في إحدى الأماسي من عام 1955، جلس الشاعر الأميركي ألن غينسبرغ إلى آلته الكاتبة وراح يطبع بأنفاسه المحمومة، وعباراته الحرّون، وصوره التلقائية الصادرة عن عقل مهرول بحركات خرقاء كمشية شارلي شابلن، قصيدته المعجزة، “عواء”، وهي القصيدة الرئيسية من مجموعة “عواء وقصائد أخرى” الصادرة عام 1956. ألن غينسبرغ، من الشعراء الذين ارتبطت شهرتهم بإسم قصيدة بعينها، لا بإسم هذا الديوان الشعري أو ذاك. هو واحد من أصحاب تلك القصيدة الطفرة التي غالباً ما تكون كافية لتطويب صاحبها شاعراً إلى مدى الحياة حتى ولو قصر إنتاجه اللاحق عن إظهار موهبته الخارقة في تجلياتها الأبهى. “عواء” أولاً و”قاديش” ثانياً، هما القصيدتان الوحيدتان تقريباً من بين مجموعة أعمال غينسبرغ الكاملة، المؤلفة من ثمانمئة صفحة، اللتان تمحورت حولهما معظم الدراسات النقدية التي تناولت تجربته الشعرية وحياته. على أن الأولوية في الإهتمام ظلّت من نصيب “عواء” لكونها الحجر الأساس في تجربة شعرية شاهقة، بناها غينسبرغ لاحقاً، معتمداً ومطوراً التقنيات الشعرية ذاتها التي اعتمدها في قصيدته هذه، والتي ساهمت في تغيير طوبوغرافيا الشعر الأميركي والعالمي المعاصر.
من الصعلكة إلى القداسة
“يخطر في بالي أني أميركا”، هذا ما كتبه غينسبرغ يوماً من باب الدعابة. لكن ثمة في هذا القول ما يحيلنا إلى والت ويتمان آخر، كان أيضاً صدى زمانه ومكانه. هو شاعر ليبرالي من النشطاء الفاعلين في الثقافة المُضادة، ومن أبرز أعضاء حركة “البيت” التي انطلقت منتصف الخمسينات. مُثليته الجنسية ولغته العفوية وصعلكته في الحياة والكتابة جعلته نموذجاً معاصراً لويتمان. شعره أيضاً مرآة ذاته ومحيطه؛ مرآة قد لا تعكس الجمال دائماً، إنما الحقيقة الفجّة، العارية، بلا خجل أو خزي. جمع غينسبرغ بين شعرية الذات متأثراً بويتمان، وشعرية الأسطورة والتاريخ متأثراً بباوند، رادفاً إياهما بمرجعيات جمالية وروحية أخرى، منها: كتابات وليام بلايك ووليام كارلوس وليامز والسوريالين الفرنسين، إضافة إلى تعاليم استقاها من مدارس دينية وفلسفية عدة، مثل: الغنوصيّة والبوذية والهندوسية والصوفية والشامانية وبعض أنبياء اليهود.
يعود إلى غينسبرغ الفضل في تلطيف النَفَس الشعري الأميركي منتصف القرن الماضي بعدما كان مثقلاً بالنظريات الأكاديمية. انضمامه إلى “البيت” جعله جسراً بين حركة الطليعيين بداية القرن الماضي وثقافة البوب لاحقاً. رغبته الجامحة في إعادة الشعر إلى ديدن الشفاهية، وفي استغلال القدرات المادية والحسيّة في تجسيد اللغة المجردة، دفعته إلى أن يغنّي قصائده على غرار بوب ديلن وميك جاغر، وسط جيل من الشباب متعطش للإثارة. كان لا بدّ للشعر في نظره أن يكون محركاً فاعلاً في العالم، لذلك رأى إلى ضرورة أن تُسخّر له أدوات تعبيرية فاعلة تتجاوز ذهنية اللغة إلى مسرحة الممارسة، تماماً على غرار ما يُسخّر للخطاب الديني أو السياسي. وظّف الموسيقى في خدمة الشعر لا العكس. غناؤه المصحوب بعزفه على الأرغن أو موسيقى الروك، لم يقتصر على قصائده وحدها وإنما تعداه إلى أشعار بلايك التي قام بتلحينها. دراسته للأديان الشرقية قادته إلى اكتشاف ما يُسمى “المانتراس” الهندوسية، الواحدة “مانترا”، وهي عبارة عن تراتيل إيقاعية ذات مؤثرات روحية، أدخلها غينسبرغ في جسد العديد من نصوصه نافثاً فيها ما يشبه طقوس الصلاة. من الرسم وولعه بلوحات سيزان، استمدّ فكرته عن خلق الفراغات بين الكلمات. طريقة سيزان في وضع لون إزاء لون آخر من دون توضيح العلاقة بينهما، ألهمت غينسبرغ اتباع الكولاج ذاته في الكتابة، خالقاً فضاءات بين الكلمات والصور والأشياء، ومشرّعاً ذهن القارىء على أفق لانهائي من الإيحاءات.
