أخيرة وتصريح بالولادة في آن واحد

هشام فهمي
(المغرب- كندا)

الكيبيكي جوزيه أكلان ما الذي تفعله مقاطعة كيبيك الفرنكوفونية في أمريكا الشمالية الانغلوفونية؟ انها تشبه دمّلا في وجه أو خطأ نكتشفه في لعبة الأخطاء السبعة. رغم ذلك فهذه الثقافة تقاوم كل يوم من أجل الوجود، من غاستون ميرون الي آخر شاعر في المجلة الشعرية التجريبية الخنزير الاربعي .

المشهد الشعري يعرف انتفاضة حقيقية. ويمكننا أن نتخيّل فقط كيف تستطيع مقاطعة كيبيك وحدها بتعدادها السكاني الذي لا يتجاوز السبعة ملايين نسمة، أن تصدر 150 مجموعة شعرية في السنة. فهذا يدعو الي الذهول حقا. فمونتريال وحدها تستأثر بحصة الأسد، وتستحق بالفعل أن تكون عاصمة للكتاب هذه السنة. نقدم هنا حوارا، ضمن سلسلة حوارات مع كتاب وشعراء كيبيك، مع احد أهم شعرائها المعاصرين وهو جوزيه أكلان الشاعر الأدائي المعروف بشاعر الزّن الكيبيكي. هو من مواليد مدينة مونتريال سنة 1956. فنّان مقاوم Maquisartiste، كما يسمي نفسه، ضدّ التوحيد الثقافي العولمي السائد. يعدّ من أهمّ شعراء كيبيك المعاصرين، له ثماني مجموعات شعرية خمس منها صدرت عن دار الأعشاب الحمراء. له حضور كبير في اللقاءات والمهرجانات الأدبية حيث يعتبر من أهم الوجوه الشعرية التي تهتم باللقاء المباشر مع جمهور الشعر. وهو معروف بطقسه الخاص في توقيع مجاميعه الشعرية بخطوط وكاليغرافيات من الشرق الأقصى. لا يخفي تأثير بعض الشعراء عليه أمثال لاو تسو (الصين) عمر الخيام (فارس) جلال الدين الرومي (فارس) فرناندو بيسوا (البرتغال) روبرتو خواروث(الأرجنتين) جورج شحادة (لبنان) مالكوم ده شازال (جزيرة موريس) وباتريس ديبيان (أونتاريو).. التقيته أكثر من مرة في أماسي شعرية مختلفة بمونتريال، أحداها كانت أمسية للشاعر الإيراني حسين شارنغ حيث حدّثني عن رفيقته الكيبيكية من أصل سوري فرانسين الحلبية، وأنهما عازمان للذهاب الي دمشق. بعدها التقيته بحانة البودوار (الخِدْر) حيث أهداني مجموعته الشعرية رباعيات مكسيكية ، أخبرته أنني أعدّ سلسلة حوارات مع كتاب كيبيكيين للتعريف بالأدب الكيبيكي وسأبدأ به. حاولت أن أفاجئه باقتراحي، لكنه أدهشني عندما أخرج من حقيبته مجموعة قصائد من عمله الأخير المطلق نرْدٌ مدوّر الذي سلّم مخطوطته للناشر مؤخرا. كان الأمر مصادفة غاية في الشعرية فأجواء المجموعة شرقية وعربية وهو أمر يفتح الشهية للنقاش حول شعريات تتلاقح من أقاصي الأرض. كما انه كان يتحدّث بفرح كبير عن اكتشافه لبعض الكلمات ذات الأصل العربي مثل كلمة Hasard التي أصلها الزّهر، فكانت فعلا مصادفة ومقامرة شعرية أثمرت الحوار التالي:
هل ما زالت فرنسا حاضرة في حياتك؟ وهل استطعت أن تقطع كابل السّرّة في الكتابة مع بلدك الأصلي وكيف؟
مازلت أحتفظ بروابط جدّ مميزة مع فرنسا.أولا لأن والديّ من أصل فرنسي، ثم لأنني عشت فيها ما بين سنّي الثالثة والنصف والسابعة والنصف، بالجنوب تحديدا، في بلاد الأوك (1). فأقربائي الذين ما زلت مرتبطا بهم بعمق، يعيشون في وسط قروي، ويتكلّمون الأوكسيتانية إضافة الي الفرنسية. هاتان اللغتان لهما أهمية كبيرة بالنسبة الي. فالفرنسية بفضل الشعراء السّرياليين علي الخصوص، والانفتاح وإسقاط الذات علي مختلف حقول اللاوعي، ثم الاوكسيتانية وموسيقيّتها الحسّاسة والحسيّة والمستنفرة للحواس، لأجل هذا السبب، تكفي فقط إعادة قراءة الشعراء التروبادور لفهم كل ما ندين لهم به علي مستوي التعبير عن المشاعر والأحاسيس في الغرب. فليس بامكاني اليوم الاستماع الي أغاني ليو فيريو أو جورج براسنس ، أو أقرب منا هنا في كيبيك فليكس لوكلير أو ريشار دي جاردان دون التفكير فيهم.
