رحل صاحب "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع" يوم الثلاثاء الماضي 18 فبراير 2014 عن 77 عاما. رحل مخلفا إرثا كبيرا وزاخرا من الشعر والنثر والترجمات والأغنيات المشحوذة بالنور وبالممرات المؤدية إلى رحاب الحلم والحياة والخلود المضيء المرفرف بالأشعار والكلمات. رحل الذي كان يتغنى بالموت كثيرا، لكنه في حقيقة الأمر كان يتغنى أكثر بالحياة المحلقة عاليًا، الغناء الحار الحافل الشغوف بالحياة التي تزهر وتزدهر على ناصية الأمل والحب والمرأة القريبة من وريد الدنيا ووريد الذات.
كراس الثقافة يحتفي في عدده اليوم بالشاعر اللبناني الكبير أنسي الحاج، من خلال شهادات بعض الكُتاب والشعراء الجزائريين والعرب. شهادات تحتفي بتجربته الشعرية المتفردة. وفي ذات الوقت تحتفي بهذا الشاعر المختلف بنبرته وشاعريته وحساسيته، وبوسامته التي تتألق أكثر كلما خفق شعره بالنور والينابيع الطويلة.
***
في الشعر حياة أخرى وأحيانًا آخرة
تُريد الخرافة، ولعلكَ، بل الأرجح أنك شريك فيها، أنّك نؤوم الضّحى، لا تُغادر فراشك إلا عندما تطمئنّ أن البشر قد أحرزوا قصب السبق في الإعادة والتكرار، تتثاءب كثيراً قبل أن تقرّر أنّ المساء، ساعتك الأثيرة، قد دخل حقّ دخوله، فتتهندم كأنّك الضيف الشرف على احتفال سلطاني باذخ يقام مرةً، في العمر، واحدةً لا شريكَ لها، وتمضي إلى مكتبك، ومنه إلى ليلك الحاشد بالجنيّات والشياطين والمُستوحشين والكسالى وأحاديث قلّما يؤتى فيها على ذكر الشعر!. هذا ما تريده الخرافة، ولا سبب وجيهاً لوضعها على المِحك، أو لتمحيصها أو للشك بما تريده، أعني بما تريده الخرافة، وبما تريده أنتَ من الخرافة التي استَأمنت عليها سيرَتك وروايتَك، لا مُتكاسلاً، بخفر، بل بخفة النشّال، من تنقيحها كلما بدا لك ذلك، كأني بكَ بدا لك ذلك كلَّما أهلك الزّمانُ جيلاً من حوارييك وأهداك جيلاً جديداً. لسواي أن يقولَ فيك غيرَ ذلك ولكن هذا، عندي، بعض ما يبقى منك من أول يوم طرقت فيه بابك الباريسيَّ في «النهار العربي والدولي» مُتلمسةً سبيلي في متاهات العمل الصحافي، إلى آخر يوم، قريب، أجاءتني فيه الصدف إلى تصفّح «ماضي الأيام الآتية». بل، كلّي يقين أن لسواي فيكَ غير ذلك، وكلّي يقين، أيضاً، أنَّ المسافة التي تعمّدتَ، دوماً، أن تخطّها خطاً مُبيناً بينك وبين شِعرك ـ (ولو أنَّه آثَرُ عندي، والأرجح عندكَ، أن أقولَ كلماتك) ـ طريقٌ إلى شِعرك، مِنْ طرق شتى، إليه. ليس أنَّ الشعر في مكان آخر بل إنه مكان آخر: مكان آخر تمضي فيه حياة أخرى، وأحيانًا آخرة، على رِسْلِها مُنْتَحِلَةً الحِكْمةَ أو بسرعة الطلقة مُعانقة الجنون، وتدعو، مِنْ غير أن تَدعو، كلّ من يعنيه الأمر، أنْ يحذوَ حَذوك فيمضي فيه، في الشعر، حياة أخرى، وأحيانًا آخرة. هو كذلك، ولكن الشّعر هذا ليس بالمكان الموهوم أو بالمكان المستحيل، و«لن»، مقدمةً ونصوصاً وورثة ذوي استحقاق ـ ومتطفّلين، خير دليل على ذلك. وإن أنسى، لا أنسى يوم أعادت «دار الجديد» نشر الخمسة الأوائل من دواوينك ـ دواوينك «التاريخية» على افتراض أن للصلح بين «الشعر» وبين «التاريخ» محلاًّ أو مجالاً ـ إن أنسى لا أنسى بكم من الدقة، بل بكم من الوَسْوَسة، كنت تُصحّح وتستأنف، المرة تلو المرة، تصحيح تلك المسوّدات