار أصدقاءه. إن الصداقات أقدار، نادراً ماتقع، لذلك هي غالية". نعم، هذا صحيح، ولهذا فإن هذه الجملة حول غلاوة الصداقة لعادل قرشولي نفسها غالية علينا. وكم هو جميل أن يكون هذا المكان قلعة متقدمةً للثقافة ولثقافة الحياة أيضاً. وهنا أذكر الأرشيف الأدبي الذي شيده وأداره السيد كيل كذاكرة جيدة لمدينتنا الرائعة. وفي هذا المضمار كان جورج ماورر أستاذاً عظيماً لنا. جميل أن تحمل مكتبة في المدينة اسمه.
لو لم تكن دمشق، لما تعرفت على عادل قرشولي. ياله من تصورأشكر الرب لأنه لم يحدث!
في بدايات الستينات وعندما وصلت إلى ألمانيا الديمقراطية ماسمي آنذاك بالموجة الشعرية، قادمة من الاتحاد السوفييتي، والتي أثارها الذين خلفوا ماياكوفسكي وييفتيشينكو، قدم المئات من محبي الأدب لحضوء أمسيات شعر طويلة، وسماع قراءات ألقيت بشكل سيء وبنرفزة شديدة من قبل كتاب غير متمرنين. في ذلك الحين وفي المركز الثقافي "ألفريد فرانك" صعد إلى المنبر شاب بشاربين وألقى قصيدة عن أخته الصغيرة في دمشق البعيدة، تلك التي يكتب الشعر ليولد لها فجراً في غربته. وتعالى التصفيق لدرجة لاتوصف. لقد تضامن الجمهور مع قدر الشاعر، الذي استطاع أن يكسبه إلى جانبه ببلاغته الخالية من كل اضطراب.
أنا ايضاً، أنا الذي كنت قد عرفته جيداً من خلال حلقة جورج ماورر الشهيرة لدراسة الشعر في معهدالأدب، وقعت يومها وفيما بعد أيضاً صريع هذه الجاذبية الشعرية. رغم أننا مررنا بالعديد من مناسبات التذمر والاستياء أيضاً. فقد كنا نحن الطلاب الألمان نجتمع في تشاردا وفي بار ريجينا لصرف ماتبقى من نقود منحتنا الدراسية الثمينة بشكلٍ عقلاني، وهنا كان يأتي عادل ليتهمنا بالكسل. فقد كان قد سجل في معهد الأدب وكذلك في المعهد العالي للمسرح. فعندما كنا نفتقده في أحد المعهدين، نعتقد أنه موجود في الآخر. ولكنه ربما كان يتدرب آنذاك على معانقة خطوط الطول! فمن المعروف أنه كان في ذلك الوقت قد وقع في شارع هاين شتراسي صدفة بهوى فتاة اسمها ريجينا ؟. والآن لم يعد في مقدورنا أن نعرف من وقع أولاً في حب الأخر ونحن مازلنا نلحظ حتى يومنا هذا التشابك وهذا العناق المستديمين بينهما. ولكن مانعرفه حق المعرفة هو أن اسم ريجينا يعني "ملكة".
كان ديوان الشاعر الأول باسم "مثل حرير من دمشق"، وجاء الديوان الثاني ليكرس تلك الصورة، صورة العناقات الجغرافية. وانا لا أعرف إلا القليل جداً من الشعراء الذين استطاعوا بصورة شعرية ذاتية واحدة نابعة من أعماق الشعور أن يربطوا بهذه الدقة المقنعة الخاص بالعام ويصيبوا في نفس الوقت عصب عصرهم مثلما فعل عادل قرشولي. "في الحلم تتكلم أمي معي الألمانية، وباللغة العربية تكلمني زوجتي الساكسونية". – وهكذا أصبح شاعرنا مع الوقت ذلك الوسيط الكبير الذي نحتفل به اليوم والذي ينصب الجسور بين ثقافتين هامتين أكثر من أي وقتٍ مضى للتطور العالمي. لقد كتب الشعر، وكتب أطروحة الدكتوراه وترجم الشعر من الألمانية للعربية وبالعكس وأحضر العديد من شعراء لغته إلينا في لايبزغ مثل محمود درويش/ غوته فلسطين، والذي رشح عدة مرات لجائزة نوبل. ثم تأتي تحليلاته الذكية والتي أوردت بعضاً منها في عجالتي هذه. تحليلات استطاعت اكتشاف الأسباب الحقيقية لتلك الحرب التعيسة، التي بحجتها ومنذ أكثر من نصف قرن تتم عسكرة وتسليح الشرق الأوسط بسابق تصميمٍ وإصرار.
كنا نسمع بين الفينة والأخرى في الأيام الأخيرة بعض حفيف يأس تسرب إلى صوت شاعرنا القوي. غير أن الجمل الأخيرة في القصيدة الأخيرة في ديوانه الأخير الذي يقطر حكمة "هكذا تكلم عبد الله" مازالت تهدئ من روعنا وتقول: "ويتطاول الجسر/ من خط طولٍ لخط طول" ، إنه الأمل إذن رغم كل تلك الإحباطات.
