عام 2005، احتفلت ألمانيا بالشاعر فريدريش شيللر. في هذه السنة الجديدة، 2006، تحتفي بشاعرها وابنها الفذ هاينرش هاينه الذي رحل في السابع عشر من شباط 1856، أي منذ مئة وخمسين عاما. وقد انتظر محبّو هاينه هذه اللحظة بفارغ الصبر ليشبعوا نهمهم بهذا الشاعر الأيقونة الذي لم ينصفه وطنه في حياته ولم يعطه حقه من القراءة والاهتمام إلا بعد قرن من الزمان على رحيله، وتحديداً بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وسقوط الرايخ الثالث.
يدين الأدب الألماني، بل واللغة الألمانية عموماً، للشاعر هاينه بكثير مما وصلا إليه الآن من مكانة وحداثة، إذ كان أول من حرر اللغة، الشعر خصوصاً، من القوالب الكلاسيكية المتحجرة. فبعدما كان الشعر وقفاً على الصالونات الأدبية والدوائر الأريستوقراطية وبلاطات الملوك والأمراء، خرج به هاينه إلى المواطن العادي البسيط، مخاطبا حميمياته. بل كان أول من خلّص الحركة الرومنطيقية من الرومانسية الزاعقة والوهم والإغراق في المثالية الساذجة الباحثة عن اليوتوبيا المفقودة. أطلق عليه معاصروه لقب "الرومنطيقي الواقعي"، وسمّاه الناقد الألماني المعاصر رانيكي "أبا الحداثة الألمانية".
بداية الاحتفالات بالذكرى كانت حلقة مناقشة في برنامج المناظرات الأدبية الذي يديره رانيكي، مناقشة فيها وضيوفه السمات المميزة لشعر هاينه، وارتباط حداثة الأدب الألماني بكتاباته، وتأثيره في أدب القرن العشرين، وخصوصاً في أعمال بريخت وغونتر غراس ورموز الأدب الألماني المعاصر. وقرأ رانيكي وضيوفه أكثر قصائد هاينه التصاقاً بالقلوب، وأذيعت الحلقة مباشرةً على الهواء من بيت المسرح في هامبورغ، في حضور عدد غفير من الذواقة.
مدينة دوسلدورف، مسقط الشاعر، احتفلت أيضا بالمناسبة على طريقتها. أول الغيث تسليم جائزة مؤسسة هاينرش هاينه الثقافية للكاتبة أليس شفارتزر في بيت الأوبرا، وفتح منزله حيث ولد ونشأ، أمام الجمهور، مدة ثلاثة أسابيع، ليكون متحفاً لمقتنياته وأعماله، ويتاح خلالها الاستماع الى أشعار هاينه بأصوات عدد من الكتّاب والفنانين.
وإذ تشهد هذه السنة أيضا ذكرى رحيل المؤلف الموسيقي الكبير روبرت شومان المتوفى في حزيران من العام نفسه، والمولود في المدينة نفسها، فإن دوسلدورف تجمع المجد من طرفيه، فتقيم حتى شهر حزيران المقبل معرضاً عنوانه "كلمة الفن الأخيرة"، لطلبة أكاديمية الفنون بالاشتراك مع مؤسسة هاينرش هاينه وجمعية شومان للإبداع، يلقون فيه الضوء على تأثير أعمالهما على الحركة الفنية والثقافية الراهنة. أكثر ما يميز هذه الاحتفالية هو العرض المسرحي السينمائي التجريبي، "جمال الظل"، للمخرج المسرحي والسينمائي والممثل فيرنر شرودر، الذي يتمحور حول طفولة كل من هاينه وشومان، مصحوبا بشعر الأول وموسيقى الثاني.