منذ نيللّيغان مرورا بغاستون ميرون حتى آخر شاعر كيبيكي، رحلة البحث عن الذات ما زالت مستمرّة. هل بإمكاننا الحديث اليوم عن شعر وأدب كيبيكيين رغم ذلك التمزّق بين الثقافتين الأمريكية والأوروبية (الفرنسية)؟
الشعر والأدب الكيبيكيان خلقا من هاتين الثقافتين، وشيئا فشيئا من ثقافات أخري. لقد عشت هذا التمزق في كينونتي الأكثر غورا، لكنه في نهاية المطاف كان سببا في تكويني الي أبعد الحدود.يبدو لي أن البحث عن الذات يمرّ عبر مرحلتين أساسيتين:أولا الانتماء الي جماعة أخري غير خلية الأسرة، عموما في المراهقة، وبعدها تقمّص هوية خاصة،و شخصية، منسوجة من التمثّل والهضم والتحويل لمختلف المعطيات التي يمنحها الوسط الذي نعيش فيه.كلما رضينا بما نحن عليه وبما نحسّ اننا نكونه، كلما كنا أحرارا في التعبير عن ذاتنا بين الذوات. نضج الشعراء والكتاب الكيبيكيين أصبح شيئا فشيئا أكثر جلاء، ولم يتأتّ ذلك الا بانفتاحهم الملحوظ علي ثقافات العالم.
أنت من الشعراء الكيبيكيين الأكثر انفتاحا علي ثقافات العالم، خصوصا تلك القادمة من الشرق، وتحديدا من الشرق الأقصى، أنت القادم من الغرب الأقصى، ما هو مصدر هذه التأثيرات؟
بكل صدق هو سرّ خفيّ ولغز أي بمعني أنه جمال. كل ما أعرفه أنني منذ سنّ السابعة عشرة قرأت عمر الخيام وبعدها بقليل لاو ـ تسو فكان ذلك هو الكشف، كشفُ ذاتي العميقة، الكشف بالمعني الفوتوغرافي للكلمة: فحصلت علي صورة واضحة للإنسان الذي كنتُه. سأتحدّث عن معرفة الذات بالمفهوم الأفلاطوني، او حتى النرجسي دون أن نخاف قول ذلك. يجب معرفة الذات قبل القدرة علي معرفة أفضل للآخرين. كل هذا يخلق درسا أنطولوجيا لكنه ليس سوي مسيرة كائن ضمن كائنات أخري، وشعراء آخرين، أحياء أو موتي، خصوصا أولئك الذين لا يتوقّفون عن الخلخلة، الخلخلة الشاملة لسلطان الكلمة.
تتنوّع كتبك الشعرية ما بين التأمل والخفّة، الميتافيزيقي والحسّي. انها يانصيب شعري كبير ولعبة حظ، علي ماذا تراهن بالضبط؟
دون أن أكون قدريّا واستباقيا، أقول إنه تمّ اللّعب بي قبل القدرة حتى أن أراهن علي اللعب بأي شيء. فعندما ألعب، ألعب بي، أتلاعب بي، وألاعبني. التأمل الذي أمارسه بشكل هاوٍ في شكلي التعبيري الآخر: المقطع والشذرة لا يتعارضان مع الخفّة. ففي كلمة تأمل reflexion ثمة كلمة انثناء flexion دون بلوغ الركع genuflexion، أعتقد أنه في كل تأمل ثمة انحناء لذاتنا أمام اللاشيء الذي كنّاه وسنكونه، جميعا مهما نكون أو نزعم أن نكون. لكن هذا اللاشيء، وهذا ما كشفه لي الشرق تحديدا، ليس هو العدم بالمعني الغربي للكلمة، لكنه الفراغ وخواء الكائن، الفراغ الذي هو المكان في ذاته لاستقبال العالم. أمام لاشيء أو اللاشيء لماذا النواح؟ لنفعل مثل عمر الخيام أو لي بو Li Po ونرفع كأسنا مع خير جليس و ... لنغرق الحزن بعشرة آلاف جيل .
