في مفتتح سيرته الذاتية الموجزة التي عنوانها بـ "لست وصيا على أحد"، يقول الشاعر السعودي علي الدميني: "يمكن لي أن افتح الشباك الآن على سنوات العمر، ولكن يلزمني الكثير من الوقت، والكثير من العباءات السوداء لأقيم الحداد عليها. أما اذا اضطررت الى الانصاف فأستدرك بالقول أنها لم تكن خاوية الى ذلك الحد، ولكنها كانت ملأى بأجنحة الأحلام المنكسرة والمتع المجهضة والحكايات الكبرى المتكئة على كراسي لا مقاعد لها..".
والدميني الذي يمر الآن في تفاصيل واحدة من هذه الحكايات الكبري المتكئة على كراسي لا مقاعد لها، واحد من شعراء الأمة الذين تعايشوا من نكساتها المتتالية من دون ان يفقدوا قدرتهم على الحلم، ولا قدرتهم في رسم الخريطة الموصلة لتفاصيل الحلم وتلوينها بكل الألوان الممكنة ليس عبر الشعر وحسب، ولكن أيضا من خلال المشاركة الحقيقية في هموم مجتمعاتهم ومحاولة إزاحتها بكل ما أوتوا من قوة كامنة.
وقوة الدميني الكامنة ظهرت دائما في أحلك الظروف لتضيء محيطه الجغرافي من دون ان تحرقه، كما قد تفعل بعض القوى الكامنة أحيانا.. هو الآن في محنة الغياب، يمارس حضوره النبيل ويبتسم لظروفه الصعبة، لكنه لا ينسى أبدا ان يتعامل مع هذه الظروف الصعبة بما يليق بها من قوة في التحمل والهدوء والشعر والأمل، والصبر.
فصبر جميل أيها الشاعر الجميل، والله المستعان على ما يصفه الآخرون، لأن ما تم به من غياب بعيدا عن أسرتك وقرائك وزملائك ومحبيك يراكم حضورا عجائبياً لتجربتك الثرية، ولكنه بالتأكيد لا يفسر بتفاصيل هذه التجربة، وان كان يتوسلها للمزيد من الإصرار على الإمعان فيما يؤدي إليها.. غالبا!
صبر جميل، أيها الشاعر الجميل، إذن، والله المستعان على تلك الظروف الصعبة التي تجد نفسك تعيشها الآن.. أنت الذي تفتح وعيك القومي قبل ان تكتمل تجربتك الشعرية على امتداد رحلتك الطويلة التي بدأت منذ ان هبت عليك "رياح المواقع" في قريتك الجنوبية الوادعة لتأخذك حتى حدود "بياض الأزمنة" عبر عرض الجزيرة العربية وطولها. مزاولا لصحافة ثقافية حاربت طويلا لكي تكتسب شرعيتها وحريتها شيئا فشيئا، حيث كان الملحق الثقافي الذي أشرفت على تحريره في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات بعنوان "المربع" عنوانا أساسيا ومبدئيا للكثير من مشروعات الشعر والنثر الجديدة عبر أصوات سرعان ما اكتسبت خصوصيتها المحلية وسط محيط ثقافي عربي طاغ.
صبر جميل أيها الشاعر الجميل حتى حدود حريتك المشتهاة التي لا بد أنها "بأجنحتها تدق أجراس النافذة" اختتاما بخاتمة سيرتك الموجزة، التي تقول فيها: "رغم ان الحداد ما زال يليق بالكترا، وبحيفا، وبالأصدقاء، وبي، حيث تموج العتمة حول هزيمة السياسي، وانكسار الثقافي وتواضع حصاد عشب الشعر وسنابل الشعرية، إلا ان عينا صغيرة، تدعي الابصار، ما زالت مسكونة في قلبي بكهانة الضمير وودع العرافة وبهاء وجوه الحبيبات، وذاكرة شعر الصحراء، و"كرت" المعايدة الفلسطيني، وما برحت تخاتل ضباب المخيلة وغبش اليقين.."
وأي يقين يا شاعر اليقين؟!
سعدية مفرح
www.saadiah.com
***
تحية للشاعر علي الدميني
في حريته
(ولي وطنٌ) قاسَمتهُ فتنة الهوى
ونافحتُ عن بطحائه من يقاتلُه ْ
إذا ما سقاني الغيث رطباً من الحيا
تنفس صبح الخيل وانهلّ وابلُهْ
وإن مسّني قهرٌ تلمستُ بابه
فتورق في قلبي بروقاً قبائلُهْ)
علي الدميني
بجسده الناحل يحمل بقايا صوره وشيئ من الساحل ليرتحل في أعماق الوطن.. يهمس بحبه بين تاريخ يمر من هنا .. - ليردد " لم يبق من قريش غير الدم النافر من هنا - لم يبقي غير الجرح "- (أدونيس)
وحينما يتعبه الليل يشعل جمرة الصمت ويعبق المكان بدخان هامس بالحب وشيئ من الكلمات ورائحة الوطن..
وبين غواية الكتابة وأسرار "الكيمياء" كان الدميني يعلق أوراقه بعيدا ويدخل في تجربة المربد برفقة زادته حميمية المكان والنشاط الثقافي في المنطقة حينها استطاع تأسيس أفضل ملحق ثقافي على مستوى الصحافة المحلية وربما العربية وأصبح "المربد" هاجساً يتنقل بين أيام الأسبوع في جريدة "اليوم" وبرفقة أصدقاء يسامرهم الليل ليكتبوا هموم النهار.
وبين السبعينات والثمانينات كانت له جولات في نضال يومي بين الحرف ومشاريع قام باختصارها في الغيمة الرصاصية لتكون ثاني عمل أدبي له بعد رياح المواقع ويدخل في محاولة لتأسيس خطاب ثقافي جديد من خلال جمعية الثقافة والفنون في الدمام وبعدها في مجلة النص الجديد التي توقفت لأسباب كثيرة.
وبين أزمنته البيضاء ورياح المواقع كان يمارس غواية الخطاب اليومي ويحاول التداخل في المجتمع وصيرورة الحياة اليومية من خلال حلم البحث عن الأفضل وقدم الكثير من الدراسات والرؤى ونشط في كثير من البيانات السياسة التي بدأت الظهور مع مطلع عام 2003م.
اليوم يجلس الدميني بعيدا عن أهله ورفاقه حيث الصمت والإصرار على الحلم الذي راود الرفاق طيلة العقود الماضية نعيد قليل من أبياته وقصائده وخطاب لا ننساه لنقول له أننا معك بشكل دائم يا أبا عادل.
***
(بن سالم حميش/ علي الدميني/ واسيني الأعرج) أرشيف صموئيل شمعون
تجربة شخصية
ليس هناك أكثر مراوغة من مصطلح "الحداثة" حينما يتم توظيفه في الحقل الأدبي، لأن ما تنطوي عليه مرجعيات تسميته، في أبعادها الفلسفية والفكرية والجمالية، يفتح الباب أمام جهنم التفاصيل، ويغوي كلاً منا بالادعاء بمشروعية سك مصطلحه الخاص به.
ورغم ما يحمله أي مصطلح من سمات القيد، إلا أن تدثر مصطلح الحداثة بأردية عديدة في مسار تاريخ تحولاته الطويل، من القرن الخامس الميلادي حتى عصر الأنوار، ومن بلزاك وبودلير إلى أيامنا هذه، قد هيأه لأن يكون ضد القيد، بكثرة ما حمله من مفارقات، حيث يمكن له أن يضم المعنى ونقيضه، والشيء وابن عمه، فتختلط الحداثة فيه بالتحديث وبالتجديد، وبما بعد الحداثة، وتتقاطع الواقعية معه في المرجعية البشرية للمعرفة وتختلف معه في وظيفية الأدب، وهلمجرا..
وحيث أن المصطلح سيعيق تدفق سرد التجربة، ورغم أنني أفضل بدلاً منه، التحدث عن التجربة الشعرية الجديدة في السعودية، إلا أنني، ولسببٍ إجرائي مهم في نظري، سأصطحبه في رحلتي على مضض، وسأرجئ الحديث عن تجليات مفارقات التسمية وضجيجها أيضا ًفي المملكة، إلى موقع تالٍ.
وإذ أجيز لنفسي، اليوم، اختيار ما أميل إليه من مكونات مصطلح الحداثة وحمولاته المعرفية المتشعبة، فإنني سأتفق مع من يرى أن الحداثة الأدبية، في أبسط صيغها، هي وعي التجديد في الكتابة عبر تمثل رؤياها التغييرية الشاملة في مرجعياتها الفكرية والفلسفية والاجتماعية والفنية.
وقد تزامنت تجربة كسر عمود الشعر وتبلور النص الشعري الحداثي في المراكز الثقافية العربية، مع بروز مشروع حركة التحرر الوطني في العالم العربي لبناء الدولة الحديثة والمجتمع الحديث، والذي قادته مختلف النخب والتيارات الفكرية والسياسية، إلا أن الظروف الخاصة ببلادنا سياسياً ودينياً وثقافياً، كانت تعمل على ترسيخ آليات الممانعة ورفض كافة أشكال الاختراقات الفكرية والإبداعية، ومن ذلك موقفها من التحديث ومن قصيدة الشعر الحر.
وحيث أن عنوان حديثنا هو "الحداثة الشعرية في الخليج و الجزيرة العربية" من خلال التجربة الخاصة، فإنني أرجو أن تسمحوا لي للتوقف أمام ما يبدو من تماسك براق في العنوان، لكي أوضح أنه انطوى على تعميمين لا أتفق معهما، وذلك لأن مخاضات التحديث والحداثة الشعرية في المملكة - وبالرغم من التجربة الرائدة للعواد- كانت تتعرض دائماً للإجهاض وفقدان المقدرة على التشكل كتجربة حداثية، فأصبحت مجرد صدى لتجربة كسر عمود الشعر الذي أنجزه كوكبة من رواد الشعر الحر في البلدان العربية الأخرى، وكان منجزها في هذا الصدد وحتى منتصف السبعينات، ألصق بمفهوم التجديد منه بمفهوم الحداثة الشعرية.
أما الثاني، فإنه يتعلق بوهم الترابط الجغرافي وعلاقته بالترابط الثقافي، وأحب أن أؤكد - حسب تجربتي باعتبارها حكماً هنا- أن الترابط الجغرافي لم يعكس ترابط حركة التثاقف، وتبادل صدى السؤال والإجابة، بين مثقفي دول شبه الجزيرة العربية، ولم يتحقق إلا على المستوى الشخصي المحدود، وأن تأثر الكثيرين من الشعراء السعوديين بمراكز الثقافة العربية، كان أوثق من تأثرهم بمثقفي دول الجوار..
وتأسيساً على هذه الخطوة الاستدراكية المبكرة، سأتحرر من أعباء السياحة المعرفية في محيط التبادل الثقافي بين دول شبه الجزيرة العربية، وأفتح الباب على مصراعيه لكي أتكئ على الجزء الأخير من العنوان "تجربة شخصية"، لكي أدخل إلى فضاء متعة سرد تجربة شعرية شخصية، بدأت في بيئة فقيرة، كان أقراني فيها هم أول من فك الحرف في تاريخ القرية، وحيث لم أكن استمتع بالمقطوعات الشعرية البائسة التي ترغمنا مناهج التعليم على حفظها، فقد كنت أقفز على الأبيات الشعرية التي أمر عليها خلال قراءتي لسيرة الزير سالم، ولبعض مقتطفات من ألف ليلة وليلة، إلا أن محيطي العائلي الصغير، كان يحضن بذرة احتفاء خاص بشعرية قصائد الشعر الشعبي التي يتوارث حفظ نصوصها الأبناء عن الأجداد، وكان إنشاد والدي لبعض هذه القصائد، قد نبه وجداني إلى جماليات ما تحتضنه اللغة بوجه عام والقصيدة الشعبية بوجه خاص من أسرار، تتضافر في الصورة الرمزية التي يحملها النص وفي ما يمكن أن نسميه بشعرية القافية المعقودة على مجاز المقابلة.
وإذا كانت الكتابة الحداثية تبحث عن كمالها في الجديد المختلف، فإن لثغة البدايات لا تنهض إلا على محاكاة القديم الناجز، ولذا تنبهت حواسي التذوقية إلى الشعر الشعبي، فبدأت أحاكي ما أسمعه أو أحفظه منه، ولكن صدفة إطلاعي على كتاب عبدالله بن إدريس "شعراء نجد المعاصرون" في مرحلة الدراسة المتوسطة عام 63م قادتني لتذوق شعراء الفصحى، واستحثني لكتابة محاولاتي الشعرية الغزلية الأولى بالفصحى، كما أن الكتاب نفسه قد شد انتباهي ومشاعري إلى ما حواه من قصائد حملت هم القضية الفلسطينية، والجزائرية، وعزز انهمامي بالقضايا القومية والتي كان والدي -العائد من تجربة عمالية غنية في أرامكو في أوائل الخمسينات- قد بذرها في نفسي حين يغرز أذنه في واجهة المذياع لالتقاط الأصوات المشوشة لنشرات الأخبار. وقد غدا ما ينفعل به من أخبار ثورة الجزائر، وتأميم قناة السويس، والعدوان الثلاثي على مصر مقدمة تأسيسية للتأثر برمزية عبد الناصر والناصرية منذ زمن الطفولة.
وحين ارتحلت إلى "جدة" لدراسة المرحلة الثانوية، تعرضت إلى ما يشبه "صدمة الحداثة" في واقعها المادي والاجتماعي، حيث تحضر كثافة الأشياء وبعنف، في حركة السيارات، وزحمة الناس، وأضواء الليل، وأحجام البنايات، وما تحويه الأسواق من معروضات، مما أفقدني الكثير من توازني إزاء هذا التعدد والانفتاح، وأغواني بالدخول في تجربة حب مجنونة مع بنت الجيران، جعلتني أنسى طفولة القرية وصباياها البسيطات، كما دفعتني للاحتماء بالشعر من لهيب الشوق والعواطف المقموعة.
وفي مكتبة مدرسة الفلاح الثانوية، تيسر لي الإطلاع على بعض الصحف، فقرأت شعراً للعواد، وعبدالله الفيصل، وحمزة شحاتة، وأحمد قنديل، ومحمد حسن فقي، وحسين سرحان، والسنوسي، وابن خميس، وكلها أسماء لم أكن قد سمعت بها أو استمتعت بشعرها من قبل، وهذا ما يؤكد على أمرين هما: إن المؤسسات المحافظة قد كرست احتكار ونشر رؤيتها التقليدية المنحازة للقديم ضد الجديد، وللمحافظة ضد الانفتاح، وذلك من خلال سيطرتها على المؤسسة التعليمية، أما الأمر الثاني، فإنه يتعلق بقصور الممكنات الاقتصادية والتقنية والإعلامية، وعجزها عن القيام بدور التواصل بين أرجاء البلاد المترامية الأطراف، حيث أدى ذلك إلى تعميق فاعلية الانقطاع بين جزر المناطق المعزولة عن بعضها. وإذا كان الأمر كذلك داخل بنية الوطن الواحد، فإن هذا يؤكد ما ذهبت إليه من غياب حركة تثاقف نشطة وملموسة بين أقطار شبه الجزيرة، إلا في إطار حدودها الفردية، والتي تجلت لاحقاً في علاقة شعراء قصيدة النثر في المملكة بالتجربة الشعرية في البحرين، وخاصة ما يتعلق منها بإنجاز قاسم حداد.
ولم يكن إطلاعي المحدود على بعض الصحف المحلية، خلال تلك الفترة في "جدة"، على بعض قصائد الشعر الحديث المنشورة -نقلاً عن مجلات عربية- لنازك الملائكة، والسياب، ونزار قباني، كافياً لاختراق ممانعة الذائقة القروية المحملة بإرث الإيقاع الموزون، مما حال دون استجابتي لكسر عمود الشعر.
بيد أن هزيمة حزيران 67م، وانكسار تابوه الحلم الناصري أمام النقد الصادق والمجاني معا، وما أحدثته قصيدة نزار قباني "هوامش على دفتر النكسة" من دوي في الشارع العربي، قد أجهزت على حواجز التقليد المنيعة، وحسمت ترددي، لكي انحاز لتجربة كتابة قصيدة الشعر الحر منذ عام 68م، و غدت كتابة قصيدة التفعيلة بالنسبة لي معادلا ً لممارسة حرية التعبير، وأداة للتغيير، وهاجساً يجمعني بكل من يكتبها حتى وإن اختلف معي فكرياً.
وحيث تغدو تجربتي مجرد "عيّنة" من مئات التجارب، فإنه من اليسير علينا القول بأن سطوة البنية الثقافية المحافظة في أي مجتمع لا تستجيب - دون مخاضات عسيرة- لضرورات التحديث، ومستلزمات فضاء الحرية. حرية التفكير والتعبير، بالقدر الذي تستجيب له "ذات محددة"، داخل نفس المجتمع، بل أن تلك البنية القارة لا تتوقف عن لعب دورها القمعي، وبكافة إمكاناتها المؤسساتية، ضد الاستجابة الفردية أو الفعل التنويري أو المغامر باتجاه الحداثة، مستخدمة في ذلك عدتها التاريخية المتمثلة بالاستنجاد بالمقدس: إما الديني، أو الوطني، أو القومي، بحسب الزمان والمكان.
ولما كان قدر الجغرافيا قد جمع في بلادنا رمز المقدس، وخطابه العقدي، وبناه المحافظة، فإن خطاب الحداثة -الذي يرتكز على استنهاض فاعلية الحرية ضد القمع، والعقل ضد الخرافة، والعلم ضد الجهل، و شك السؤال ضد طمأنينة الإجابة والنزعة إلى مغامرة الكتابة الإبداعية على غير سابق مثال- سوف لا يجد موقعه مؤثثاً في فضاء كهذا، بل أن خطاب الحداثة نفسه، سوف يضطر إلى قمع ذاته، أو تمويهها، بلباس شكلاني جمالي في أحسن الأحوال، ويصبح بذلك تمظهراً لحركة تجديد، وتحديث، ونزوعاً نحو الحداثة، وليس تعبيراً عنها، ولم يخرج عن ذلك السياق إلا القلة في واقعنا الأدبي، حيث يقف محمد العلي في مقدمتهم.
أولاً: (التحديث/النزوع نحو الحداثة) الشعرية
عتبات الاستجابة: محمد حسن عواد
وحين أفتح صفحات التاريخ الذي لم أعايشه، فإنني أود الإشارة إلى تجربة رائد التجديد والنزوع نحو الحداثة في بلادنا، وهو الأستاذ المرحوم محمد حسن عواد، والذي عبر عن ذلك التشوف الحي نحو الحداثة، ونافح عنه، واحتمل تبعات موقفه الثقافي والجمالي والسياسي، من خلال تجربته المبكرة لكسر عمود الشعر حين كتب مغامرته الأولى في بداية العشرينيات، والتي سبقت تجارب رواد قصيدة الشعر الحر، ونثبت هنا مطلع نص طويل كتبه في حوالي عام 1924م، بعنوان "خطوة إلى الإتحاد العربي":
لقد آن أن تستحيل المدامع يا موطني
إلى بسمات وضاء
وأشياء لم تعلنِ
وأن تتقوى بعزمٍ
كرهت له أن يني
وتدفع شبانك الطامحين إلى المعليات
لتنعش روح الأمل.
أفقْ واستمع
ثم ألق بها نظرةً للنجوم
تريك أشعة نجمٍ
يضئ بليل بهيم."
وقد أشار إلى هذه التجربة عبد الرحيم أبو بكر في كتابه "الشعر الحديث في الحجاز" الذي أعده كرسالة لنيل شهادة الماجستير في عام 73م، وأورد مقتطفات من مقدمة الديوان التي تؤكد على مصداقية تاريخ كتابتها حيث يقول العواد في تلك المقدمة "في سنة 1924م انتهت الأزمة الوطنية التي نشأت في عهد الانتقال بين الحكومة الذاهبة والحكومة الحاضرة باتحاد الحجاز ونجد في حكم مستقر هو حكم صاحب الجلالة الملك عبد العزيز آل سعود أدامه الله، فاتسعت رقعة الفكرة الوطنية التي كنا نتمثلها في الحجاز وحده، فحققها جلالته بضم نجد وملحقاتها وأطراف الجزيرة في دولة واحدة هي الآن الدولة العربية السعودية، ورأى الشاعر أن هذا النجم البادي يشير إلى كوكب أكبر وأنه نواة الدولة العربية الكبرى.."