الشائع أنّ غينسبرغ حتى وهو في أوج نضجه الشعري والثقافي والإنساني، لم يكفّ قط عن الإعتراف بفضل بعض الشعراء الكبار عليه، وبعمق تأثيرهم فيه، ومن دون إيلاء أية أهمية إلى المدى الذي تجاوزت فيه تجربته تجاربهم. ولعل قصيدته “ارتجال في بكين” التي يمنح فيها البيعة إلى اثنين من أكبر شعراء أميركا، هما: والت ويتمان وعزرا باوند، خير دليل على وفائه واعتداده بالمرجعيات الشعرية الأصيلة التي شكلت نواة الشعر الأميركي المعاصر.
على غرار ويتمان، عاش غينسبرغ حياة أدبية ثرية امتدت من حدود الصعلكة إلى حدود القداسة. مثله، سخّر شعره من أجل قيم إنسانية كبرى قوامها التسامح والمحبة وتقبّل الآخر والتحرر من التابوهات الإجتماعية والأدبية والعصبيات الدينية. مثله، عبّر عن الطاقات الإنسانية في أوج تألقها وفي أسفل دركاتها، برؤية كونية شمولية تتجاوز حدود الزمن. مثله، اعتبر أنّ كل شيء في الحياة مقدّس، وأنّ اختراق السماوي يستلزم اختراق الأرضي، والحلول في المطلق يتطلب تجاوز الواقع والذات. في ما يخص تقنيات غينسبرغ الشعرية، نجده أخذ عن ويتمان تقنية البيت الشعري الطويل النَفَس، حيث الصور والمدركات تأخذ شكلاً أفقياً، وحيث المعاني توازي بعضها بعضاً بعيداً عن أي منطق تطوري أو تصاعدي للفكرة. استخدامه المكثف للازمة يفتتح بها جمله الشعرية تعطي الإنطباع بأننا أمام كتابة تقوم على منطق توسيع سيكولوجية الذات، مما ينتج عنه صوراً متلاحقة تتسابق في نقل الإحساس تجاه المظاهر المتعددة للشيء الواحد، وتجاه لانهائية تحولاته. بمعنى ما، فإن الكتابة لديه تنتهج أسلوب تكرار مفاتيح الجمل ذاتها، واتباع ميكانيكة الإيقاع المتلاحق، المتساوق، لكأن غينسبرغ على دريّة بمدى تقلّب المعنى الشعري وتأثيره فينا كلما تمسّك بثبات إيقاعه.