5 ـ ورود طائر النورس قوي جدا في أعمالك، يمكننا التفكير في طائر السيمورغ وعمل فريد الدين العطار العظيم منطق الطير ، ما الفرق بين الطائرين بنظرك؟
لا وجود لفرق. إنه نوع من الإيغال في القدم، والرغبة التي لا يحق المساس بها للسّمو، والمثال اللامقاوم للسّمو فوق الوضع الدنيوي. أن يكون ايكار، أو الفينيق أو السيمورغ أو غارودا فالطيران أو محاولة ذلك تعبّر عن إرادة تحرّر الكائن من كينونته، واذا كان القفص مفتوحا فهل بإمكاننا أن نهاجمه اذا كان الطائر ما زال داخله؟ ثم هل لاحظت جمال كلمة طائر Oiseau فهي تحمل المصوّتات الخمسة Voyelles حول جسده المكوّن من S مع حرف زائد في شرقه، حرف U مثل واحد Un أو كون Univers.
لنتحدّث قليلا عن مجموعتك الشعرية الجديدة: المطلق نرْدٌ مدوّر التي ستصدر قريبا، ونحظى بسبق ترجمة مختارات منها. فرؤيتك الشعرية تعمّقت أكثر. هل بإمكاننا قراءة قصيدتك كلمات علي المكشوف مثل وصية أخيرة؟
كل قصيدة حقيقية، وثمة هناك قصائد أقلّ من الشعراء، هي وصية وتصريح بالولادة في آن واحد. أما بخصوص مجموعتي المقبلة المطلق نرْدٌ مدوّر ، فأنا اشتغلت عليها أكثر من سابقاتها علي سؤال الموت. الموت أو الوعي بالموت ليس كتأثير للحياة ولكن بالأحرى كوعي أكبر بالحياة. عند بلوغ نصف قرن من العمر هذه السنة، حاولت في ستة أجزاء غير متساوية التوسّع، مثل الأوجه الستة للنّرد، أن أتركني أتدحرج بستّة اتجاهات مختلفة، الاتجاهات الأربعة الأصلية إضافة الي النظير والسّمت. هذه الاتجاهات عنونت كل واحد منها بكلمة تبدأ بحرف A. ايضا سنكتشف حسب الترتيب كلمة كُحول العربية الأصل، والفن والحبّ والصداقة والروح ثم كلمة الزّهر العربية التي أفرزت كلمة مصادفة Hasard ومعناها أعتقد هو لعبة النرد (2).
أنت إضافة الي كل ذلك، تعتبر أحد الشعراء الأكثر دينامية في المشهد الثقافي الكيبيكي، وتناضل من أجل نشر الشعر عبر لقاءات مع العموم، هل ثمة جمهور يستحق حماسك هذا، وهل هو متعلّق بالشعر الي هذه الدرجة ويترجم حقيقة الغليان المثمر للشعر الكيبيكي؟
الجمهور موجود بكل تأكيد. ان الصحافيين المشتغلين بالقدّاس الأكبر الثقافي والإعلامي المزيّف للتوحيد العولمي، هم من لا يقومون بعملهم كصلة وصل. فأنا أخلق وأنظّم أكثر من مئة قراءة عمومية عبر السنة، مرفوقا بموسيقي أو بدونه. والكثيرون يأتون وغالبا ما يقولون لي: لم أكن أعرف أن الشعر هكذا، وأنه نفّاذ،و راهني وضروري . فالشعراء صامدون، انهم فنّانون مقاومون Maquisartistes يجسّدون بكل شجاعة كائنات تؤمن، بقوّة الكلام ضدّ كل كلام سلطوي كيف ما كان. فالتكلّم، ومعرفة التكلّم عن القضايا الحقيقية، هو المراهنة علي البوح رغم كل شيء بكل الحبّ الموجود. فأن نتكلّم أفضل يعني أن نحبّ أفضل والقصيدة هي كلام مركّز وصريح يذهب في المنحي المعاكس لكل اللغات الخشبية.
هل قصائدك بروحها الزّن والتأملية لا تفقد شيئا في علاقتها الملتبسة مع الناس؟