وقد توج العواد انهمامه بتحديث بلادنا، بنشر بياته النقدي الشهير عبر كتابه "خواطر مصرحة" الصادر في عام 1925 ميلادية، والذي طرح من خلاله تصورا إصلاحيا وتحديثياً شاملا في الميدان الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، كما نادي فيه بضرورة كفالة حقوق المواطن في العدالة والحرية، وبضرورة تعليم المرأة وتحريرها من أسر العادات والتقاليد البالية، كما دعا المثقفين إلى الانفتاح على ثقافة الآخر وإبداعاته الأدبية والمعرفية. ولعل العبارة التالية - التي اخترتها على عجل- قادرة على الإفصاح المكثف عن موقفه من الحياة وروح العصر، حيث يقول: نريد حرية عصرية تحارب الوهم، وتسعى إلى الحقائق، وأن يحتكم الناس إلى ميزان الذوق والعقل والعلم". ولا أظن هذه العبارة التي شرحها في كتاب كامل تبتعد كثيراً عن بعض مرتكزات الحداثة.
لقد حاول العواد الخروج من الأرض الضيقة - بحسب الشاعر إبراهيم الحسين- بخطاب تحديثي كهذا، يسهم به في إخراج المجتمع من معضلة التمركز حول الذات، وأن يؤسس - منذ زمن بعيد- لخلق مناخ ثقافة الحوار والعقلانية والانفتاح على الآخر، ولكن قوى المحافظة أفرادا وجماعات وأدت تلك الصرخة العقلانية المبكرة، وقادت حملة شعواء ضد صاحبها، حيث مُنع كتابه من التداول، وكاد أن يودع السجن لولا تدخل بعض العقلاء، حسب ما أورده ضياء عزيز في حوار معه لمجلة "النص الجديد".
ولسوف يقود أبناء تك القوى المحافظة لاحقا، حملاتهم ضد العقلانية والتحديث، والتي تمثلت في كتاب العقيلان "جناية الشعر الحر"، وفي إيقاف المربد، وفي ما حواه شريط سعيد الغامدي، وكتاب عوض القرني "الحداثة في ميزان الإسلام"، وفي مجزرة الحداثة، مما سنفصل فيه فيما بعد.
وهكذا يتم وأد الصوت التحديثي، و يتكرس تدخل المؤسسة المحافظة في حرية الفضاء الثقافي والإبداعي، وتطفأ جذوة الرؤى النقدية المستنيرة، ولا يجد الأحفاد إلا تاريخ أجدادهم وآبائهم منزوياً في الكتب المنسية، ويستمر ترسيخ مفاعيل القطيعة بوجهها المزدوج، حيث يتم تغييب الإضاءة الملهمة في السياق المحلي وقمع النزوع الفردي الخالص في حق مقاربة التجديد والحداثة، فيما يتم تسييج الحاضر ضد الإضاءة القادمة من خارج المكان، ويجبر المثقف على الإحساس بأنه شريك لإدوارد سعيد - مع المفارقة- في اللامكان.
ولكل هذا، ولغيره مما لم يقل، أعتقد بأنني لا أذهب إلى التبرير بقدر ما ألامس الحقيقة القائلة، بأن عملية كسر عمود الشعر في المملكة تغدو لدى شعرائها ولدى الكثيرين من نقادها، هي الحداثة بعينها، لأنها تشتبك مع الذائقة المكرسة، ومع سلطة الثقافة الشفهية، ومع المؤسسات المهيمنة بالمعنى الشامل، في صراع، حول قطبيات، الأصالة والمعاصرة، والقدامة والحداثة، والثبات والتحول، والانغلاق والانفتاح، والوضوح والغموض، من خلال مرموزية هذا الفعل الشعري البسيط.
ويمكننا الآن القول بأن العواد قد ذهب قبل الأوان، إلى تجريب التحرر من القيود ومنها قيد الوزن والقافية، متأثراً بمحاولات مدرسة أبوللو وبشعراء المهجر، ومستجيباً لما تنطوي عليه نفسه من طموح وثورة على الركود، ولكنه لم يكسر عمود الشعر، أو يكتب النص المضاد - بحسب الغذامي- ولم يدفع بالتجربة إلى آفاق تخليق النموذج القادر على التأثير في محيطه الثقافي، غير أن تلك الخطوة السابقة في الزمن لتجربة رواد قصيدة الشعر الحر، كانت علامة في الطريق تشير إلى حراك ثقافي متعدد الوجوه، يرفض قيد النمط، ويؤسس لخلخلة سياق النص المكتمل والتذوق الساكن، ويحفز على اجتراح خيار حرية التشكيل والتعبير معاً.
وقد اجترأ على انتهاك قيد الوزن والقافية آخرون من مجايلي العواد، منهم حمزة شحاته، الشاعر التجديدي الكبير، والمثقف النهضوي البارز، ولكن منجزه - بحسب النموذج الذي اطلعت عليه- في هذا السياق كان متواضعاً بالمقارنة مع إبداعه المتميز في حقل القصيدة العمودية، وكذلك فعل محمد حسن فقي في نص نشر له في ديوانه "قدر ورجل"، ويبدو لي أن كلا الشاعرين الكبيرين لم يكونا على قناعة متأصلة بخوض تجربة هذا الشكل الشعري الجديد.
ويمكن للمتابع أن يرصد علامات التجاوب مع تجربة قصيدة الشعر الحر في شعر الكثيرين من شعراء المملكة في وقت مبكر من مرحلة الخمسينيات، حيث أورد في هذا السياق، عبدالله عبدالجبار في كتابه الهام "التيارات الأدبية الحديثة في قلب الجزيرة العربية -1959م-، نماذج عديدة لافتة كتبت في تلك المرحلة متصادية مع ما يمور به العالم العربي من أحداث سياسية، وتجارب شعرية حديثة، لكل من ابراهيم فلالي، وعبدالله عبدالوهاب العباسي، وماجد الحسيني، والغسال، وصالح المساعد، وسواهم، ولعل من أفضل تلك التجارب ما اخترته من نص لم استطع التعرف في الكتاب على منشئه، حيث يقول:
"سيدتي:
ما زال بيتنا الكبير مغلقاً
مسمر الأبواب
يعسكر الظلام حول سوره
ويزحف التراب
وينصب الصمت على دروبه
مشانق الإرهاب."
أما أنضج الإسهامات المبكرة والمتميزة في كتابة الشعر الحر، والتي جمعت بين تشكّل الوعي المغاير، والمقدرة الإبداعية على تمثله، فقد توفرت في شعر عبدالرحمن المنصور، من حيث تشكيل مساحة الصورة الشعرية الواسعة، وحساسية توزيع العبارة الشعرية، وبناء المعادل الموضوعي للشحنة الشعورية، والانهمام بالحس الاجتماعي، والانتباه الواعي للمستجدات الفكرية والسياسية. وقد احتفى به العلامة حمد الجاسر حيث نشر قصيدته الموسومة بـ"ميلاد إنسان" في العدد الأول من مجلة اليمامة التي أصدرها الجاسر في عام 1952، كما نشرت له جريدة "الفجر الجديد" في الخبر عام 1954 عدداً من قصائده الملفتة.
ونثبت هنا مطلع قصيدة المنصور المشار إليها:
"أنعيش والمحراث والفأس الثليم
والأرض نزرعها، ويحصدها الغريم
وكآبة خرساء
تقضمنا على مر القرون.
لا فرحة
لا بهجة
غير الكآبة والأنين."
ويبدو لنا، حين ننظر إلى ما تم جمعه من شعره مؤخراً، في ديوان، بأنه كان من أكثر الشعراء -في مرحلته- إخلاصاً لكتابة قصيدة الشعر الحر، بدلالة أن أغلب قصائده المنشورة في الديوان كتبت وفق هذا النسق، غير أن تجربة السجن، ثم الانغماس في مشاغل العمل الإداري فيما بعد، قد دفعته إلى التوقف عن كتابة الشعر "فخسرته المشاهد المحلية، والعربية، وخسر نفسه حين جمّد الكلمة على شفتيه" - بحسب الدكتور حسن الهويمل.
وقد أثبتت ممكنات التفتح الثقافي في مستواها الفردي قدرتها على المتابعة وتصاديها مع حركة التجديد الشعري في الوسط الثقافي العربي والإنساني، حيث كتب ناصر أبو حيمد ومحمد الرميح قصائد الشعر الحر وقصيدة النثر في الخمسينات نتيجة لانفتاحهما على الثقافة الغربية ولتواجدهما خارج البلاد، كما أن فوزية أبو خالد انحازت لكتابة قصيدة النثر منذ أواخر الستينات نتيجة لنفس الأسباب، ومن النماذج اللافتة لقصيدة النثر ما كتبه محمد الرميح أثناء زيارته لمعرض لوحات فنية في ايطاليا، في أواخر الخمسينات، حيث يقول:
"آلا ف اللوحات
على الحائط الأزرق الطويل
عيونها المنفتحات
تحدق بي
تسمرت أحداقها في معطفي
وآلاف الأيدي تلوح لي
تقول لي:
"نحن هنا في يويتوبيا
أسرة واحدة
فلا تشتر منا شيئاً"
كما سجلت تجربة الصدى استمرار بعض الشعراء في المزاوجة بين كتابة الشعر العمودي والشعر الحر، منذ أواخر الخمسينات وفترة الستينات مثل سعد البواردي، وحسن عبدالله القرشي، وعبدالله العثيمين، وسواهم، حيث يقول سعد البواردي في قصيدته: تلك بلادي يا فلنتينا (وفلنتينا أول رائدة فضاء في تاريخ البشرية)
"فلنتينا
يا زهرة الفولغا
يا بعثة الأرض إلى الفضاء
وأنت تعبرين الكون
في مركبة الفضاء
هل أبصرت عيناك شيئاً
اسمه الصحراء؟
كثبان رمل أحمرٍ
يدعونه الدهناء"
غابات نخلٍٍ..
اسمها القطيف والأحساء
وبلدة ناعسة الجفنين
اسمها شقراء
وبئر ماءٍ
عمقها شيء بعيد
دون ماء"
بيد أن كل تلك الجذوة الشعرية ذات النزوع نحو الحداثة الشعرية لم تجد المناخ الثقافي الملائم لكي تنجز صوتها الخاص وملامحها المختلفة، التي تهيؤها لتجاوز شكلانية توزيع الجملة الشعرية، والتوفر على مقومات صياغة النموذج المؤثر، والديناميكي الفاعل، إلا منذ منتصف السبعينات، حين أسهمت مختلف العوامل في التأسيس لكتابة قصيدة الشعر الحر، والتعريف بجمالياته، رغم استمرار قوى الممانعة في الوقوف ضد التجربة.
ثانياً: مخاض السبعينات:
محمد العلي
توفرت للسنوات الأخيرة من مرحلة الستينات وعقد السبعينات عوامل إثراء وتغيير شاملة، سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية، هيأتها لدخول مرحلة الإخصاب والولادة، حيث استقبلت البلاد في أواخر الستينات، أفواجاً من أكاديميها العائدين من الدراسة في الغرب في حقول الأدب والاجتماع واللغات الأجنبية مثل الدكتور منصور الحازمي، والدكتور عزت خطاب، الذين أسهموا مع الشعراء والنقاد السعوديين والعرب المقيمين في المملكة، مثل الدكتور احمد كمال زكي وفواز عيد، وعبد الرحيم نصار، ومحمد العلي وعبد الله نور وعبد الله الماجد، والدكتور محمد الشنطي، وشاكر النابلسي، ونبيه شعار، في توسيع دائرة تقبل القارئ لقصيدة الشعر الحر، من خلال مشاركاتهم في الكتابة للصحف المحلية التي فتحت بدورها منابرها لهم.
وقد لعبت "الصفحة السابعة" في عكاظ وملحق البلاد الأدبي، والصفحات الأدبية في الرياض ومجلة اليمامة، دوراًً تأسيساً، منذ مطلع السبعينات، في غرس بذور حساسية فنية جديدة، لغة ودلالة؛ حيث تخلت الجملة الشعرية عن بلاغتها التراثية، وتفتحت لغة القصيدة على المفردة اليومية، واحتفى النص الحديث بدلالة الوطن الملموس، لا الوطن المغيب بين تراكمات النصوص الاحتفالية الباردة، أو المعوم فوق خارطة العروبة الشاسعة.
ويمكننا باطمئنان القول بأن تياراً شعرياً قد تبلور خلال عقد السبعينات، حاسماً خياره الشعري ضمن أفق قصيدة التفعيلة، ومعتمداً على تنوع مكونات ثقافية وشعرية متباينة، وبنت الأسماء المؤثرة فيه فاعليتها النصية على استلهام تجليات الوطن الحلم، والوطن المدينة الفاضلة، والتشوف إلى مثالات الحرية، والاهتمام بقضايا المرأة، حيث غدا مرموز المرأة نصاُ يتعالق فيه الحب الإنساني والوطن الحلم المأمول، الذي ينعم فيه الناس بتحقق أقانيم الحق والعدل والحرية، والجمال، ولعل هذا التيار هو الأكثر تعبيرا عن أحلام مضامين الخطاب التحديثي، والنقدي الغاضب الذي بثه العواد طوال مسيرة حياته الثقافية.
ولتثبيت الحقائق التاريخية، فإن علينا أن نتوقف أمام فاعلية شاعرين من أبرز الشعراء في بلادنا، وهما محمد العلي، وغازي القصيبي، واللذين يشتركان في الحصيلة المعرفية التراثية، وفي تميزهما في إبداع القصيدة العمودية ذات النزوع التجديدي، وفي تجاوزهما أسوار تلك التجربة، إلى الانفتاح على ثقافة العصر في بعديها الفكري والإبداعي، وبما أبدعاه داخل نسق شعر التفعيلة.
وخلال تلك الفترة، ساهم غازي القصيبي، في إغناء مشهدنا الشعري الحديث، وفي التصدي لتحدياته، بكتابة شعر التفعيلة، ضمن نسق تشكل من خلفيته الشعرية المنغمسة في التراث العربي ومن خلال تأثره ببساطة الإيقاع الشعري ومفردات الحياة اليومية المتوفرة في شعر نزار قباني، حتى استطاع فيما بعد تحديد ملامح خصوصية نصه الشعري ومنذ ديوانه "أنت الرياض".
والقصيبي أحد الفعاليات المضيئة في تاريخ بلادنا ثقافيا وإداريا، ويكاد يكون إحدى الشخصيات ذات الطابع الإشكالي التي ينقسم الناس حولها بين محب ومعاد، وقد دخل في معارك عديدة مع مناوئ قصيدة التفعيلة، وتم استهدافه من قبل القوى المحافظة باستمرار كأحد رموز التحديث والحداثة، وتعرض ديوانه "معركة بلا راية"، للهجوم العنيف من قبل المحافظين، الذين ذهبوا إلى استعداء المقدس ضد انتشار قصيدة الشعر الحر، حيث وسموها بالإسهام في تهديم الثوابت والإساءة إلى لغة القرآن الكريم.
وقد شارك القصيبي بفعالية في تحديث البنية التحتية للوطن، وفي رفع سقف حرية الإبداع، ولا سيما في نصه الروائي، بما يضعه في موقعه البارز من تيار التحديث في المملكة، إلا أن انشغالاته الوظيفية وتنوع اهتماماته الثقافية، وتشككّه في الدور الذي يمكن أن يلعبه الشعر في القرن العشرين، قد قلل من فاعلية دوره الشعري، وإمكانية تجاوزه لأفق السائد، حتى أصبحت استجابته الوجدانية، أكثر ميلاً للتعبير بالشعر العمودي منها بالتفعيلة.
أما محمد العلي، المفكر والأديب والشاعر، فإنه يمثل خلاصة التجربة وحداثتها، على صعيد الكتابة الثقافية، والقراءة النقدية، والإبداع الشعري، ورغم أنه شاعر مقل، وزاهد في الضجيج والأضواء، إلا أن قصائده العديدة التي لم تنشر في أزمنة كتابتها، كانت توزع بين الأصدقاء والمهتمين، وقد شكّلت مركز استقطاب تتمحور حوله الشعرية الجديدة، بما توفرت عليه من حساسية لغوية متفردة، وخصوبة تصويرية مكثفة، ورؤية فكرية ثاقبة، ومخيلة خلاقة، وقد غدت بعض قصائده مثل، "لا ماء في الماء"، و"آهٍ متى اتغزّل" التي تجاوز فيها مكوناته الأولى المنحدرة من أبوتمام والشريف الرضي، والمتن السيابي، لتخط تميزها، ولكي تغدو نصوصا تأسيسية للحداثة الشعرية في المملكة، حيث حفرت تجربته المختلفة مسارها في حياتنا الثقافية (خاصة في المنطقة الشرقية والوسطى) رؤية وإبداعا وموقفاً.
ومن مطلع قصيدته "لا ماء في الماء" نقرأ ما يلي:
"ما الذي سوف يبقى إذا رحت أنزع عنك الأساطير
أرمي المحار الذي في الخيال إلى الوهم
ماذا سأصنع بالأرق العذب
بالجارحات الأنيقات
إما لقيتك دون الضباب الجميل
كما أنت.. كن لي كما أنت
معتكراً غارقاً في السفوح البعيدة
مختلطاً بالثمار
ومكتئباً كالعيون الوحيدة
بيني وبينك هذا الضباب
الذي يمنح الحلم أشواقه
يمنح الوهم أجنحة الماء
هاأنت فيه غويُ
كأرجوحة من هديل
.... إلى أن يقول
كان الأصيل شهياً
كنهدين ما التفتا بعد
... "
"وإذا كانت الحداثة قد اتخذت على المستوى الكوني معنى التحرر الشامل من الأوهام الأيديولوجية والطبقية، والأخلاق المرتبطة بها، والانتقال من العقل الخرافي إلى العقل العلمي، ومن الميوعة العاطفية إلى الرؤيا التغييرية، فإن معنى كل كتابة حقيقية يكمن في الاتحاد بهذه الروح وتفجير النور الكامن فيها". وبهذا التوصيف الذي تصرفت فيه من كلام فاضل العزاوي، أستطيع القول بأن محمد العلي غدا أهم مركز تأثير محلي لتطور القصيدة في بلادنا تعبيرا ودلالة خلال عقدي السبعينات ومطلع الثمانينات، حيث أسهم بتميز في حفر مجرى الحس الوطني في تجليات الكتابة بشكل عام، وانه بهذا وسواه، مما لا تسعه اللحظة، خليق بالريادة، وخليق بموضعته في المكان اللائق به كأب للحداثة في المملكة، رغم تحفظه على بعض ما في مصطلح الحداثة من شطط، سأشير إليه لاحقاً.
***
كنت أكتب بداياتي الشعرية، وأراقب ما ينشر في صحفنا المحلية، وكان الصمت والعزلة يترسخان في مكوناتي النفسية والكتابية، ويتواطآن مع سكن الطلاب في كلية البترول التي تشبه قرية موحشة معزولة في صحراء، لتأبيد حالات الصمت والانقطاع والانهماك في عُجمة كتب الهندسه، مما جعل التمرن على كتابة الشعر معادلاً وحيداً للتواصل مع الحياة، والتطهر من حالة حب يائسة، حفزتني لكتابة نص شعري شبه يومي، مما دفع بزميلي في الغرفة إلى تركها هربا من هذري الشعري المتواصل.
وحيث لم يكن شعر ديوان العرب يشفي تشوفي لحداثة النص، في واقع كانت المكتبات فيه فقيرة، و كان دخول دوواين الشعر الحديث إلى الوطن محاصراً، والنشاط الثقافي معدوما، فإن أرض الشعر قد تفتحت - في هذا المناخ المجدب- على ما تيسر الإطلاع عليه في بعض الصحف والمجلات المحلية والعربية، وعلى ما استطاعت الأذن التقاطه من نصوص شعرية جديدة عبر المذياع من البحرين إلى بغداد وحتى القاهرة.