اهتمام غينسبرغ بمسألة العفوية في الكتابة، أيضاً له جذوره في كتابات ويتمان وإمرسون وملفيل وغيرهم، وهو اهتمام وجد له لاحقاً، نسغاً إضافياً في كتابات السوريالين وفي أفكار صديقه الروائي جاك كيرواك. “الفكرة الأولى هي الفكرة الفضلى”، شعار ظلّ يردده غينسبرغ طوال حياته. منه نستشفّ، أنّ حرص غينسبرغ على العفوية ما هو إلاّ حرص على الصدقية في نقل الإحساس الشعري، وهو يقوم في الدرجة الأولى على عدم سيطرة المرء على عقله. فالتفكير في رأيه ليس ما يُشكلّه الإنسان، بل ما يُشكّل الإنسان، والإنسان ليس مُفكراً بقدر ما هو وسيلة لنقل الأفكار التي تتولّد فيه من تلقاء ذاتها عبر الرؤيا أو الوحي. عفويته هذه قادته إلى كسر الكثير من التابوهات في تعامله مع موضوعات مثل الجنس والإدمان والثورة على الواقع الإجتماعي والسياسي. ولا شك أن صراحته وتلقائيته غير المسبوقتين حتى في الكتابات ذات الطابع التحريضي في الأدب الأميركي، اخترقتا صرامة مفاهيم الرجعية السياسية، والطهرانية الزائفة التي قمعت لقرون أشكال التعبير الحقيقية عن أعمق انفعالات الإنسان ورغباته.
لم يكن ويتمان وحده من بين الذين تأثر بهم غينسبرغ. أشعاره تعكس تأثره بالعديد من الكتّاب وبثاقفتَي الشرق والغرب. وبالعودة إلى بداياته نجد أن أحاديثه مع الشاعر وليام كارلوس وليامز لم تذهب سدى. منه تعلّم أن يصغي إلى الأشياء بأذنٍ فجّة. القصيدة تستمدّ إيقاعاتها من الصوت الطبيعي الخالص للأشياء، ومن أنفاسها الداخلية، لا من بندول إيقاعي خارجي مفتعل. وهذا بالطبع يحيلنا إلى نظرية باوند. وبالعودة إلى صداقاته، نجد أنه من صديقه الروائي جاك كيرواك، تعلّم الإستسلام للتيار التلقائي الجارف، حيث يتدفق مكنون الكتابة دفعة واحدة ويكتمل في حينه، فلا مقاطع تُستجمع من أوقات مختلفة، ولا نُتف أفكار وقصاصات.
عواء مُدَوزن على الحبّ
“عواء”، مرثاة غنائية طويلة على النمط الويتماني، تفضح بلغة عارية فجّة علل وعاهات المجتمع الأميركي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. هي صرخة غضب من فئة من الشباب الأميركي اليائس، الثائر، ضد مجتمع مدمّر وانتهازي، مهداة إلى “كارل سولومون” الرجل الذي التقاه غينسبرغ عام 1948 إبان تلقيه العلاج في أحد مراكز الطب النفسي. وباعتراف غينسبرغ، فإن سولومون هو مصدر الوحي المباشر لهذه القصيدة، إذ أن أفكاره ومفاهيمه التقدمية حول ما تقتضيه الطبيعة المعاصرة للشعر الأميركي، كان لها وقعاً كبيراً في نفس غينسبرغ، ولا سيما في خصوص ضرورة توسيع آفاق الشعرية الأميركية، وترويضها على التنفس من رئة الواقع مع كل ما يتطلبه ذلك من جرأة وصدق في التعبير، وقدرة وقابلية على رفض السائد.
تتكون قصيدة “عواء” من أجزاء ثلاثة، وحاشية أضافها الشاعر لاحقاً مستخلصاً فيها زَبَد عوائه القائل بقداسة كل شيء دون استثناء. الجزء الأول يشير فيه إلى حال اليأس التي خيّمت على نفوس الشبان في أعقاب الحرب، وكان من نتائجها تحطيم كل مقدسات مجتمعهم والكفر بها، كردّة فعل على القيم الأخلاقية والدينية التي ما فتئت تحكم الخناق على كل طموحاتهم المستقبلية. وَضْعُ الأصابع على الألم، جاء من أجل إيقاظ شعور حماسي لدى الشبان بضرورة الولادة من جديد، والتحرر من ربقة الوعظ والتقاليد، والعمل على تعرية الحقائق الإنسانية من كل قناع. تعدّ الأبيات الأولى من الأشهر في الشعر الأميركي المعاصر: “رأيت العقول الأفضل في جيلي، وقد دمّرها الجنون، يتضورون مهروعين، عراةً، مجرّرين أنفسهم عبر شوارع الزنوج، فجراً، سعياً وراء حقنة مخدّر ساخطة.” هذا الجزء جاء شبيهاً بكتابة الذات لسيرتها، إلا أن الطبيعة الشخصية لمرجعيات القصيدة لا تجعلها نوعاً من الخطاب الذاتي، كذلك التلميحات والإشارات الضمنية، لا تضفي عليها صفة الغموض، بل على النقيض، نرى القوة الإيحائية للأشكال والأشخاص والأمكنة لا تختلف للقارىء عنها للشاعر، إذ في الشعر، ينسحب ما هو شخصي على ما هو كوني، وبقدر ما تكون المرجعيات الشخصية تلقائية وقابلة للتأويل، بقدر ما تُورط وجدان القارىء في جاذبية لغزها واحتمالات معانيها.