علي العكس.ففي الشعر كما في الموسيقي نعرف كل الأهمية التي يشكّلها الصمت. فثمة صمت يتكلّم ألف مرة مقارنة ببعض صنوف الكلام. سأذهب حتى للقول بأن ذلك يشكّل أحد مفارقات الشعر الجميلة، أي خلق الصمت بالكلمات، وإخراس السديم واللانظام والغوغاء، أو علي الأقل محاولة تأويله.الشاعر مثل كل فنان، يتكلّم لسانا في لسان، ويخترع لغة في لغة، وترجمة ما نسمّيه الواقع، وتأويله، مع إعادة إنتاجه ليس فقط من أجل واقع آخر، ولكن من أجل واقع جديد وبديل. ثم يجب علينا أن نصمت طويلا قبل فهم أو توهّم فهم شيء عن هذا العالم.الصمت في الشعر هو فكر حركي، وتأملي، يترك مكانا وفراغا، ليصعد الإعجاب والدهشة والذهول الي الذات، كأوّل مجابهة مع هذا الفعل البسيط والعجيب كوجودنا الغامض هنا.
سيصدر في الأيام القليلة القادمة كتاب ـ سيدروم بعنوان لا أحد يعرف أنني أحبك عن منشورات بلانيت روبيل، وسيضمّ شعرا مشتركا مع الشاعرة مارتين أوديه وموسيقي. هل تعتقد أن هذا النوع من الكلمة المتكلّمة Spoken Word الذي أصبح تقليعة، يمكنه تقريب الجمهور من الشعر؟ وكيف يمكن لقصائدك النثرية أن تتعايش مع الموسيقي؟
أعتقد أنه يجب العثور علي كلمة أخري غير سبوكن وورد تتوافق مع ما يقوم به الشعراء الأدائيون الفرانكفونيون أمام العموم. فعلا فـ كلمة متكلّمة تبدو علي الأرجح غريبة. لقد اقترحت علي صديقة شاعرة كلمة Oraliture ، ونفهم من خلالها بوضوح شفاهة الأدب . لكن للإجابة علي سؤالك، فأنا أعتقد بذلك، أي لن يكون سوي لإعادة خلق جمهور يعود الي الكتب، والمجاميع الشعرية.فيكفي فقط سماع شاعر مرة واحدة لكي نقرأه بعد ذلك، اننا نسمع القصيدة بطريقة أخري، ففنّ صياغة الجمل مُمَوْسَقة لدي الشاعر تُقطّعه شعريا قراءتنا الصامتة. أما بالنسبة لقصائد النثر فهي لا تقوم سوي باقتراح إيقاع آخر، أقلّ سلاسة مقارنة بقصائد التفعيلة. وأضيف أيضا، فحتى قصائدي التفعيلية أقطّعها بشكل مختلف في القراءات العمومية، بخلاف تنظيمها علي الصفحة المنشورة، ما يمنح إمكانية قراءة أخري. فأنا لا أقرأ القصيدة بنفس النمط من قراءة لأخرى.فقد تعلّمت من الموسيقيين أن أعتبر القصيدة مثل توليفة موسيقية تستدعي تأدية مختلفة في كل حالة، حسب الموسيقيين المتواجدين وسلالمهم الموسيقية المختلفة.
حصلتَ علي منحة إقامة في المكسيك وسافرت أيضا الي سورية. السفر الي المكسيك أثمر مجموعة شعرية: رباعيات مكسيكية أما السفر الي دمشق عمّاذا أسفر؟ هل السفر ضروري لكتابتك؟
ثمار هذه الرحلة الي سورية كثيرة تجدها في كتابي المطلق نرْدٌ مدوّر . لست رحّالة في الأصل. لنقل انها الحياة، وبمشيئة الظروف العائلية والعاطفية وأيضا حسب الظروف الشعرية والمهنية، جعلتني أسافر وأخرج من قوقعتي الخاصة.لكن أول سفر في الذات يبقي هو الكتابة ذاتها. ما هو أكيد أنني لم أكتب ما كتبته الآن وبهذه الطريقة لو لم أكن قد سافرت.السفر غيّر حياتي مرات عديدة وهذا أفضل.
ماذا تعرف عن الثقافة والشعر العربيين المعاصرين وخصوصا ما يستهويك فيهما؟
أعرف من الثقافة الشعرية العربية المعاصرة ما تسمح لي به الترجمات والنشر المتبادل. أعرف أوّلا جورج شحادة، ولو أنه ناطق بالفرنسية، والذي أقرأه وأعيد قراءته منذ ثلاثين سنة. ثم جويس منصور السريالية المصرية، والفلسطيني محمود درويش، والمغربي عبد الكبير الخطيبي، والجزائري محمد ديب، والكوني أدونيس، والايراني حسين شارنغ المنفي هنا بمونتريال، والايراني الآخر سهراب سيبهري، واقبال، ثم الأفغاني سيد باعودين مجروح هذا الشاعر الذي قتل سنة 1988 وآخرين كثر..
آخر كلمة لقارئك العربي الجديد
اللانهائي أقلّ حزنا من الأبدية عندما تكون القصيدة رسوله.