على قلق متّصل كأن هذه الطبعة ـ أو تلك أو هاتيك ـ هي «الكِتاب» الأخير بعينه ونفسه، أو قل كأنّها «الكِتاب» الذي يحاسب عليه المرء، يومَ الشّعر، وعلى ما فيه، الحسابَ العسير. وإنْ أخشى، وحقُّ القَلْب أن يتوجَّس الخيفات، فأخشى ما أخشاه على «الخرافة» أنسي الحاج أن تُصْلَب على خشبة «الشعر» دون سواها، أو أن تُودع في كتاب كائنا ما كان هذا الكتاب. إنْ كان لا بدَّ من ذلك، فأنسي الحاج يستحق أن يُصْلَب على صُلبانٍ كثيرةٍ ليس أخشنَها، ولا أقلَّها ارتفاعاً، صليب لبنانيته الهازلة المغرورة في آن واحد، ولو أنها قد تبدو اليوم، لبعضهم على الأقل، من زمن غابر. أحب أن أتذكر أن أنسي الحاج، بوصفه المدير المسؤول لجريدة «النهار»، استُدْعِيَ ذات يوم، في عز «الوصاية»، أمام القضاء اللبناني، لمُساءلته عن نَشْرِ مقالات ذات صلة بالدّخْلل والحميمية بين «الأجهزة» اللبنانية والسورية (البعثية)، وأحبّ أن أتذكر أن أنسي الحاج، قبل التحاقه بـ «الأخبار» بسنوات، غادر «النهار»، بيتَ أبيه، مُحْنَقاً، فاحتكم في نزاعه ذاك «إلى القارئ»، في كرّاس نشرته «دار الجديد». أحب أن أتذكر أن «الشعر»، على دِين أنسي الحاج وذمته، هو «العكس مِنْ كلّ ما يَقهر».
أحد أهم الأسماء الشعرية التي اتخذها النقاد نموذجا للكتابة عنها رفضا وقبولا
أنسي الحاج، الإسم الأول والأكبر والأجمل والأهم في قصيدة النثر العربية، رحل. ذهب إلى الخلود بعد أن استقرت قصيدته المجترحة في وجدان الشعر العربي وحفرت لها مجرى لن يتوقف، فروافده كما أظن أصبحت أكثر مما كان يتوقع أنسي نفسه وهو يُقدِم على مغامرته الشعرية في سياق عربي متحفز لكل جديد يطرأ على قصيدته التاريخية الخالدة في إطارها الموسيقي.
وقد رحل أنسي الحاج أيضا بعد أن قرأ الكثير عن شعره، فهو أحد أهم الأسماء الشعرية التي اتخذها النقاد نموذجا للكتابة عنها رفضا وقبولا، لكنهم أبدا لم يستطيعوا، بالرغم من كل ما حملته قصيدته من إشكاليات تتعلق ببنيتها، لا أن يجمعوا على جماليتها التي فاضت عن حدود النثر ربما بشكل لم يسبق قبل مرحلة أنسي الحاج.
إلا أن الإشكالية التي لم يتطرق لها إلا القلة من النقاد والكتاب في ما يتعلق بهذا الشاعر وبشعراء أخرين غيره هي إشكالية الشاعر الأمثولة الذي يكتب الجمال ويصنعه في كلماته شعرا ونثرا ولكنه يمجد نقائض الجمال في تجليات السلطة اقترابا منها وابتعادا عنها.
وفي الأيام الأخيرة الماضية رحل عن عالمنا شاعران لبنانيان يمكن تناول تجربتهما من هذه الزاوية تحديدا لتشابهها إلى درجة التطابق. وأعني بهما جوزف حرب وأنسي الحاج. صحيح أن مواقفهما لم تتبدل ولم تتغير كما قد يبدو للبعض الطارئ على التجربتين بكل أبعداهما الشعرية والإنسانية والسياسية، لكن هذه المواقف تبلورت لهذا البعض ولغيره أيضا، مؤخرا بشكل أوضح وأوسع بسبب حالة الاستقطاب السياسي الكبيرة التي تمخضت عن ثورات الربيع العربي في السنوات الثلاث الأخيرة. فقد قدمت تلك الثورات وما صاحبها من حِراك عربي متنوع في كل البلاد العربية تقريبا صعودا في الوعي نحو مطالبات تصب معظمها في مصب الديمقراطية وخياراتها، فرصة لمطابقة المواقف المكتوبة شعرا ونثرا مع المواقف المتخذة واقعا، وكانت النتيجة كارثية للجمهور في كثير من الحالات، ومنها حالتي الحاج وحرب.