في الجزء الثاني يلفت إلى دوافع السخط الإنساني والإحباط العام لدى الشباب، إذ يشخّص مصادر الشرّ جميعها، من البيروقراطية السياسية إلى الخضوع للأعراف والتقاليد، إلى تفشّي النزعة المادية في الفكر وسيطرة التكنولوجيا الحديثة وغيرها، في إله المال العبراني “مولوخ” الذي يُقدّم له الأطفال، قرابين. “مولوخ” هو حاكم البشرية الصارم الذي يُدمّر المعطيات الأكثر خيراً وأصالة في الطبيعة الإنسانية، مالئاً الذات بمشاعر الخوف والقلق. ويؤكد غينسبرغ على أنّ “مولوخ” لم يصب مقتلاً لدى مُتعبّدينه وحسب، بل أيضاً لدى الثائرين عليه الذين برغم معاناتهم من طغيانه ومحاربتهم له، أصيبوا بعدوى فساده. ويعترف بأن “مولوخ” استطاع السيطرة عليه هو أيضاً، جاعلاً منه إدراكاً من غير جسد، وباثاً في قلبه الذعر من “النشوة الطبيعية”. لكن ما إن وعى الشاعر هذا التأثير حتى سارع إلى طرد شبح “مولوخ” من عقله، متغلباً عليه، متصالحاً مع نفسه، ومستنهضاً كل طاقاته الروحية الكامنة.
في الجزء الأخير يحتفي الشاعربانتصاره على “مولوخ” وتحرره من سيطرته على هويته العاطفية والجنسية، مشيراً إلى انهيار الجدران الوهمية للأنانية والمادية والإنتهازية، وإلى انبثاق الروح الإنسانية بقيم الحب والتسامح والحرية. وعليه فهو ليس انتصاراًعلى مولوخ الواقع والمجتمع وحسب، بل على مولوخ الفكر والذات أيضاً. إلا أن هذا الإنتصار لا يمثل انتصار الخير على الشرّ في معناه المطلق، أو في مرجعياته الدينية أو الأخلاقية، إذ أنه محكوم بضريبة الغوص في مياه الظلمة العميقة، في العوالم السفلية للنفس البشرية، في ما يُشبه جحيم دانتي وبطن الحوت الذي ابتلع النبي يونس. فمن أجل الإرتقاء، لا بدّ من الهبوط أولاً، ومن أجل الإنبعاث، لا بدّ من الموت. الإنتصار في نظر غينسبرغ ليس في التخلص من شيطان “مولوخ”، إنما في تحويله ملاكاً. ويبدو غينسبرغ في قصيدته هذه رومانسياً على طريقة بحّار كوليردج القديم الذي عاد من رحلته المليئة بالعجائب والفظائع برؤية مُشرقة للمجتع الإنساني، وبتبجيل مُهيب للحياة. ليس سهلاً العودة إلى الواقع الفجّ دون الشعور بخسارة مأساوية، لكن العودة بغنائم روحية كهذه، وبوعي جديد، يجعل الحياة بعدها ممكنة. يختتم غينسبرغ الجزء الأخير ممتدحاً إخلاص صديقه سولومون، وصدقه وأصالة جوهره.