وإذ أوصف تجربه فردية فأنني أزعم أن تعميمها لن يجانب الصواب في شيء، وأن مفاعيل ذلك المناخ السائد هو الذي أعاق تبلور الحداثة الشعرية في تلك الفترة.
ولأن الأشياء لا تجد مسمياتها دفعة واحدة، فقد سعيت إلى مراكمة قصائدي في طيات كتب الهندسة منذ عام (68 م)، حتى تيقنت بحسي النقدي، بأن ما أكتبه قد أصبح يضارع - فنياً- ما تنشره صحفنا ومجلاتنا آنذاك لبعض الشعراء الشباب الذين سبقوني في النشر والقدرة على تطوير ممارسة الكتابة الشعرية، مثل إبراهيم الفوزان، وسعد الحميدين، واحمد الصالح، ويوسف الحبيب، وحينها أخرجت نصوصي من مكامنها في عام 71م إلى واجهات الملاحق الأدبية في بلادنا.
وحين استعيد ما قاله محمود درويش في قصيدة سرحان:
هنالك غيمُ شديد الخصوبة
- لا بد من تربه صالحه.
فإنني استذكر بحنان لا حد له، تلك التربة الصالحة، التي وجدتها في جريده اليوم.
ولكن لقاء المطر بخصوبة الأرض قد قبضت عليه، وإلى الأبد، حينما تعرفت على محمد العلى عن قرب، حيث غدا "العلي" المعلم الأول لتجربتي الشعرية والثقافية والإنسانية بدون منازع.
وحين نمضي صوب منتصف السبعينات لنرى إلى منجز التجربة الشعرية التي خاضها عدد من الشعراء الشباب، فسوف أجترئ على الجزم بأننا لن نجد فيها - بمعايير النقد المتوفرة اليوم- تياراً شعرياً متبلوراً في خصائصه الفنية وملامحه الخاصة وإنما سنرى فيها تعدداً يشي بمرجعيات أصوات رواد الشعر الحر في العالم العربي، من خليل حاوي (لدى الحميدين)، ونزار قباني لدى (أحمد الصالح)، وإلى تداخل السياب وسعدي يوسف (عند الفوزان وعلي الدميني).
بيد أن تلك البدابات الواعدة كانت بمثابة الإعلان عن حسم خيار الأجيال الجديدة لكتابة الشعر الحر، متحدية مقاومة الذائقة السائدة.
وبالرغم من عدم توفر تلك التجربة الشابة على مقومات الأنموذج المؤثر في محيطه، إلا أنها كانت مصباحاً يضئ الطريق أمام الجيل الأحدث للبحث عن منجز رواد التفعيلة العرب، في مضانه الغنية، ومواطنه الأصلية.
ومثلما يحقق قانون التراكم الكمي تحوله إلى منجز نوعي في الطبيعة والمجتمع والحياة الثقافية، فقد تضافرت فاعلية رائدي قصيدة التفعيلة في بلادنا (العلي والقصيبي)، وكوكية التجديد الشابة (تجربة سعد الحميدين وأحمد الصالح، كمثال)، والملحقات الأدبية في صحفنا، على تهيئة المناخ الملائم، لولادة "النص المضاد" في أواخر الثمانينات وخلال عقد التسعينات، وانفتح المشهد الشعري على بروز أسماء شعرية لامعة في فضاء شعر التفعيلة مثل عبد الكريم العودة، وعبدالله الصيخان ومحمد الثبيتي ومحمد جبرالحربي، وعبدالله الزيد وعلي بافقيه، ومحمد زايد الالمعي، وحسن السبع، وغيداء المنفى، وخديجة العمري، وثريا العريض، وأشجان هندي، وغيرهم.
أما في فضاء قصيدة النثر، فقد ترسخ حضور الرائدة فوزية أبو خالد، ومحمد عبيد الحربي ومحمد الدميني، وإبراهيم الحسين، وأحمد الملا، وهدى الدغفق، وغسان الخنيزي وغيرهم من الأسماء البارزة الأخرى.
الشعر الشعبي الحديث:
تستحق تجربة قصيدة الشعر الشعبي الحديثة في المملكة، التفاتة تأريخية ونقدية جادة، لأن تلك القصيدة الاختراقية قد أنتجت فيما بعد خطاباً يُعد من أهم الخطابات الشعرية البارزة في منطقة الخليج.
ولضيق المساحة المتاحة التي لن تمنحني الحيز الأمثل للحديث عنها، فسأكتفي بالإشارة إلى بداياتها التي تجاوزت مكونات موروثها الشعبي في اللغة، وفي تشكيل الصورة، والخروج على عمود الشعر الشعبي، وفي تأسيس "اللغة المحكية"، التي تجمع بين ثقافة الفصحى وبساطة استخدام المفردة وتطويعها بحرية لا تخضع لنظام النحو العربي.
وقد رسمت تلك القصيدة خطواتها الأولى منذ مطلع السبعينات، ثم نضجت بهدوء على يدي مجموعة من الشعراء، تصادياً مع تجربة الشعر الشعبي الحديثة في مصر والعراق والبحرين، ومن أبرز شعرائها سعد الثوعي، وإبراهيم الغدير، والأمير بدر بن عبد المحسن، وشاكر الشيخ، إلا أنها وجدت تميزها وصياغة صوتها الخاص والمتفرد من خلال شعر الأمير بدر بن عبد المحسن الذي يعد رائداً حقيقاً لهذه التجربة الخصبة.
كما أن تجربة غناء هذه النصوص الشعبية الحديثة بأصوات أبرز الفنانين في بلادنا مثل طلال المداح، ومحمد عبده، قد أسهمت في اختراق ثبات الذائقة وأغوتها بتقبل الجديد، والتفاعل مع جمالياته، والتفتح على تجربة الشعر الحر بشكل عام.
الملحقات الأدبية
بحكم وظيفيتها الصحفية المنفتحة بالضرورة على مستجدات العالم، أسهمت الملحقات الأدبية في صحافتنا السعودية، في كسر عادية الذائقة، وفي إغناء حركة التثاقف مابين الداخل والخارج، وما بين المناطق المتباعدة في بلادنا.
وإذ لا يمكنني إغفال الدور الذي نهضت به ملحقات الصحف الكبرى، وخاصة ملحق جريدة الرياض وجريدة الجزيرة، إلا أنني هنا، سأشير إلى تجربة ملحق جريدة اليوم "المربد" الذي أشرفت على تأسيسه وتطويره منذ عام 75 م، حيث عملت مع بعض الأصدقاء على جعله نافذة تطل على التجارب الشعرية العربية الحديثة، وعلى الشعر العالمي المترجم، وعلى الرموز الأدبية الهامة في المحيط الجغرافي وخاصة في العراق والبحرين، كما عمل الملحق على نشر تجربة قصيدة النثر والاحتفاء بمبدعيها في المملكة، وشمل اهتمامه الشعر الشعبي الحديث، والفن التشكيلي، وتشجيع الأقلام الجديدة. وحين تركته مرغما في عام 82 م، استمر الملحق في أداء دوره الهام - بإشراف عدد من المبدعين- حيث أصبح واحدا من أكثر المنابر الأدبية احتفاء بتجربة النقد الجديد وسجالها الغني الذي أشعله الغذامي مع عدد من النقاد، في منتصف الثمانينات.
وفي مناخ تلك الحاضنة "المربد"، التي كان يوجهها محمد العلي، تشكّل تيار الأدب الواقعي في الشعر والقصة والدراسة الأدبية في بلادنا، ولكنه تمايز عن إرث تيار الواقعية الوظيفية الفاقعة، حيث لم يحمل ذلك التيار في ساحتنا الثقافية، لواء وصاية مؤسسة أيديولوجية أو سياسية محددة، وإنما استفاد من الجذور الواقعية في مرجعيتها المعرفية، ومضى في فضاء الحداثة الإبداعية بما هي فعل اختلاف وتجريب وتجاوز.
ثالثاً: الحداثة: صخب التسمية و"سعودتها"
الغذامي وحركة النقد الجديد
لعل في ما عرّجت عليه آنفاً ما يسوغ لي العودة إلى الحديث عن قيد المصطلح ومراوغته، وصخبه أيضاً، في مناخ ثقافي محافظ كالذي تتنفسه بلادنا.
لذلك، ومع معرفتنا وتقديرنا للجهد التنظيري الهام الذي أشاعه "أدونيس" في فضاء الثقافة العربية، من خلال مصطلح الحداثة، ومن خلال المشروعية التاريخية التي أضفاها على أطروحته فيما يخص جذور الحداثة الشعرية في تراثنا العربي - باعتبارنا كائنات تاريخية لا تقبل إلا ما أجازه الماضي-، إلا أن الحركة الأدبية الحديثة في المملكة، تحاشت، خلال السبعينات، استخدام هذا المصطلح، نتيجة لشواهد المشروعية ذاتها التي اثبتها ادونيس، وكرد فعل على مراوغة المصطلح من الجانب الآخر.
وسأوجز هنا ما يختبئ خلف هذا الموقف من أبعاد:
تستدعي كلمة "الحداثة" إرثا ثقافيا تأسس على توظيف الحديث النبوي الشريف القائل: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد"، ولذا فإن الكلمة تصطدم بحاجزها، ولو أن الصدف أسعفتنا بكلمة تختلف عن هذه، لكان رد الفعل الاجتماعي عليها أقل استثارة وأخف عنفاً.
تتضمن الحداثة، وفي إحدى تجلياتها، القطيعة مع الموروث، وذلك ما يستفز مخزون الذاكرة التي تنطوي على أجمل منجزات الإرث الشعري العربي، بما فيها تلك الجذور التي أشار إليها "أدونيس" في شعر بشار، وأبي نواس وأبي تمام.
ينبني المصطلح في بعض جوانبه على مفهوم الهدم الدائم، للأشكال، والقناعات، وانقلاب تقاليد الحداثة على ذاتها - بحسب أكتافيو باث-، بما يحيل تجربة الكتابة الجديدة إلى مختبر شكلاني تأملي، منغلق على ذاته ومعزول عن بنيته النصية الكبرى المتوفرة على حركة مجتمع وفق شروط الزمان والمكان، ولذا فإن تيار الواقعية الأدبية، قد إطّرح المصطلح جانباً.
ولأن الحرية ضرب من ضروب مواجهة الضرورة وفهمها أيضاً، فقد كان هناك تواطؤ -غير مكتوب- على أن مضمون الشعار، أهم من الشعار، وأن قدر الجغرافيا التي احتضنت المقدس، وقدر السياسة التي قامت على خطاب النص المقدس، قد اجتمعا في بنية اجتماعية وثقافية، عالية الحساسية إزاء المستجدات، وأن على المثقف الواعي بظروفه الموضوعية، مهما كان حماسه للجديد، أن يتعامل مع الحقائق القائمة كما هي، لا كما يريد لها أن تكون.
بيد أن ذلك التواطؤ الضمني، جرت تنحيته أو القفز عليه، في منتصف الثمانينات، حيث بلورت رحلة التراكم، ملامح النص المضاد، الذي لا بد أن يعلن عن اسمه، عبر تطور أدوات شعراء السبعينات، وبروز أسماء جديدة متميزة، وتزامن كل ذلك مع ولادة التيار لنقاده الذين انتظرهم طويلاً، فخرج النقاد الأكاديميون - من يومهم الأول- من رتابة الدرس الأدبي خلف أسوار الجامعة، إلى معترك الكتابة والسجال في قلب الحياة نفسها.
وقد دشن السريحي مرحلة المراجعة ومساءلة المنجز وتعرية البنى القارة فيه، وانطلق محتفيا بالمختلف والمفارق في تجربة الشعر الجديد، وتبنى حداثة شعرية تنزع إلى ما بعدها، وألقى الغذامي حجراً ضخما في البحيرة الراكدة - بحسب العلي-، فأدخل النقد الألسني إلى غرفة العائلة، كما أسهم البازعي في تأصيل تيار الواقعية وإغنائه بثقافة النقد المقارن، وقد تميز بسعيه إلى خلق حالة من التعاطف الحميمية بين الشعرية الجديدة والجمهور.
أما الملحقات الأدبية، وخاصة ملحق عكاظ الأدبي، فقد احتفت بصوت عالٍ بهذا المخاض الصعب، وأطلقت عليه مسمى "الحداثة"، على الرغم من التباينات الواضحة في تحديد معنى المصطلح بين الأطراف العديدة التي أسهمت في تشكيل ملامحه، حيث لا يرى الغذامي - وفي معظم ما قرأته له، وخاصة في كتابيه، "الموقف من الحداثة"، و"النص المضاد" - إلى أن الحداثة "رؤية"، ولا يشير إلى الأبعاد الفكرية والفلسفية المتضمنة في تاريخية التسمية، وإنما يتعاطى مع المصطلح، باعتباره انفتاحا وتحديثا وتجديدا في لغة الشعر وفي بنيته النصية، كنص مغاير للسائد أو الموروث. ولعل ذلك الموقف يعود إلى طبيعة انشغالات المنهج الألسني نفسه.
أما سعيد السريحي فإنه يؤكد بشكل واضح، على أن الحداثة ليست كسر عمود الشعر وحسب، ولكنها "رؤية" تستهدف التأكيد على حرية الإنسان إزاء العالم.. وأن علينا أن نسلك بالتعبير السبيل الذي سلكته الرؤيا في ضرورة التجاوز والاستعلاء على النسق" (الكتابة خارج الأقواس ص 44). بيد أن في اهتمامه الكبير بقصيدة النثر، وما تحتفي به دراساته التطبيقية من تأكيد على الجمالي المختلف، والشعرية الصافية، التي تجافي أي تعالق بينها وبين المعنى أو الوظيفية الاجتماعية، ما يسمح لنا باعتبار السريحي يؤسس لمنحى ما بعد الحداثة وليس إلى الحداثة، حسب توصيفي.
وأما محمد العلي، فإنه يتفق مع من يرى أن الحداثة "رؤية" للكون وللإنسان وللحياة، ولكنه يقف ضد مفهوم القطيعة مع التراث حيث يقول، في حوار لمجلة النص الجديد معه:
"الحداثة - كما أفهمها- مصطلح عربي تليد، قبل أن يكون مصطلحاً غربياً. الغرب ابتكر حداثته وفق مقاييسه.. (أما نحن) فقد أدخلنا عليها مفهوماً غريباً أحالها إلى شبح مخيف بالنسبة للغالبية من مثقفينا وقرائنا. هذا المفهوم، هو أن كل حداثة تبدأ من (القطيعة) مع التراث، وهذا مفهوم خاطئ ومظلل.
إن الحداثة ليست شيئاً سوى (التطوير) والارتقاء على الذات، وانتقاء الإيجابيات في التراث، وتعميقها لإغناء الحاضر." (النص الجديد العدد الأول-أكتوبر- ص 93).
وقد ذهب سعد البازعي إلى أبعد من ذلك، حيث وسم كتابه النقدي الأول، بـ"ثقافة الصحراء"، للتدليل على عمق ارتباط شعراء الحداثة بهويتهم الخاصة من خلال توظيف الموروث الشعري العربي، والتراث الشعبي أيضاً في نصوصهم الحداثية.
ولذا يمكن الخلوص إلى أنه قد جرت محاولات خلاّقة أو ملتبسة لتبيئة المصطلح، أو "لسعودته"، وفقاً للمرجعية المعرفية لكل من شارك في جدل الحداثة في المملكة، وقد كاد سعيد السريحي أن يظفر بتأكيد مشروعية "سعودة الحداثة"، حيث سعى لتضمين البيان الختامي لملتقى الشعر الخليجي بالرياض في عام 88م، ما يؤكد هذا الأمر، ولكن حرس ابن قتيبة ونواب المؤسسة المحافظة، قد حالوا دون ذلك.
وبإيجاز، يمكن الذهاب إلى أن هذا الالتباس أو التشتيت المفاهيمي في التعاطي مع المصطلح وتطبيقاته، ليس ظاهرة شاذة أو غريبة، لأن المصطلح نفسه متعدد حتى حدود التناقض، ولأن البيئة الثقافية في المملكة، شديدة التعقيد بما يطال التعبير عنها ليصبح أكثر تعقيداً، عند مقاربة مثل هذا المصطلح الشائك.
غير أن صدمة المصطلح، وصراع المرجعيات المعرفية في حقل النقد الأدبي، قد خلقت مناخاً خصباً للحراك الثقافي والاجتماعي أيضاً، حول ظاهرة التجديد والحداثة، كما أنها حسمت الصراع حول مشروعية قصيدة التفعيلة، وأنتجت مرحلتها عدداً من أهم النصوص المتميزة، مثل "تضاريس" و"تغريبة" الثبيتي، و"هواجس" الصيخان، و"خديجة" محمد جبر الحربي، و"خبت" على الدميني، التي يمكن إضافتها إلى ما أبدعه محمد العلي، والشعراء الشباب من نصوص تأسيسية لخطاب الحداثة الشعرية في بلادنا.
وقد أفاد هذا الخطاب بشكل أساسي، من منجزات قصيدة التفعيلة العربية، مع تميز بعض ملامحه بالسمات التالية:
حضور المكان التاريخي في ثنايا الخطاب، لأن العربي حين يقرأ متن ديوان العرب، ولاسيما في نصوصه المؤسسة، فإنه يتخيل المكان الذي احتفت به قصائد العرب في الجزيرة العربية، ولكننا في المملكة كنا نتنفس هواء المكان ذاته الذي رسم أطلس الجزيرة، كما أننا وفي الآن عينه، ما زلنا نعيش في أكنافه.
يقول محمد الثبيتي في "التضاريس":
"...
وخيول ليلٍ أمطرت شبقاً على البيداء
فاحمّرت نبؤات البروج
وقوافل الدهناء صادية
إلى ماء السماء
.....
قد كنت أتلو سورة الأحزاب في نجدٍ
وأتلو سورة أخرى على نار ٍ
بأطراف الحجاز
قد كنت ابتاع الرقى للعاشقين
بذي المجاز".
تشكل ثقافة المتن الديني وخطابه، خلفية ثقافية لشعراء المملكة، ولذا رشحت مفردات وتراكيب وبلاغة ذلك المتن في خطاب الحداثة الشعرية في المملكة.
يقول عبد الله الصيخان في "الغناء على أبواب تيماء"
"وتيماء كيف،
وهداج، هذا السنونو المليح الكلام
توضأ في شفة الصبح
ثم أقام،
فقبّل كل العصافير ثم انحنى للزواريب
يلثمها
وفتش عن شفتيك
فكنت المواعيد منسية"
حيث انفتح النص الشعري، في بلاد الرافدين وبلاد الشام، ومصر، على أساطير، ومكونات حضارات مواطنهم القديمة، فإن خطاب الحداثة لدينا (في قصيدة التفعيلة، وقصيدة النثر معاً)، قد انفتح على استحضار، الشخصيات، والأمكنة، والرموز التاريخية، والدينية، بشكل كبير.
يقول عبد الكريم العودة في "وجه الشنفرى يملأ الأفق"
"صرنا نؤرخ فيك
ولادة أولادنا، ونهاية أعمارنا
وصرنا نطالع في الأفق،
يمضغنا الانتظار،
أما يتفتّح قبرك يا شنفرى؟"
الانهمام بتجليات الوطن الحلم والوطن المنتظر، وبروز كثافة تعالق المرأة بالوطن، والوطن بالعشق، وبالمنقذ.
يقول محمد جبر الحربي في قصيدة "خديجه"
"جاءت خديجة
طلعت فتاة الليل، من صبح الهواء، فأورقت تيناً وزيتونا
وألقت للنخيل تحية الآتين من سفرٍ، فأورقت الوجوه (شقائقا)
ونمت حبيبات الندى مطراً على تعب القرى، قمراً على
الباب العتيق لعالم نسي الحديث الطفل، والكلم المذاب
..