دعونا متأهبين، لا تريحوا مجالسكم إلى الخلف واقرؤوا معي قصيدته "قسمة" في "هكذا تكلم عبد الله"، حيث وصل بلغته الألمانية إلى قمة بلاغته، لأنه استطاع أن يفجر مجازات لغة ألف ليلة وليلة ويرقى بصورته الشعرية إلى ذرى فلسفية. تحتل قصيدة "قسمة" واحداً من المراكز الرئيسية بين قصائده كما أعتقد. لكلّ قسمته وقدره الذي لايمكن أن يحيد عنه، هذا مايعنيه اسم القصيدة في العربية. بالنسبة لنا – نحن الألمان – يعني ذلك في حياتنا اليومية القدرية. إذا قرأنا القصيدة نجد: " وقال لي/ حين تفنى الحياة في الحياة / لن تكون حياً أنت/ ولن تعرف آنئذٍ أن لاحياةَ في حياة/ وقال لي/ الكواكب تسبح في الكون/ والعناصر لاتتساءل/ إن كان للحياة حياة/ وقال لي/ حين تريد الحياة الحياة/ تقول للحياة كوني فتكون/"
هل هذه قدرية؟ أنا أعتقد ذلك! ثم تتابع القصيدة في مكان آخر " وقال لي/ لاتتدخل/ في سيرة حياة الحياة/ لتعش بكل ما اوتيت من حياة/ ماتمنحه لحياتك الحياة/ هل هذه أيضاً قدرية؟ ربما تكون قدرية وربما لا تكون! ولكنها على الأقل تبدو وكأنها جديدة تماماً ومجندةً تماماً على قدّ عادل.
يقول عادل في نهاية مقالته لجريدة لايبتسيجِر فولكس تسايتونج تحت عنوان ذكريات عن لايبزغ "يحمل إبني اسم سليمان، وهو اسم جده الكردي الأصل والمولود في دمشق. وسليمان هو الصيغة العربية للاسم التوراتي سالومو. حفيدي ابن ابني اسمه عادل فالك، وهما اسما جديه لأبيه وأمه. والصبي يقول من نفسه: أنا ربع عربي. أي اسم ستحمل ابنة حفيدتي أو أي اسم سيحمل ابن حفيدي يوماً ما، إن ذلك مايزال في عالم الغيب."
كم هي جميلة هذه الفكرة! فالقصيدة المذكورة سابقاً تتلقفها قصيدة لاحقة في المجموعة وتعطيها بعدها الحقيقي: " وقال لي/ ولم يكن أزلُك الأزل/ ولم يكن أبدُك الأبد/ لكن الجسر/ بين أبدٍ وأزلٍ/ هو أنت/ لاتبتعد كثيراً/ عن النهايتين/ . وهنا نجد الصورة الشخصية في إيقاعها الأقصى، بل بأقصى حالات تفردها العصري، قلِ الأبدي، مطعمة ببعض صوفية، لكنها في نهاية المطاف عادل بكل بهائه.
تتوارد إلى خاطري تلك الفكرة الجميلة، وكأني أرى في المنام حلمي القديم: تمثال لناتان الحكيم. بدايةً نتذكر فكرة ليسينج الأساسية المعروفة. (يشير الكاتب هنا إلى مسرحية "ناتان الحكيم" لليسنغ، وهو أحد أقطاب أدب عصرالتنوير، وهي تتحدث في حكاية الخواتم الثلاثة الشهيرة عن التسامح والتكامل بين الأديان السماوية الثلاثة. المترجم) ففي شخصية صلاح الدين يجد الإسلام قوته المطلقة، فهو السيد على الحياة والموت، كما يراه ليسنغ، ومع ذلك يتخذ من اليهودي ناتان موقفاً إنسانياً. أما اليوم فإن ميزان القوى معكوس تماماً. فالقوة النووية إسرائيل متحالفة مع الولايات المتحدة الأمريكية تملك قرار الحياة والموت. وهي تملك بذلك المفتاح لحلّ سلمي لكافة المسائل المعلقة. هل يحلم المرء حين يأمل، أن تقوم هذه القوى العظمى باتخاذ موقفٍ إنساني ما؟ وعلى كلّ حال فقد كان اسحاق رابين، حامل جائزة نوبل للسلام، مستعداً لحلّ سلمي، فأي تراجيديا هي هذه، أن يقتل الرجل على يد أصوليين من شعبه نفسه. ولكن ذكراه مازالت باقية، ومع ذلك يبقى الكثير الكثير من الخطورة ومما يجب فعله. لأن حياة الإنسان تأتي في المقام الأول، ويجب ألا يسمح لها أن تداس بين فينةٍ وأخرى بالجزمات العسكرية. فقد يفقد العالم عندئذ بوصلته ويتضاعف الخطر. وحتى التفكير بتكرار التاريخ لنفسه قد يصبح ممكناً، أي كابوس سيكون ذلك!