تعرّض ديوان “عواء” للمصادرة عام 1957 على يد شرطة سان فرنسيسكو، بحجة أنه كتاب مخلّ بالآداب العامة، إلا أنه تمّ إعادة توزيعه بعد صدور حكم بنقض الدعوى القضائية المقامة في حق الناشر “لورانس فرلنغيتي”.
أدهشت “عواء” بلغتها الفجّة الصادقة الوسط النقدي والأكاديمي، وانقسم حولها النقاد، بعضهم اعتبرها خطبة تقريع مسهبة تكنّ العداء لكل من لا يُشارك الشاعر أصوله الإجتماعية والجنسية، وآخرون اعتبروا أنها استطاعت قلب معايير الشعر الأميركي التقليدي في الخمسينات. ومما قاله ريتشارد إبرهارت: “عواء، عمل خارق ينمّ عن معنى ديناميكي…إنها عواء ضد كل شيء في حضارتنا الميكانيكية التي تقتل الروح…قوتها الإيجابية وطاقتها الفائقة تنبثقان من الطبيعة المخلّصة للحبّ”. ورغم اعتراف رييد ويتمور بأن المجموعة أحد الأعمال الشعرية المُزلزلة في هذا العصر،إلاّ أنها أشبه بكارثة طبيعية ألمّت بالشعر الأميركي. وهو صواباً أم خطأ اعتبر أنها أطاحت الرموز التي سبقتها وكانت تعكس ما تقوله وتفعله العقول الأفضل. وحدها الناقدة هلِن فندلر انتبهت للطبيعة الكوميدية لتراجيديا الغضب في “عواء”. هذه هي طريقة غينسبرغ في البكاء. “إليوت” في “الأرض الخراب” أيضاً كانت له طريقته، ولولا هذا التفرّد لكُتب لدموع الشعر الحقيقي أن تجفّ في قلوبنا لا أن تُخلّد. اللافت أن الدعابة السوداء في شعر غينسبرغ وبعض أعمال معاصريه من الكتاب ممن تأثروا بالسوريالية، لها نكهتها الأميركية الخاصة، حيث يشير الناقد دوغلاس دافيس إلى أن الغضب الذي تسـتبطنه “عواء” من النوع البركاني الخفي الذي ينفجر على حين غرّة، ويحبّ ما يكرهه بطريقة تمتزج فيها مشاعر الغطرسة بالإتضاع، وهذه طريقة غريبة على الأوروبيين.
في إحدى المقابلات الصحافية عبّر غينسبرغ عن شعوره لحظة كتابته القصيدة : “اعتقدت أني لن أكتب قصيدة، بل ما أردت كتابته فحسب، من دون خوف، أطلق العنان لمخيلتي، أفضح سريّتي، أخربش سطوراً سحريّة من ذهني الحقيقي أستخلص فيها حياتي، وأكتب شيئاً لن يكون في وسعي عرضه على أحد، أكتب لأُذنِ روحي أنا، ولقليلٍ من الآذان الذهبية الأخرى”. اليوم، بعد نصف قرن على صدور هذه القصيدة، تبدو لنا أنها لم تكن عن أفضل عقول جيله، بل عن الدفق السحري لعقله هو، وعن سلطنة وسلاطة لسانه، وسط جيل بألسنة مربوطة وملعثمة.
ثمار التأمل وأثر الجنون
ولد غينسبرغ عام 1926 في مدينة نِوارك من ولاية نيوجرسي. ترعرع في مدينة باترسون في كنف عائلة يهودية من أصل روسي، كان لها اهتمامات فكرية وسياسية وأدبية متباينة. الأم، نايومي، كانت ناشطة سياسية في العديد من المنظمات اليسارية، وعضوة فاعلة في الحزب الشيوعي، في حين أن الأب، لويس غينسبرغ، كان رجلاً محافظاً وتقليدياً، حرص على تربية إبنه تربية أرثوذكسية متشددة. عاش غينسبرغ طفولة مشوّشة خلّفت ندباً كثيرة في حياته وأعماله، كان من أهم أسبابها إصابة والدته بمرض عقلي استدعى إدخالها مستشفى الأمراض العقلية، المرة الأولى لمدة ثلاث سنوات أيام كان غينسبرغ لا يزال مراهقاً، ولاحقاً في آخر سنين حياتها حيث أدخلت نهائياً لتموت هناك عام 1956. التباين بين طبيعة الأبوين شوّش شخصية الإبن المراهق وسبب له لاحقاً اضطرابات نفسية استدعت العلاج. ومما زاد في زعزعة شخصيته وتعميق عزلته النفسية، بداية تفتح وعيه بمثليته الجنسية التي أخفى حقيقتها عن أهله وأصدقائه إلى حين بلوغه العشرينات من عمره.