نبذة ثائرة
ولد هاينه في الثالث عشر من كانون الأول عام 1797 في دوسلدورف الواقعة على نهر الراين، شمال غرب ألمانيا، لأبوين يهوديين. سمّاه أبوه هاري تيمناً باسم صديقه الإنكليزي الذي تعرف اليه في إحدى رحلاته التجارية إلى إنكلترا كتاجر أقمشة، وقد أدرك هاري في سن مبكرة معنى أن يكون المرء يهوديا في مجتمع لا يعترف إلا بالمسيحيين كمواطنين، وهذا ما سوف يعانيه طوال حياته، وسيكون المحرك الشعوري الأساسي لشيطان شعره وحجر الأساس لفلسفته وأيديولوجيته. فور التحاقه بالجامعة واستقراره في بون، بدأ هاينه يخطو أولى خطواته في إشباع اهتماماته الأدبية. فها هو عرف طريقه إلى صالون أوغست فيلهلم شيغل الأدبي، أحد أهمّ الشعراء الرومنطيقيين الألمان وأكثرهم عداء للحكم الملكي والإقطاع واستبداد الكنيسة، متبنيا مبادئ الثورة الفرنسية وما تقره من حرية وعدالة ومساواة وحقوق لكل طبقات المجتمع. وأدت أفكار شيغل وأشعاره دورا جليلا في إرساء عقيدة هاينه الفكرية والسياسية، والذي سرعان ما أسس، ومجموعة من زملائه، جمعية ألمانيا الشابة، أول كيان ثوري من نوعه في المجتمع الألماني يهاجم البلاط الملكي والمؤسسة الدينية بشكل مباشر وبكل ضراوة، مما تسبب بإحراج إدارة الجامعة والتحقيق مع أفراد الجمعية، لكن دون جدوى إذ فشلت الإدارة في إثبات ضلوعهم في هذه النشرات المطالبة بسقوط الملك وإقامة جمهورية على غرار الجمهورية الفرنسية.
لم يمر على هاينه سوى عامين في بون حين قرر أن يقطع دراسته ويرحل إلى العاصمة برلين عام 1821 التي أمضى فيها ثلاثة أعوام ذاع خلالها صيته كشاعر شاب وصحافي مشاغب، بعدما تعرف الى السيدة راشيل فارنهاغن، صاحبة أشهر صالون أدبي في ذاك الوقت. ومن خلالها استطاع أن يقرأ شعره على أسماع فوكو وكارميزو وآخرين من ألمع الأسماء الأدبية، والذين أدهشتهم لغة هاينه وموسيقاه الخاصتان، كذلك أسلوبه الصحافي الفذ في كتابة أخبار الطبقة الأريستوقراطية التي غصّت بهجاء وسخرية خفيين، يعريان الوجه القبيح لفساد المجتمع الألماني.
الهجاء والبساطة أولاً وثانياً
عام 1827 أصدر هاينه ديوانه، "كتاب الأغاني"، الذي وجد فيه القارئ الألماني صوت هاينه الخاص، بأشعاره الغنائية الضاربة جذورها في التراث الحكواتي الشعبي، مما جعله أول عمل شعري ذي طابع رومنطيقي ألماني واقعي، حرر فيه هاينه الشعر من كل تأثير خارجي، سواء للمدرسة الفرنسية أو الإنكليزية. نجح هاينه في استخدام اللغة اليومية للشعب، من البسطاء والكادحين، بمفرداتها الخاصة والغنية، وارتقى بها إلى الشعرية الخالصة. بل والعكس أيضاً، إذ أنزل هاينه الشعر من برجه العاجي حيث كان يخاطب الأريستوقراطية وطبقة المثقفين، إلى الإنسان العادي البسيط الذي لا يتجاوز طموحه حد إطعام عائلته وتوفير ضروريات الحياة.