لهفي على وطنٍ يغادرنا
ليسكن في المحافل والفنادق
تترك الصحراء أنجمها
وتبحر في ملفات العويل".
ظاهرة التناص، أو "التعالق النصي" بحسب الدكتور علوي الهاشمي، الذي أضاء هذا الجانب في كتابه الهام بنفس العنوان، وبروز هذه السمة يعبر عن محاولة الشعراء لتأكيد الهوية والانتماء، وربط طرفي الحداثة والتراث برابط استحضار مكونات التراث وبلاغته في تبديات الشعرية الجديدة.
(والأمثلة في ذلك لا حصر لها، ولعل أبرزها ما تجلى في قصائد أحمد الصالح)
محاولة التغلب على سطوة "الثقافة الشفوية" - بحسب الدكتور البازعي- التي تتطلب وضوح الرسالة، والنبرة العالية للإنشاد المنبري الموجه إلى جمهور مضمر، وذلك من خلال السعي لبناء شعرية السرد والإنشاد، واستخدام التفعيلات الشعرية القادرة على رفع درجة حضور الموسيقى في النص، وتوجه الخطاب إلى المستمع، وتبطين الكتابة بانفعال وجداني عالي الحضور (الغنائية).
انفتاح النص الواحد على خطابات شعرية أخرى من العمودي والشعبي والنثري، وبروز الطابع التركيبي في النص.
(ويمكن ملاحظة ذلك في قصائد الحميدين، والثبيتي وعلي الدميني)
وقد هيأت فاعلية النص المضاد، المناخ الثقافي لاستقبال قصيدة النثر، حيث واصلت فوزية أبو خالد ومحمد عبيد الحربي مسيرتهما الشعرية لتبيئة قصيدة النثر في فضاء اتسم بمعاداتها، حتى من داخل سياق التجربة الشعرية الحداثية ذاتها، وقد أشار محمد عبيد الحربي إلى ذلك في أحد نصوصه:
"لقد أصابنا اليتم
من كثرة آبائنا
ومن نحيبهم المتواصل في الليل".
مجزرة الحداثة:
لم يتوقف التيار المحافظ لحظة واحدة عن هجومه على تيار (التحديث/الحداثة) في السعودية، وقد أصدر احمد عقيلان في مطلع الثمانينيات، بياناً مضاداً شاملا، في كتابه "جناية الشعر الحر". ولأن الباب كان مفتوحاً لحظتها للرد على ما جاء في ذلك الكتاب من آراء، فإن سجالاً واسعاً قد جرى حول مضامينه، وأصبح مجرد حوار ثقافي يجوز فيه الاجتهاد مثلما يجوز فيه الاختلاف.
كما أن نفس التيار قد نجح في إيقاف جريدة اليوم لنشرها قصيدة في ملحقها الأدبي "المربد" عام 77م بعنوان "مزقيه"، والضمير هنا يعود إلى البرقع، ورغم أن تراثنا الفقهي يتضمن ما يجيز كشف المرأة لوجهها، فقد أُعتبرت تلك القصيدة انتهاكاً للمحرم.
ونتيجة للتقاسم الوظيفي للسلطة بين التيار المحافظ مع الدولة، فإن هذا التيار كان يحظى بكافة التسهيلات، غير أنه ومنذ مرحلة مبكرة من عقد الثمانينات، بدأ في تشكيل تياراته وأحزابه السياسية لإقامة دولة الخلافة، وقد هيأت الدولة له - من حيث لا تقصد- البنية التحتية الشاملة للتغلغل في مفاصل المؤسسات الحكومية والجامعية والتعليم العام، باعتباره حليفاً تاريخياً وأيديولوجياً.
وعلى ضوء غياب المنابر السياسية وجمعيات المجتمع المدني في بلادنا، فقد أصبحت الساحة الأدبية منذ منتصف الثمانينيات، مجالاً للتعبير عن الحراك الثقافي والاجتماعي والسياسي، لكافة القوى والتيارات الثقافية، فاختطف السياسي والإيديولوجي المتشدد الساحة الثقافية، كما رفع التيار المحافظ من درجات شغبه ضد تيارات التجديد/الحداثة، عبر وسائل عديدة، منها استعداء الدولة، وإقامة الندوات التحريضية، واختلاق الشغب في الملتقيات والندوات التي يشارك فيها رموز تيار التحديث/الحداثة، ومن خلال دعاية أشرطة الكاسيت، ومنابر المساجد، وقد تم تتويج كل هذا الجهد المبرمج، بإصدار كتاب "الحداثة في ميزان الإسلام" والذي اشتمل على تأويلات شتى، لنصوص شعرية ومقالات أدبية، تضع كاتبها في موقع المرتد أو الكافر.
لقد أشعل هذا الكتاب حرائقه في أرجاء الوطن، وحاول وأد تجربة ثقافية وليدة، وغدت أعشاب الأدباء وليمة لطلاب العلم، وكانت هذه المعركة - وهذا هو المهم- خطوة تجريبية أولى لتيار الصحوة، لكي يجمع محازبية حول قضية ملموسة، لا يتصادم فيها مع المؤسسة الرسمية، بينما تتاح له الفرصة لاختبار قدراته وقوته ونجاحاته أمام الجميع (السلطة والمجتمع)، وأن يحشد كافة طاقاته لانتظار اللحظة المواتية للانتقال إلى مرحلة المواجهة مع الدولة.
وماذا كان موقف المؤسسات الرسمية من كل ذلك؟
لم يكن أكثر من تعاطف حانٍ مع التيار المتطرف، ومع ما كاله من تهم تنتمي إلى زمن الإخوان و معركة "السبلة"، فأوصدت الملحقات الأدبية باب الرد على ما تضمنه الكتاب - بأمر من وزارة الإعلام-، وقامت بدعم عمليات المضايقة لأبرز كتاب ومبدعي التحديث/الحداثة، في أعمالهم ومواقعهم، فتم حرمان سعيد السريحي من نيل درجة الدكتوراه بعد اجتيازه لمعركة مناقشتها في جامعة أم القرى، واضطر الدكتور الغذامي إلى مغادرة جامعة الملك عبدالعزيز بجدة إلى الرياض، وتم تحويل الأستاذة الجامعية، فوزية أبو خالد من عملها كمحاضرة في جامعة الملك سعود بالرياض، إلى موظفة أرشيف، وتوقفت الأنشطة الثقافية، التي كانت تشارك فيها المرأة عبر الدارة التلفزيونية (الحجاب الالكتروني بحسب عبد الكريم العودة) في الأندية الأدبية، والجمعيات الثقافية، وسادت الوطن حمى التكفير، والتحزب الإسلاموي، فصمتت الأقلام، وتراجع بعضها، وهاجر بعضها إلى داخل الذات، ولم يبق فاعلاً منهم إلا المؤمنون.
لقد تحالفت المؤسستان (السياسية والدينية)، لتحجيم رحلة الإبداع الجديد، وقامتا معاً بوأد مشروعية الحوار، وتأسيس خيارات التعدد الثقافي في تلك المرحلة، لتصلا معاً إلى الأفق المسدود حين بدأت نذر الاختلاف بينهما تسفر عن ملامحها منذ دخول القوات الأمريكية بلادنا في حرب الخليج الأولى وحتى اليوم، حيث خرج المارد المدلل من مكمنه ليبدأ عنفه المسلح في كل أرجاء البلاد.
رابعاً: آفاق ما بعد التسعين/ما بعد الحداثة
قصيدة النثر وتركي الحمد:
تضافرت العوامل المحلية والعربية والعالمية، في توقيت تراجيدي، لتزف مشاريع الدولة العربية الحديثة، وأحلام الفكر القومي والتقدمي العريضة، وجنة وعود الماركسية، في جنازة مهيبة إلى المقبرة، ولم يصلِّ عليها -إلى حين- إلا قادة المعسكر الرأسمالي، بزعامة قطبها الأوحد.
وحيث لا يجوز التعميم، فيما يمكن أن يكون احتمالاً، فإنني أتحدث عن تجربتي الشخصية، هنا، وأسجل إحساسي بهزيمة الحلم والرؤية معاً، مما ألقى بظلاله على بعض قصائد ديواني الثاني، "بياض الأزمنة"، ومنها قصيدة "معلقة الطائر الجاهلي".
ولأنني، وبعكس الكثير من الشعراء، لا أجد فرديتي أو ذاتويتي إلا في استبطان صوت الجماعة، صوت الوطن، صوت البحث عن مثالات الحرية والعدالة والجمال، فإنني، حين انكسر مخيال تلك الأقانيم الذهبية، اتخذت الصمت والمراجعة، والحزن ملاذاً لا مفر منه، وكان صوت الجماعة المنكسر في أعماق تفاعيل الشعر العربي، يدفعني للقول:
شربت من ظمأٍ جارٍ فما انتجعت
أفراس روحي ولا نوقي العصافيرُ
إلا إلى غابةٍ أحسو حرائقها
وتحتسيني على الوهم القواريرُ
ماذا تبقى من الوجد الذي انفطرت
عروقه، وارتوت منه الأساطيرُ
قد كنت أبحث في صحرائه عُمُـراً
عن ناظريَّ فخانتني التصاويرُ.
وفي مناخ انغلاق الأفق، أمام استعادة صوت الثقافة الجديدة في المملكة، ذهبت مع آخرين إلى إنشاء منبر أدبي صدر من قبرص بعنوان "النص الجديد"، أسهم في إشاعة ثقافة الحوار والتعددية، حتى استعادت ساحتنا أنفاسها، بعد انجلاء معركة الغبار، وتجفيف دماء المتضررين من "مجزرة الحداثة".
وحين أُطلّ على مشهدنا الأدبي اليوم، فإنني أرى ازدهار الحركة النقدية تنظيراً وتأصيلاً، وألحظ حضوراً بارزاً لقصيدة التفعيلة وقصيدة الشعر الشعبي الحديثة، كما أرى نزوعاً جارفاً باتجاه كتابة الرواية كادت معه أن تتبوأ مكانة الشعر كديوان معاصر للعرب.
وإذ يشير هذا التورط الجماعي في إنتاج الرواية، إلى تطورات السياق الاجتماعي، وبداية التشكل المديني لطبيعة الذائقة، (في مجال الحرية والتعددية)، فإنه يهمني التأكيد هنا على الاختراقات الهامة للتابوه الاجتماعي في روايات القصيبي، وتمركز تلك الاختراقات بشكل لافت ومؤثر في روايات تركي الحمد، التي غامرت بجرأة لمقاربة التابوهات الراسخة، (الجنس، السياسة، الدين)، لأنه بذلك قد استطاع رفع سقف حرية الكتابة بامتياز، عبر ما تضمنته رواياته الجريئة، من نقد حاد لمكونات الحداثة وما قبلها. و لعل تلك الشجاعة بحد ذاتها تشكل عنصراً جمالياً عالياً، أسهم في إغناء المشهد الحداثي وما بعده تحديداً، حتى وإن اختلفنا مع بعض مضامينها أو في تقويمنا الفني لها.
أما حين أركّز زاوية النظر على مشهدنا الشعري اليوم، فإنني أرى الغياب الفادح لشعراء التألق الثمانيني، (في التفعيلة والنثر)، ولعلهم يشاركونني جدل المراجعة، والتمرن على مقاومة الانكسار، والبحث الجاد عن حداثية "الفعل التواصلي"، بحسب هايبرماس.
كما أرى أن المشهد يعيش حالتين متضادتين معاً، أولاهما، ضمور فاعلية الحراك الثقافي في أبعاده المعرفية، داخل خندق الحداثة نفسها، وفي علاقتها بالآخر. وثانيهما، انكسار الممانعة الاجتماعية والثقافية لأنماط الكتابة الشعرية، حيث تبدو ساحتنا الثقافية اليوم أقرب ما تكون إلى القبول بتعددية الخطابات الشعرية وتعايشها، ولعل ذلك يعود - في جانب مهم منه- إلى أن الحراك الاجتماعي بوجه عام، قد وجد مجال انشغالاته خارج الوسط الأدبي، كما أن بعض التيارات المحافظة المتطرفة، قد تفرغت لمعاركها السياسية والتكفيرية، عبر ممكنات التعبير البديلة في المنابر ومواقع الانترنت، واستخدام عنف السلاح، وفي الشارع ذاته.
وحين أذهب إلى القول، بأن الشعر العمودي كان نتاجاً وتعبيراً عن صوت القبيلة، وأن شعر التفعيلة كان مخاضاً للخروج من مؤسسة العلاقات القديمة صوب تشكيل علاقات جديدة يأخذ فيها الشارع، بتنوع مكوناته المدنية، موقعه في إنتاج النص، والتفاعل معه، فإن قصيدة النثر تصبح تعبيراً عن شعر المدينة، - حسب البازعي- حيث يتجاور الناس بعيداً عن انتماءاتهم القديمة أو الحديثة، ويستقل الفرد فيها بمؤسسته الخاصة، وتغدو الذات المفردة هي منبع الرؤية ومناط التعبير والاستهلاك أيضاً.
ولعل من الواضح إن جملة التطورات والخضات التي نعيشها منذ نهاية التسعينات، قد أسهمت بشكل كبير في تبوء قصيدة النثر موقع الصدارة الشعرية من حيث الكم أولاً.
ولأن تقاليد الحداثة كما يقول باث "هي تقاليد تنقلب على ذاتها بدعوى ضرورة القطيعة"، فإن قصيدة النثر تؤسس لخطاب القطيعة الذي يخلص للنزعة الفردانية الكامنة في مصطلح الحداثة نفسه، ويمده إلى أقصى مدى حين يغدو الكون الشعري المنجز عالماً مكتفياً بذاته، يوازي الوجود العياني وينفصل عنه، وحين يصبح تأملاً جمالياً خالصاً يحفل بالمهمل والمهمش والمسكوت عنه وحسب، ويقوم بقطع صلته بالرؤية الشاملة التي بشرت بها الحداثة.
وباستعادة ما أسلفنا الحديث فيه من قبل، حول تعددية معنى الحداثة، وما بعدها، فإنني سأصف الشعر المنتمي للحداثة بقدر انحياز رؤيته إلى العقلانية، والحرية، وقيم العدالة، والمساواة، والانتصار لحركة التقدم الاجتماعي، والرفع من مكانة المرأة، فيما سأصف الشعر المنتمي دلالياً لحساسية ما بعد الحداثة، بقدر ما تعلنه بنيته النصية من علامات التشظي والتشتيت، والمجاورة، وموت المعنى، وغياب بوصلة الرؤية الاجتماعية.
ولذا فإن هذا التفريق بين مصطلح الحداثة وما بعدها، سيطال شعراء يكتبون قصيدة التفعيلة مثلما سيطال شعراء يكتبون قصيدة النثر، حيث يغدو الماغوط وفوزية أبو خالد حداثيين رغم انتمائهم لفضاء قصيدة النثر، حيث تقول في قصيدة - تنتمي إلى الحداثة وليس إلى مابعدها - بعنوان "إلى متى يختطفونك ليلة العرس" في ديوانها الثاني
" أدخلي دمي وتوضئي
فلا يجوز التيمم إذا حضر الماء
اخلعي نعليك
وأعيدي في الكفين
وفي القدمين
وحول السرة
رسم الحناء
أخلع عليك الليلة
أبهى ما حمل هذا الوطن من أسماء
اسميك طفول
أسميك خديجة أو سارة
أسميك العذراء
لا تعرف غير عيونك
ماذا يعني أن يكون للمهر الجامح وطن
يأوي إليه كل مساء "
والواقع، أن خطاب قصيدة النثر الجديدة في العالم العربي وفي بلادنا، قد انحاز بامتياز إلى شعرية ما بعد الحداثة، أي إلى المرقى الأشد صعوبة، رغم ابتذال الكثيرين لسهولة كتابتها.
وإذا ما تعاطينا مع الضرورة الموضوعية التي اقتضت مفاعيلها تصدر قصيدة النثر للمشهد الشعري في بلادنا، وكتابتها ضمن أفق ما بعد الحداثة، فإنني أستطيع القول بأن عدداً من شعرائها المتميزين يعبرون عن حركة شديدة الثراء والاختلاف والتجاوز، ويقفون مع نظرائهم العرب في نفس الموقع، بل يتفوقون عليهم في الاحتفاء الشديد باللغة.
وأنهم بذلك يدشنون مرحلة الكتابة الشعرية التأملية لا الانفعالية، التي تحتاج إلى حساسية عالية وثقافة غنية، ولعلهم يحلمون - وهذا من حقهم- مع سواهم برسم ملامح شعر إنساني وعالمي، متعالٍ على الهوية الضيقة والخصوصية المنغلقة، وهذا ما يتصادى مع الأبعاد الفكرية والثقافية لمكونات ما بعد الحداثة.
وإذ يفتقر هذا التيار في بلادنا إلى نقاده القادرين على الانشغال بحميمية على نصوصهم وتجلية ينابيعها الجمالية، فإنه يفتقر إلى جمهوره، رغم الجهود النقدية التي تعمل بإخلاص في هذا الحقل، مثل محمد العباس، وعبدالله السفر ومحمد الحرز.
ورغم أن إغراق الشعراء في كتابة النص التأملي المتشظي البعيد عن الهم الاجتماعي، سيسهم في تقلص دائرة قراء الشعر، حتى لتنحصر على منتجيها، إلا أن ذلك الأمر لا يبدو مهماً البتة بالنسبة لشعراء ما بعد الحداثة!
أما بعد..
فقد أثقلت حديثي بصفات القيد بدلاً من توصيف تجليات الحرية، وانشغلت بالحاضنة أكثر من الانغماس في متعة تأمل الوليد، ولكنني أردت من ذلك الإشارة إلى مراوغة مصطلح الحداثة وتداخلاته مع مفاهيم التجديد، وأن أسهم في اشتباك شعر الحداثة بما بعدها، ولكي أكون - شخصياً- أكثر دقة في ربط الصفة بالموصوف، ولكي أوضح لماذا كان محمد حسن عواد رائد النزوع نحو الحداثة، وأن محمد العلي هو رائد الحداثة الثقافية في بلادنا.
كما أنني أردت من جهة أخرى، إغناء شهادة شعرية سابقة لي بعنوان "لست وصياً على أحد".
فاسمحوا لي الآن، للتأكيد على أن حديثي كان سرداً وصفياً لم يتغيا إطلاق حكم القيمة، بقدر ما تغيا تحديد مفاهيمي الشخصية للمصطلح، وتوثيق حراك مرحلة ثقافية خصبة من مراحل تطورها في بلادنا، وأن أقول مرة أخرى، الآن، وهنا، بأنني "لست وصياً حتى على نفسي
قدمت هذه الورقة في ملتقى أسرة الأدباء والكتاب في البحرين، 15-12-2003م
***
الهوادج
ما تبقى من العمر إلا الكثيرْ.
ما تبقى من العمر إلا الكثير،
فماذا أسمي البياض الذي يتعقّبني
غازياً أم أسيرا؟
قم من الليل، يا لابس الخيل كيما ترى
أفقاً
ناسكاً ونهاراً طهورا
إن قلبي ينوس وحيداً وقد فارقته البواكير
واستخلفته
الأساطير
ينزف ماء الزمان على الساعة الجامدةْ
واحدةْ:
كانت السنوات تعبّ العشيّات حتى شربنا
على ظمأٍ
جمر ذاك الضباب العفيف.
واحدةْ:
صارت السنوات تغرّد في متن غربتها
وتبيح لنا من يباس سفينتها بيرقاً،
وتدندن ساعاتها
في الفناء الرهيف،
* * *
ما تبقى من العمر إلا يسير يقود يسيرا
قد خبرت المدينة.… أبراجها واحداً واحدا.
افترشت حصاني على بابها حينما لم أزل
نطفةً في الأزل
وتخيرت أجمل أسمائها
من هديل الحروف
ومسّ القبل
قد عرفتُ المدينة … أنهارها والحصى
ودعوت النخيل بأحرفه اللّينات وباركته
شاهداً شاهدا
فاشهدوا أنني:
قد تحملت من وجد عشاقها ما تنوء به الذاريات
ورأيت الذي لم ير الأولون ولا علم الآخرون.