ولكن لنعد ثانية إلى ناتان في حكاية ليسينج! وبشكل أدق نقول: لنتطلع إلى معجزة الأطفال في الحكاية! فقد خرجت ريخا والصبي سيد المعبد من عناق خطوط الطول أيضاً. ألا يمكن لهذه الصورة أن تكون نصباً تذكارياً كمجاهرة بالشهادة ضد كل يمينٍ متطرفٍ باطل، وليكون بوصلة تهدي بعض شبابنا الضائع؟
"لولم تكن دمشق":
نقرأ في ديوان عادل قرشولي هذا قصيدة لفولكر براون ثبتت على الغلاف الداخلي عنوانها بكل بساطة "إلى عادل قرشولي"، تقول:
شجرة زيتون ودودة، ناصعة،
إلى جانب أشجار البلوط العجفاء؛
الجذور قادمة من بعيد ؛
لكن الغصون تتعانق فى الريح.
..
حين يصبح لك، أيها الشاعر،
بين الألمان وطن فى الغربة؛
لن نعود نشعر، نحن الألمان كذلك،
بأننا غرباء فى الوطن..
كم جميل أن تعنينا جميعاً هنا هذه ال "نحن" في هذا الإهداء العظيم.
إذاً، كاسك أيها العزيز عادل، ياصديقي!
الشاعر بيتر غوسة
عادل قرشولي يشعر بأنه ممزق بين وطنين، بينما أقول أنا إن الحظ حالفه واكتسب وطنين. حالفه الحظ لأن هذين الوطنين – سوريا وساكسونيا – هما بالتأكيد مكانان متباينان على وجه البسيطة ولكنهما جعلا في الوقت نفسه العالم بكامله وطناً لهذا القرشولي الرائع. ليس من غريب عنه بغريب، إذ لايوجد – هكذا يشعر وعليه أن يشعر- لايوجد ماهو غريب.
“على شفتي يتجمع
فم العالم”
قال في إحدى أجمل قصائده، وهو يتحدث هنا، كما أتلمس بفرح، عن فم البشرية بكاملها.
فماهو الغريب، إذن، وأين هي الغرابة؟
ولأن عادل فهم هذا الكوكب، كوكبنا الصغير إلى حد لايصدق، بحيث يمكن تجاهله بسهولة، بل واعتباره شيئاً طارئاً في ديمومة الكون الشاسع، فهو يتمتع بسمة جوهرية هي التي تميزه وتثير فينا هذا الإعجاب المنقطع النظير. هذه السمة هي: الخشوع أمام كل ماهو حي والترحيب به بجلال ومهابة. وهو بهذا يكاد يكون مزيجاً من حكمة بوذية، وشك جميل مبطن بالايمان، ايمان بالمستقبل أيضاً، وهذا المستقبل هو بالطبع – وإلا لما كنا سميناه كذلك – مستقبل يصبح فيه وطن للمحرومين والمثقلين بالهموم، مستقبل للهنود الحمر مثلاً وللفلسطينيين، ولكل المستضعفين الذين يمنحهم كل مالديه من محبة يدرك بالطبع أنها أيضاً محبة مستضعفة، ومع ذلك فهو يرفض الأعتراف باستضعافها هذا: “تجلدي بالصبر”، هكذا يتأوه،
“تجلدي بالصبر، أيتها الأرض، يا أمنا،
يا امرأة كانت لأني كنت،
ياجزيرة
لقوارب تائهة
في وحشة هذا الكون”
عادل – مهما كان معنى هذا الإسم بلغته العربية: فالمعنى الألماني لهذا الإسم يصفه بدقة. ( عادل باألمانية تعني نبيل) إن الشاعر الذي يحمل هذا الإسم يجعلنا بالفعل نعيش معناه في هذا الرجل نبلاً فكرياً، سامياً، نادراً، ومدهشاً. وبالمناسبة:
إن الحرف الأول من توقيع عادل بالألمانية يتخذ شكلاً يكاد يكون بيضاوياً مائلاً بعض الشيء متسعاً في الوسط وكأنه مغلق في الأسفل، أما الخط في وسط الحرف فيختزل بما يشبه النقطة : وكأنه يريد أن يذكرنا بدوران الأرض حول الشمس.
إن من يريد مصاحبة عادل، عليه أن يكون مستعداً لمصاحبة العالم.
الروائي فرنر هايدوشيك….
قبل خمس سنوات، وكان لم يمر على وفاة زوجتي سوى وقت قليل، مررت بأزمة، ابتعدت فيها عن الآخرين وابتعدوا عني. ولم يجد ألريش كيل المسكين الذي نظم معرضاً عني من يلقي كلمة الإفتتاح. فكتبها بنفسه. وحين سمعت أنت بالأمر في صباح يوم الإفتتاح، لم تتردد لحظة فجلست ببساطة إلى طاولتك وصغت ماجال في خاطرك من الكلمات المناسبة، لتلقيها في المساء.