ترك هاينه ألمانيا عام 1831 مهاجرا إلى باريس، عاصمة أوروبا الثقافية والفكرية في ذلك الوقت، حيث تعرف الى بلزاك وهوغو وساند، وخاض معهم الكثير من المعارك الفكرية. كانت الفترة الباريسية حياة ثانية له، شهدت لنضوجه الفكري وتوهجه الأدبي. فقد كان من أوائل الشعراء والمفكرين الذين فطنوا إلى إشكالية الثورة الصناعية وتأثيرها السلبي في المجتمعات الأوروبية من ناحية، وإلى ميلاد طبقة جديدة من المقهورين، هي الطبقة العاملة. إلا أنه لم يتخذ من الشيوعية مذهبا بل رأى فيها مناخا مناسبا للراديكالية والتطرف، وظل على إيمانه بالجمهورية الديموقراطية التي كانت العقيدة السياسية السائدة في أوروبا. إلا أن المد القومي في ألمانيا أقلقه، نظرا الى عنصريته وكرهه للأجانب، وخصوصاً بعد رحلتيه السريتين الى ألمانيا واللتين زار فيهما أمه وعمه المريضين (1843 - 1844)، وقد تمخضت عنهما رائعتاه الهجائيتان، "أتا ترول"، 1843/47، و"ألمانيا أسطورة شتوية"، 1844. كتب هاينه فيهما عن حنينه لوطنه ولغته، مهاجما الظلم والفساد، متغنيا ببسطاء العالم من العمال والمزارعين، مودّعا بلاده التي أحبها فوق كل شيء لعلمه انه لن يراها ثانية. فبعد عامين على زواجه من حبيبته الفرنسية التي شاركته حياته منذ عام 1834 والتي سمّاها ماتيلدا ليعطيها سمة ألمانية، أي عام 1845، أقعده المرض تماما عن الحركة، اذ اتلف أعصاب جسده وألزمه الفراش حتى توفي عام 1856.
لم يكن هاينه شاعراً فذاً أو صحافياً لامعاً فحسب، إنما من الممكن أن نقول إنه كان نجم روك آند رول عصره. هو الشاعر الوحيد الذي تسابق موسيقيو عصره لتلحين قصائده، من فاغنر إلى شوبان ومن شومان إلى راخمانينوف، وأحد أهمّ الذين ساهموا في إحداث ثورة في العقل والوجدان الأوروبيين والألمانيين، وإليه يرجع الفضل في التميز الذي تشهده العلاقات الألمانية - الفرنسية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وقيادتهما لتوحيد أوروبا وميلاد فكرة الهوية الأوروبية التي اعتبرها هاينه هويته الشخصية. على المستوى الأدبي، هو، أكثر من غيره، أعطى الأدب الألماني هوية مستقلة، وضخّ في عروقه دماء جديدة فتحت طريق الحداثة. لولاه لما عرفت ألمانيا بريخت وريلكه وتوماس مان، ولظلت اللغة الألمانية تستورد جمالياتها من اللغات الأخرى ومدارسها الأدبية.
هكذا تتذكر ألمانيا شاعرها وكاتبها وابنها الفذ، ولن نجد أفضل من الشعر لنختم به مقالنا عن هاينرش هاينه، الرومنطيقي الواقعي الذي يحلو لنا أن نسمّيه أمير الحداثة الألمانية.
***
مقتطف
النساجون من شلزيا
في عيونهم القاتمة لا أثر لدموع
جالسون على مقعد النسيج يجزون على أسنانهم
يا ألمانيا العجوز
نحن ننسج كفنك
ننسج لعناتنا
نحن ننسج وننسج.
اللعنة على الملك، ملك الأقطار
الذي لم يثنه بؤسنا
عن تجريدنا من آخر قطعة نقود
وحصدتنا نيرانه كالكلاب
نحن ننسج وننسج.
***
في الغربة
في يوم ما
كان لي وطن جميل
حيث لامس الصفصاف السماء
وتمايل فيه البنفسج برقة
لقد كان حلما.
قبّلني بالألمانية وكذلك كان الحديث
(أكاد لا أصدّق كم كان صداها جميلا)
هذه الكلمة: "إيش ليبه ديش" أحبك.
لقد كان حلما.
ترجمة أ.ع.
النهار- السبت 25 آذار 2006