إذ سقيت بوادي القرى شربةً مست العظم حتى اكتوى
واغتوى القلب من غيه ما اغتوى
وتبدّت لي الفاتنات ثمانين حولا
فلا أنا مستوثق من جنوني
ولا أنا عن حبهن (أُرعوى(
يا نساء المدينة اخفقن كالطير مبهمة في البكور
وملهمة في السرى،
قد تلبست منكن حرقة عيسى الصحارى وإبل القرى
فأنا مهلك ناقتي بينكن على ملأٍ لأرى.
وأنا مستعيذ من الشدو بالصمت
مستمطرٌ ديمةً أربعت، ورياحاً تسوق هوادجها البدوية
في الماء،
طالعةً من عروق السحاب، ونازلةٌ في متون اليباب،
فلا كنت أول من نظر النجم يأوي الى ظلّها
ولا كنت آخر من أبصرا.
فإذا خاضت الناس في القول
واستأنست زمناً أخضرا
أعشبت طفلة الروح،
وانفلقت حبة الصبح
بين يديّ، فأطلقها
غضةً بضةً
تصف الكون باللون،
والتمر بالمن،
والراح بالروح،
تكتب بيني وبين بنيّ المواثيق
حتى إذا ما تغشّاني النوم
ملت إلى القلب في دعةٍ
ودعوت لنسلي بمغفرةٍ
واسترحت لحرقة مجد الكرى
* * *
ما تبقى من العمر إلا و …إلا
ما تبقى من العمر إلا بياض الصبايا يلوّح للطير
أنا اهبطي من علٍ
واشربي باقيات يقيني
ما تبقّى سوى رعشة الثوب في بدني،
واختلاج الأعنة فوق جوادي،
وكأس حنيني.
ما تبقى من العمر إلا التي راودتني صغيرا،
اتعبتني كبيرا،
البلاد التي.
. . . . . . . .
. . . . .
. . . .
. .
سأغني لهودجها البدويّ،
وأرقص بين يديها ومن
خلفها
مبصراً وضريرا.
***************
أرشيف
مثلما يحدث في الموتِ،
إذا غادرت للخارج، ِ فاضت
رحمة الأرشيف والذكرى
وغطّت صورتي
ظل الجرائد ْ
*****
لوحة
في الفصل الأول من باب الألوانْ
نبتت في أغصان اللوحة امرأتانْ
قالت لي الأولى:
حين أرى أوراق الشجر العاري
يورق في ذاكرتي ظلُّ اخضر ...
هل ترسمني؟
سألتني الأخرى:
حين أطلّ على الساعة في الميدان ْ يحضر موعده الأبيض، قبل وصول الباص ،
فهل ترسمنا؟
قلت لها : يا سيدتي ، وأشرت إلى الأولى ،
حين أرى خطو امرأةٍ في الشارع
تحضر في ذاكرتي فتنة سوطٍ أسودَ يحمله بعض الجيران !
وصــية
لم أقل لأبي في الصبا ما يُسِّرّ الفتى لأبيهْ
وبأني تقوّيت بالمفردات لأعلو على كذبي
بخيال الصبّي النـزيه
لم أقل قد رأيت فؤادي يطير بلا أجنحةْ
وبأني غداة عدى الذئب في غنمي
كنت أبحث عني ،قريباً من الغيم فوق البيوتِ،
وخلف ارتعاش ثياب الصبايا على " الأسطح "
لم أقل كان يتبعهن فؤادي فأسلمتُ مزرعتي للجرادِ،
وإذ جئتني غاضباً قلتُ يا أبتِ :
كيف أحمي الحقول وقلبي بلا أسلحة!
يا أبي لم أقل خانني بصري إذ رأيت الصبايا سواسيةً
يتحدّرن من جبلٍ في السماءْ
يتقاطرن من مطرٍ صاغ أصواتهن فماً
يتكلّم حين تنام النجوم ، ويغفو الهواءْ
وإذا أفسد الليل غاباته
جئن لي بالمصابيح ،حتى أفاق " جنوني"
و أشعلنني بالغناء ْ
ونحتن بأعشاش قلبي قواريرهن
و زوجنني
لفراغ البكاءْ .
يا أبي حين هيأتني لافتراع المياهِ،
وساءلتني: أي ليلٍ ستبني به وطناً للصغارِ
وأي صباحٍ ملثّم ؟
قلتُ:كل النساء سواء
كل واحدةٍ تشبه الكلمات التي لم تلدْ بعدُ ،
أو تتكلّمْ
والزمانَ الذي لا يشيب ولا يتهدّمْ
والنخيلَ المغطاةَ كل صباحٍ بأشباه مريمْ.
يا أبي لم تُعني لأختارَ،
أو تمتحني لأحتار ،
أو تكسرِ الوهم كي أتعلّم
يا أبي
مذ دخلت المدينة أدركت أن الفتى
غارق في "مجاز" النساءْ
لم أقل: أي امرأةٍ سوف أُثقل أوصافها بفمي ،
وأدوّنُ في متنها سفري ،
وانتحاري السعيدْ
أيهن ستسرج في ليلها قمري ،
وأصير فتاها الوحيدْ
لم أقل هذهِ شبهيْ
سوف تكمل جملتُها باب بيتي،
وأصواتهُا سلّمي في الموسيقى، ولم
أتمرّنْ على ما يدلّ الفتى في المساء إلى نفسهِ،
أو يوجِّجُ ثلج الجنوب ببادية الشام ،
أو يتخلّقُ في المبتدأ،
خبراً للقصيد.
يا أبي خانني ما توهّــمتُه في الصبا
حين خلت النساء سواء
: اللواتي ملأن كتابي بأوصافهن
واللواتي تخفّين في ضعفهن
واللواتي
حذِقن التشابهَ
حتى عشقت السواد الذي يشبه الأصدقاءْ .
ولهذا
تفرّق قلبي هوىً في القبائلِ
من ذا يدلّ عيوني عليه؟
يا أبي لم أقل في الصبا ما يُسِرُّ الفتى لأبيهْ
و هنا سأُسِرّ لأبني بما أنا فيهْ !!
*****
حــــالات
1- الطائر
رهيف الهوى سيّدٌ
وعينٌ ترى ما يلي
تخضبت بالكائنات
وقاسمتها قاتلي
يشاغبني وجهها
واصفو قلا تنجلي
ملئُ بما ليس لي
أن الطائر الجاهلي
2- ملاك الصّدُ ف
يا ملاك الصدفْ
كيف لم نختلف؟
أنت عرّيتني من صبايَ، وهيأتني حارساً للمسرّاتِ
في كل هذي الغٌرَفْ
وأنا كنت رمحك في الصيد
لكنني دائماً لا أصيب الهدفْ!
2- هكذا
هكذا دون وهمٍ ولا ادعاء
دون مرثيةٍ لامعةْ
يتقدّم نحوي هواءٌ من القشّ أبيضَ،
يلمس شَعْري،
ويعْلَق كالثلج فوق جفوني
وإما أهشُ على ظنهِ بفمي
تتحدّر عني السنون وتذهب في إثرهِ طائعة !
3- مسائل صغيرة
قيل ما يحزنك اليوم وقد حر الصيد، من أحلامه الأولى،
وهيأت التوابيت لبيت القدس، و الأمة،
وانحزت إلى نفسك سلطاناً على الصمتِ،
وبواباً على الذكرى،
فما يخرج منها غيرُ ما يُضحكُ أقرانك في الليلِ،
وما يجعل من سيرتها نصاً ضبابياً،
ومن أطرافها "فيلماً " من الكرتون
يلهو حوله الأحفادْ؟
قلت: لم أروِ لهم عن فتنة الصيد،
وعما يدهش الصيّاد!
قيل ما يُطربُ عينيك ولم تبرح جنوب الماءْ
لم تشرب من البئر التي تهوى
وقلبك، ذابلٌ ظمئٌ،
فما يروى ،
ولم تبصر من الأحلام إلا موتها المائل في الأصفادْ ؟
قلت:سحرُ الوهم في ما يشبه الميلاد
قيل ما يُثـقلك الآن وقد قاربت من خمسينك الأولى،
وما زلت غلاماً صالحاً للذبح في الأعيادْ؟
قلت: قرناي جميلان وأخشى أن يراني عارياً،
دونهما، الجلاّدْ.
***
دخل الروائي والشاعر علي الدميني إلى زنزانة سعودية منفردة وكالة عنا جميعا وعن كل حبة رمل في الصحراء العربية وعوقب بتهمة التخيل المفرط والحلم بغد ديمقراطي وتحويل الخيمة إلى مساحة من الأمل والشراكة والحكم والملكية والفرح البهي.
تهمة هذا الروائي هي التهمة الأزلية المتكررة عبر قرون من الكبت والخوف والردع والزجر والحجر، وفي كل مرة تعاد هذه التهمة وتتجدد خاصة وأن هناك من يجددها، سواء المؤسسة المتخلفة، الباطشة، أو الوعي المتخلف المحتفل بكل ما هو رث وقديم وهابط.
جريمة علي الدميني هي التوقيع( على وثيقة الإصلاحات الديمقراطية في المملكة!) لا أكثر ولا أقل. ولا أدري كيف وقع هذا الشاعر والروائي في هذا النوع من الفخاخ وطالب القبيلة بأن تتحول إلى دولة شرعية، والسيف إلى حديقة ورد، والسلطة إلى شراكة، والثروة إلى سعادة عامة، والأمل الفردي إلى أمل جماعي، ودولة الشرطة إلى دولة قانون؟
لكن من هو السجين في الزنزانة السعودية الآن؟ الروائي أم المؤسسة؟ السلطة أم المخيلة؟ الحكاية أم الخنجر؟ القبيلة أم الحلم؟. قد لا تكون مساحة الزنزانة كافية لكي يتمدد فيها الروائي، وقد لا تكون، كما في كل زنازين العالم المتخلف، كافية للحركة أو حتى للحاجات العضوية، لكنها بدون أدنى شك أوسع وأجمل وأنظف وأرقى من كل قصور الخليفة وقصور الحاشية، والروائي من داخل زنزانته أكثر حرية من سجانيه ولو كانوا يقضون عطلاتهم الربيعية في جزر وسواحل وأدغال بأموال علي
وغيره من فقراء المملكة التي بدأت تتحرك فيها الرمال العربية يوما بعد آخر ولا أحد يستطيع أن يوقف اجتياح الورد والأمل والخيال والتطلع والحق والنور لشحوب الصحراء وشحوب القيم وشحوب الحكام.
ليست حكاية علي الدميني حكاية جديدة، وأجمل ما فيها أنها ليست كذلك، بل هي حكاية الأمس واليوم وغدا: وفي كل مرة تنتصر الحكاية والحلم والمخيلة على السلطة، وتنهزم القبيلة أمام النص، وتنتهي الخناجر إلى النسيان أو المتاحف وتظل الحكاية تلمع عبر العصور مثل نجمة المساء.
كما أن الحملة على الروائي في عالمنا العربي ليست هي الأخرى حدثا نادرا، بل هو الحدث الذي لا يكاد ينسى حتى يأتي من يجدده لنا، من حسن الحظ، تحت شعارات وبراقع وحجج بل تحت قيم وأخلاق لا صلة لها بالقيم الإنسانية الصافية ولا بالأخلاق النقية والعادلة والمشروعة.
وقد يكون سرا من أسرار العوالم الداخلية للروائي وجزءا جوهريا من مكونه النفسي والثقافي والجسدي هو التدريب المبكر على مثل هذا النوع من السجون والحملات والهتافات الهمجية، وهذا خطأ بل سذاجة أعداء الروائي: هذه السجون وهذه الحملات تنفع مع السياسي لأنه مشغول برأي الجمهور، وخائف من كل ما يقال أو لا يقال، وعينه على صندوق الاقتراع، والمصفقين، والمزمرين، والهتافين، لكن الروائي على سكة أخرى: الروائي صانع أحلام مضادة!
قبل علي الدميني كانت الكاتبة والأخت والصديقة نوال اليوسف قد دفعت ثمنا باهظا لأنها هي الأخرى نست في غمرة فرح السجن الذكوري الملكي الصحراوي الأبوي التقليدي أنها قادرة على أن تهتف، ولو من تحت ستار أو نقاب، أو من تحت الأنقاض، بل من تحت القبر، بحرية التنفس والضحك والنوم والخبز السعيد والتجول حرة في شوارع وبين بشر أحرار. لكنها أعيدت في لحظة واحدة إلى وضعها السابق، وضع الحريم، وحرمت من العمل، وهي أم لأطفال، وتركت وحيدة تموت ببطء بين قوانين الذكورة، وسلطة الرجل مالك العصمة، تنادي من خلف السور طالبة النجدة، لكن لا أحد يسمع صوت نوال ولا صوت علي، فكل واحد منا يعيش في سجن خاص بناه الآخرون، أو بناه هو بنفسه وأقام فيه بتلذذ مرضي وشعور بالرضا والقناعة يشبه شعور الأبقار بالطمأنينة قبل الذبح!
كل رسالة تصلني من نوال اليوسف مستنجدة للخروج من سجنها العائلي والنفسي، تجهض عندي قارة من الأحلام والآمال والطموحات والصور النظيفة، فأبشع شيء هو أن ترى غيرك يغرق، على مسافة منك، وأنت العاجز إلا من الصراخ والنجدة والنخوة وإثارة أخلاق التضامن التي لم يسمع بها المثقف النرجسي ويجهلها تماما أكثر مما يجهل نفسه ومحيطه وعالمه وعصره وثقافته.
مشكلة علي الدميني، ونوال اليوسف، وقبلهم سيد الصحراء ومتمردها الذي خرج سرا من الرمل وعاد سرا ومات سرا، عبد الله القصيمي، وكل سلالات التمرد والعصيان، هي مشكلتنا جميعا، مشكلة التحليق الفرح تحت سماء زرقاء تشبه الحرية، لكننا نكتشف في غمرة الطيران والغناء والسرور والعفوية أن الأرض بنادق ورصاص وسجون ومصائد وقصدية، فنرتطم بالحجر أو الرمل أو الحلم، ويسود المدينة خريف شاحب، والدروب مغلقة بحراس النوايا!
***
تشخيص الفضاء/ تناص الحلمية في
رواية (الغيمة الرصاصية للشاعر
علي الدميني)
غالية خوجة
(سوريا)
كيف صعد بنا النص الروائي (الغيمة الرصاصية) عموديا.. وذلك عبر تكويناته التي أعادت توزيع الملفوظ ودلالاته من خلال الهدم والبناء، ومن خلال إضافة الحلم وتشخيص النص واللغة...؟
يغامر الشاعر ( علي الدميني) في نصه الروائي، فيجعل سلطة النص تقبض على عالمها وعلى مبدعها وعلى قارئها. واللافت في هذه التجربة، هو ذاك الفضاء الحلمي لذي ظهر كوحدة دلالية تحت لغة الرواية..، الفضاء المشخص بشكل إشاراتي، كونه الشخصية الوحيدة المتحررة من النص والمتحركة ضمن احتمالاتها المتفردة التي أخذت فيما بعد شخوصا مختلفة أهمها النص كشخصية عائمة.
وما بين الشخصيتين اللامرئيتين (الفضاء الحلمي/النص ) انشطرت (أنا) الرواية الى (علي / سهل الجبلي ) كانقسام يجد منعطفاته في شخصية:
- (عزة ): الجزء المنتظر من رواية لم تكتمل.
- (نورة ): الجزء الظاهر من الجزء المنتظر.
- ( مريم ): التداخل التواصلي لكل من عزة ونورة.
ارتكزت الرواية على أسلوب فني غير عادي جاور نفسه وحاورها عبر المتون والذاكرة.. وكأنه يبتكر ألواحه الطينية من تلك الرموز المتضادة ليس من أجل التناقض وحده، بل، لكي تحقق ما وراء الصراع رغبة منها في تنمية الفعل الدراماتيكي للدلائل المبنية على متصالحات منسجمة تتخاصم في الجسد المكتوب لتتواءم في الجسد اللامكتوب.. الكويت،أضمرته فصول (عتمة المصابيح ) وتدرجاتها المنسولة بين (وهج الذاكرة ) وبين السر ديات المتقاطعة النابهة من أعماق (سهل الجبلي / زوجته /علي ) والمنعكسة على اللحظات الداخلية والموضوعية الموصوفة بتقنية مازجة للمكانية الواقعية (البنك: كمكان عمل الروائي، محطة أم سالم. الكويت ، العراق ، الدمام ..) بالمكانية المتخيلة (وادي الينابيع، وقراه، وطبيعته، وقلعته، ومياهه و...).
لا.هي (عزة ) تخرج من النص.. لا ... لتدل أهل وادي الينابيع الى مكان السد، بل، لتنسل من مسودات قصة الدميني الى حياته الخاصة، ثم لتمارس حياتها الأخرى في الأمكنة الموضوعية، ولتعيش وجدانياتها وتحولات اللحظة غير المقيدة بالقدر الذي يرسمه لها الكاتب.
وأيضا (مسعود الهمداني ) الشخصية التي لم يكمل المؤلف مساراتها في كراسه، تتمرد عليه لتخط تفاصيل تحركها.. فتعتقل الروائي الى (وادي الينابيع ) حابكة فراغاتها مع اللامتوقع الظاهر عن طريق (كيس نوره وجرارها وخرزة الجدات الزرقاء).
من بوتقة الغرابة تلك، ينسج النص بنياته، تاركا للقارئ آثار الاكتشاف المتعامدة، والموغرة في البحث عن التراث، تلك الذاكرة الجمعية المحمولة على اللغة الحاملة لأبعاد الحياة الخارجية بصعدها الاجتماعية، والسياسية، والثقافية، والتكنولوجية، والتي يطرح من خلالها (الدميني) موقفه من الحداثة والحرب والموت والحب واللغة.. وكأنه يحفر في طبقات النفس والروح والنص، أحوال الغائم من الواقع.. موضحا بصورة حادة ما يعانيه مجتمعنا العربي من تفتت وانحسار وانكسار على صعيد الوعي الكلي، بعامة، وعلى صعيد الوعي الثقافي بخاصة.
وهكذا تشتبك الأحداث في بؤرة الإبدال النازحة بالكاتب والقارئ بين الواقع والنص، اشتباكا يفرز في بياضاته سوادا آخر قابلا للقراءة الاختلافانية.. وكأن (الدميني) يحشد الأزمنة (الماضية /الحاضرة / الآتية / النصية ) في لحظة الحذف والتدوين. اللحظة التي شكلت التوترات الأخرى الناتجة عن البنى، وشحنتها بطاقة تتسع في الفضاء والمكان والزمان واللغة.. فهي تدخل زوجة الروائي الى النص لتكون زوجة أحد الشخوص، وتجعل من (سهل الجبلي ) يرى قبره وجثته وانبعاثه وهو في (الغيمة الرصاصية ). (الغيمة ) كرمز مكثف بدلالات المطر والانغماس في أبد الأرض والبذور والتراث، و(الرصاصية ) كصفة اكتسبت لونا يحمل المتناقضين:
- الإشعاع القادم من الشمس.
- الرصاص الذي بزف الموت.
كأن (علي الدميني) يمارس سطوته على أسطورته الخاصة التي امتازت بطاقة إبداعية تضيف لثقافتنا العربية منعطفا روائيا باهيا استند على شعرية السرد: مشهديا، جمليا، حسيا، ازاحيا.. وكل ذلك ضمن تركيبية متماوجة جذرها الذاكرة العربية المكونة انتماء بيئيا انطلق منه الدميني، وهدمه الى الذاكرة الذاتية وبناه على الذاكرة النصية فكان الجذر الآخر للذات الكاتبة _ المكتوبة - الجذر الذي يتخذ تعرجات مجاله واتصاله وأنساقه وفقا لزاوية الرؤيا المنحرفة والمحزونة في القارئ نفسه والذي سيكتشف أن هناك صيغة متداخلة بين ثلاثة نصوص روائية شكلت أخيرا الرواية الحاملة للعنوان (الغيمة الرصاصية )، وهذه النصوص الثلاثة هي:
- نص عزه والسد، النص - البذرة الذي لم داخل الكراسة الموضوعة في درج الكاتب، ومسار هذا النص فصاعدي ميدا من دواخل الروائي ليستمر في دواخل الموضوعية.
