يوما بعد آخر، يغادر عالمنا كاتب أو شاعر أو فنان، عرفناه عن قرب أو عن بعد، صادقناه عن قرب أو عن بعد، يغادر وحيداً مع موت وحيد، تاركاً لنا شهقة المفاجأة وحيرة سؤال طفولي لا منطق فيه، يفترض الخلود في الكائنات التي نحبها: لماذا ينبغي أن يموت هذا الكائن؟
نعم. لماذا كان ينبغي أن يموت الطيب صالح اليوم، وبسام حجار بالأمس، ومحمود درويش وآخرون قبلهما.
عرفناه، الطيب صالح، ونحن في العشرين من أعمارنا.. أعمار طريّة، مشاكسة، متمردة.. نبحث في النصوص العربية، آنذاك، في السبعينيات، من شعر ونثر ومسرح وتشكيل، لا عن ما يتآلف وينسجم مع عقولنا وأرواحنا، بل عن ما يناقض ويصدم ويثير فينا الأسئلة التي بها نستجوب واقعنا ومؤسساتنا وقيمنا وعاداتنا.
كنا نبحث عن نصوص تحطم الأشكال السائدة وتنحاز إلى الجدّة والحداثة. كنا نبحث عن مضامين جديدة تخلخل ما اعتدنا عليه حتى الضجر. وفي "موسم الهجرة إلى الشمال" وجدنا الصوت الذي يجسّد بعضاً مما كنا نطمح إليه.
حينئذ عرفنا الطيب صالح، أحببناه، صادقناه، ورحنا نتحرّى عن كل ما كتب.
وها هو اليوم يمضي، مبتعداً عنا، ملوّحاً بيده، وبشفتيه يرسم ابتسامة غامضة.
الأيام البحرينية/ الغد الأردنية
***
في بداية السبعينيات، كنت أبحث بنهم بين الكتب الصادرة آنذاك، في مجالات الشعر والسرد والفكر، عما يرجّ الذهنية السائدة، الخاضعة للتقليد والثبات. كنت أبحث عن كتابة جديدة تشبع رغبتي في المغايرة والاختلاف وصدم السائد والمكرس. ومن بين تلك الكتابات، عثرت على ما سوف يشكّل علامة فارقة في الرواية العربية الحديثة، وما سوف يكتسب مكانة بارزة في تاريخ الرواية، نظرًا لجدّة الأسلوب والمعالجة، وجرأة اللغة الموظفة في التعبير عن المضمون: “موسم الهجرة إلى الشمال”.
لقد أسعفتنا هذه الرواية، مع نصوص “شعرية وسردية أخرى”، في تحديد ملامح النص الجديد الذي كنا نسعى إليه.
بكتاباته المهمة فعل ما يفعله كل مبدع نبيل: لقد أثرى الطيب صالح المخزون الثقافي لدينا.
ونحن اليوم إذ نرقب رحيله الهادئ، نحتفي، فيما بيننا، بما أنجزه على الصعيد الإبداعي... ونهمس له في امتنان: شكرًا.
البلاد- البحرينية
19/2/2009