******

مختارات من شعر جوزيه أكلان

كلمات علي المكشوف

تقريبا لا شيء عندي في البيت
بعض دوائر موسيقي
و ساعات حائطية حكيمة
و قليل من الكحول
قادم من ضوء غير محدّد
ليمدح هيكلا عظميا
يتعلّم معرفة أشياء
غير ذات أهمية عن ذاته
عدا رذاذ جليّ
بكل ما لسته
لذلك ان رحلت
اصنعوا بي ما شئتم
لكن ليس مالا
ولا حقدا
أكرّر لكم ذلك
فأنا غالبا علي استعداد للرحيل
لكنني أمكث هنا ثقة
ببداهة الحب الممنوح
لكل تمظهرات الطائر
كمثال للروح
فذلك هو بساطة لا إرادية
أمام تكاثر الشموس
تلكّؤ ذاهل لعدم
فعل شيء عدا الانكتاب
خارج أفعال وفاعلين ذوي شأن
ذلك هو قلق هادئ
والذي يري في خشف الأشياء
و المداهمة اللانهائية للكائنات
دعوة لاعتباري عالم فراسة الفراغ

بعد الزوال في حلب

في هذه المدينة التي بلا كلب
حيث لا تمطر أبدا
تذهب شقرائي الي الحمّام البلدي
بينما أدخن النرجيلة في مقهى
طفل يتقدّم بين التاكسيات علي حمار
و يختفي في غبار القلعة
أيها الحبّ رويدك
في هذا العالم العجوز الوعر
كي تمنحك ثانية عطش ذات
قادمة من ضوء باهر
غير متحيّز تماما
لهوسنا في اختيار
أشياء الكائنات

فندق عمر الخيام

سأذهب يوما ما الي نيسابور
الي فندق عمر الخيام الدنيوي
و سأشرب نبيذا وبيرة وعرقا
و سأمتنع عن شرب كل ماء لم تهبه لي السماء

سأبحر بلا شراع وسأفرغ رأسي
الجمجمة أسطرلاب والدّم جدول
أنا رومي من أوكسيتان
و دخيل من كيبيك

أنا اشاعة لا مصدر لها
سوي ولعي بالأكاذيب
طائر طنّان يرفّ
دون أن يقفل باب الهواء

أتهيّأ لديدان (1) الشعر عبر الرفات
أنا بريء بلا سذاجة
ساخن وبارد هو الجمال
الذي لا ينسي أبدا ما هو

القصيدة مشجب ذهني (2)
يبحث عن عمق الأشياء الأجوف
أغرس عيوني في السماء
التي تلعب بهما البِلْي