- نص الزنزانة، نص الوقائع والزمن الخارجي المبتدئ من عوامل الخارج ليستمر في الذات.
- نص وادي الينابيع وتحولاته المتصاعدة نحو غرة، والهابطة الى نص الزنزانة.
كأن النص الثالث هنا يمثل العالم الأرضي في الأسطورة، وحركته المتمثلة بالصعود تتجه الى العالم العلوي، وحركته الأخرى المتمثلة بالهبوط تتجه الى العالم السفلي.. وهذا التوازن بحركتي الصعود والهبوط منح الدرامية الروائية لا ثباتا ينقطع لتتصل النصوص، ويتصل لينقطع الامكان... وهذا هو تقني ناور المبدع على انسجامه محولا جوانبه المحيطة الى مرموزات مركزية ولامركزية في ذات اللحظة الإبداعية.
وعلى هذا القناص الداخلي انبنى المنحنى اللاخطي وكسر أفقية الاعتياد للمستويين: المضموني والظاهراتي لكنه ظل محافظا على الوظائف الثلاث للنص وفقا لـ (هاليداي):
- الوظيفة التجريبية: ldentional التي تبرز مضمون الاستعمال الدائرة حوله اللغة كبعدين:
أولهما ذاك المتعلق بتمثيل التجربة التي يعيشها المتكلم في سياق ثقافي واجتماعي معين، وهذا ما عكسته (الذات الروائية ) من خلال تجزينها على الشخوص الأخرى، وتنصيفها بين (سهل الجبلي ) و(علي ).
وثانيهما ذاك البعد المنطقي الذي يتم عبره التعبير عن علاقات منطقية مجردة والتي منها تشتق التجربة بشكل ضمني، وهذا ما تناغمت فيه الرواية المتلامعة بين أشكال الدلالات وظلالها المنتجة للسياق. من ذلك ما أتى تحت عنوان (ملحق من أوراق نورة.( ص 213) - الوظيفة التواصلية (Interpersonal) المتصلة بالبعد الاجتماعي (بين الأشخاص ) لوظائف اللغة التعبيرية. وفيها يتم تحديد زاوية المتكلم ووضعه وأحكامه وتشفيره لدور علاقته في المقام وحوافز قوله لشيئ ما، في علاقته مع مخاطبة سواء كان هذا المخاطب شخصية داخل النص أم خارجه (القارئ). وهذا ما انبنت عليه الشخصية الغائبة الحاضرة (عزة ) التي انطلق منها هذا البعد لينفتح في المونولوج والديالوج المرافق لباقي الشخصيات .
- الوظيفة النصية (Textual) المتضمنة للأصول التي تتركب منها اللغة لإبداع النص كوحدة دلالية، ليصبح هذا النص منشغلا من خلال موضوع، ومنسجما في علاقته مع ذاته، وفي سياق المقام الذي وظف فيه. وهذا ما أظهرته فنية رواية (الغيمة الرصاصية ) التي تضمنت تناما داخليا لثلاثة نصوص منغلقة من الاتصال الواضح، الى ذاك الاتصال الضمني الماكث في النسيج العميق من النص، والظاهر كانقطاعات عمودية محبوكة بالإيحاء والاحتمال والنضج الفني..
للتوسع في الوظائف راجع (انفتاح النص الروائي) سعيد يقطين ص 17 (ط 1) المركز الثقافي العربي (1989).
* الغيمة الرصاصية رواية للشاعر علي الدميني ط ا/ دار الكنوز الأدبية 1998م عدد الصفحات (248).
********
(علي الدميني/ حسونة لمصباحي/ شتيفان فايدنر-باريس) أرشيف صموئيل شمعون
في عام 75م أسس (المربد) الملحق الثقافي.. في جريدة (اليوم).. وفي عام 87م أصدر مجموعته الأولى الشعرية (رياح المواقع)..
وفي أواخر التسعينيات أصدر روايته الأولى (الغيمة الرصاصية)..
وفي منتصف التسعينيات.. استأثرت به (الحماسة) (الثقافية) ليؤسس مع جمع من (المتحمسين) مشروع مجلة (النص الجديد).. التي بدأت قوية.. واستقامت حفية بالنص الجديد.. والطرح المختلف الجاد.. والرؤية المدعمة بالفعل.. والمنجز الذي يستوعب حقيقة حراكنا الثقافي..! حتى أُعلن ضمناً وفاة (المجلة) في (خريف) 20002م رحمة الله عليها..وعلينا..!
ولأن مزاجنا الجمعي.. لا يستسيغ المشاريع الجماعية.. التي تذوب جهد الفرد.. وكفاح (الأنا) في نطاق الجماعة..! جاهد وحيداً.. وتستثمر شتات وتستثمر شتات الطاقات..؟!.. حتى أعياه وأضناه العمل وحيداً..!
لم تخل مسيرته الثقافية من وجه الناقد.. الذي تجلى.. في جملة دراسات وقراءات.. لا تعدم كفاءة الوعي النقدي المؤسس على ناتج تجربتي القراءة والكتابة.. ومن خبرة بدقة لمقالاتصد) بدقة لمقالات ومراحل التحول في مسيرة الثقافة المحلية.. أو متابعة مكامن تلاقيها أو انفصامها.. أو إندغامها (ربما).. مع سائد الخطاب الثقافي العربي المعاصر..!
(الدميني) في النص الجديد.. (المولودة) فتيةً.. والمتوفاة.. (قوية).. كان يستثمر.. خبرة (المربد).. بتفاصيل واشكالات العمل (الصحفي) الثقافي..وتماسه (كمحرر ومرتكز) للمجلة.. مع مظاهر المشهد الثقافي المحلي..! وربما كان (مهندس البترول) أوعى بكيمياء.. وجزئيات.. تلك البنالمفصلية فيفي حركة (التحديث).. واتجاهاتها..
لتكون (النص الجديد).. رغم عمرها القصير.. (صفحات) تعكس بصدق فاعلية حداثة (النص) والوعي الذي ينتجه.. و(الأسماء) التي تستجلي أفكاره ومحاصيله.. لتتقدم به.. بشجاعة إلى صعيد التلقي.. وهو ما يؤكد ضمناً.. عجز.. ضيعة (المؤسسات).. عن استيحاء أو احتواء.. أو عرض (الصوت الجديد) للثقافة.. بتلك الجدة والجرأة التي عبرت عنها مجلة النص الجديد..!
وهو ما يؤكد (كذلك).. حرص المشتغلين بالثقافة.. على التضام.. والتوحد.. في أي جهد.. يقدر (همهم).. ويعي مدى دأبهم.. على استنهاض الطاقات والقدرات.. التي أجهدها الشتات.. ووهن المؤسسات..!
كل ذلك.... كان على مرأى (الشاعر) الدميني.. الذي استنفد (الزيت).. ومكوناته جزءاً من عمره..! لم يجيره في خانة (النفطيين).. أو هكذا يطيب للبعض الآخر المجاور (لمزنا) انتقاصا..!
بل.. استفاض وبإخلاص ومثابرة.. على استقاء.. كل ذرات المعرفة و (الشعرية) والسردية في مكونات إنسانيته.. ليستقيم اسمه في (متن) الأهمية وقبلها الصدقية.. في مسيرتنا الثقافية.. وإذا كان الزمن هو العنوان الرمزي لهذا (التكوين) المتموضع على (الدميني) صوتاً..!
فإن 2004م كان مناسبة لأن يقدم علي الدميني.. قراءة لحركة الحداثة الشعرية في المملكة التي وإن حاول (الناقد) خصم شموليتها في فرع العنوان الذي نص عليه في قراءته.. (تجربة شخصية) قدمها قراءة في منشط ثقافي خليجي.
مما يسوغ لي.. شرعية الإشارة.. إلى مكمن أهمية الدميني.. اسماً وصوتاً وتجربة.. في سياق الحركة الثقافية..!
وأسرار السرد بين غواية الشعر.. وأسرار السرد.. وعقلانية النقد.........؟!..
لا أتساءل عبثاً في أيها يكون وجهه..؟! لأن يقين حضوره الثقافي.. يتجلى.. بهَمِّ المعرفة.. أولاً, وآخراً..! واستشعار تمثلها في كل ما يخطه وعيه بها فكراً وتعبيراً..!
أنشدت للرعيان ثوب قصيدةٍ في البرّ
عاقرني الفؤاد على النوى
وتباعدت نوق المدينةِ عن شياهيْ
آخيت تشرابي الأمور بنخلة ٍ
وغرست في الصحراء زهو مناخي
" لا تقرب الأشجار " ألقاها الكثيب عليّ
أرّقني صباحي
لكن قلبي يجمع الأغصان ، يشرب طعمها
ويؤلف الأوراق في تنّور راحي
" لا تقرب الأشجار " غافلني الفؤاد فمسّها ، وهبطت
من عالي شيوخ قبيلتي أرعى جراحي
هذا بياض الخبت ، أهمزُ مهرتي للبحر
ارسنها إلى قلبي ، فتجتاز المسافة
حجرٌ على رمل المسيرة ، هودجٌ ، حِملٌ ،
وأغصانٌُ من الرمان ، هل تقفز ؟
دعاني عُرفُ ثوب البحر، أفرغت الفؤاد من المخاوف وانهمرت
إلى مسيل الخبت ،
يا ابنَ العبد ألقِ إليّ أدوية البعير فإنني
سأنسقُ الأورامَ .
أستلُ الجراح من التفرد والزهادة.
وأضمّ هودج خولة القاسي، أزيّن وحشة الممشى
بعقد ِ
أو قلادهْ .
هذي بلادي لم أكن أغتابها في الليل،
بل أهذي بوقع تَحرّكِ الرعيان في عرصاتها البيضاء،
أفردها لهمس الريح
ألبسُها شتاءً ،
ألتقي والماء في مرعى الطروش ِ
وأبتني قصراً من الصفصاف ،
قد أهذي
فأن لكل عاشقةٍ شهادهْ .
أفردت يا ابن العبدِ " ريحة " الجربِ الجديد
من البعير
فلا يُلمك أخوك
ما فّرطت في شَرف القطيع ِ ،
ولم تبع تيساً بناقة .
سلبوك ماء " الحسي " والخدرَ المريح،
وما سلبت الإبل مرعاها
ولا الصحراء ألقت في حشاياك البلادهْ .
مولايَ يا بن العبد
يا طرفة المفردِ
هل كنت تبغي الوِدّ
أم كنت لا تّقصدِ
قلبي على قلبك
وحقولنا تُحصد
من زهرةٍ في الشيح أقرأ فتحة الأبواب .. أرصد ما لكفك من مثالب
وأغذُ في الدهناءِ سير المهرةِ البيضاء
ارقبُ ذكريات طفولةِ الأجداد ،
رائحة الحليب ولذعة الأقِطِ البهيّ ،
وصوتَ طُرفة تائهاً في الريحْ
مستمسكاً بالشيح
والخاتم الأبيضْ .
في الشارع الخلفي
كان المدى خلفي
والوجه في الحائط
( يا الله على الممشى
بكره نصوب الخبت
والبحر ذا حائط )
غَرسَتْ على صدري
بقميصها الصدري
وشماً لريح البحر
وغدائر الليمون
حبيبتي أمّون
( وجهك من الكادي
ذا في الصدُر يطرون
يا قلب وقّف بي
ما اقدر على المندار
والله ما لي شَفّ
في كادي الديره
ما دام هذي الكف
ما لمست أمون ) .
في الشارع الخلفي واجهت البعير يشم " عرفجةً " تيبّس طلعها
ويدور في الطرقات ملتهما بقايا الناس ، والأطفال ،
يا جمل العشيرة
هل غربة نفقت ؟
هل طَلعةٌ نبتت ؟
أم جئت تبحث في تراث الناس عن جدثٍ
وتحفر في الطريق ملاذةً للروح
أين مرابض العربان ؟
أين مباهج الصحراء والفتيان، والرمل الذي أفردت
يا وجع العشيرة ؟
غطّى على غاشية،اء العين
إفرَادُ المحب ، ولوعة الوسنان
إلقاء العشيق بباطن الأفراد ،
أمّون التي أهوى ،
وألحان البحار البيّض
طرفة هل أتى جَرَبٌ فغطّى الناس ؟
أم رحمتك صحراء البلاد بدفئها في البرد ؟
إن الدهر غاشية، ووجهُ الشارع الخلفيّ لا يشفيك من دَرنِ التفرّدِ والبداوةْ
هذا نهارٌ أنت ترمقه وهذي حارة في الأرض ،
ليست رقعت في البر
هل تقدم ؟
أقدم فذا وطني،
وذي الصحراء أجمع طيرها في القلب
التحف السماء وأشرب الأيام
اعصر منحنى الأوجاع
تفردني
فأعشقها
وتلمسني
فأقربها وتنحسر العداوة
لخولة أطلالٌ ، أجوس زواياها ، ببرقة ثهمد
إذا افرد تني الأرض جاوزت للغد
أبوح بطعم الحب أقتات موعدي
أعاتب أحبابي ، بلادي بفيئها
وأهلي وان جاروا عليّ فهم يدي .
*****
يجئ عيدنا على أسنّة الغبار
معتصما بحزنهٍ الطفلي
اريا من فرح النهار
لا شمس في شموسه ولا انتصارْ
يجئ عيدنا منقسما
ًما بين من يَعِدُنا بجنة البارود تارة
وتارةً يدفعنا للنارْ
وبين من أقفل بابه على صراخنا
و نام في أردية التتارْ
يجئ عيدنا مبللا
بالدمع والوحشة والأحزان
فالتمسوا له مدينةً أو وطناً
يعرف معنى العيد في ابتسامة البيوت للعشاق
والأطفال والأشجار
وفي بلاد الله حيث في صباح العيد
يفرح الهواء والأعشاب والنساء والصغار والكبار
*******
تعيش بلادنا مرحلة مخاضات صعبة وهي تواجه أسئلتها المعلقة واستحقاقاتها المؤجلة، في ضوء تراكم الأزمات والتحديات الداخلية والخارجية. وقد شجعت هذه الحالة على ارتفاع وتيرة طبيعة الحراك الاجتماعي المطلبي، حيث نشهد الكثير من قوى المجتمع ـ المعبرة عن أطيافه الثقافية والفكرية والمناطقية والطائفية ـ وقد انخرطت في عملية التعبير عن آلامها وتطلعاتها وأحلامها بحياة تكفل لها حقوقها في الحرية والعدالة، والمساواة، وتكافؤ الفرص، في دولة المؤسسات والقانون.
وقد أخذت أشكال التعبير عن هذا الحراك خلال العامين المنصرمين أساليب مختلفة، تراوحت بين الحديث أو الكتابة النقدية في الوسائل الإعلامية المتاحة كالصحف ومحطات التلفزة، وبشكل أكثر شجاعة في الانترنت، و بين شكل آخر اعتمد مفاعيل الصوت الجمعي عبر حشد التواقيع على البيانات والمطالب الإصلاحية الشاملة، فيما برزت مؤخرا حركة الشارع عبر المظاهرات المحدودة في بعض مدن المملكة.
وإذا كانت الأشكال السابقة تمثل التعبير الحضاري المتاح عن الحراك الاجتماعي المتمسك بالوحدة الوطنية والمتطلع إلى آفاق الأمل بالبدء في عملية الإصلاح الجذري الشامل الكفيل بحل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتراكمة، فإن ظاهرة التطرف والعنف المسلح التي طالت معظم مناطق بلادنا، لا تعبر عن آلية حراك اجتماعي إصلاحي محمل بالأمل، وإنما تعبر عن حركة راديكالية يائسة لدى التيار المتشدد، تتوسل به لإقامة بديل آخر.
وبالرغم من أنني أنطلق هنا من إيماني بحق كافة القوى في التعبير عن حقوقها، ولا أهمش دور الأوضاع المتأزمة التي يمكن أن تقود أي تيار لاتخاذ الشكل الملائم للمطالبة بحقوقه، إلا أنني أدين وبشكل مبدئي قاطع كافة أشكال العنف المسلح كوسيلة للمطالبة بهذه الحقوق مهما كانت مسبباتها.
وهنا، أدون خلاصة لرأيي وتقويمي لأشكال التعبير عن الحراك اجتماعي المطلبي الذي عشناه خلال العامين الماضيين: البيانات والخطابات المطلبية، المظاهرات، العنف المسلح، الميثاق الوطني للإصلاح.
البيانات والخطابات المطلبية
تأخذ البيانات الموجهة للرأي العام موقعها ضمن منظومة التعبير السلمية المكفولة للأفراد والجماعات، وللمنظمات المهنية والنقابية والسياسية في المجتمعات المتحضرة، والتي غدت فيها حقوق المواطنة وكفالة حرية التعبير عن الرأي مقوماً أساسيا من مقومات المجتمع.
وتأسيساً على ذلك الحق الدستوري المشروع لحرية التعبير السلمي بكافة أشكاله، فإن منظمات المجتمع المدني المختلفة تقوم بتوظيف البيانات والخطابات المطلبية للتعبير عن آراء منتسبيها إزاء كافة القضايا المهنية والاجتماعية والسياسية الداخلية والخارجية، مستهدفة تأكيد ممارسة حق التعبير عن الرأي، وترسيخ مفهوم التعددية، والإسهام في تشكيل الرأي العام، و تجسيد المشاركة الشعبية في اتخاذ القرار على كافة مستوياته.
وفي بلادنا، لم يتمتع بهذا الحق سوى تيار متشدد من أتباع مذهب واحد من المذاهب السنية الأربعة، بينما حرمت منه كافة المذاهب والطوائف الإسلامية والفعاليات الثقافية والفكرية الأخرى، مما ساعد على تبلور ظاهرة الغلو والتشدد واحتكار الحقيقة والذي أفضى بعد ذلك إلى تفشي ظاهرة العنف المسلح التي تعاني منها بلادنا بشكل لاسابقة له.
وفي ظروف حرمان كافة مكونات المجتمع المدني من حق التعبير عن آرائها، فإن البيانات والخطابات المطلبية التي وقعها الكثير من أصحاب الرأي والخبرة والمهتمين بالشأن العام في بلادنا خلال العامين الماضيين، تغدو ـ من الناحية الأولى ـ تعبيراً واضحاً عن حالة حراك إجتماعي مطلبي واسع يؤكد على حق الأفراد والجماعات في التعبير عن مواقفهم ورؤاهم، وفق معادلات القدرات الذاتية للمجتمع وتراثه المطلبي مع الظروف الموضوعية الداخلية والخارجية. كما أنها تقوم (من الناحية الثانية) بدور الحاضنة التأسيسية لنهوض مكونات المجتمع المدني المغيبة لكي تلعب دورها التاريخي المأمول في صياغة مقومات الدولة الحديثة في بلادنا.
وبعيداً عن الشعارات والأحلام البراقة، يمكنني التأكيد، كمشارك في الكثير من هذه الوثائق، على الطبيعة الإصلاحية لهذه المطالب القائمة على التمسك بالوحدة الوطنية، وبناء دولة المؤسسات والقانون، والالتفاف حول القيادة السياسية لبلادنا، ومطالبتها في الآن ذاته بتنفيذ كافة المطالب الإصلاحية الشاملة الدستورية والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية للحفاظ على كيان الدولة ودعم استقرارها وأمنها ورخاء شعبها.
ولعل من اللافت لنظر المتابع لتفاصيل الخطاب المطلبي المعبر عن المطالب الحقوقية للطوائف الدينية (شركاء في الوطن، الوطن للجميع، والجميع للوطن) وتلك المعبرة عن حقوق المرأة (وثيقة المرأة السعودية) ملاحظة اعتمادها مبدأ الإصلاح الوطني الشامل كمدخل للقضاء على كافة أشكال التمييز الذي يعيشونه، كما يلاحظ أيضاً أن الخطاب المطلبي (الحقوقي والسياسي) في كافة مراحلة التاريخية في بلادنا كان يمر بوتائره العالية متصاديا مع ارتفاع حدة الأزمات الداخلية وما يرافقها من تجليات التحديات والمؤثرات الخارجية منذ الخمسينات وحتى اليوم، إلا أن العقد الأخير منها قد تميز بدرجة عالية من الشمولية المطلبية المستمرة، وهو ما يؤكد الحاجة الملحة للاستماع إلى تلك المطالب والبدء الفوري بتنفيذها، في ضوء ما حددته خطابات ووثائق المطالب المقدمة إلى القيادة السياسية في العامين الأخيرين.