نعم، سقطت بعض الأسماء الكبيرة من المثقفين وصُناع الجمال في بئر لا قرار له من التساؤلات والشكوك والظنون حول ما يكتبه الشاعر وما يقترحه على قرائه من جهة، وما يتبناه في واقعه من جهة أخرى. وكان أنسي أحد الذين سقطوا في تلك البئر حينما اتخذ موقفا مساندا لنظام سياسي يقتل شعبه. صحيح أن أنسي الحاج لم ينشغل كثيرا بالسياسة رغم أنه قضى شطرا كبيرا من حياته رئيسا لتحرير أهم صحيفة يومية لبنانية كانت على الدوام تنحاز للخيارات الديمقراطية والتقدمية، ولكنه مع هذا اندغم في مواقف لا يفهمها من قرأ قصيدته المفعمة بالجمال الخالص والذاهب بها الى شرفات سماوية غير مأهولة شعرا في الديوان العربي. وعندما أقدم أنسي في العام ١٩٦٠، بوعي مبكر واستشراف شعري جمالي طاغ، على مغامرة كتاب "لن" كان يجترح مدرسة شعرية بأبواب مفتوحة دائما على كل جديد وجريء ومتفوق على نفسه وعلى ما سبقه بحكم ضرورة النثر الشعرية. وربما لهذا شعرت كما شعر غيري من محبي تجربة هذا الشاعر بما يشبه الوخز في القلب عندما رأيناه يصفق للطاغية حتى وإن كان تصفيقه بلا دوي.. يكفي أنه تصفيق شاعر قال ذات يوم: "لم يدفئني نور العالم بل قول أحدهم لي أني، ذات يوم، أضأت نورا في قلبه".
أنسي الحاج وشعريةُ "لن" الفارقة التي لم تدرك الشعرية العربية أبعادها الفكرية والفنية إلى اليوم
ثمة كتابات، على عكس الكثير من مثيلاتها، تولد وفي صلبها جينات "العلامة الفارقة" تحمل أصحابها إلى ما تريد من البهاءات فيرتبطون بها ارتباطا جذريا لا يفارق الواحد منهما الآخر إلى ما لا نهاية. ولا يمكن للعلامة الفارقة إلا أن تتحقق على مستوى التاريخ، أي بين مرحلتين مختلفتين في اندراجهما الجذري في خصوصيتهما، وعلى مستوى التأثير حيث يكون التميّز قاعدة أساسية في الارتقاء بالكتابة إلى مصاف الرؤيا التي تكتسح الأزمنة من دون أن يظهر عليها نوع من أنواع القدم أو شكل من أشكاله. كذلك كان ديوان "لن" للشاعر الكبير أنسي الحاج الذي "لن" يعود إلى كتابة "خواتمه" مرّة أخرى بالطريقة نفسها التي كان يكتبها بها قبل رحيله.
الشاعر الكبير أنسي الحاج حالة شعرية خارقة للعادة في مسار الشعرية العربية المعاصرة، ومعْلم متميّز لم يقل في العمر التي رحل فيها كلّ الذي كان يريد أن يقوله في/ وعن هذه الأزمنة العربية المتشظيّة التي عبرها ممتطيا صهوة الكتابة، قصة وشعرا وترجمة وصحافة، تاركا أثرا عميقا خلال ما يقارب القرن من التحوّلات الجذرية على مستوى الواقع وعلى مستوى الكتابة، في ما كانت تطمح إليه النفس الإبداعية العربية بأجنحتها الشعرية المتكسّرة على جدران الخيبة الاستعمارية والتحديث الزّائف، من توقٍ غامر إلى التحرّر من أثقال ما كانت تحمله "الأعمدة"، كلّ الأعمدة بما فيها الشعرية، الآيلة إلى التهاوي في مهبّ الريح جرّاء ما كانت تحمله مرحلة تاريخية جديدة ومتجددة من أفكار كان هذا الشاعر أوّل من سمع صداها القادم من مستقبل الأيام فعكسه بكلّ صدق في ديوانه الشعريّ "لن".