دخول غينسبرغ عالم الشعر كان أولاً من خلال أبيه الشاعر والمدرّس للآداب الإنكليزية، ثم من خلال لقاءاته بالشاعر وليام كارلوس وليامز الذي كان يقيم على مقربة من مدرسته. لاحقاً في الأربعينات، كان لبعض أساتذته في جامعة كولومبيا أمثال: ليونل تريلنغ ومارك فان دورن، الفضل الكبير في صقل موهبته الشعرية. كذلك، خلّفت في نفسه أثراً عميقاً الصداقات المتينة إبان دراسته الجامعية، بينه وبين الكتّاب: جاك كيرواك ووليام س. بورافس ونيل كاسادي. هؤلاء إلى العديد من كتاب الساحل الغربي للولايات المتحدة أمثال: كنث ركسروث، غاري سايندر، مايكل ماكلور، غريغوري كورسو، لورانس فرلنغيتي، شكلوا النواة الأساسية لحركة “البيت” التي انطلقت من سان فرانسيسكو عام 1955، وكان لها الأثر العميق في الثقافة الأميركية. والمعروف أن “البيت” حركة أدبية مُضادة للسلطة ولنظام المؤسسات، لجأ أعضاؤها إلى استخدام لغة الشارع في كتاباتهم متطرقين إلى موضوعات من خارج المانيفستو الأدبي الرسمي. صدور “عواء” عام 1956 جعل من غينسبرغ صوتاً ريادياً فيها، إذ أن لغته الفجّة، الصادقة، العارية، الساخرة، المنتهكة كل المحرمات، جاءت لتعبّر تماماً عن المنطق الثوري لهذه الحركة، وعن نزعتها الرومانسية الراديكالية.
أهم أعمال غينسبرغ في الستينات، قصيدته “قاديش”، والإسم كناية عن الصلاة اليهودية التي تقام على روح الموتى. وهي مرثاة شعرية في والدته تستقي عالمها من الإرث اليهودي ورصيد التجربة الشخصية مما يجعلها من فصيلة الشعر الإعترافي. أعماله الأخرى، ولاسيما مجموعته “أخبار الكوكب” 1968، تؤرخ لتلك المرحلة واضطراباتها السياسية، حيث يظهر”مولوخ” مجدداً في هيئات متعددة: الحرب الفيتنامية، أخطار البيئة، التمييز العنصري، تفاوت فرص النجاح المادي وغيرها. لغته الإباحية الساخطة توحي أن الشاعر وجد في لغته الفاحشة، الترياق، والمعادل الموضوعي للغة الرسمية الدعائية المبررة للإنتهاك والدمار. قصائده في الستينات أيضاً تعكس التأثيرات التي خلّفها ترحاله بين قارات عدة، على توجهاته الفكرية والروحية. اعتناقه الديانة البوذية جاء على إثر رحلته إلى الهند، كذلك فإن أشعاره حملت ثمار انفتاحه الإنساني والثقافي، بما تميّزت به من مزجٍ الأنفاس الشعرية الشرقية بالغربية. ألقى غينسبرغ في هذه المدة محاضرات عدة في الجامعات الأميركية حول موضوع الرياضة التأملية وخصوصاُ رياضة “الشاماذا” وأهميتها لكونها وسيلة خارقة لإستنهاض وعي الذات واستدراجها إلى الكتابة. غير أن التأمل لم يكن وحده مصدر الوحي والإلهام الشعري لديه، فقد اعترف أيضاً بما للهلوسة الناتجة عن تعاطي المخدرات من فاعلية هائلة، مُصرّحاً بأن العديد من أشعاره، ولاسيما “قاديش” والجزء الثاني من “عواء” كتبت تحت تأثير هذه الهلوسة. نشاط غينسبرغ السياسي في الستينات، لفت انتباه الوسط الإعلامي العام، وتسبب في اعتقاله أكثر من مرة. فقد ساهم في تنظيم العديد من التظاهرات المُعادية للحرب الفيتنامية، وفي الترويج إلى استراتيجية أسماها “نفوذ الزهرة”، حيث يسعى المتظاهرون من خلالها إلى تعزيز قيم السلام والمحبة والتسامح.