المظاهرات
كفل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي وقعت عليه بلادنا حقوق التعبير السلمي عن الرأي، ومن ضمنها حرية التجمع والاعتصام والتظاهر، وتضمنت وثيقة (رؤية لحاضر الوطن ومستقبله) المقدمة لسمو ولي العهد الأمير عبد الله حفظه الله، فقرة تطالب بكفالة حقوق التعبير عن الرأي ومن ضمنها حق التجمع، ولذا فإنني من المطالبين بضمانة العمل بتطبيق هذا الحق، ولكنني أيضا أقدر حداثة ممارسة مجتمعنا لهذه التجربة، ولذا أدعو إلى سن القوانين المنظمة لمشروعية هذه التظاهرات، بحيث يتم الحصول على الترخيص بقيامها من الجهات المعنية والتي تحدد المكان والزمان المناسبين لها، وضمانة تهيئة الترتيبات اللازمة للمحافظة على تعبير المظاهرة عن مطالبها بالطريقة السلمية التي لا تخل بالنظام العام ولا تسمح بالتعدي على الممتلكات العامة أو الخاصة.
التطرف والعنف المسلح
وبالرغم من أن ظاهرة الغلو والتطرف في التعبير عن الرأي بالكلمة، أو باستخدام أدوات القتل ظواهر بشرية محايثة للوجود والاجتماع البشري، إلا أنها تأخذ حيزاً أكبر، وتصبح خيارا وحيدا حين يتم تكريس الثقافة الأحادية الطابع في المجتمع (العائلة، العمل، الوطن) وذلك من خلال منح حقوق السيادة لطرف دون الآخر، كالأخ الأكبر دون الأصغر أو الولد دون البنت، والمصلح الديني دون المصلح الاجتماعي، أو هيئة الأمر دون هيئة التربية والـتأهيل، وتشجيع التعليم الديني أكثر من التعليم العام (كمدارس تحفيظ القرآن والمعاهد العلمية الدينية)، والسماح للجمعيات الدعوية الدينية باحتكار مجالات النشاط التثقيفي دون غيرها من جمعيات المجتمع المدني. وبذلك يتم تكريس فاعلية الاستقطاب الأحادي، فيصبح المجتمع أكثر انغلاقا وأقل تسامحا مع الرأي الآخر، سواءً في أساليب الحوار أو في مكونات مواد التثقيف أو في مساحات التعبير المتاحة أمام الجميع للمطالبة بحقوقهم الحياتية الأساسية والإعلان عن مشاريعهم النهضوية لتطور الوطن.
وبدون الذهاب إلى التفاصيل الطويلة والكثيرة، يمكن القول بأن ظروف توحيد المملكة قد استدعت الكثير من مركزة النشاط الثقافي والاجتماعي والدعوي الديني، مع الإعلان عن حق المواطنين في مناطق مختلفة من المملكة بالاستمرار بالعمل وفق تنظيماتهم الدينية والمدنية كالمجالس البلدية في مكة، ومجلس الشورى، وتمتع الشيعة والإسماعيلية بحقهم في ممارسة شعائرهم الدينية حسب ما اعتادوا عليه. ولكن التطورات اللاحقة وعلى مدى سنوات طويلة ألغت تلك الحقوق وفرضت تفرد تيار ديني باحتكار مرجعية الفتوى والرأي ونشر الثقافة الدينية في مختلف أرجاء الوطن. وقد أدى هذا الاحتكار إلى إلغاء الحوار داخل التيار الديني الواسع، وشرعنة بروز تيار متشدد فرض نفسه كوجه وحيد لصورة الإسلام، ومنحه حق التفرد ورفعه إلى مصاف التقديس الذي لا يقبل رأيا سوى اجتهاده.
وحيث لم تتبلور في بلادنا أشكال المؤسسات الدستورية أو المدنية، فقد تم رفع شعار الأمن والأمان كشعار بديل للمطالبة بحقوق المواطنة الأساسية، وكبديل عن تشكيل دولة المؤسسات القانونية التي تنبني على وجود دستور مكتوب، ومجلس شورى منتخب يجسد المشاركة الشعبية في اتخاذ القرار وسن القوانين المدنية ومراقبة أداء الحكومة، وكذلك في قيام سلطة قانونية مستقلة للقضاء.
الرهان الشعبي ورهان الخارج
ما هي العلاقة بين الرهان الشعبي على ضرورة التغيير وبين الضغوط الخارجية؟ وما هي مشروعية تمثيل النخب الصغيرة للشارع؟ ولماذا لم تقم بتفعيل المطالب بين الجماهير قبل رفعها إلى القيادة السياسية؟
فيما يخص العامل الداخلي فإنه ينبغي الانطلاق من أن تراكم التجربة الإنسانية ـ ضمن ظروف المكان والزمان ـ تعتبر بحد ذاتها ثورة في داخل أنساق القيم أو المكتسبات المعرفية أو الاحتياجات، وهي ثورة عليها عبر ما ينتج عن تلاقح وتثاقف إرادي أو قسري مع العالم عبر وسائط الإعلام الاختراقي لجدران الرقابة الأخلاقية والثقافية والرسمية على السواء. إن التدافع الشعبي نحو التغيير هو نتيجة طبيعية لمجمل تراكم المكتسبات الثقافية والاقتصادية واستجابة لفاعلية العوامل المؤثرة على الظرف الموضوعي في جانبه الذاتي وجانبه الخارجي أيضاً.
وحين يتم في داخل المجتمع تغييب فاعلية مؤسسات المجتمع المدني السياسية والنقابية والثقافية عن التعبير عن مطالب وآراء الأفراد و الجماعات، فإن الرهان الشعبي يعمل على تضخيم دور العامل الخارجي نتيجة لعدم استجابة المؤسسات الرسمية لضرورة التغيير. وهو رهان متغير وذو سمة مزاجية في التعبير عن ذاته، إما بالإحباط وتكريس روح التخاذل أو اللامبالاة، أو بالانفجار في لحظات بشكل لا يمكن التنبؤ به، ومن ذلك المظاهرات ـ غير المتوقعة من الكثيرين ـ التي حدثت في أكثر من مدينة سعودية.
أما فيما يخص العامل الخارجي، والذي يمكن تحديده بشكلين هما تأثر المعارضة المطلبية من الخارج من جهة، وتأثير ضغوط الدول الأجنبية على الوضع الداخلي من جهة أخرى.
وفيما يخص الجانب الثاني، فأرى أن السياسات الأمريكية الجديدة وخاصة بعد 11 سبتمبر تسعى لفرض سيطرتها الشاملة على العالم وعلى مقدرات وثروات المنطقة العربية تحديدا، وذلك تحت عناوين مكافحة الإرهاب والخطر الإسلامي أو الدفاع عن حقوق الإنسان والمرأة والجماعات الإثنية والدينية، وذلك بصورة ذرائعية تصب في طريق تحقيق مصالحها وسيطرتها المطلقة على المنطقة، واستخدامها كورقة ضغط وابتزاز إزاء المنافسين الآخرين أو إزاء حكومة بلادنا.
وبالرغم من كل ذلك، لا يمكننا إغفال الأهمية الكونية لهذه القيم والمفاهيم باعتبارها تمثل ضرورة وحاجة مشتركة لكل البشر. ولذا يمكن أن تتقاطع مصالح تطوير بلادنا مرحليا مع تلك الشعارات، وعلينا الاهتمام بها والسعي بكل السبل لتعزيز فعاليات تطبيقها في وطننا وفي كل مكان من العالم.
أما فيما يخص تأثير المعارضة الخارجية فإنني أتركه للزملاء المساهمين من خارج المملكة للحديث عن فاعليته فهم أدرى به مني.
هل احتكرت النخب الثقافية في بلادنا (وأفضّل استخدام مصطلح: المهتمين بالشأن العام) أمجاد التعبير عن الحراك المطلبي الاجتماعي، وتمتعت وحدها بتيجان أمجاده وأعطياته؟ وهل حجبت جهودهم حركة الشارع أو استلبته حرية وامكانية التعبير عن مطالبه؟ هل سرقت المجموعات المطلبية الفاعلة خلال العامين الماضيين جهود مجموعات منافسة أخرى؟ هل تأخرت عن حركة الشارع أم أنها أسهمت في فعاليته وتأطيره ضمن معادلات موازين القوى والمساحة الممكنة التي يمكن الاستحواذ عليها؟
أسئلة كثيرة يمكن استلالها من ثنايا العديد من العبارات والتعليقات، والأحاديث التي تتركز حول دور النخب الثقافية أو دور المهتمين بالشأن العام في بلادنا؟
ولكي نفي هذا الموضوع حقه ـ ويبدو لي أنه سؤال اللحظة المفخخة ـ، فلا بد من تحديد طبيعة القوى الاجتماعية التي ما زالت أكثر قدرة على التحكم في حركة المجتمع، ومن ثم نقوم بموضعة فعل النخب الثقافية ضمن إطارها العام.
وباختصار، يمكن القول، بأن قوى المجتمع الحديثة، لم تزل مغيبة عن لعب دورها النقابي والفكري والسياسي في بلادنا، وهذا ما يساعد على استمرار تكريس فاعلية القوى التقليدية في المجتمع، وأبرزها قوة مشاعر الانتماء القبلي والمناطقي، والطائفي، فيما تم ترسيخ دور تيار ديني سياسي متشدد ووحيد استطاع أن يكون القطب الأكبر الذي تتجمع في إطاره أكبر حركة إجتماعية فاعلة.
إذن ما هي هذه النخب وما هو موقعها؟
أرى أن النخب الثقافية المنخرطة في الحراك الاجتماعي المطلبي السلمي، تعبر عن تعدد في مرجعياتها، وعن قلة في عددها، وعن ممارسة آلية عمل الأفراد لإنجاز أي مشروع مطلبي جرى التعبير عنه حتى الآن. وبالتالي لم تستطع أن تشكل منبراً متجانساً، أو كياناً ثقافياً ونقابياً صلباً حتى الآن، ولا أعتقد أنها تعمل على إنجاز ذلك أصلاً. لماذا؟ لأن هذا النهج هو التعبير الطبيعي عن حراك ثقافة الأفراد إزاء ثقافة المجموع، وهو الخيار المتاح لتجسيد حراك إجتماعي مطلبي غني بتنوعه ويرتكز على القواسم المشتركة المفتوحة لا البرامج المنسجمة. كما أعتقد أنه وسيلة مطلبية مرحلية مهمة للتأسيس لتعايش تعددية المواقع وتعددية الآراء، وتهيئة المناخ لانخراط المواطنين في العمل المطلبي من خلال مطالبتهم بتكوين جمعيات المجتمع المدني الثقافية والفكرية والسياسية؟
إن هذا النشاط المفتوح على كل الخيارات هو الأكثر نجاعة في نظري للإسهام في تطوير فعل القوى الاجتماعية الحديثة لكي تخرج من أسر البنى التقليدية المبنية على الانتماء القبلي أو الطائفي، إلى مرحلة تشكيل القوى الاجتماعية الحديثة التي تعتمد على شراكة المصلحة الخاصة والعامة معاً، وتؤسس للقبول بالاختلاف وحق الآخرين في التواجد والتعبير عن قناعاتهم، وتسهم في تسييد ثقافة التسامح ضد ثقافة الاحتكار والإقصاء أو الانتماء المناطقي أو الطائفي؟
ولنتساءل مرة أخرى: هل يعكس هذا العدد المحدود من النخب الثقافية عن ثقل مختلف القوى الاجتماعية في بلادنا؟ وهل عبر عن هموم الناس واختناقات حياتهم المعيشية اليومية أم اكتفى بهموم المثقفين الذين ينشغلون بالمسائل الدستورية والمشاركة الشعبية في اتخاذ القرار؟
وحين نحاول الإجابة على الشق الأول من السؤال، فإن علينا التحرز في إطلاق الأحكام، ولذا يمكن القول بأن هذا العدد المحدود من النخب الثقافية يعبر في تنوعه عن قوى عديدة في المجمتع، ولكنه لا يعبر عن كافة القوى والشرائح الاجتماعية، لا من حيث العدد، ولا من حيث محتويات الخطاب، أو أدوات مقاربة تشخيص الواقع وطرح رؤية لحل أزماته. ورغم ذلك فهناك تمثيل نوعي معقول، يمكن البناء عليه وتطويره لكي يستمر في التعبير عن تشكل جنين مشتركات الإجماع الوطني المطلبية العامة حول ما يمكن تسميته بالميثاق الوطني الإصلاحي.
وأخيراً لنسأل: هل أعاقت الحركة المطلبية للنخبة تطلعات الشارع، أم خذلتها، أم تخلفت عنها؟
لكلٍ منا مطلق الحق في تقويم هذه التجربة الوليدة، ولكنني املك الحق الشخصي في القول بأنها أسهمت في خلق مناخ مطلبي إصلاحي شامل، تجلى في وثيقة (رؤية لحاضر الوطن ومستقبله) التي قدمت في يناير الماضي لسمو ولي العهد، والتي تضمنت مقاربة معمقة وشاملة لكافة القضايا الدستورية والسياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، التي ينبغي معالجتها، والمبادرة الفورية إلى تنفيذها من خلال القرار السياسي المأمول.
وبالرغم من أن الاستجابة لهذه المطالب ما زال وعداً منتظرا، إلا أن هذه المطالب قد عززت مشروعية حق الإفراد والجماعات في التعبير عن مطالبهم بالطرق السلمية، وأكدت على حقوق المواطنة، والتمسك بالوحدة الوطنية، والاعتراف بالتعددية الثقافية، وضرورة حل كافة الإشكالات المعيشية التي يعانيها المواطن، وجسّرت أبواب الحوار مع القيادة السياسية، وعمقت فتح أبواب الأمل التي لا يمكن أن تبقى مشرعة إلا باتخاذ القرارات السياسية الهامة، للبدء في تنفيذ مشروع المطالب الإصلاحية الجذرية في كافة مناحي الحياة.
تقييم الحركة المطلبية
أما وقد تحدثنا عن أشكال التعبير عن الحراك المطلبي الاجتماعي المرحلي، فلننطلق إلى سؤال الأولويات: ما تقييمنا لاستجابة الحكومة للخطاب المطلبي، وما هي أهم الخطوات المناسبة لتعزيز فاعلية عمل الحراك المطلبي؟
هناك تفاصيل طويلة اكتنفت عملية الحراك المطلبي عبر البيانات والخطابات الموجهة للمؤسسة الرسمية لا يمكن الحديث عنها الآن، ولكن يمكن الإشارة إلى قلة التجاوب مع حركة التوقيع على المطالب رغم اتفاق المعتذرين على ضرورة إعلانها، وهناك من الفعاليات المؤثرة من رأى أن سقف هذه المطالب أعلى من إمكانات المرحلة. وعلى كل حال يكفي هذا الجهد المتواضع أن أعطى مشروعية للتعبير عن الحراك المطلبي السلمي ضمن هذا السقف الذي تضمنته وثيقة (رؤية لحاضر الوطن ومستقبله) ويكفي أنه فتح الباب على مصراعيه للحديث عن أرضية مشتركة تقف عليها غالبية شرائح المجتمع ونخبه الثقافية حتى التي لم توقع على الوثيقة، وكل ذلك دشن مرحلة حوارية مهمة وتوافقا مرحليا يعبر عن شبه إجماع وطني حول صيغة المطالب الإصلاحية الأساسية.
إننا في معرض تقويمنا لمنجز تأسيسي لرؤية وبوصلة تشير إلى الأهداف، لا يمكن أن نغفل عن أن ما تحقق ليس أكثر من خطوة أولى للتعبير عن الألم، فهل يكفي رفع الصوت تعبيرا عن حاجة مستحقة للاستجابة لمطالب الإصلاح؟ أم أن الظروف تستدعي أكثر من ذلك؟ هذا هو السؤال الذي قذفته البيانات والخطابات المطلبية إلى أعماق البحيرة الراكدة، وهذا هو الهدف المرحلي الذي أنجزته، وعلى الجميع التفكير في تعزيز آليات فاعلية الحراك المطلبي، ولعل الميدان مفتوح أكثر من أي وقت مضى لابتكار الأساليب السلمية الناجعة لرفع سقف الحراك الاجتماعي للمطالبة بالشروع الفوري في تنفيذ الإصلاحات.
يؤسفني أن أشير إلى أن استجابة الحكومة حيال المطالب الإصلاحية مازالت بطيئة وغير عملية، وتشبه الالتفاف على المطالب أكثر من التعاطي الموضوعي الجاد معها. كان ينبغي ربط انتخابات المجالس البلدية بانتخابات قادمة لمجلس الشورى في غضون ثلاثة أعوام مثلا. وكان يمكن البدء الفوري بتمكين مجلس الشورى الحالي من ممارسة دوره التشريعي والرقابي على أعمال الحكومة ومصروفاتها. وكان يمكن البدء بتشريع عمل جمعيات المجتمع المدني وجمعيات حقوق الإنسان.
ولأن أياً من ذلك لم يحدث فإنني أجد نفسي متفقاً مع من لا يرى في مركز الحوار الوطني، ولا في التصريحات الحكومية، ولا في الإعلان عن الانتخابات النصفية للمجالس البلدية أي دوافع لبعث الأمل، وإنما أجد فيها كثيراً من تكريس علامات الإحباط.
بيد أن ذلك لا يجب أن يدفعنا إلى اليأس، ولا بد من دفع عملية المطالب الإصلاحية السلمية إلى آفاقها الواعدة مهما كانت الصعوبات.
كما أرى أن الوطن يمر بمرحلة صعبة، يواجه فيها خياراته القاسية، وعلينا الوقوف ضد الإرهاب ومقاومة اختطاف الوطن من قبل القوى المتطرفة، وهنا أعلن إدانتي لأعمال التطرف والعنف والإرهاب، كما أطالب في نفس الوقت القيادة السياسية بالشروع الفوري في تنفيذ مطالب الإصلاح الشامل.
لكن المهم الآن، هو تعزيز آليات الخطاب المطلبي الكفيل بحث الحكومة على أهمية وضرورة الاستجابة للبدء في تطبيق هذه المطالب؟ والسؤال عن تلك الكيفية: هل نذهب إلى خندق العنف المسلح والإرهاب الذي ترفضه كل الفعاليات الوطنية المؤثرة والمنخرطة في الحراك الوطني؟
هل نراهن على التدخل الأمريكي الساعي لإعادة رسم الخرائط في المنطقة و من ضمنها بلادنا، وهو ما رفضه الموقعون على بيان (في خندق الشرفاء)؟
أرى ببساطة متناهية أن علينا الذهاب إلى الجماهير، وتشجيعها على الانخراط في العمل المطلبي السلمي للحصول على حق إشهار جمعياتها ونقاباتها المهنية والفكرية والاجتماعية والحقوق إنسانية؟ وفي خضم هذا الحراك الذي لن يكون سهلا ولا يسيرا ولا قصيرا أيضا سوف تنضج الظروف الموضوعية لتشكيل الأحزاب السياسية المعبرة عن مصالح وآمال كافة القوى الحديثة وكافة الشرائح والطوائف الاجتماعية في بلادنا، فيما بعد.
****
كان للدكتور عضيمة أن يعلن تساؤله: لم رشّحني أدونيس لهذه المهمة في حين كانت تنتظره بالأساس؟
لمعرفته بالمآل الذي سأبلغه حين أغيب في هذا الأرخبيل الذي يتشابه فيه اليابانيون وليس فيه شعراء، والذي يقطع التلفزيون برامجه لتحية زهرة جديدة تفتّحت على سياج بيت قديم فيما سيقف الناس صفوفاً طويلة في الغد تحية لها!