ربما لم يكن الشاعر أنسي الحاج، بالنسبة للأجيال الجديدة من الشعراء الممارسين لطقوس الكتابة في أشكالها الأكثر حداثة، غير اسمٍ شعريٍّ ارتبط بمرحلة معينة من مراحل التجديد الشعري العربيّ، غير أنّ الشاعر أنسي الحاج، وبدون الضجيج الذي رافق مسيرة زملائه الذين أسس معهم مجلة "شعر"، كان سابقا، ربّما أكثر من زملائه، في الإيمان بالحداثة الشعرية بما هي تحرّر من أغلال الأشكال الشعرية التقليدية المهيمنة، وسابقا في تجاوز ما أّسست له هذه الحداثة نفسها، على ما عانته من مصاعب الاندراج في الذوق الجمعي الرافض لكل تجديد، من أسوار حاولت أن تحيط بها حلم التجديد إحاطة تقييديّة، إلى أفق رحب من الإبداع الذي لم تتعوّد الذّائقة الشعرية العربية على تقبّله بصفة نهائية دفاترها إلى يومنا هذا. وهو، بسبقه هذا، لم يكن ليعطي لأقرانه من الشعراء في كل الاتجاهات الكتابية، غير هذا الصفاء الذي ميّز رؤيته الأولى للكتابة في الشعر كما هطل عليه في ديوانه الأول "لن" بكلّ ما كان يحمله العنوان، في بداية الستينيّات من القرن الماضي، من جزم رافض ومن رفض جازم، أسّس لانفراد العنوان بالحمولة التجديدية التي تُفجّر في القارئ مكامن السؤال المكبوت في غياهب الذّائقة الشعرية الكسولة.
إنّه أشبه بالقنبلة الإبداعية التي أخرجت إلى الواقع أحفاد الأسئلة التي تنتج عمّا يحدثه عنوان كهذا في النفس القارئة لما يحيط بأداة الجزم الواقفة في وجه الحرن الذي يكتنف الذات من توجسات طالما كانت الوقود الحقيقي لكلّ تجديد يبحث عن العلامة الفارقة بين ماضي النص ومستقبله. ولكي ندرك مدى ما يحمله هذا العنوان من جرأة متحدّية لأواصر المعهود والمكرر والمبتذل، لا بدّ أن نضع هذا الديوان في ظرفه التاريخي في مرحلة الستينيّات من القرن الماضي لنرى إلى أي درجةٍ كان الراحل أنسي الحاج سابقا في التأسيس لرؤيا شعرية ولرؤية تجديدية لم تدرك الشعرية العربية وهي في العشرية الثانية من القرن الواحد والعشرين كلّ أبعادها الفكرية والفنية والجمالية إلى اليوم.
أنسي الحاج والجمال والهامش
في حياة أنسي الحاج كما في شعره حالتان امتاز بهما حضوره إنسانا وشاعرا. هما الجمال والهامش. الجمال أولا لأن أنسي كان شديد الالتصاق بالجمال شكلا وقيمة وحضورا مطبقا على أدائه الشعري والشخصي في كل ممارساته وهو لهذا على سبيل المثال يقع على النقيض من محمد الماغوط. فتراه في الشعر انتقائيا لمفرداته ولصيغه وصوره بشكل لا يترك مجالا للشك أنه مأخوذ بالجمال لا بالجماليات بالجمال كشكل أكثر نقاء وشفافية بحيث يتفوق هذا النوع من الأداء لديه على البحث عن المضامين والدلالات كما هو الحال لدى أدونيس. إن شعر أنسي مليء بهذا الهاجس الذي يبدو ساطعا مثلا في ديوانه "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع" أما علاقته بالجمال ككائن فهي جلية لكل من عرفه حضورا وأناقة وتهذيباً، كان الجمال إلهًا وثنيًا معبودا لدى أنسي، كان ديدنه وشغفه وانتشاءه الذي يطفو على علاقاته وكينونته كلها.