تقريبا غنّيت تقريبا أحببت
تقريبا شَعَرتُ ولم أصدّقني
انتشرت في حجرة الأوهام
و تلفّظت بكلمات بعضها تقولها الأصابع

في الصحراء الحجر مزولة
في المقهى الكلام نرجيلة
في الحمام البلدي العري هو الروح
في المسجد الإنسان حصيرٌ

ضدّ المأساة ليس لدينا سوي اللعب
ضدّ النظام ليس لدينا سوي الفقر
ضدّ النهار ليس لدينا سوي الشمس
ضدّ الحبّ ليس لدينا سوي قلب

ليس مختلاً الذي لا يجترّ العناكب
ليس مَعْبدا الذي يأسف علي الشاسع
ليس برجا الذي لا يحتمي بالأعماق
وحده الأعرابيّ لم يذهب بعيدا

ليُسمعنا صمت الحادي

ليل المعرّي

الباب هو الموت
ان لم تفهم
فلأنك لم تمت بعد

الطريق تؤدي الي الموت
ان كنت تلتمس العودة
حيث تكون سعيدا
فلأنك لم تعد
ما كنت تعتقد أنك تكونه

القدم تعود الي الأرض
ان كنت تلتمس الذهاب بعيدا
فلأنك لم تعثر علي أيّ شيء هنا

ان كنت ترفض مفكّرة عظامك
فلأنك لا تسمع
إيماءات الأشجار

الريح تؤدي الي الريح
حدّثني عن ذلك أكثر
لو استطعت فلأن لا وجود لك بعد

نَفَسٌ من ضوء
بين لغط الموتى
و أولئك الذين سيلحقون بهم

حانة الرّومي

الزمن كحول نخاف منه
لكن ليس من الزمن والكحول
علينا أن نخاف
بل من الخوف نفسه

أنا مدمن علي الكحول علي نداء الحقيقة
أنا لست واقعي الاعتدال
ففي الليل أري ما ينبلج
و ليس في فرن النهار حيث نُطبخ جميعا

الحاضر ثعلب اللمبات
الحاضر قربة الماوراء
الحاضر جارٌ خائف من الا أخلد الي النوم
الطاعة لا تستهوي الا الذين نطيعهم

من كان شاعرا بما يكفي ليكون ثملا بفراق النوم
أقول إن المعرفة هي أن تولد مع الآخر
أقول إن الحكمة هي أن نموت بلا ذات
ان لا نأمل شيئا من الحياة ولا نفهم شيئا عن الموت

أعرف أنني مفقود
آخرون سيقولون إنني مفؤود
الجميع يسخر من الذات
لحظة نظن اننا عثرنا علي أنفسنا
حبيبي وصديقي تريدني ان أقول لك
لقد قضيت حياتي أحاول أن أقول
لكن الحياة لم تفعل سوي أنها تعيشني
دون أن تدري أنها كانت حياتها

عندما أقول حبيبي وصديقي
أعيد قول حبّي للحياة
الذي ليس ربما حبّك
لكنه فقط زهرة شجرة البرتقال

الذي لا يتمني ولو ثمرة
الذي لا يشك في نواتها
الذي لكونه ذليلا كفاية كي يمنح
لونه للشفافية

لا أملك ولا شيء آخر
فقط عفوية لا شخصية
و التي هي فوق شخصية مثل ماء
نرجيلة تُدخّن مع العرق

لا تنس أيّ شيء هل بمقدورك ذلك
اذا كان نعم فأنت لم تعد أنت
و الا لم تعد نفسك
هذا العدم أكثر سعادة من السعادة

السعادة والتعاسة هما نفس الثمالة
و اللّتان لا يتوقف أمرهما علي نظّارتي
هذا ما يوشوشه المبصر للأعمى
عندما يجرس الصمت في العظام

لكن الذي بمقدوره أن يري الحياة
دون أن تكون الحياة قد رأته
يمكن أن يجيب مع الحمام المسافر:
أطير دون أن أطيّر شيئا

البداهة عليها بالإشراق
البراءة هي المبدأ
اليوتوبيا يمكن أن تكون المعيار
و البهجة هي أن نضرم النيران

أشرب ماء الفرات
أشرب بيرة حلب
لقد تشرّبتني دموعي.

القدس العربي
2006/05/24