وكان له أن يتبرّم بوضعه كأستاذ زائر لتدريس الثقافة العربية حين تم إسكانه في أطراف المدينة في شقّة تفوح منها روائح تشبه ما أسماه بيوت بنات الهوى الرخيصة وأن يعتبر ذلك مقياساً لعدم جدية اليابانيين في تعليم العربية من جهة، وفي تهميشهم للدراسات الإنسانية على وجه العموم، ولكن ما لم يكن للدكتور عضيمة تجنبه هو ذلك الاندماج الطويل في الحياة اليابانية عشر سنوات إلى اليوم! حتى وإن حاول إخفاءه تحت طيات تلك المرارة السائلة من صفحات كتاب المرايا؟
ذهب عضيمة متلبساً بثياب الفاتحين العرب ليقيم رأس جسر مع بلاد الشمس تسمح لجحافل العروبة بالدخول إلى هذا الفراغ القصي، ولكنه أدرك فشل المهمة مبكراً فمضى إلى قاع الصفوة من صعاليك المدينة متتبعاً ما تيسّر من متعها ومغامراتها وكاد يعود بعد ذلك إلى منافيه القديمة في باريس والجزائر ولكنه تعرّف على الشعراء الحقيقيين فأعادوه إلى توازنه وأحالوه بغمضة عين سحرية من مبشّر بثقافة عربية إلى دارس للثقافة اليابانية مدشّناً بذلك جسر تعارف معاكس يصلهم بنا فيما نبقى مجهولين لهم كما كنا، ومثلما يليق ربما بنا!
قرأت حتى الآن ثلاثة كتب للدكتور عضيمة عن حياة وشعر وأدب اليابان هي سيرته في المرايا اليابانية وكتابين ترجمهما عن اليابانية بمساعدة بعض اخواننا اليابانيين المستعربين هما سفينة الموت حوارات وقصائد ومفارقات الحداثة الخمس للياباني كامبانيون وقد وجدتني معها أتعرف على عالم له حساسيته المغايرة وشعريته المختلفة وتركيبته النفسية والثقافية المتفردة مما أصابني بعدوى الاهتمام بعالم اليابان الثقافي، ولم أكن من قبل أعير أدنى اهتمام به، ولعلي أتذكّر هنا حماس الدكتور سعيد السريحي لنشر نصوص شعرية يابانية متأثراً برحلة قام بها إلى اليابان، وكذلك الأمر في تجربة الدكتور سعد البازعي الذي قدم محاضرة في إحدى المراكز اليابانية وأفاض في الحديث عن تجربته فيما بعد، لكن كل ذلك وسواه لم يفعل بي ما فعله كتاب عضيمة، الذي يحرضني على الذهاب إلى اليابان.
كان عضيمة يصرخ: أين هم الشعراء في هذا الأرخبيل فلا يجد سوى زحمة المدينة، أما بعد أن عرف الباب السري المؤدي إليهم فإنه يصرخ أيضاً: الشعراء هم ملح الأرض وهم المفاتيح السرية لفهم الشعوب، وحين يرى الشاعرة روميكو تنتظره عقب موعد هاتفي استطاع تمييزها من بين العشرات المتماثلين لأنها كانت تبتسم ابتسامة شاعرة! , إذن ما علاقة الياباني بالشعر وما هي أسسه الجمالية يا د, عضيمة؟
ويجيبنا في كل هذه الكتب الثلاثة بما ملخصه إن الياباني يحب الشعر، وهناك ملايين الشعراء الذين يستطيعون نظم الشعر القديم التانكا والهايكو وشعرية هذا النمط التقليدي تنبثق من نفسية الياباني الذي يحترس من المبالغة ويجد الجمال في السهل والساذج والبسيط، كما أن الناس العاديين يميلون إلى الإيقاعية، أي المتعة الغنائية والسماعية, لذلك لا يموت شكل التانكا والهايكو حسب قول الشاعر شونتارو، أما الشاعرة كورا روميكو فترى أن الشعر الياباني حسي جداً، حسيته حادة جداً، وقد لا توجد فيه ميتافيزيقيا، ولكن الرمزية معلم من معالمه.
والإبداع بالنسبة للياباني كما يقول عضيمة ليس إلهاماً أو حياً، بل هو محاكاة وتقليد، هو أخذ عن مثال موجود، هو إعادة إنتاج نص موجود بصيغة أخرى، هو ترجمة نص عن لغة الى أخرى بتصرّف.
إذن هي نفس الذهنية التي أبدعت حداثتها التكنولوجية، تقليداً وإعادة إنتاج، اختطت نفس المسار في مجال الشعر، وحتى الشعر الحديث مأخوذ عن الآخر، فالشعر الحديث حرّ تماماً من ضرورات الشكل ويتسم بصفة اللاموسيقية، الأقرب إلى النثر سيراً على هدى التجربة الشعرية في الغرب.
والذهنية اليابانية لا تقوم في جذورها على رؤية كلية للكون ولا تهتم بالفلسفة ولن تهتم بها كما يقول عضيمة لذا فهي ذهنية حسيّة بامتياز، ولا تشغل ذاتها بالتجريد بحيث ان الياباني يركز اهتمامه على الموضوع الموجود أمام عينيه فيفقد النظرة الشمولية كما يقول الشاعر ريوسي، وفي سؤال للشاعر يوشيماسو، عن ماذا تمثل المرأة بالنسبة له، يجيب بحسم: ذهني البليد لا يستطيع أن يعمم المرأة، في حين لو سألنا أدونيس مثلاً عن مفهوم المرأة بالنسبة له لقال كما في حوار معه في جريدة الحياة: المرأة ليست مجرد موضوع أومجرد آخر بالنسبة لي، بل لا أستطيع تصورها إلا وفقاً للأسطورة القديمة عندما كان الرجل والمرأة وحدة لا انفصام بينهما، ثم حدث وانفصلا فأصبح ما يسّوغ وجودهما هو سعي كل منها نحو الآخر, ولذا فقد مضى الشاعر الياباني وهو يتجرع مرارة الهزيمة في الحرب العالمية الثانية باحثاً عن طوق النجاة ومسوغ البقاء في تقليد وإعادة إنتاج نص مغاير خارج الموروث على صعيدي الشكل والرؤية فاستعار شكل قصيدة النثر الغربية، وبدأ يتشكل كرؤية ذات طابع كلي تنحو منحى تجريدياً ميتافيزيقياً لاستعادة التوازن بين الحسيّة الثاوية في الأعماق وظلال الهزيمة المدمرّة بعد الحرب, لذا غدت قصيدة ت, اس, اليوت الأرض الخراب عنواناً لمدرسة شعرية في اليابان, لكن ما الذي حدث لجمهور الشعر بعد ذلك؟
******
(عن اعتقال علي الدميني)
هذه هي الإصلاحات التي تمّ الترويج لها إعلاميا في المملكة العربية السعودية، في وقت سابق، حين أسهب البعض في الحديث عن "تغييرات" ما، يرغب المسؤولون هناك في إجرائها. الإصلاحات "الموعودة" والتي طال انتظارها تنتهي باعتقال وبسجن عدد من المثقفين الذين وقعوا وثيقة بيان يتضمن جملة من المطالب التي لا تزيد على كونها مطالب بديهية ترتجي التقدم المنشود، والديموقراطية وإعادة تلك البلاد، أكثر، إلى العصر.
مرّة أخرى، نقف وجها لوجه مع عملية إجهاض أخرى. بالتأكيد لم يكن أحد يحلم أن تتحول السعودية، بين ليلة وأخرى إلى جنة موعودة من جنائن الديموقراطية والانفتاح وتخفيف وطأة المد الديني، إلا أن مجرد الإعلان عن ذلك، كان يشكل سابقة وعدنا أنفسنا بها خيرا. والسبب؟ لو نجحت السعودية في ذلك، لكان الأمر سينعكس إيجابا على عالم عربي لا يفعل شيئا في هذه الأيام سوى زيادة جرعات التخلف وعلى جميع الصعد الممكنة. لا يستطيع أحد أن ينكر ما للسعودية من دور في ذلك. بيد أنه وللأسف، لم تكتمل تلك الفكرة الحسنة وكأن الخوف من أشياء "شيطانية" هو الذي عاد ليُسيطر على عقول المسؤولين "وكفى الله شرّ المؤمنين".
ومرّة جديدة أيضا، يذهب ضحية تغيير المزاج هذا، المثقفون والكتّاب والشعراء، حيث تمّ اعتقال الشاعر علي الدميني مع مجموعة من أصدقائه، وهم لغاية هذه اللحظة في السجن ويمرون في ظروف صحيّة سيئة، على الرغم من تطمينات إعلام النظام هناك بأنهم يعاملون معاملة حسنة. القضية، بالطبع، ليست قضية معاملة حسنة أو سيئة داخل الزنزانة، القضية بالأساس أن أمة "إقرأ" تخشى فعلا كل قراءة، وهي لا تحتمل أي فكرة تحاول أن تقول شيئا مغايرا لنسق لم ينجح في أبهى تجلياته إلا في إنجاب مجموعة من "مجانين الله".
سجن الشاعر علي الدميني ورفاقه ليس ولن يكون أبدا قضية سعودية داخلية. إنها قضيتنا كلّنا: قضية كل من يقرأ ويكتب باللغة العربية، لأنها أصبحت قضية وجودنا بأسره في بلاد لم تعد تشبهنا مطلقا. لا نستطيع بعد أن نكون شهود زور على تزوير كل شيء، ولا نستطيع بعد أن نقبل أن نكون دائما كبش المحرقة الذي يذهب ضحية الخوف، خوفكم على مناصبكم. هذه المناصب المتمثلة بثلاثة أشياء تقف وراء كل مشكلاتنا. مشكلات حددها مرة الروائي الراحل عبد الرحمن منيف بأنها: النفط والإسلام السياسي والدكتاتورية. ولن يعود العرب إلى التاريخ مرة أخرى إلا إذا بدأوا التفكير فعلا بالتخلص من ذلك كله.
عزيزي علي، المجد لك، لأنك أنت حريتنا اليوم، ولأنك... أجملهم. (عن السفير).
******
لا يزال الشاعر السعودي علي الدميني في المعتقل منذ أسبوع، جريمته انه وقع على بيان يطالب السلطات السعودية بإصلاحات، وجريمته انه يريد التقدم لبلاده والتحرر من الظلامية التي تهيمن على مجتمعه.
أراد علي الدميني القضاء عل مظاهر الفساد الإداري وأعمال الهدر، وتوسيع القاعدة الإنتاجية، والتوزيع العادل للثروة، وطرح حلول لمشاكل الفقر والبطالة والتعليم والصحة في بلد يملك ثروات طائلة، وطالب بتمكين المرأة من لعب دورها كعنصر فاعل في المجتمع... لم ينسق مع من يريدون استغلال المطالبة بالإصلاحات من <<قوى خارجية>> لتمرير مآربهم. فقط أراد ان يلعب دورا ايجابياً في تحسين ظروف الحياة في وطنه.
في أي حال هي صدفة ان يلتقي المثقفون العرب الذين يطالبون بإطلاق سراح إصلاحيين سعوديين اعتقلوا منذ أسبوع، مع مطالبة مسؤولين أميركيين يتذرعون بالقضية نفسها للضغط على السلطات السعودية، فيعلن المثقفون أفكارهم وتوجهاتهم وحلولهم لمشكلات النظام السعودي والمطالبة بتأمين مجتمع مدني وحياة ديموقراطية، ويعلن، مثلا، مساعد الناطق باسم الخارجية الأميركية آدم ايريلي مؤخرا، بعد بوش وباول وآخرين، <<شعوره بالقلق الشديد عندما يعتقل أشخاص يدعمون بشكل سلمي إصلاحات في العربية السعودية>>، معتبرا ان هذه الاعتقالات تشكل <<خطوة الى الوراء>>.
هي صدفة ان يلتقي مثقون عرب، يطالبون بالإفراج عن مثقفين سعوديين، مع مسؤولين أميركيين على كلمة واحدة هي <<الإصلاح>>. لذلك لا يحق لأحد ان يقرّع المثقفين على انهم طرف في تلك الصدفة، أو انهم يلتقون مع الأميركي الذي يمارس نوعا من الغزو على المنطقة العربية.
المثقفون يريدون الإصلاح لتحصين الوضع الداخلي والسير في خطى التقدم والحضارة ونبذ التخلف، في حين يريد الأميركيون من مطالبتهم خلخلة البنية الداخلية وتأمين ظروف هشة من التضامن الاجتماعي لتمرير مخططات استغلال ثروات العرب.
لا يحق للسلطات السعودية ان تعتقل مثقفا معروفا وشاعرا مرموقا مثل علي الدميني، بحجة ان <<أطرافا <<خارجية>> قد تستغل نشاطات الإصلاحيين.
السجن ليس لمثقف يعمل بإخلاص من أجل إنقاذ وطنه من الفساد والتخلف، ليس لمن يطالب بتوسيع قاعدة التمثيل الوطني، ليس لمن يريد ان ينتشل وطنه من جيوب السلفية الضاغطة على أرواح الناس.
السجن ليس لعلي الدميني ورفاقه من المشتغلين لأجل سعادة المجتمع السعودي. وسجن مثقف سعودي ليس <<شأنا أمنيا داخليا>>، هو شأن المثقفين العرب جميعا. لذلك نعلي صوتنا لتكون له ولرفاقه ولأمثالهم من المطالبين بالإصلاح في أي بقعة من بقاع الأرض.. الحرية.. الحرية.. الحرية. (عن السفير).
"و الله لو سئل من قالوا بإلحاد الطبري
عن معنى الإلحاد ما عرفوه"
الوزير علي بن عيسى
كحالها في زمن الانحطاط السياسي والتدني ألقيمي، تبرق سيوف الشريعة وتلمع بالفتوى، وكلما أوغل مثل هذا الواقع في سوءه، خسرت "الأمة" خيرتها، رميا بموفور التهم، وقريبها من يد قاض بليد أو جاهل مفتٍ. مثله كمثل من كفـّر القائلين في مضمون بيان الإصلاح، من نص وموقف هو في حقيقته ما يشرفّ السعودية أكثر من أي نص وجد على بعض أرضها منذ انقطاع الوحي،لما فيه من استقراء لمستقبل دولة حديثة، رأى علي الدميني ومن معه تحقيقها الأجمل سيتم ب : تسريع عملية الإصلاح السياسي، وتوسيع المشاركة الشعبية.وفي أدنى حال لبدء الديموقراطية؛ "انتخاب مجلس الشورى المناطق"، ودعما للحضور الإنساني في الدولة بتأسيس النقابات والجمعيات ومؤسسات المجتمع المدني الأخرى، وبأقل الأمل في كسر حاجز تأليه الحكومة القمعية بتطوير وسائل الاتصال بينها والمواطنين، والفصل بين السلطات الثلاث، وضبط الشأن الاقتصادي بما يحافظ على المال العام، وتجديد الخطاب الديني، وترسيخ ثقافة الحوار والتسامح ومحاربة التطرف، وتطوير مناهج التعليم وتوسيع المعرفة العلمية، وضمان حرية التفكير والتعبير، وتعزيز دور المرأة في المجتمع، وتحرير الشباب من هيمنة الغلو والتطرف، ومراعاة واحترام التنوع الفكري والمذهبي. هذا بعض ما كان من أمانيهم في البيان، مشفوعا بمقدمة، قبل ان يجف حبر وما ورد فيها من استشهاد لهم بحديث لولي عهد السعودية: (لن يتم التعرض لحرية الرأي بمكروه)، اعتقلوا.
ان سحب جواز سفر الشاعر علي الدميني واعتقاله بسبب مثل هذه المطالب يذكرني كعراقي بكل من مرّوا بسجون الديكتاتور الأرعن ومقابره الجماعية، ومشاهد الرعب اليومي والإرهاب المنظم، ويذكرني بعمق بموقف الحكومة السعودية البائس في بإسقاط جنسية الكاتب عبد الرحمن منيف عنه، وما أشبهه بموقف صدام مع شاعر الأمة الجواهري.إذن فالحال ذاته في البطش وتحين الفرصة بالمبدع.
وكعراقي اعتقلت في السعودية لأسباب تتعلق بشأن سياسي عراقي أيام كنت في معتقل اللاجئين العراقيين الصحراوي في السعودية، وجدتني ارتجف الآن لسماع خبر اعتقال الشاعر الدميني متذكرا ذلك السجن الخاص قريبا من معسكر اللاجئين المحتجزين في أقسى صورة عرفها التأريخ الحديث..ارتجفت متذكرا قساة الوجوه الأجلاف من السجانين وبشاعة تعاملهم (واعتذر هنا عن استخدام كلمة بشاعة التي أراها رائعة ومقدسة ولا تصلح لوصف سجان سعودي)، كان يسعدهم صراخ التعذيب متقافزين بالهراوات الكهربائية كالوطاويط لا يتوقفون إلا للصلاة، معاودين بعدها توثيق الألم على الرمال.
الآن أقول: لم تكن قضيتنا لها دخل بأمن الدولة السعودية فبقينا على مدار أسبوعين شاقين تحت وابل من الفتك والإرهاب، فكيف بمن يتحدث عن تجديد الخطاب الديني أو الإصلاح السياسي، ومراعاة واحترام التنوع الفكري والمذهبي، كيف وأنا شخصيا كان اسمي (علي) سببا في حصة فائضة من التعذيب، على الرغم من إعلاني تحت وطأة الألم؛ أني بلا دين، ليصرّح ضابط التعذيب بصوت عال: الآن لا تفرق عندي، ما دمت بلا دين فهذا بالضبط ما يعنيه اسمك!.
أه ماذا سيقول علي الدميني الآن، وهو يحمل اسمي ذاته، ماذا أقول عنه، سأقول له اصبر، واصبّر ألمي متذكرا الشاعر المكفر قبل اشهر احمد الشهاوي يوم قال في هذه الصفحة المباركة(كيكا) بالدفاع عن من يستحقه: (26 من أصل 28 عضوا من مجمع البحوث الإسلامية ومعهم شيخ الأزهر لم يقرءوا كتابي و"بَصَمُوا" بالإجماع على أنه مخالف للشريعة)).
وفي خلسةعلي سيصرخمتوحش سأنسّل اليه، لأعزيه بكلمات طه حسين عن بن المقفع، وكما رغبة كل سجين بكتاب (وربما سجائر) سأضع بين يديه تاريخ الأرض مرورا ب بروتاغورس الصارخ:(إن الإنسان هو مقياس كل شيء)، وسأُحضر في حضرة علي السجين حتى ما احرق من كتب هذا الرافض المنفي، حتى يمسح عن صباح الشاعر رائحة الدم.
وفي سجن علي سيصرخ الشهاوي ثانية :(عشتُ في عصر أرى فيه "علماء" الأزهر يرفضون القراءة ويكفِّرون غيابيا وسماعا).وسوف نقول له انا وأنت من عمق سجنك: لمن تحاور ومن يسمع منك.
سيقول كتاب الله: دخل السجن معه فتيان.
واذا سألك السجان عني قل أني قريب، واعني احمد المصري بلا بخبز لتأكله الطير، وأنا دون إله حتى اسقيه الخمر فيتذكرك.
وسيحضر بشار بن برد ما دام حديث الخمر يدار، وسيحضر المحب الراسخ في سؤاله: لم غبت بك عني فظننت أنك أني.
سنصلي ركعتيه في العشق، حتى يصرخ الحلاج:(إله في السماء وإله في السجن).
سيكون وصالا جميلا، حتى نمقت قاض غرناطة ونسمع أصفاد ابن الخطيب تضرب في حجر الصحراء، سيقبل من بعيد مضرجا بدمع المغنين عنه:
جادك الغيث إذا الغيث هما لم يكن وصلك إلاّ حلما واتقوا الله و أحيوا مُغرماً حبس القلب عليكم كرما | يا زمان الوصل بالأندلس في الكرى أو خلسة المختلس يتلاشا نفَسَاً في نَفَس أفترضون عفاء الحبس |