أما الهامش فكان عرشه الذي يتربع عليه بسلطة خفية ولكنها ضاربة . لقد اختار الهامش لأنه طبيعة فيه أولا فهو لم يكن يحب الصدارة والصفوف الأولى ولو أنه لم يرفض الأكاليل لكنه لم يكن يسعى إليها ولا يتهالك من أجلها. كان هامش أنسي مثل تلة متراجعة عن الخضم ولكنها مشرفة عليه وكان صمته من موقعه فيها أكثر دلالة من المرافعات المعلقات التي تملأ المشهد الشعري. لم يكن الوحيد الذي كانت لديه بعض القفازات التي تجنبه النزول من تلته إلى وسط الساحة. بهذا المعنى أقول إن أنسي الحاج كان يتعبد في معبده للجمال في أعلى تلة مطلة على سوق الشعر والشعراء، كان شاعر الجمال والهامش. كان شاعرا بكل أداءه، شاعرا وحسب بمفهوم نيتشه "لا شيء آخر سوى شاعر Rien qu'un poete"
النثر ينعي شاعره
يا لها من أمثولة تلك التي صاغها الراحل أنسي الحاج (1933/2014) في بيّارة الشعر الخالدة. تكمن الأمثولة في صياغته لذائقة شعرية فريدة من قطع النثر الجلف، بفضل خنجره المسلول الذي به نحت تحفا شعرية قاسية في معناها ساحرة في مبناها. هل خان أنسي قصور النثر العائمة فوق حكايات لا تكاد تنتهي حتى تبدأ أخرى؟ أو أنه محض معتد جرجر النثر من قفاه إلى قافية الشعر عنوة وظل كذلك حتى أنثّه بدم الشعرية المقدس؟، لم يكن شغل أنسي الحاج محض اعتباط أو تمضية وقت بل كان مدركا لكنه العملية الشعرية منذ البداية عندما أطلق المانيفيستو الشهير الموسوم بـ" لن" سنة 1960 كان يسأل النثر عن الشعر، وجاءت الإجابة حافلة بالقلق كيف تصاغ القصيدة من الحجر الصلد وما يمكن أن تشكله من عوالم أوسع من أن تضيقها تصانيف المصنفين، لأنه يعرف أن الكلمات في جوهرها لا في مظهرها الزائف. وهكذا أسس أنسي الحاج مجد نظمه في "الرأس المقطوع"، "ماضي الأيام الآتية"، "الرسولة بشعرها الطويل حتي الينابيع" – وبعد ثلاثين عاماً في مقدمة – خواتم – عرف كيف يدفع بالدافئ إلى الصقيع وبالمستظل إلى الهاجرة بل دافع عن عوالمه الشعرية ورفع القصيدة النثرية من رطانة النثر فأصبحت بفضله حاملا بالشعرية وزادها ذلك بهاء الزاهدين ورونق العابرين وأصبحت بفضله تدين لثالوث: الإيجاز والتوهج والمجانية. وظل أنسي كذلك في سائر أعماله يسير على هذا الثالوث المقدس ينظم كلمات عارية ويطرحها في محفل الشعر المزركش بملاءات المجاز والاستعارة، مضمّخة بأنواع مساحيق البلاغة الصاخبة، إلا كلمات أنسي وحدها ظلت عارية لكن رأسها مرفوع لا تحمل قناع ولا ترسم ابتسامات فاقعة الصفرة. جعل كل قصيدة بداية الشعر وكل حب هو بداية السماء.