لن أنسى لك هذا الموقف ماحييت. لعل هذا الموقف يرينا الفرق بين العربي والألماني. فالصديق بالنسبة إليك صديق. أما الألمان فليسوا كذلك. ”
أذكر أننا سرنا في السادس عشر من أكتوبر عام 1989 جنباً إلى جنب في تلك المظاهرة الشهيرة في المدينة. وكان يسيطر على الناس حماس كبير لأن الخوف من سلطة الدولة كان قد تبخر. ولكنك وحدك من ساوره الشك أيضاً والذي عبرت عنه آنذاك بمقالك التاريخي “أخرجوا أيها الأحانب”. فمن جهة كنت فرحاً لفرحنا ومن جهة أخرى كان حدسك ينبئك بما سيحمله لك المستقبل كغريب في ألمانيا. أعترف أنني لم أفهمك آنذاك. ولكنك تقول في مقالك الجديد “تأملات عن لايبزغ” الذي نشرته منذ أشهر قليلة إننا لسنا غرباء إلا بالقدر الذي يشعرنا فيه الآخرون بأننا كذلك. هذه الجملة هزتني بعمق… دعنا لانخدع أنفسنا، وطنك الحقيقي هو دمشق. في لايبزغ أو هامبورغ أو مونيخ ستبقى دائماً غريباً، حتى ولو كانت لك زوجة ساكسونية وتحمل الجنسية الألمانية. ‘ن آلام معدتك تنعدم في دمشق أو القاهرة، وتعود إليك مجدداً في لايبزغ. وبالمناسبة كان نيتشه يشعر بالشعور نفسه، رغم أنه ولد ودفن في روكن.وكان يهرب دائماً بين الحين والحين إلى ايطاليا. كانت السماء هناك تجعله يتحمل آلامه بشكل أفضل. آه ياعادل، هذا العالم هو كما هو. لن تغيره مسيرة في شوارع لايبزغ. وليس لنا سوى صديق هنا أوآخرهناك، وعلى المرء أن يتمسك بهذا الصديق. فهو أهم من أي نظام. أحييك.”
الشاعر والناقد يواخيم سارتوريوس
لقاءاتي بعادل قرشولي كانت متباعدة. في لايبزغ، وبرلين، وفي مهرجانات شعرية، آخرها كان عام 2005 في مهرجان دورن بيرن الشعري بالنمسا مع أدونيس، الشاعر المولود في سوريا أيضاً. هذه اللقاءات تبقى في الذاكرة لقاءات رائعة، وكأنها تسبح في الخيال، حاملة معها ذكاءه ورقته، وكذلك صرامته الصادقة حين يتعلق الأمر بالمواضيع السياسية. إنني أقدر ترجماته الشعرية، وخاصة تلك التي أبدعها لقصائد الشاعر محمود درويش، وأحب قصائده. فحين أصدرت قبل سنوات في شيكاغو بالولايات المتحدة أنتولوجيا عن الشعر الألماني المعاصر اخترت لها عشرين شاعراً كان عادل قرشولي واحداً ممن اخترتهم بقصائد من مجموعته “هكذا تكلم عبد الله”.
لكنني لم أتعرف حقاً عليه ولم ألمس ما يختبئ خلف جوهره الجذاب سوى منذ سنتين في دمشق. إلتقينا بالصدفة في افتتاح معرض الرسام مروان في خان كبير من خانات دمشق القديمة. وتواعدنا مباشرة أن نتناول في اليوم التالي معاً طعام الغداء في واحد من باحات تلك البيوت الفخمة الرائعة التي توشي مدينة دمشق العتيقة. رأيته وكأنه تحول في مدينته إلى سمكة تسبح في مائها الحقيقي، طفح بالحكايات، شرح المدينة، تحدث عن الوضع الحالي والغضون تجعد جبهته، أجبرني أن آكل وجبة ثانية من السمك الشهي، وكان المضيف الكامل والراوية الشرقي الثاقب الفكر. وفجأة أحسست أن شعره تقدم خطوة أكبر نحو مداركي، وأصبح في مقدوري أن أتصور الحياة بين الوطن والموطن، وأتصور تلك الهنا والهناك بين دمشق ولايبزغ، وتلك الصورة عن عناق خطوط الطول بشكل أفضل، وتنامى إعجابي به في تلك الأيام الدمشقية. عادل قرشولي حكيم، وإنساني، وشاعر كبير، وبالنسبة لي هو قدوة يحتذى بها.
الدكتور هربرت كيستنر
رئيس جمعية المقتنيات النادرة
سنحت لي الفرصة للتعرف على عادل قرشولي عام 1985 عن قرب. في تلك السنة وصلت بنا الجرأة في جمعية المنشورات النادرة على أن نحاول إجراء حوار بين اللوحة الفنية والكلمة النقدية في سلسلة من المنشورات النادرة. ضم العدد الأول قصيدتين لفالتر بيتري أهداهما للشاعر الروسي فيليمير خليبنيكوف مع لوحة رائعة لرولف مونتسنر.