في السبعينات بدأت أشعار غينسبرغ تحظى بإهتمام أوسع، ولا سيما بعد نيله الجائزة الوطنية للكتاب عام 1974 عن “سقوط أميركا، قصائد هذه الولايات” الصادرة عام 1973. ظلّت أشعاره في تلك الفترة تعكس انتماءه إلى الثقافة المُضادة، وانغماسه في الشأن السياسي العام، إضافة إلى اهتماماته الميتافيزيقية الأخرى. ديوانه “أنفاس العقل” الصادر عام 1978، يعبق بأجواء التأمل الروحي والديانة البوذية، كذلك بمشاعر الذات الحميمة. من بين أهم قصائد هذه المجموعة، قصيدة بعنوان “لا تهرم”، اعتبرها النقاد “قاديش” ثانية، إنما لأبيه. الإنشغال الإضافي الذي برز في أشعاره في الثمانيات والتسعينات، تمحور حول شعوره بشحّة الزمن والكِبَر، ولم يسلم التعبير عنه من سخريته السوداء. كذلك برز اهتمامه بقضايا البيئة والحرب النووية وغيرها من القضايا الكبرى. أعماله الكاملة صدرت عام 1984، تلتها “الكفن الأبيض” 1986، ثم “تحيات كوزموبوليتانية” 1994. دراسات من أكثر من خمسين كاتباً تناولت شعره. كتابان ضخمان حول سيرة حياته صدرا عامي 1989 و1992، إلى كتاب حول أعماله صدر عام 1995. شهرته كمصور فوتوغرافي موهوب أيضاً بدأت تذيع، فأقام عشرات المعارض في كل من أميركا وأوروبا. واللافت، تزايد اهتمام غينسبرغ بالغناء الذي لم ينمّ عن نوستالجيا إلى الستينات، ولا عن تقليد لبوب ديلن. أغانٍ مثل “قم برقصة التأمل” أو “إرمِ فضلة سيجارتك، امتنع عن التدخين”، ومساهماته لمكافحة المخدرات، تشير إلى صعلكة من نوع آخر! أو ربما هي الصعلكة نفسها، إنما بأدوات وأيديولوجيات مغايرة. بعد مرور حوالي الخمسة عقود على ممارسته الكتابة الشعرية، أضحى غينسبرغ روحاً مدوزنة على الشعر. ذهنه في حالة جهوزية تامة، بحيث كان قادراً على الجلوس في أية بقعة من العالم وارتجال قصيدة مشحونة بالذكاء والخبرة والشاعرية والفكاهة والإيقاع وأحياناً بالحكمة. في ربيع عام 1997، علم غينسبرغ بإصابته بسرطان الكبد، فكتب للتو اثنتي عشرة قصيدة قصيرة، وفي اليوم التالي دخل في غيبوبة ليموت بعدها بيومين.
مملكة غينسبرغ الشعرية التي تجمع بين المكتوب والشفهي، النص والموسيقى، الحرفيّة والعفوية، التراجيديا والكوميديا، الجنس والميتافيزيقيا، لاتزال تجعله موضع اهتمام في الحياة الأدبية والفنية في أميركا والعالم. معظم كتبه ودواوينه الشعرية يُعاد طبعها، وكذلك صوره الفوتوغرافية. حول غينسبرغ وجيل “البيت” مواد كثيرة تدرّس اليوم في الجامعات الأميركية، لكن أهميته وشهرته تمتدان أيضاً إلى الشوارع والمقاهي والحانات، فإسمه تماماً كما إسم ويتمان، معروف لدى الملايين من الناس الذين لم يقرأوا له بيتاً واحداً!