عن الحبّ القديم للشيطان الأصفر
قبل سبعة عشر عاما اكتشفت أنسي الحاج. كنت حينها في العشرين من عمري طالبا بالجامعة. زرت صديقا اسمه إبراهيم الكَراوي كان يخفي علبة كرتون كبيرة تحت السرير فيها الكثير من الكتب التي ستغير نظرتي إلى الشعر، أنا الذي كنت أكتب منذ الطفولة ما يشبه القصائد أحيانا بدون وزن وأحيانا على البسيط والطويل. في تلك العلبة كان صديقي الشاعر إبراهيم يخفي جرة الكنز، شعراء من أكثر من جيل وأكثر من بلد لكن أشياء كثيرة كانت تجمعهم فضلا عن علبة الكرتون: يوسف الخال، سركون بولص، عقيل علي، محمد الماغوط، عبد اللطيف اللعبي، سعدي يوسف، فاضل العزاوي، وديع سعادة، بسام حجار، بول شاؤول وغيرهم ممن دار في مدارهم. من بين تلك الكتب ستقع عيني على "الرأس المقطوع"، "لن"، "الرسولة بشعرها الطويل" و"ماضي الأيام الآتية"، بأغلفتها القديمة. هواء آخر سيصل إلى رئتيّ، وسيفعل بي هذا الشعرُ ما يمكن أن يفعله بطالب في الجامعة يتعرف بالتدريج على الكتابة التي تسربت إلى الشعرية العربية بعد منتصف القرن الماضي. شعر جديد يعلن الحرب على شعر قديم، لا ليقتله أو يطمس وجوده، بل ليتجاوزه. كانت كلمة "التجاوز" في خطابات شعراء تلك الحركة هي المفتاح بالنسبة لي. كانت أفكار أنسي الحاج وأدونيس عن الشعر الجديد بالنسبة لي تتفوق أحيانا –وربما غالبا- على شعرهما. رسالة أدونيس مثلا إلى أنسي الحاج ستفعل بمزاجي وبروحي ما لم تفعله العديد من قصائدهما معا، تلك الرسالة التي يصفه فيها بـ"الشيطان الأصفر".
كنت أتخيل أنسي الحاج -ولم أكن قد رأيت صورة له بعد– شيطانا أصفر بالفعل، الشيطان الذي يغري الكلمات كي تنحرف عن مجراها المعتاد وتلحق به في اتجاهات ومذاهب أخرى. وحين رأيت وجهه الذي بدا لي آسيويا للوهلة الأولى أدركت أن هذا الشيطان النبيل سيترك أثره على الطريق لزمن قد لا ينتهي. كان ذلك قبل سبعة عشر عاما، في سنوات الانبهار والجنوح بشكل جامح لكل ما يلمع في العيون القريبة والبعيدة باسم "حداثة". في الجامعة كانت هذه الكلمة تجعلنا نرتدي الجينز والأحذية الرياضية الخفيفة، ونعدل حتى من جلساتنا وطريقة حديثنا وتفكيرنا. كنا نؤمن بهذه الكلمة كما لو أنها عقيدة جديدة. بعد ذلك بعقد واحد سيشرع أنسي الحاج في الاختفاء من حياتي بالتدريج. نصوص لاحقة ستصل من بلدان بعيدة ستغطي "الرأس المقطوع" و"الشعر الطويل للرسولة". ليس فحسب لأن الزمن، زمن القراءة، قد تغير. بل لأني أيضا صرت متطلبا إلى حد كبير في ما يخص الشعر الذي يملأ العين والقلب.
كدتُ وكدنا ننسى أنسي الحاج. الماغوط في كل أولئك الذين تحلقوا حول "شعر" كان هو الأقرب إلى روحي. لم أعد معجبا كبيرا بما كتبه أنسي الحاج. هذه حقيقة، لكن حين وصلني خبر رحيله تأثرت. أحسست بأحجار ثقيلة تتدحرج في الأعماق تاركة الكثير من الكدمات. لقد مات شاعر، شاعر ترعرعت على حب كلماته. بالنسبة لي العالم يصير أسوأ حين يموت الشعراء. لقد كان رحيله صفعة لي، تلك الصفعة التي ستدير وجهي نحو نصوصه مرة أخرى، لأقرأها من جديد، كما لو أني أقرؤها للمرة الأولى، وربما بالحب القديم إياه.