وكانت مجموعة عادل قرشولي “وطن في الغربة” قد صدرت في تلك الفترة فأكدت رغبتنا باختياره للعدد الثاني. وبسرعة انتقلت الشرارة من عادل قرشولي إلى الفنان يواخيم يانزونغ، الأستاذ في المعهد العالي للجرافيك وفن الكتاب، الذي رسم لوحة مؤثرة لقصيدة التي كتبها عادل بعنوان “هذه الأرض كرمنا”.
كان ذلك في فترة لم تزل فيها جروح حرب الخليج والحرب الأهلية اللبنانية والصراعات الدامية التي كانت تثيرها اسرائيل مع جيرانها العرب تنزف. فكتب عادل قرشولي بحزن وغضب عارم:
إرهاب:/ يصرخ القتلة/ ويشيرون بمخالبهم المغسولة جيداً بصابون الخديعة/ إلى المقتولين./ مدن مقدسة تدنس نفسها بنفسها/ ببصيرتها الضريرة:/ قاعة انتظار أضحت هذه الأرض/
على برميل من البارود.
وبعد عشرين سنة، وقد إلتقينا مجدداً بعمل مشترك، يلتهب الجرح من جديد، وينذر أكثر من أي وقت مضى، بحريق يلتهم العالم. وها نحن اليوم نرى أنفسنا ثانية وأكثر من أي وقت ندعو مع عادل قرشولي إلى “عناق خطوط الطول” بأصواتنا الموحدة، المبحوحة من الغضب، والتي تشكو من شدة الألم، والتي تحذر دائماً دون أن تفقد الأمل مثل عبد الله الذي قال لنا أيضاً: ولكن ألسنا نحن من حرث كرم العنب/ ونظف الأحجار منه،/ وبنى فيه برجاً ومعصرة/ فمن يعقد ياترى دائماً وأبداً من جديد/
تاج الشوك هذا؟
ياعادل، نحن بحاجة إليك.
فولكر براون
هكذا تكلم عادل
وقال لي
هاقد هرمت الآن
ونبتت لي جذور
في سهوب
انطلاقاتكم
..
أما أنا فقلت
تركت إذن الخمسة آلاف عام
من أجل تاريخ لاتاريخ له بعد ولاسحر
..
وقال لي
الغربة ليست عني بغريبة
إلى الجذور
تتسلل الغربة
..
فقلت
عالمك مر
بمرارة العلقم: وبمرارة الندوات والمؤتمرات
عالمي
..
لكنه أجاب
كل (جواب) يمسد شعري بيد
يضرب الجمجمة
بقبضة سؤال
..
فرددت معه
الثلج يحاصر
طيش كلماتك
وبيتك هو أنت
..
ثم قلنا معاً
الغريب يعانق نفسه
أما نحن
فيعانق أحدنا
الآخر
بعض المختارات من قصائد الشاعر عادل قَرَشولي
السيد العبد
نعمة أنت.
دم في عروق
أرضنا، ومع هذا
يسخر الصبار من شوقي المزمن
إلى غابـة.
..
لعنة أنت.
سيد الصحراء العبد.
رخام مسلح في القصور.
حقن الهورمونات
للأعضاء المرتخية الخرفة
في جسد القرون الغابرة.
>>
العمامـة المهترئـة
ضعوا عن رأسي
هذه العمامة.
حطموا القيود في حكاياتكم
عن ألف ليلة وليلة
مزقوا صورتي هذه
من مجلاتكم وكتب أطفالكم
أنا لست “الحاج خالف بن عمر بن .. بن ..بن ….”
ولا البدوي المتنقل على جمل
ولاشيخ النفط ذا الأسنان المستعارة
فلماذا لا تزالون تحلمون بالحريم
باسمي أنا
لماذا ترفعون هذا البرقع راية لي وتلونون بألوانه
وجهي أنا
لماذا لاتسمونني مثلاً الكندي
أو الرازي أو ابن رشد
من حملوا إليكم ذات دهر نور التقدم
أو على الأقل
>>
واحد وحيد لم يصمت
كثيرون هم من يفهمونني.
ومن لا يفهمونني كثيرون.
..
رغم أن من لايفهمونني
يصرخون،
يصمت الذين
يفهمونني.
..
أنا أفهم من لايفهمونني
حين يصرخون،
ولا أفهم من يفهمونني
حين يصمتون.
..
ولأن من يفهمونني يصمتون،
أنا الذي يصرخ.
ولأنني أصرخ
لا يعود يفهمني من يفهمونني.
..
واحد وحيد ممن يفهمونني
سمع صرخة رعبي ولم يصمت.
لكن صمت الآخرين
تعالى على صوته.
>>
بورتريه
إنه ودود
مع جيرانه
يضحك بصوت مرتفع
لشدة الخجل
يشرب الخمر بنهم
لايدخن
يمتلك سيارة
وإمرأة
وبيتاً تسوره حديقة كثة
وطفلين.
..