***
عُواءَ
( II )
(عن الأميركية)
أيّ أبي هولٍ من الإسمنت والألمنيوم شظّى جماجمهَم وافترس أدمغتهم ومخيّلاتهم؟
مولوخ؛ عزلةٌ! قذارةٌ! بشاعةٌ! براميلُ قمامة ودولاراتٌ بعيدةُ المنال! أطفالٌ يزعقون تحت السلالم!
صبية ينشجون في الجيوش! شيوخٌ ينتحبون في المنتزهات!
مولوخ! مولوخ! كابوس مولوخ! مولوخ سيّد البغضاء! مولوخ الفكري! مولوخ قاضي البشر الصارم!
مولوخ السجن العصيّ على الخيال! مولوخ الحبس الشاقّ بعلامة الموت ذي العظمتين المتقاطعتين وكونغرس المآسي! مولوخ الذي مبانيه يوم الدينونة! مولوخ الحجر الضخم للحرب! مولوخ الحكومات المصعوقة!
مولوخ الذي عقله آلية خالصة! مولوخ الذي دمُهُ مالٌ جارٍ! مولوخ الذي أصابعه عشرة جيوش! مولوخ الذي صدره دينامو آكلٌ لحومِ البشر! مولوخ الذي أذنُهُ قبرٌ يعلوه الدخان!
مولوخ الذي عيونه ألف نافذة عمياء! مولوخ الذي ناطحات سحابه تنتصبُ في الشوارع المديدة كعدد لانهائي من يهوه! مولوخ الذي مصانعه تحلم وتنعق في الضباب! مولوخ الذي مداخنه وهوائياته تتوّج المدن!
مولوخ الذي ولعه نفط وحجر بلا نهاية! مولوخ الذي روحه كهرباء ومصارف! مولوخ الذي فقره شبح العبقرية! مولوخ الذي قدره سحابة من الهيدروجين لا جنس لها! مولوخ الذي إسمه العقل!
مولوخ الذي فيه أقبع وحيداً! مولوخ الذي فيه أحلم بملائكة!
مصروع في مولوخ! مصّاص الذكور في مولوخ! محروم الحبّ ومخنّث في مولوخ!
مولوخ الذي باكراً اقتحم روحي! مولوخ الذي أنا فيه وعي بلا جسد! مولوخ الذي أرعبني وصدّني عن نشوتي الطبيعية! مولوخ الذي أهجره! أصحو في مولوخ! نور يشعّ من السماء!
مولوخ! مولوخ! شقق رّبوطات! ضواحي لامرئية! كنوز هياكل عظمية! رساميل عمياء! صناعات شيطانية! أمم وهمية! مستشفيات مجانين محصّنة! أعضاء ذكوريّة من الغرانيت! قنابل مَهُولة!
قصموا ظهورهم رافعين مولوخ إلى السماء! أرصفة، أشجار، راديوات، أطنان! رافعين المدينة إلى السماء التي تدوام على وجودها وتحيطنا من كل حدب وصوب!
رؤى! تكّهنات! هلوسات! معجزات! نشوات! غاصتْ في النهر الأميركي!
أحلام! عبادات! إشراقات! ديانات! حمولة المركب كلها من القذارات الحسّاسة!
إختراقات! على طول النهر! تشقلبات وحوادث صَلْب! غرقتْ في الطوفان!
سَكَراتٌ! أعيادُ غطاس! حالاتُ يأسٍ! صرخاتٌ حيوانية وإنتحارات لعشر من السنوات! عقولٌ! غراميات جديدة! جيلٌ مجنون! انهواءً على صخور الزمن!
قهقهة مقدّسة حقيقية في النهر! رأوها برمّتها! العيون الوحشية! الصيحات المباركة! قالوا الوداع! وثبوا من السقف! إلى العزلة! ملوّحين! حاملين زهوراً! هابطين إلى النهر! فالشارع!
عن النهار 3/3/2006
anawar63@yahoo.com