كان شاعرا حقيقيا أخلص للقصيدة وراهن عليها
إن رحيل شاعر استثنائي كأنسي الحاج يفتح راهن الشعر العربي ومستقبله على أكثر من سؤال ويضعه في المناطق الصعبة التي تترك مرارة ما، ويتما لمن انتموا لتجارب الرواد المؤسسين لقصيدة النثر في العالم العربي، كما تضيف للخسارات التي عرفناها في السنوات الأخيرة لأسماء كبيرة غيبها الموت خسارة أكبر. إن أنسي الحاج لم يكن فقط رائدا بل كان شاعرا حقيقيا أخلص للقصيدة وراهن عليها وانتمى كيانيًا للشعر في تحولاته الكبرى وانعطافاته القصوى ولم يسقط في السهولة التي ميزت الكثير من التجارب التي لم تتجاوز حدود التغيير الشكلي ولم تنخرط بعمق في اختيار جمالي جذري. أنسي منذ ديوانه "لن" ذهب في كتابة خرجت من المفهوم التقليدي للقصيدة إلى الأفق الواسع للكتابة، ومن الانغلاق داخل مفهوم اجتراري للشعر إلى انفتاح مدهش على حساسيات قادمة من كل الثقافات الشعرية ومبصومة بعنف التجربة الفردية، وهذا الإخلاص للحرية بكل معانيها وأبعادها وسم شعره بقدرة كبيرة على الإدهاش والتوغل في الأقاصي، كأنه قادم دوما من أماكن بِكر لم ترتدها قدم ولا ريشة. وعلى الرغم من صعوبة تلقي هذا النوع من الشعر عند القراء العرب بدعاوى الاستغلاق والإبهام إلا أنه استطاع أن يحفر بصمت مسالكه عند الأجيال المختلفة، ووجد الشعراء المتمردون ذواتهم في هذه الكتابة الرافضة والمتمردة والخارجة على كل التقاليد التي تحولت إلى سجن، حتى تلك التي كانت تَعِد بصباحات مختلفة، إذ دخلت التجارب الجديدة دائرة التكرار والتقليد ولم تنج من هذه الحالة حتى الأسماء الكبيرة. إن أنسي الحاج كان يعرف بحدس الشاعر فيه أن الوقوف عند عتبة التصورات المتداولة للشعر يقتل الشعر، لهذا كان كل نص يكتبه بداية جديدة وإضافة نوعية وحتى حين صمت طويلا بعد ديوانه "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع" كان صمته إدانة لتراجع سقف الحرية في الشعر وانهيار حداثة التجريب والبحث الدؤوب التي كان أهم المبشرين بها. وحين عاد بديوانه "الوليمة" منح للشعر ضفة أخرى بقيت واعدة، ثم انتقل بعد ذلك إلى كتابة مفتوحة تجلت في "خواتم" بجزئيه وشذراته الأخيرة التي كان ينشرها في جريدة الأخبار. أهم ما فتنني في شعر وكتابة أنسي الحاج الذي اكتشفته باكرا وأنا في الثانوية من خلال قراءة ديوانه الثاني "الرأس المقطوع" ثم "الرسولة" فيما بعد وكل أعماله الأخرى، أن هذا الشاعر لم يقتل الطفل الذي فيه وبقي مخلصا للغة الينابيع والأقاصي. يكتب بحرقة الباحث فيما وراء اللغة وفي المستحيل الذي يبقى وعدا، ثم بتلك الغنائية السرية التي تخترق نصوصه رغم رفضها الراديكالي لأي تواطؤ مع القارئ، هو المنغمس ببذخ في التجارب الحسية الأعزل في العزلة الأخيرة الأوحد فيما وراء الوحدة والنادر في كل شيء. منح الأنثى والأنوثة حضور الجوهر الراعي للوجود وأبدع لغة خاصة ممزوجة بعرقه وهواجسه.. يلوي عنق العبارة ليحررها ويفجر الأبجدية بعنف الحنان القاسي وشبق العناق المعجون بالتماس المحرق مع الأرض. كان شاعرا أرضيا بامتياز في نبرته غنائية إنجيلية وتوارتية ونبوءة فاسدة تدعو للجنون والخروج على كل السلط. لقد كان من الفاعلين الكبار في المشهد الثقافي العربي لأكثر من خمسين سنة، مؤسسا لمجلة شعر ثم لملحق النهار الثقافي، وصحفيا فذا ومترجما رائدا لأسماء هامة كأرطو وهنري ميشو وبروتون وغيرهم.. كما عايش العمالقة الكبار في الفن والسينما والأدب.. إنه فعلا خلاصة جميلة للحداثة العربية بكل تنوعها وبكل خيباتها وانتكاساتها.. برحيله نفقد مدافعا شرسا عن الشعر في أزمنة قل فيها أنصار هذا الفن النبيل.