أمام باب مكتبه
يمسح بعنايـة فائقـة
عن حذائه
غباره وروحــه.
..
خلف طاولته العصماء
يستمع إلى شكاوي المواطنين
بأسف بالغ.
..
بين كتفيه
ينبت له فجأة
ختم.
السكين
الجندي
الذي طارني
من بلد لبلد
ومن قبر إلى قبر،
الجندي يجلس ربما في هذه اللحظة بالذات
تحت شجرة برتقال
على مرج مقصوصةٌ حشائشه بعناية فائقة
في مستوطنة بنيت على حقل
كان أبي يزرعه حين
أصابته الرصاصة.
الجندي يشرب ربما في هذه اللحظة بالذات
قهوته
بيد لم تزل هادئة،
قلت لم تزل.
أطفاله لا يلعبون
مع أطفالي.
>>
الجذر
وقال عبد الله لي
أنتَ لم تعُدْ أنت
فلو كنتَ أنتَ أنتَ لما قبلت بما تقبل
وقال لي من يفقدِ الجذرَ يفقدِ الثمر
ومن يفقدِ الثمرَ يفقدِ الجذر
لأن الجذر دون ثمرٍ عقيم
والعقمُ ناشفٌ كالحجر
وقال لي
إرحل إلى الجذر ترحلْ إلى وطن
فمن لاوطنَ في وطن لهُ لاجذرَ له
ومن لاجذر له فهو وحيد وموحشٌ كغصنٍ يابس
فلم تقل شفتاي سوى دمعةٍ هربت من العين
>>
الرقص على حبل
وقا ل عبد الله لي
يمينك غربة
ويسارك غربة
أنت ترقص على حبل
..
وقال لي
السؤال يعرقل فيك السؤال
والجواب يجانب الجواب
أنت ترقص على حبل
..
وقال لي
لا الغرب غربً فيك
وليس شرقاً فيك ذاك الشرق
أنت ترقص على حبل
..
وقال لي
أغمض عينيك
وإنطلق بأقصى ماأوتيت من بصيرة
أنت ترقص على حبل
>>
الآخــــر
وقال عبد اللهُ لي
لاوجودَ لأحدٍ غيرك إلا فيك
لست سوى الآخر وما الآخرُ إلا أنت
الجسر بينكما وحده
هو الحياةُ
ولاحياةَ بلا جسر
وقال لي
أنت تبتعد عن نفسك
إن ابتعد الآخر عنك
لا تطلق الرصاصة على صدر غيرك
فأنت من يسقط في قبره
ومن يأكل الدود قلبه ليل نهار
أما أنا فقلت
الآخر يقتلني ليلاً
ونهاراً يقتلني الآخر
فلماذا لايسقط هو
ولو مرة
في قبري أنا
>>
وقال لي
أنت تبحث عنكَ فيه
وهو يبحث فيك عنه
أنت تبقى أنت
وهو يبقى هو
على النوافذ المغلقة
يقرع بجناحين مضمومين كقبضتين
غراب الموت
…
كن مرة أنت
وكن مرة أنا
فلو أصبحت أنت أنا
بقيتُ أنا وحيداً معي
ولو بقيتَ أنت دائماً أنتَ أنت
ستكون ذرةَ رملٍ في ريح
..
وقال لي
حين يكون لك مكان يحتويك
وزمان يحملك في ثوانيك
حين يعانق فيك قوس القزح
قوس قزح الآخر فيه
عندئذ تكون الحياة
ويكون زمانك الأبد
ومكانك اللامكان
..
المخالب
وقال عبد الله لي
الظمأ قاتلٌ وأنت ظاميءٌ ولاماء
لأن أيامكَ مرة كالعلقم وصوتك خافتٌ كأنين
وقال لي
وإن لم يتفجّر النبعُ في الصخرِ
فالرملُ في الأفق
وفي الأفق قيظ
وفي القيظ ظمأ
وفي الظمأ عقمٌ
وفي العقم موت
وقال لي
فلتنزعِ العقمَ عن الأيام
ولتفجر النبعَ في الصخرِ
لكي تزرع في الرمل الخصوبة
وقال لي
لكي تنزعَ العقمَ تحتاجُ إلى مخلب
ولكي تفجر النبع تحتاج إلى مخلب
ولكي تزرع الخصوبة تحتاج إلى مخلب
وليس من مخلب لك سوى صوتك
لكن صوتك خافتٌ كأنين وأيامَك مرةٌ كالعلقم
>>
الجنون
وقال عبد الله لي
أسلم للجنون عينيك
تريا من العالم ماتريدان أن ترياه
أسلم للجنون يديك
تمسكا بالجمر وتصفعا كل طاغية
أسلم للجنون شفتيك
تحطما قيداً يختمهما بشمع أحمر
أسلم للجنون قدميك
تقفزا عن حبل ترقصان عليه
بين جحيم وجحيم
أسلم للجنون الذاكرة
يُجِبِ السؤالُ السؤالَ
وتتصالحْ مع الرؤية الرؤيا
>>
السؤال
وقال عبد الله لي
العالم يضيق بعينيك ولكنه لايضيق إلاّ فيهما
وقال لي
لاتتسع رؤياك إلاّ إذا إتسعت رؤيتك
ولاتتسع رؤيتك إلا إذا إتسع العالم فيك
ولايتسع هو فيك إلا إذا سألت عنه فيه
وسرت منه إليه
وقال لي
السؤال شيء والجواب شيء ولاشيءَ بلا شيء
وأنت إن أجبت على كل شيء فقدت كل شيء
فمن يفقدِ السؤال يفقدِ الجواب
ومن يفقد الجواب تُختم بشمع العدم شفتاه
ولن تعرف المسير مقلتاه
أما أنا فقلت
لكنني أبحث عن راحة في جسد
وعن وسادة في فراش
وأنا أسألُ
وأسأل وأسألُ
ولاجوابَ إلاّ إلى سؤال
>>
الإسم والشيء
وقال عبد الله لي
لكلّ شيءٍ إسم ولكل إسمٍ شيء
وأنت لا تعرفُ الشيءَ
إذ لم يكن للشيءِ غيرُ الإسم فيك
وقال لي
لايدل الإسم على الشيءِ إلا إذا استدلّ به
فالشيءُ ليس الإسم والإسمُ ليس الشيء
وإذ تسمي الشيء بالإسم ثَبُت الإسمُ وتغيرالشيءُ
وفقد المسمى الإسم
وقال لي
إبحثْ عن الجوهر تكشفْ عن الإسم
وسمِّ الإسم بالشيء لا الشيء بالإسم
فأنت إن نطقت بما نطق به غيرُك قبلك
نطقتَ بالظاهر
وإن نطقت بالظاهر نطقت بالباطل
وإن نطقتَ بالباطل قتلتَ الجوهر فيما نطقت
أما أنا فقلت
ماقيلَ قيلَ ولن يصمتَ إلا إذا قيلَ مايُقيلُ قولاً قيل
وما يُقال فيما قيلَ يحمل للّحظة الأبد
واللحظة بلا أبدٍ شاطيءٌ بلا بحر
>>
وصول
وقال لي
إفتح بابها بلا وجل
أُدخل آمناً
أَفرغ حقيبتك
دُقّ المسمارَ في الجدار
علّق عليه معطفك
نم في عينيها مساء
وافتح عليهما في الصباح عينيك
قائظةٌ من ظمأ الترحال شفتاك
شفتاها ندىً أخضر
..
وقال لي
صرختك الأولى
تشد زناد القوس
وترسل إلى صدرك
سهم موتك المحتوم
لكن المسافة
بين الصرخة
والصمت
تسمى الحياة
..
تقبّل مايجيء
لاتنتظره
إفتح للموت ذراعيك
وعش
بكل ما اوتيت من حياة
…
قل لها
قل
لمن تحب
إنها جميلة
وسيصبح جمالها
بحجم حبك
>>
وقال لي
ولم يكن أزلُك الأزل
ولم يكن أبدُك الأبد
لكن الجسر
بين أبدٍ وأزلٍ
هو أنت
لاتبتعد كثيراً
عن النهايتين
>>
الجسر
وقال عبد الله لي
فوق النعناع يتحركُ
على الصخرة يتحركُ
تحت الجسر يتحركُ
كالنور هذا الحب
وقال لي
يتفتح النعناع في النعناع
تتوطد الصخرة في الصخرة
يتطاول الجسر في الجسر
وفي الطفولة يتجذر الجذر
وقال لي
يزرعني النور في النعناع
يفتحني النعناع في الصخرة
تجذرني الصخرة في الجسر
ويتطاول الجسر
من خط طول
إلى خط طول
>>
حوار مع موت معلن
يتقدم مني الموتُ/
أراهُ/
أقول له لاتتعجلْ/
مازال لديَّ أمور لم أنجزْها/
فيقول سينجزها غيرك يوماً/ لست وحيداً
فوق الأرضِ/
أقول لديَّ نصوص لم أكتبْها/ فيقول
سيكتبها غيركَ بعد رحيلك في الفجرِ/أقول
أنا لايعزفني أحدٌ غيري/ فيقول تعففْ/
لايوجد نص أصلْ/ لايوجد قول فصلْ/
فأقول ولكني البحرُ لأني القطرةُ في الموجةِ
لاموجةَ دوني لابحرْ/
فيقول بخبثٍ ملحوظٍ/ نصفك إبليسٌ والنصف ملاكْ/
فبأيِّ النصفين الآن تُراكْ/
فأقولُ
ولاأعرف ماقلتْ
عنـاق خطـوط الطـول
في الهذا وفي الذاك.
في اللا هنا واللا هناك.
أين أنا في وطن؟
..
بلغتين تصاغ الجملة.
يداي تمسكان بالأشياء في عالمين.
أمي تتحدث معي في الحلم بالألمانية ،
وبالعربية تكلمني زوجتي الساكسونية.