هو الشاعر العصي الذي لم يتنازل عن عرش الشعر لصالح مصالح وأنانيات طارئة
لا شك أنه كان لأنسي الحاج بصمة نادرة وفريدة منذ الخمسينات من القرن الماضي على الشعر العربي بشكل عام، وقصيدة النثر بشكل خاص. فمجموعته الشعرية الأولى "لن" المتوهجة دوماً، وإلى هذه اللحظة، لم ينج من تأثيرها أغلب شعراء قصيدة النثر على إمتداد الخارطة الشعرية العربية. فقد أرست هذه المجموعة بنصوصها المتقدة وبمقدمتها التأسيسية الجريئة الدعائم الأساسية لقصيدة النثر العربية. ولم يتوقف تأثير أنسي الحاج هنا فقط، حيث امتد تأثيره الخلاق في كافة أعماله الشعرية والنثرية اللاحقة أيضاً كـ "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع" و"ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة" و"ماضي الأيام الآتية" و"الرأس المقطوع" و"كلمات كلمات كلمات" و"الخواتم" لمَ لهذه الأعمال من خصوصية وفرادة لا تتمع بها إلا الأعمال الكبيرة للشعراء الكبار. أما سر هذا الألق والتوهج الذي كان يتمتع به أنسي الحاج وعلى طول مسيرته الشعرية والكتابية، هو أنه كان يكتب دائماً نصاً فجائياً، أثيرياً، مدهشاً، عميقاً، قلقاً، شفيفاً، متغلغلاً، شهوانياً، مشدوداً، شبابياً غير مترهل، لا يقينياً، وفائق الرهافة والكثافة والعلو. وأعتقد أن من يكتب بهذه الطزاجة، لا بد له من أن يخلف وراءه تأثيراً سحرياً ومغناطيسياً يجذب إليه كل من يود أن يحترق في لهيب الشعر. أما المزايا الأخرى التي كان يتمتع بها أنسي الحاج إلى جانب ما ذكرت من خصائص وتوهجات في شعره، هو هذا الكبرياء، كبرياء الشعر والشاعر فيه. وهو الشاعر العصي الذي لم يتنازل عن عرش الشعر الشاهق لصالح مصالح وأنانيات طارئة وآنية لا تمت لكبرياء الشعر بصلة. وهو الشاعر الذي لم يتوسل أحداً، ولم يسعَ إلى أي كان لأية غاية كانت. مسعاه الحقيقي كان الشعر ثم الشعر، والعزلة الضرورية لإيقاد شعلته دائماً وأبداً. لم يهمه الضجيج، لم يلتفت إليه ولم يعيره أي إهتمام كما يفعل غيره من الشعراء. كان يمضي إلى الأعالي، كما لو أنه كان ملاكاً جُبل من نور الشعر لوحده.
أخذ بالشعر لمراع جديدة وخلق لغة وجماليات مختلفة
مات أنسي الحاج الشاعر الذي أخذ بالشعر لمراع جديدة وخلق لغة وجماليات مختلفة. مات أنسي الحاج تاركا إرثا غنيا للشعر بخواتمه في أصابع عروسته القصيدة، مات أنسي في زمن الموت التراجيدي للسوريين جيرانه الذين لم يحرك فيه موتهم دمعة ولا قصيدة ولا موقفا لامعا، كم كنا سنفرح لو أن "لن" موجهة لمن يقتل الأطفال ويدمر المدن؟ ولكن هل من المطلوب أن يكون الشاعر نبيًا خاليا من كل عيب وهل نحكم على شعره من خلال مواقفه؟ فكم من شاعر سيء ذو مواقف رائعة؟ الثورات فتحت أعيننا على حقيقة. من اعتبرناهم ضوءا لنا وأجبرتنا على أن ننظر إلى شعرهم أيضاً من خلال وقوفهم بجانب العدالة والحق أم لا !.
مات من تسلق ليصل إلى السماء. موته يذكرنا بموت ممدوح عدوان، الماغوط، درويش، سعد الله ونوس، حلمي سالم، فؤاد نجم وأسماء، وأسماء إذ أن الموت حق ولكن القتل لا.
هكذا رحلوا جميعهم ولكن أشعارهم باقية لتغذي مخيلة جيل جديد، عندما أقول وداعا أنسي الحاج مع دمعة أذرفها عليه مخلوطة بدموع أذرفها لمن لا يعرف الشعر أسماءهم لكنهم ماتوا ولا يزالوا يموتون موتا قاسيا مصبوغا بالدم والعذاب. وبينما أكتب كلماتي هذه تكتب قصائد على طريقة أنسي لأن إن مات أنسي شعره لم يمت ولن.
المصدر/ جريدة النصر الجزائرية، تاريخ النشر 25 فبراير 2014