من خط طول إلى خط طولٍ تقفز خفيفة القدمين أحلامي.
من خط طول إلى خط طول تمتد في شجرتي الأغصان.
و على كل زهرة تتفتح في غصن ثمة وشمٌ
حفرته قوافل شمس
لم تزل تنبض في عروق الشجرة.
..
أواه يا خطوط الطول
يا غصوناً
في شجرة الزيتون والسنديان
تعانقي أكثر
وأكثر
في ذاتي.
>>
خضــرة النعنــاع
إلى جورج ماورر
- 1 -
من بلاد الأساطير جئت
من بلاد الألف شمس وشمس.
رقصة الفراشات الذهبية
يحميها على صدري قميص الكتان.
طوق ياسمين عقدته على عنقي
أساطير وشموس
يتطلع بعيني إلى العالم كطفلٍ، هكذا:
الشجرة جنية عاشقة.
الغيمة أمير.
المطر عرس الطبيعة.
- 2 -
من بلاد الأساطير جئت،
من بلاد الألف بؤس وبؤس
إلى مدن الإزدهار الكبير،
حيث دارت العجلة أسرع بمئة عام.
كل شيء يعلو ويعلو دون أن يتقدم.
أوراق التقويم تنزع نفسها بنفسها
لشدة العجز والعجلة.
آثار الحروب تتربص مختبئة
تحت ظلال اللامبالاة.
كل شيء ممنوع: الدخول والعبور والخروج،
حيث الشجرة شجرة ، والمطر
ليس سوى عملية فيزيائية.
- 3 -
في غابات الثلج تلك تجمدت في صدري الفراشاتُ
الفرِحَةُ النشوى. ريح ثلجية
نفخت الشك في عروق الأغنية ،
ساطت من الريشة الألوان،
نزعت أهداب الياسمين.
_ 4 _
لكنه هو
هو الذي رمى على الجليد صدف النبوءة.
هو الذي أراني الطريق إلى أعماق النبع،
وكنوز الغابات الأخرى في صميم الثلج.
هو الذي منحني الكلمة،
ودلني على ماهو خاص بنا:
قال لي أن نلجم الغيمة
كي نتمكن من الإحتفال بعرس الطبيعة.
أن نجمع الماء في السد.
ألا نخشى حد الموت الفاصل،
بل أقنعة الأحياء المتحجرة.
أن نبني مخازن في فضاء الكون وحدائق للأطفال.
فليس وحده من يجدل الحبال في روما
أو يجبل الفخار على النيل،
ليس برج بابل وحده ولا الأهرام
بل وكذلك ذرات الكهرباء
تكشف لنا الصورة التي لم تُكشف. ومع هذا، قال لي،
لن نأتي بأيد فارغة حين تطأ أقدامنا
أرض القمر. لن نأتي
بلا أغنيات.
تلك هي الكلمة:
الشجرة ليست جنية وحسب،
وليست شجرة فقط.
هو الذي أعاد إلى ريشتي ثانية
خضرة النعناع.
>>
عصيــان
من يدري أين
ومتى
لست أعرف إن كانت
ستسقط اليوم أو غداً تلك القنبلة
أو السماء على الرأس
لكنني أعرف
من هو الذي يعرف
وأنا لا أستطيع أن أقبل
بألا أستطيع
أن أفعل شيئاً غير أن
أتفرج على اصطدام الغضب بالعجز
وأن أنتظر قبضة الموت وهي تهوي
على جمجمة العالم
الهلامية.
أنشودة عن الحب
أخضر زيتوني
كزيتونة
يتسلق أبداً
شجرة أيامي
..
أخضر ذهبي
كورقة توت
تعابثها نظرة خبيثة
في عيني إله شمس
..
أخضر حشيشي
كظل واحة
في صحراء
..
أخضر زيتوني
أخضر ذهبي
أخضر حشيشي
فاتح
داكن
لكنه أخضر
دائماً
حبك
>>
تباشير
لكي أصل
إليكم
أتساقط
من ذاتي
قبل قدوم الخريف
ورقة
ورقة
..
كلمة الطفولة
لم تعد تتبرعم
على أغصاني
..
لكن هذا الرحيق
في الثمرة الجديدة
يكاد يفجر القشرة
لشدة النضج
>>
د. عادل قرشولي مع زوجته المستشرقة والمترجمة المعروفة د. ريغينا قرشولي ود. جورج جيرارديه, عمدة مدينة لايبزغ للشؤون الثقافية خلال التكريم
الشاعر د. قرشولي مع كمال العيادي ببيت الشاعر
الشاعر الكبير فولكر براون خلال التكريم, يفاجئ الحضور بقصيدة رائعة عنوانها ( هكذا تحدث عادل )…
جانب من الحضور الكبير الذي ملأ أكبر وأعرق قاعات لايبزغ
د. قرشولي خلال تقديمه للشاعر محمود درويش
د. قرشولي خلال تقديمه للشاعر أدونيس
عن موقع (دروب)- 17 نوفمبر 2006